المرض الفرعوني
تقدم وفد من أعيان البلدة لمقابلة زعيم عربي وهم متذمرون للتقدم بشكوى ضد بعض المظالم . سمع الزعيم بخبر مقدمهم فجهز نفسه بمسرحية. وعندما دخلوا مكتبه كان يتحدث بالهاتف . يبدو أن الزعيم لم يكن في أفضل حال. فبدأ يرتفع صوته ثم نطق بجملة مخيفة:أنا آمرك أن تأخذه فورا إلى ساحة الإعدام ولا ترجع بدون تنفيذ ذلك . نظر الرهط القادم في وجه بعضهم بعضا وقد امتقعت سحناتهم رعباً. التفت إليهم (الزعيم) مبتسماً وقال تفضلوا خيرا إن شاء الله. ما الذي أستطيع أن أقدمه لكم؟ صاح الوفد بصوت رجل واحد: أيها الزعيم نحن جئنا فقط لنتشرف بمقابلتك ونهنئك على إنجازاتك. قال: قد أديتم الأمانة فانصرفوا إلى أهلكم راشدين. يقول من كتب (المذكرات) وكان شاهداً لهذه الواقعة أن الزعيم بعد انصرافهم انفجر بالضحك وقال: شعب من هذا الطراز يناسبه زعيم من طرازي. ترى مدرسة (علم النفس السلوكي) أنه كلما اظهر الأتباع المزيد من الخضوع (عزَّز) مشاعر السيطرة عند القادة. وفي مسرحيات احتفالات العظماء يلاحظ المتأمل كيفية ولادة هذا الوسط. من توجيه ألفاظ التعظيم وأنه المتفضل المنعم الواهب الرزَّاق ذو القوة المتين. كل الالتفاتات إليه وكل الإيماءات نحوه. وعند استعراض المحطات الفضائية في لقاء يضم مجموعة من الزعماء تكاد لا تشعر من كل محطة بوجود أحد سوى رئيسها وأن الآخرين نكرات مهملة. ويستمر التلفزيون المحلي في تسليط الكاميرا على الزعيم من كل الزوايا لكل ملمتر من وجهه وكل حركة من تصرفاته وبالتقريب والتبعيد. وبين الحين والآخر تعرض صوره على المشاهدين في وجه ملائكي يفيض بالسماحة والاقتدار تحيط به هالة القديسين.
الشعوب إذن هي التي تصنع الطواغيت كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات. كل ما تحتاجه حتى تصبح ملكة هو تغذيتها برحيق خاص. وفي عالم البشر يمكن لأي مغامر من أمة مريضة أن يقفز على ظهر حصان عسكري إلى مركز الصدارة والتأله. كل ما يحتاجه أمران: عدم التورع عن سفك الدم وتجنيد الأتباع بغير حساب وضمير.
وينبني على هذا تغيير زاوية الرؤية بالكامل أن لا نتوجه للزعامات المصنوعة (كرها) بالكراهية لأنها من صنع أيدينا، ونحن بالهجوم عليها نهجم على ذواتنا من حيث لا نشعر فنحن من صنعناها. إذا أرادت الشعوب رؤية وجهها في مرآة تاريخية فليس عليها سوى أن تحدق في سحنة حكامها. وقياداتها السياسية هي أفضل قميص مناسب للشعوب خيط عند أبرع خياط تتسربل به. وسبحان الذي أضل بعد أن هدى. لا غرابة أن جاءت سورة كاملة من القرآن باسم (المؤمن) فهذا الرجل الذي كان يكتم إيمانه أعلن رأيه في الساعة الحرجة أن الإنسان لا يقتل (لرأيه) مهما يكن هذا الرأي في (رأي) الآخرين خيانة وردة: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله). ومغزى هذه القصة المطولة في سورة (غافر) أن (المعارضة) هي لب الصحة السياسية وهي مفيدة للحاكم قبل المحكوم. فهي جرعة التوازن وملح الطعام وفرامل السيارة الاجتماعية. وفي السيرة الذاتية لهتلر التي كتبها (إيان كيرشوف Ian Kershaw) يرسم الرجل الصورة السريالية لمفاصل القوة؛ فالرجل كما وصفه (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) عندما يصف علاقات (القادة والاتباع) أنه كان أقرب إلى القديسين من الانتهازيين. ويشبه في هذا (لينين). أما (نابليون) فلا يزيد عن ضارب مدفعية محترف استخدم ببراعة سطوة النيران لتحطيم خصومه، ويشبهه في هذا (موسوليني). ومنذ عام 1933م بدأ هتلر يتقمصه (شيطان القوة) وبقدر مظاهر التملق والخضوع من الحاشية المحيطة به بقدر ما استولى عليه الشعور أنه القائد الملهم الأبدي المعصوم الذي سيحكم الرايخ الثالث لألف سنة قادمة. هكذا كان يزعق في الجماهير يوماً. ولكن صراخ الرجل كانت عند خليفته (أدولف هيس) موسيقى سماوية و (ميلوديا درامية) تأتي من السماء فتنير وتهدي ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع. كما وصفه في مذكراته الأخيرة في سجن برلين قبل أن يموت. بقدر كذب الحاشية وتملقها يسقط القادة في قبضة شعور أنهم خير من وطأت أقدامهم البرية وأن جبلتهم مصنوعة من طينة الإله. هكذا كانت وظيفة الكهنة منذ أيام فرعون وسومر ولم تتغير كثيرا، ضمن التحالف الاستراتيجي بين (الجبت والطاغوت) وأنه مبرر لهم التصرف حيث لا يقدر الآخرون ولا يتجرأون. ولكن عندما تختزل الأمة في فرد لا يبقى أمة. وكما يقول اللورد (أكتون) أن القليل من السلطة يعني القليل من الفساد أما السلطة المطلقة فهي مساوية للفساد المطبق. ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر مايشاء. بعد أشهر من وضع (هتلر) يده على مفاتيح القوة تغيرت تصرفاته كلياً وبدأ يقع تحت سيطرة فكرة أن (العناية الإلهية) أرسلته لإنقاذ الشعب الألماني. يقول (مالك بن نبي) عن هذا الشعور أن الشعوب تقع تحت سحر من هذا النوع في الأزمات التاريخية فتوظفها قيادات ذكية وخبيثة لحسابها، وتتحرك الجماهير العمياء تحت أحد شعورين (الإنقاذ) أو (روح الرسالة). ولكن هتلر غرق في اليم وهو مليم ومعه رؤوس النظام النازي إما بجرعة سيانيد أو على حبل المشنقة في نورمبرغ. غرق هتلر وجنوده أجمعون كما غرق فرعون من قبل لأنه كان بكل بساطة لا يحمل في يده عصا النبوة بل كان يلوح بالصليب المعقوف فأضحى سلفاً ومثلاً للآخرين. إن هذه (الحلاوة) المسكرة من الثناء والتبجيل والكذب لا يستطيع الحكام ـ وهم من البشر ـ أن ينجوا من سحرها، فلا تسكر النفس بخمر كالثناء. وكان هتلر ينظر إلى كل من حوله مثل جحا الذي كان يقف على رأس جبل فيقول في نفسه: لم أكن أتصور الناس صغاراً بهذا الحجم، بفارق أن هتلر كان يحدق من جبال بيرشتسغادن (عش النسر) في جبال النمسا. وفي النهاية بدأ هتلر يستخف بكل من سبقه وحتى (بسمارك) لم يعد أمامه شيئا مذكورا. لقد كان هتلر يتجرع أفيون القوة بدون توقف. ومع كل إدمان يزداد مقدار الجرعة كما هو حاصل في عالم الإدمان، ليستفحل المرض ويزداد. وفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وفي النهاية أحاطت بهتلر خطيئته بعدما سقط في حبال المرض المشؤوم (الشعور بالقداسة والعصمة) فكان يتحدث لمن حوله كالرسول للاتباع أو الإله الذي يوحي بأمره مايشاء. وفي وصيته التي كتبها قبل إقدامه على الانتحار يتبدى ذلك الشعور أنه هو الأعلى وأنه لم يخطيء. وعندما قابله وزير التخطيط (البرت شبير Speer) في الأيام الأخيرة قبل انهيار (الرايخ Reich) أصدر تعليماته بتدمير ألمانيا الكامل بصورة انتحار جماعية فلا يستحق الشعب الألماني الحياة بعده. كان الشعب الألماني من وجهة نظره قد اختزل في شخصه . ولكن لماذا تغرق سفن اجتماعية من هذا النوع؟ قام (يورج فيرتجنس Joerg Bernstein ) من شركة (شنابس بيرشتاين ) في برنامج تدريبي لمدة ثلاث سنوات لدراسة هذه الظاهرة المرضية في علاقات القوة فوصل إلى ثلاث نتائج مذهلة:ثلث القياديين على الأقل الذين يقفزون إلى منصات القرار هم من النوع الذي يفتقد الحس القيادي ووصولهم إلى المركز القيادي خاضع لظروف لا تعتمد (الكفاءة) بقدر (الولاء) وهم من أخبث الأنواع قاطبة وأخطرها. وتتبدل شخصية هؤلاء مع الجلوس على عرش القرارات على نحو وصفي فيكونون من أسوء أنواع المديرين ويتميزون بما لايقل عن 16 صفة قيادية فاسدة مثل: مظاهر الاستعراض، وتقريب المهملين، وتضييع الوقت في برامج غير مجدية، والحفاظ على مظاهر الأبهة في المكتب بجانب السكرتيرة الجميلة، وحشر الأنف في كل صغيرة وكبيرة، والانفجار بالزعيق على مخالفات لا تستحق، وتحطيم كل نفس كريمة؛ فيجب على الجميع أن يسارعوا إلى الولاء وإظهار صنوف الزلفى، وأن يكونوا جاهزين على مدار الساعة لتقديم (التقارير) في حق زملاءهم. ثانياً: يوحي إلى الزعيم من حوله زخرف القول غرورا أن الأمور في أحسن أحوالها، وأن كل شيء تحت السيطرة؛ فلا يسجلون إلا الانتصارات ولا يظهرون إلا عظمة القائد الذي لايخطيء. وأما المصائب فلا يتم الإخبار عنها إلا بعد أن لا يبق بدٌ من الإعلان عنها مثل القدم السكرية المتعفنة التي تفوح رائحتها ولا ينفع فيها إلا البتر. وجرت سنة الله في خلقه أن هذا عندما يحدث يكون متأخراً جداً حيث لا ينفع الترميم، مثل كسر الزجاج الذي لا ينفع فيه التجبير. وعندها تكون السفينة في طريقها إلى قاع المحيط بأسرع من غرق التيتانيك. ثالثاً: عندما تغرق السفينة تهرب الجرذان. هكذا تبرأ (فون باولوس) قائد الجيش السادس من معلمه (هتلر) بعد أن استسلم للروس ولم يبق من جيشه الذي بلغ 360 ألف مقاتل سوى تسعين ألفاً. وهكذا خطط (هملر) رئيس الاستخبارات العسكرية (الجستابو) والحرس الخاص (SS) للانقضاض على السلطة في الرايخ وبدأ يتفاوض مع الحلفاء سراً مع نهاية هتلر مع أنه لم يبق شيء من الرايخ. وعندما تسلل لواذا شقيق (إيفا براون) عشيقة هتلر من القاعدة تحت أرضية حيث اختبأ (الفوهرر) في أيامه الأخيرة أمر هتلر بمحاكمته وإعدامه في لحظات. وهكذا مات المشير (عامر) منتحرا أو منحورا بعد طول صحبة وعظيم الخدمات. والإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. ولكن لماذا يحب أحدنا أن يحاط بالمتملقين الذين يركعون له ويسجدون ويسعون له ويحفدون؟ ولماذا كل هذا العناء لشق هذا الطريق بين صراع (التراتبية) وكسب العداوات بدون توقف؟ وما هو الشيء المغري الذي يدعو إلى اعتلاء القمة؟ ما هي هذه الحلاوة التي لا يقاوم إغراؤها. للإجابة على هذا السؤال دخل على الخط علماء البيولوجيا ليخلصوا بنتيجة سيئة عن طبيعة الإنسان:( إنه يولد ليس بعطش إلى القوة بل بميل إلى سوء استخدام السلطة) أي أن السلطة تفسد الإنسان مهما كان ودان. وهذا يعطي الإشارة الحمراء لمن يتفاءل بالقدرة الأخلاقية عند بعض الأفراد الذين يصلون إلى سدة المسؤولية أنهم نزيهون وبالتالي سوف تنصلح الأمور مع قدومهم بضربة ساحر حتى لو كان في بلد وصل العفن فيها إلى قمم الغمام بما يذكر بهلوسة مدمني المخدرات. ويفوتهم أن الوسط عندما يمرض فلن يرفعه صلاح صالح أو استقامة عادل. والجراثيم عندما تضرب لا تقتل بفوعتها بقدر انهيار الجهاز المناعي. وفي تاريخنا نموذج مزلزل عندما تم اغتيال أعدل الناس الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسقوط تفاحة الحكم في يد البيت الأموي الذين كانوا ألد أعداء الإسلام في رواية عن سخرية التاريخ . وهكذا نكسنا على رؤوسنا ورجعنا إلى القبلية وحكمنا السيف و ما يزال. وتشكل الوسط المريض الذي تسبح فيه الجراثيم الإمراضية . وبدأت نسخة أموية مزورة عن الإسلام في الانتشار . يقول (بروس شارلتون ) الباحث في علوم التطور من جامعة (نيو كاستل) أن طبيعة البشر تحمل الميل للمغالبة والقهر. أما الانثروبولوجي (كريستوفر بوم ) من جامعة (جنوب كاليفورنيا) فيعزي هذا إلى أننا (مازلنا نحمل هذا التنافس العدواني من أسلافنا). وفي عالم البيولوجيا يمكن التمييز بين ثلاث أنواع من الجماعات: قرود الريزوس والشمبانزي والمجتمع الإنساني. إن مجتمع قرود الريزوس تعيش في تراتبية خاصة حيث يسيطر الذكر الأقوى في حين أن مجتمعات الشمبانزي تطور عندها نظام اجتماعي معقد في آلية متبادلة من الانضباط، والرئيس الذي له حظوظ البقاء هو من يخدم مصالح الجماعة أكثر فتعترف له الجماعة وتنقاد . ويفترض (فرانس دي فال ) أن هناك ما يشبه العقد الاجتماعي البدائي في جماعة الشمبانزي. أما في بني البشر فتمضي السيطرة الاجتماعية إلى أبعد، وفي النسيج المتضافر المعقد في علاقات القوة في المجتمعات الديموقراطية الحديثة لا يمكن لأحد أن يعلو إلى مستوى القوة غير المحدودة وغير المنضبطة. وهكذا فإن النظام هو الذي يفرز الأقوياء والضعفاء ويسلب الملك من الجبارين ويمنحه للذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين. وهذا خاضع لسنة الله في خلقه فيؤتي الملك من يشاء. ولقد استطاع الغرب فك هذا اللغز المحير في تبادل السلطة السلمي ونجح في إزالة الوثنية السياسية. والمشكلة في العالم العربي هي في (نظام الفكر) الذي يقتل (التفكير) ويمنع (حرية التعبير) ويؤسس للغدر ويرى أن (الإكراه) و (القوة) هي الوسيلة الوحيدة لمسك رقاب الناس أو الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية. ويشيد صروحاً من الاستبداد العقلي والمذهبي الذي يقود إلى الاستبداد السياسي آلياً. مما يفتح عيوننا على حقيقة كريهة أن جميع الفرقاء يرضعون من نفس ثقافة الإكراه. وهكذا ففي المدارس وفي بلدين إسلاميين يتم الصراع السياسي على جسد المرأة فمنهم من ينزع حجابها (بالقوة) ومنهم من يفرض حجابها (بالقوة) وبعيدا عن مماحكات الجدل ودخولاً إلى الآلية السيكولوجية فإن كلا الفريقين ينطلق من مبدأ (الإكراه) باغتيال حرية الإرادة في اختيارها على نحو واعي، وفرض النظام بالقوة أكثر من الاقناع. وجرت العادة أن كل شيء تم فرضه بالإجبار فقد جاذبيته مهما كان في عيون أصحابه براقا جميلاً وفي النهاية تنقلب الأمور فينشط المنعكس المضاد. هكذا انقلبت الرهبانية في أوربا إلى إباحية، وفي كل مجتمع متشدد تنمو تيارات الهرطقة تحت الأرض سراً. وحيث الكبت الجنسي تتولد كل صور الهلوسة والانحرافات الجنسية المثلية. وكل نظام يقوم في حراسة الإرهاب يحمل دليل فشله. أما في المجتمعات الديموقراطية فلا توجد كائنات أحادية مسيطر أو مسيطر عليه. بل كل واحد وفي نفس الوقت هو مركب من: (مسيطر ومسيطر عليه) من رأس الهرم إلى القاعدة. ورئيس شركة عملاقة في أوربا يحذر من ارتكاس أصغر مواطن، والسلاح الفعال في هذا هو النقد العلني. أما المجتمعات الخرساء فتمنح الصوت لفم واحد فلا يتكلم إلا فرد واحد متعالي. وفي المجتمعات النابضة بالحياة يمكنها تحطيم الأصنام السياسية بكل بساطة وبوسائل سلمية من تجاهل الأوامر والتصويت ضد القرارات وعدم التعاون. إن الذكاء الاجتماعي عند البشر كبير بما فيه الكفاية بحيث أن كل وسائل السيطرة والقمع يمكن مكافحتها دوماً بفعالية مما يعطي الأمل في التقدم دوماً والتخلص من مرض الطغيان. إن الطغاة أضعف مما نتصور ولكن السؤال هو في اكتشاف الصاد الحيوي الفعال ضد هذا المرض. وحتى يحين وقت مجيء المكتشف العظيم تبقى الشعوب ترزح في العذاب المهين.
المواطن العربي اليوم يستخدم التلفون الجوال، ويسكن عمارة شاهقة، ولربما ركب سيارة فارهة، والجندي العربي يقاتل بالصواريخ، والجراح العربي يجري جراحة معقدة، وفي بعض البلدان العربية بلغ عدد الجامعات كماً كبيراً، مما يوحي أن العالم العربي بخير. ولكن التفحص العميق للمشكلة يحمل أخباراً غير سارة. فلم تتطور الخدمات الا باتجاه عملقة أجهزة الأمن، والثروة القومية بددت في شراء أسلحة ميتة، وكل شيء في البنية التحتية لايعمل، والنمو يتراجع في معظم بلدان العالم العربي مع انفجار سكاني مخيف ومستقبل مظلم للشباب، والمواطن لايصدق نشرة الأخبار المحلية، والمواطن العربي أُحصي عدداً بأدق من عمل وكالة ناسا لارتياد الفضاء، وصُنف في خانات أمنية لاتنتهي، مراقباً بالعشي والابكار في تنفسه ورسائله، وتسجل شجرته العائلية لسبع حلقات. الانسان العربي يلبس بذلة أنيقة، وتلمع في صدره ربطة عنق جميلة، ويضع على عينيه نظارة مصنوعة في أيطاليا، شكله الخارجي كفرد لاينقصه شيء عن أي مواطن أوربي بفارق أنه ولد أخرسا يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، أتقن فن الصمت وتلقي الأوامر، وموت روح المبادرة، وفقد روح الجماعة، يردد مقولة ديكارت : عاش سعيداً من بقي في الظل. نحن دخلنا عصر المحطات الفضائية ولكن من الباب الخلفي لنكرس أصنام قريش بما يحسدنا عليه أبو لهب، وفي بعض المحطات لايطل سوى ثلاثة رموز في مركب أقانيم من عقيدة تثليث جديدة. وكانت الحياة السياسية قبل نصف قرن أفضل حالاً، فاقتلعت أول جذور الديموقراطية والمساواة الاجتماعية والتعددية السياسية وتراجعت الخصوبة الثقافية لحساب الفكر الايديولوجي في مصادرة خانقة للعقل وتأميم الفكر حتى إشعار آخر، ويتم نبش كتب لمفكرين تتم هرطقتهم بعد مرور ربع قرن على كتابتها. وفي الوقت الذي يتأهب العالم لاستعمار المريخ عام 2015 مازال عندنا من يؤمن أن الأرض لاتدور. وفي الوقت الذي يخطط الآخرون لألف سنة قادمة في استيطان المجرة مازلنا نحن على الأرض في بعض المناطق نتناقش حول قيادة المرأة للسيارة، وفي الوقت الذي يحاسب الفرد على قتل شجرة في بريطانيا، فإن عندنا من يفكر ويخطط لحملة تطهير عرقي لبعض الشجر وتدمير الغطاء النباتي بحجة الحساسية، في بيئة تئن من الرمال والجفاف، كمن يتبع وصفة مشعوذ بمعالجة الحساسية بقطع الأنف، والعطاس باقتلاع الرئة. شاهداً على وعي بيئي متخلف مدمر. نحن إذاً نتقدم الى الوراء، ويمشي أحدنا مكباً على وجهه، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟ إن حظنا سيء أننا ولدنا في هذا العصر، وننتسب الى ثقافة تحتضر، ولسان محاصر بثلاث وعشرين بوابة مراقبة، وكل هذا الوصف المرعب هو النصف السهل في المشكلة، فالمريض لايختلف حول علته جاهلان، ولكن اجتماع كل جهلاء القرية لايقربهم من الصحة الا بعداً، كما فعل أطباء صلاح الدين الأيوبي الذي أصيب بالتهاب كبد وتعرض للجفاف فعالجوه بالفصادة فقضوا عليه. العقول هاجرت، والأموال طارت على أجنحة الكترونية، والاستبداد ازداد رسوخاً، والديكتاتوريات أصبحت أشجاراً باسقة مدت ظلالاً من الرعب على شعوب بأكملها، وضربت جذورها أميالاً في التربة النفسية، وانقلب الفرد الى كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل بأفضل من القرود، والاذاعات نفخت ألوهية الحكام فصارت أكبر من اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. المواطن العربي لايرى المشاكل بل يصطدم بها اصطداماً كما ينطح الأعمى الجدار فيجرح رأسه ولايتعلم من خطأه، بما لاتفعله الاميبيا؛ فيسرع الى الحلول الجاهزة والسريعة لمشاكل في حجم الجبال تعس من قرون، ويعمد الى شراء آلة لايحسن استخدامها، ويعجز عن صيانتها، ولايفكر في تطويرها .
جاء في قصة كليلة ودمنة أن مجموعة من اللصوص أرادت السطو على منزل، وشعر رب المنزل بحركتهم فأهدته زوجته الى حيلة أن يتحدثا عن ثروته الطائلة التي جمعها بالسرقة فإذا دخل البيوت نزلها على ظهر شعاع من ضوء القمر. كل مايحتاجه ترديد سبع مرات شولم .. شولم ، فلما هم زعيم العصابة أن ينزل السطح بنفس الطريقة دقت عنقه . نحن نريد معالجة أمورنا بالصعود على أشعة ضوء القمر .
ضرب المفكر (علي شريعتي) المثل عن استعمال الآلة بين الشرق والغرب أنها عند الشرقي تخرب بعد فترة قصيرة من استعمالها، ويبقى يستعملها محدودة الوظيفة قرناً من الزمن بدون فكرة إصلاحها، وتبقى تؤدي وظيفتها عند الأوربي حتى بعد إحالتها للمتحف. هذا المنظر رأيته أنا شخصياً في مصاعد قديمة تعمل في ألمانيا ومدينة مونتريال في كندا.
هل هذه صورة قاتمة للواقع؟ المشكلة أن الواقع أسوء بدرجات من هذا الوصف!
ولكن كل ماذكرناه لايعني أكثر من وصف موجع ولايتقدم باتجاه الحل، ويبقى السؤال: لماذا يحدث مايحدث؟ لماذا تعيد الثقافة إنتاج نفسها على هذا الشكل المريض بدون تطور يذكر؟ ماهو سر هذا الاستعصاء الخبيث في الثقافة العربية الاسلامية؟ ماهي نوع البرمجة الذهنية عند الفرد العربي؟ ولماذا لايدخل العصر؟
المواطن العربي كفرد مادة خامة قابلة للتصنيع في أي ماكينة اجتماعية، شهادتنا في ذلك أبناؤنا الذين يذهبون للغرب؛ فينخرطون في الماكينة الغربية فيبدعون ويلمعون؛ فإذا عادوا الى الوطن انكمشوا مثل القماش السيء بعد الغسيل ، في شهادة عن بيئة عقيمة وجو خانق ؟ والسؤال الموجع لماذا ؟؟
إذا كان كل مواطن يغلق بابه على نفسه، ويعيش مع نفسه وعياله، فقد تحول الى ذرة رمل تائهة، غير متماسكة مع غيرها، في صحراء تضرب فيها العواصف في مؤشر خطير على انقضاء أجل الأمة أو يكاد.
نحن نمدح أنفسنا الى حد القرف ، ونكذب بأشد من أشعب حتى نصدق أنفسنا؛ فذاتنا مبرأة من العيوب فوق الخطأ ودون النقد .
إن عدم تحمل النقد، وانعدام آلية المراجعة، واتهام الآخرين بقصورنا، وعزو فشلنا اليهم تبرير غير مجدي، وتورط في حلف مع الشيطان في طريق الفحشاء والفقر لاعودة منه. أما تحرير آلية النقد الذاتي، وتنشيط مفهوم التوبة، فتعني السير في خط آدم، الذي تلقى من ربه كلمات فتاب عليه . لقد تورط الشيطان في ثلاث أخطاء قاتلة : حين نسب خطأه الى غيره ولم يراجع نفسه، ثم اعتز بمصدره العرقي، وأخطأ ثالثاً في الفيزياء حين ظن أن الطاقة أفضل من المادة، والفيزياء تعرف اليوم أن الطاقة والمادة وجهان لحقيقة واحدة.
العرب يعيشون في عصر لم يولدوا فيه، أو ولدوا في عصر لاينتسبون إليه، تشكل الحداثة لهم الجن الأزرق المكرر في قصة سندباد البحري، عندما اختلط عليه الوهم مع الحقيقة، قبل أن يعرف من هو ملك الجان الأزرق ؟ نحن نعيش نشوة الماضي كالسكران المترنح في عصر لم نتكيف مع إحداثياته؛ فلانعرف ماذا جرى في العالم ولانمشي في الأرض لننظر كيف بدأ خلق العالم الجديد وأنه أنشيء النشأة الآخرة . نحن لاننتسب الى العصر بسبب بسيط : أننا لم نشارك في بناءه . نحن استهلكنا ماعندنا من أدوات معرفية؛ فماعندكم ينفد وماعند الله باق. نحن اليوم نشتري الحضارة ولانبنيها، وأهم شروطها ليس الانتاج التكنولوجي بل الانتاج المعرفي . نحن نعيد إنتاج ثقافتنا وهناك الكثير من الأفكار التي تشكل الخريطة الذهنية عندنا هي أفكار ميتة جدير بها أن تودَّع الى المقبرة في جنازة خاشعة تليق بها. نحن ننتسب الى ثقافة ميتة لاتؤدي دورها، ورؤوسنا تعاني من دوار مخيف مع إعصار الحداثة، وشكلنا في العالم لايسر الناظرين، من الجزائر الى أفغانستان. ليس أبغض على النفس من الانتقاد ولكن النقد الذاتي وضع ديناميكي حي متطور في إنضاج الانسان. إنها أداة نفض مستمرة للوعي كي يبقى نشيطاً حياً. إنها يقظة واستنفار للارادة وشحذ المثل الأعلى، وهي تطهير أخلاقي في مستوى الفرد، كما أنها بناء أسرة متماسكة، والعيش في جو جماعة صحي، وتطهير الوسط السياسي من الارهاب والتسلط، فضلاً عن بناء علاقات حسنة بين الجماعات البشرية. المسلمون اليوم يخلطون بين ذواتهم وبين الاسلام، ويعتبرون أنفسهم أنهم استثناء للقانون البشري، في تعالي أحمق يدفعون ثمنه يومياً .إنها كارثة عندما يختلط الالهي بالبشري . الاسلام مبدأ من لدن حكيم عليم، والمسلمون بشر يخطئون ويصيبون، ويقتربون ويبتعدون، أويصعدون ويهوون الى أسفل سافلين فهل نعقل هذه القاعدة؟ عندما نعطل آلية النقد الذاتي نعطل الوعي، ونزيل أي إمكانية تصحيح الخطأ والنمو للمستقبل، وهي كارثة ونحن على كل حال في وضع اكبر من الكارثة ؟
وقع الذئب يوماً في فخ الصياد ؛ فاقترب منه الثعلب بحذر ؛ كي لايصيبه ماأصابه ؛ فنظر إليه الذئب بعين حولاء ونفس ذاهبة : يقولون إن يوم القيامة اقترب هل هذا صحيح ؟ قال الثعلب : القيامة ليس عندي خبراً عنها ، ولكن الأكيد أن قيامتك قامت ؟!
( مسألة الأحكام العرفية )
في شتاء عام 98 م هطل مطر غزير فوق مدينة مونتريال الكندية فغرقت المدينة الجميلة بماء منهمر. وخلال ساعتين هبت ريح صرصر عاتية قادمة من القطب الشمالي دفعت الحرارة الى الثلاثين تحت الصفر. إن أهل كندا معتادين على البرد القارس والشمس الساطعة او الأمطار الغزيرة ولكن ماحدث كان خلاف المألوف من تعاقب غير عادي بين ريح دافئة ومطر غزير ثم انكسار حاد في درجة الحرارة. وهكذا تحولت أطنان الماء الى أثقال مجمدة فوق أفنان الشجر وأسلاك الكهرباء ومنصات التوتر الكهربي العالي سرعان ماهوت بما حملت، فانقطع التيار الكهربي عن ثلاثة أرباع المدينة التجارية، وتعطلت ثلاثة مولدات عملاقة للكهرباء من أربعة وبقي مولد واحد يمد المدينة بالطاقة والدفء والحياة. إذا كان الناس في مناطق الحر يصمدون لجنون الحرارة إذا ضربت الى الخمسين، فإن هبوط الحرارة في مونتريال الى الثلاثين تحت الصفر بدون كهرباء يعني موت الناس فعلاً متجمدين في بيوت أصبحت ثلاجات حقيقية. استنفرت الحكومة الكندية كل الإمكانيات لانقاذ أرواح الناس فهيأت الملاجيء لمن يريد، واختار آخرون اللجوء الى أصدقائهم وذويهم يحتمون من صقيع البرد في تزاحم ضغط أهل المدينة الى ربع الحقل السكني الذي اعتادوا أن يعيشوا فيه. وهكذا احتشد الناس لاسابيع متكومين فوق بعض وهم يتأملون هشاشة الحضارة أمام غضب الطبيعة. وحتى هنا يعتبر الكلام عادياً فهي كوارث بيئية يمكن أن تحدث في أي مكان على وجه الأرض. ولكن في سياق هذه الأحداث والناس يتدافعون قد خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت برداً، تخوفت الحكومة من السلب والنهب والاعتداء بعد أن هجر الناس بيوتهم يصفر فيها إعصار فيه قر، فأعلنت الأحكام العرفية لمدة ثلاثة أيام، ونزل الجيش بالآليات الثقيلة الى الشوارع أمام دهشة الناس لمنظر يروه لأول مرة في حياتهم، أو ينقل اليهم أحياناً بشاشة التلفزيون من أخبار الانقلابات العسكرية من العالم الثالث المليء بالبؤس. وتقدم رئيس الحكومة الكندية يتحدث الى الشعب موضحاً بدقة مامعنى حالة الطواريء؟ وماهي الأحكام العرفية؟ ولماذا تطبق؟ ولفترة ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. في الحين الذي تمدد الأحكام العرفية القائمة في بلد عربي عشرات السنوات لمدة ثلاثة سنوات جديدة دفعة واحدة في روتين اعتاده الناس. عندما بدأ رئيس الحكومة (كريسشيان) يشرح للمواطن الكندي معنى الأحكام العرفية كان في الواقع يشرح شيئاً لم يعرفه الناس قط في حياتهم، في الحين الذي يوجد فيه أناس على ظهر الكرة الأرضية لايعرفون سوى حالة الطواريء والأحكام العرفية سبيلاً في الحياة. كان يروي قصة الظلام الذي يغلف أفق العالم العربي لفترة قرون وليس ثلاثة أيام، وعلى صورة مخففة للغاية عما يضرب مفاصل المواطن العربي بما هو أشد من أعاصير البرد وغضب الطبيعة في كندا. قال الرئيس الكندي: إذا أوقفك جندي وحاول استجوابك فلاتقاومه. وإذا اعتقلت مفرزة عسكرية من تشتبه بهم أنهم مفسدون في الأرض فلا ترتعبوا. كان كلام ممثل الحكومة الكندية يردد مأساة المواطن العربي اليومية منذ أن استباحه الحجاج وأبو مسلم الخراساني، ولكنه كان للمواطنين الكنديين شيئاً غريباً يطرق أسماعهم بعد أن اعتادوا السلام والأمن والكرامة والرفاهية والثقة في حكوماتهم أنها لاتكذب عليهم وتعمل لمصلحتهم وتتبدل بأصواتهم، فلايعتقل الفرد بموجب تقرير سري خطته يد مخبر في الظلام، أو يوضع لفترة عشرين سنة في معتقل لايزوره أحد ولايعرف أهله هل هو حي فيرجى أم ميت فينعى! إن الأمة العربية اليوم في وضع موت مقيم في ظل الأحكام العرفية تنتظر بعثاً جديدا والموتى يبعثهم الله. بدأ المواطنون الكنديون يحاولون أن يتصوروا بصعوبة كيف يتصرفون في مدة 72 ساعة القادمة، أما مأساة العالم العربي فهي مزدوجة فهو لايعرف الا الأحكام العرفية، وهو لايعرف أنه في قبضة الأحكام العرفية، ويظن أن طبيعة الأمور هكذا. إنا وجدنا آباءنا على امة وأنا على آثارهم مقتدون. كان الخليل بن أحمد يضع الناس في قسمة رباعية يأتي في اسفل القائمة أسوأهم (من لايعلم ولايعلم أنه لايعلم). نحن في قبضة الأحكام العرفية منذ أيام كافور الأخشيدي ولانعلم مامعنى القانون، ومعنى أن يعيش الانسان خارج حالة الطواريء والأحكام العرفية، فنحن ولدنا مدانين ببصمة على الحبل السري مذنبين بدون ذنب في ظل حكم السيف. في أحد المعتقلات العربية نشأت صداقة بين الجلاد (أبو حميد) وبين معتقل سياسي، وفي يوم اقترب منه فهمس في أذنه مواسياً فقال له: إن الله قدر عليك هذا الشيء وعندما ينقضي رزقك من هذا المكان (إذا خلصت مياتك) فسوف يفرج عنك. أجاب السجين: من الغريب أن الله رب العالمين يقضي بحكمه في بلد عربي بأن يعتقل الانسان على التقرير السري الكاذب، ويلقى في السجن لسنوات بدون محاكمة، ولاتطبق عليه حتى معاهدة جنيف لأسرى الحرب، ولكن قدر الله في سويسرا أن الانسان لايحتجز الا بمذكرة قضائية وبتهمة مثبتة، أما الشرطة في أمريكا فتقول له لاتنطق بشيء قبل أن يحضر محاميك حتى لايحسب كلامك عليك فكيف نفهم الموضوع؟ ارتبك الجلاد فبهت واختلط عليه الأمر جداً فهو ابن نفس الثقافة المريضة ولم يفهم الموضوع أين عمل الله وأين عمل البشر. تروى لنا ثقافتنا أن ابن حاكم مصر (عمرو ابن العاص) صفع غلاماً مصرياً لأنه سبقه فقال له أتسبقني وأنا ابن الأكرمين. والشاهد في القصة أنها كانت واقعة بين أطفال وقد يقول أحدنا إنها لاتستحق أن يهرع المصري وهو الرجل الذي مازال يحمل آثار السياط الرومانية على جلده أن يعلو ظهر جمل يخب به الى المدينة شهرا في الصحراء ليقابل الخليفة ابن الخطاب لينصفه وقد فعل، وخلد التاريخ قولته المشهورة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). إن المصري أدرك بحدسه أن القضية اكبر من الصفعة، فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن صفع آخر بغير حق فقد اخترق كرامة كل فرد في المجتمع. وأي فرد يعذب لانتزاع الاعترافات منه فكل انسان في هذا المجتمع قابل أن يفعل به ذلك. كان تقدير المصري أن صفعة كف بغير حق تعني اختراق الكرامة الانسانية، وفي الوقت الذي يعتدى على مواطن واحد بغير حق وهناك أناس فوق القانون، فإن ضربة السيف في طريقها لتلحق صفعة الكف، وكل الناس (على الدور)، والمسألة قضية وقت لاأكثر، والوباء لن يعف عن أحد بمن فيهم من هو في رأس هرم السلطة، والقضية هي متى يحين دوره. إنها مؤشر مجتمع الخوف وعدم الأمان لكل فرد في اجازة مفتوحة حتى إشعار آخر. ولكن اكثر الناس لايعلمون. عندما خرج المعتقل السياسي حاول أن يشرح طبيعة هذه الكوليرا الفكرية لعقلاء المجتمع. كان البعض يهرب من مجرد السماع فيغلق أذنيه ويستغشي ثيابه ويقول بيننا وبينك حجاب لأنه قد يسأل عن مسؤولية سماع هذه الأفكار الهدامة. إننا لانعرف الأهمية الحيوية لاستيعاب مثل هذه الأفكار فضلاً عن نشرها وترويجها كفكر صحي يخلص الأمة من عقال. إن انخفاض درجة الوعي وصلت حداً أننا نخاف من سماع هذه الأفكار. وكل ماذكرناه حتى الآن لايحكي أكثر من حالة مريض يشعر بالانهاك قد يكتشفها أي ملاحظ بسيط أن أوضاعنا ليست على مايرام. من وجهة نظر سياسية يرى المثقفون أن الديموقراطية هي الدواء ولكن رصيدها هو وعي المواطن قبل صناديق الاقتراعات. ومن وجهة نظر القرآن فإن هناك أمراً لاتضر معه معصية، كما لاتنفع مع الشرك طاعة. وهي كلمة السواء في تحقيق العدالة الأرضية، وهكذا فإن التوحيد يصبح أرضيا أكثر من كونه سماويا، ويصبح سياسياً أكثر من كونه علم لاهوت وعقائد أهل الكلام. وهذا يفسر مشقة المهمة التي قام بها الانبياء في التغيير الاجتماعي لأنهم دعوا الى تغيير قضايا تمس أهم الأمور حيوية في حياة الناس بإزالة طبقة الامتيازات. لو قام حاكم عربي فأعلن أن الأحكام العرفية رفعت وحالة الطواريء ألغيت هل سترفع؟ هل سيقف الفساد عن الانتشار؟ هل سينضبط أصحاب الامتيازات؟ هل سيصبح المواطنون سواء فلا أحد فوق القانون؟
إن هذا الوضع يذكر بقصة (الوزير وابنه والفأر) التي جاءت في مقدمة ابن خلدون، فهو يروي واقعة عجيبة عن سيطرة العادات العقلية عن الرحالة المغربي (ابن بطوطة) الذي كان يروي ماشاهده في رحلاته فكان الناس يتهمونه بالكذب. لإنهم لايتصورون خلاف مااعتادوه.
يقول ابن خلدون:( وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربى فيها ابنه في ذلك المحبس فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال وماالغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول ياأبت تراها مثل الفأر!فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر). مهما شرحت نعمة الحالة الدستورية لانسان لم يذق في حياته سوى بؤس طعم الأحكام العرفية فسيظل يسأل أتراه كالفأر؟
(المجتمع العربي أمام استعصاء تاريخي في مثلث مكون من مواطن تائه ومثقف مدجن وفقيه غائب عن العصر )
في عام 1995 م توفي اثنان من أعظم الكتاب العرب (علي الوردي) عن 82 عاماً مخلفاً وراءه أكثر من ثلاثين مؤلفاً و(الصادق النيهوم) في عمر 58 عاماً. فأما الوردي فسار في جنازته أفراد قلائل على خوفٍ من فرعون وملئه أن يفتنهم. وأما (النيهوم) فمات مثل أبو ذر الغفاري: (يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده). يصف (سعد البزاز) الوردي بأنه أكبر عالم اجتماع في وطنه وكان حرياً أن يودع بجنازة تليق به من خصومه والأصدقاء، ولكن لم يكن الخصوم ليسيروا في جنازته في بلاد: (غابت عنها تقاليد الحوار وبات من النادر احترام الرأي الآخر وتحولت الخلافات الفكرية إلى سكاكين تقسم الناس فحيثما ينعدم احترام الرأي الآخر يصبح التشبث بالخصام والنزوع إلى الإيذاء بعضاً من مظاهر الانفصام العام في شخصية المجتمع) وأما الأصدقاء فلا شك أن الخوف: (شل أقدامهم عن الخروج إلى الشارع في تظاهرة الوداع وحيث يوجد رعب جماعي تزداد الهواجس ولا يعود بإمكان الناس الإفصاح عن هويتهم الفكرية في لحظة مشوهة من التشظي في تركيبة المجتمع). مات الوردي تاركاً وراءه مؤلفات تأسيسية للفكر مثل (منطق ابن خلدون) و(وعاظ السلاطين) و(مهزلة العقل البشري) و (موسوعة تاريخ العراق الحديث). ومات (النيهوم) تاركاً وراءه مؤلفات مثيرة مثل (محنة ثقافة مزورة) و (من سرق الجامع) و (إسلام ضد الإسلام) و(قرود ..قرود). ويطرح (البزاز) سؤالاً :(للوصول إلى عروق الكوارث)( من نحن ؟ وهل نحن شعب واحد حقاً ؟ ولماذا توالت الكوارث علينا ؟ أهو عقاب إلهي قررته الأقدار؟ أم أن الكوارث هي نتاج جلدٍ جماعي للذات؟ ) ليصل إلى تحليل يدعو للتأمل ولا يخلو من قدر من الحقيقة، فينقل عن (الوردي): (أنه حذَّر من قدوم العوام من ريف متخلف إلى المدن) الذي سيؤدي إلى اجتياح المجتمع المدني على يد العسكر واغتصاب مؤسسة الدولة وتريف المدينة بقيم الثأر والعنف. وهناك من يرى أن بعض أنظمة الحكم لا تزيد عن تحالف الريف ضد المدينة. واستبدال إقطاعيي الأراضي بزعماء القبائل الأمنية الجديدة بفارق أن مضارب القبيلة امتدت إلى كل الدولة والمجتمع ولا ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي زمان أو مكان. لينتهي (البزاز) إلى أن (إعادة دور المدينة) سيؤدي إلى سلسلة من التحسينات مثل : (إذابة الفروق العرقية والمذهبية ـ رد الاعتبار إلى مفهوم الدولة ـ فرض النمط السلمي لحل المشاكل ـ إعادة إنعاش مجالس الفكر). مات الوردي فلم يسر في جنازته إلا رهط من الناس وأما النيهوم فضاع رمسه. وهذه المكافأة من الأمة لمفكريها مؤشر خطير عن غيبوبتها التاريخية، ومصير الوردي يذكر بنهاية (ابن رشد) الذي كوفيء في نهاية حياته بالنفي إلى قرية يهودية وحرق مؤلفاته، وأما (الطبري) المفسر والمؤرخ فقد دفن سراً تحت جنح الظلام خوفاً من الرعاع الذين اتهموه بالرفض، وأما (مالك بن نبي) فهو مجهول في بلده الجزائر أكثر من أي بلد آخر. ويبدو أن الفكر يبحث له دوماً عن تربة مناسبة. هكذا انتقلت أفكار بوذا إلى الصين، وحمل حواريو المسيح عليه السلام دعوتهم إلى روما، وهرب (الهوجنوت) من فرنسا إلى برلين، كما لجأ (النساطرة) إلى بغداد، وفر علماء القسطنطينية بعد الفتح العثماني باتجاه الغرب. إن هجرة الفكر تحدث حينما يلج الوطن استعصاءً تاريخياً فتمتليء المعتقلات بالأحرار ودار الغربة باللاجئين السياسيين. والوطن العربي اليوم مقيد في زنزانة تاريخية من أربع زوايا متبادلة التأثير بين (مواطن تائه) و(فقيه غائب عن العصر) و(مثقف مدجن) و (زعيم مؤله). لقد آن الوقت لاستيعاب ثلاث حقائق: التخلي عن التعظيم الذي يقترب من التأليه، والحب الجنوني، وأن شخصاً ما يستطيع أن يلم بكل شيء. والديموقراطيات اليوم تعكف على تشريح (بشرية) الزعماء أكثر من تقديسهم فهذا العمل يفيد والثاني يعطل. إن دخول المجتمعات هذا النفق الأسود ليس غريباً عن التاريخ، وحالة استعصاء من هذا النوع تنتهي في العادة بثلاث كوارث: اجتياح خارجي ـ تحلل داخلي يفضي إلى حرب أهلية أو ثورة ـ أو تحنط إلى أجل غير مسمى في براد مشرحة الموتى. والجثة عندما تدخل الموت تمر عبر ثلاث بوابات: أولاً المحافظة على الشكل مع توقف الوظيفة مايسميه الطب الشرعي بـ (الصمل الجيفي) فتصبح الجثة قطعة واحدة من خشب. ثم تدخل الجثة مرحلة التفسخ والتحلل فتتصاعد رائحة الموت. ثم تدخل مرحلة الاجتياح الخارجي لتبدأ طوابير لا تنتهي من فرق الحشرات تتناوب على التهامها في (نظم ثابت) يبدأها الذباب الأزرق وينهيها النمل وخنافس الشحم فيما لايقل عن 500 نوعاً من الحشرات، بحيث يهيء التهام كل فريق الجثة للموجة التي بعده في ساعة بيولوجية لا تخطيء، حتى تذوب بالكامل في التراب وتعود إلى دورة الطبيعة. إن القرآن ينقل إلينا أخبار الأمم التي دخلت نفق الاستعصاء التاريخي فلم ينفعها إلا الاستئصال الكامل مثل الورم الخبيث. هكذا دمر مجتمع نوح في ظل دعاء مزلزل: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) فغسلوا من وجه الأرض بالطوفان. وأما قوم لوط فقد أحرقوا بالبركان لتطهير الأرض من احتمالات انفجار أمراض فيروسية تقضي على الجنس البشري كما في الايبولا والايدز بعد أن تورط كامل المجتمع بالشذوذ الجنسي وأصبح الذي لا يمارسه عرضة للسخرية: (إنهم أناس يتطهرون). وأما عاد فأرسل عليهم ريح صرصر عاتية فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. وهناك استعصاء تاريخي واجهه فتية الكهف بعد أن دخل المجتمع نفق الاستبداد ومعالجة المارقين بالرجم ففروا مع كلبهم بعد أن لم يبق لأحد ضمانة بما فيها الكلاب. ولكن أعظم استعصاء تاريخي كان في المجتمع الفرعوني. وعندما ذهب موسى عليه السلام بمهمته التحريرية كان واضحاً في خطابه لفرعون أنه لم يأت لإصلاح المجتمع الفرعوني بل أن يمنحه بني اسرائيل الذين أصبحوا أدوات (عبودية) في آلة النظام الفرعوني (أن عبَّدت بني اسرائيل). إن قصة كاملة في القرآن عن البقرة في أطول سورة تحمل الترميز العميق لمأساة دخول المجتمع حالة الاستعصاء التاريخية. وعندما يحلل المؤرخ (توينبي) ظاهرة انبثاق الحضارة يرى أنها (الاستجابة الملائمة للتحدي) فيقول أن الموت وضع يده الباردة على المجتمع الفرعوني عندما انتقل التحدي من (الطبيعة) إلى (النفس). فعجزت الحضارة الفرعونية عن مجاراة هذا التحول الجديد. كان المجتمع الفرعوني قد دخل ليل التاريخ وفقد الطاقة الإبداعية وتكسر إلى شرائح دونية وفوقية من مستضعفين ومستكبرين. وكانت مهمة موسى محصورة في خطة على ثلاث مراحل: الخروج بجيل (الخوف) من مصر. ثم دفن جيل (التيه) في الصحراء، ثم خروج جيل (الحرية) إلى القدر الجديد. ولا يوجد قصة مشروحة بتفصيل مع رسم كل المشاعر الدقيقة وخلجات النفوس والتعبيرات وعلى نحو مكرر كما جاءت في مواجهة موسى لأعظم حضارة على ظهر الأرض يومها. كانت حضارة قد شاخت وارتفعت فيها الأصنام والهياكل ومات فيها الإنسان. وفي الوقت الذي كانت ترفع الأهرامات التي هي مدافن لأشخاص زائلين كانت عظام أمم كاملة تطحن في مقابر جماعية. إن بني إسرائيل نجحوا في عبور البحر تحت مظلة المعجزة ولكن لا فائدة من جيل مريض نشأ في العبودية تركت السياط في ظهره أنفاقاً. وكانت مهمة موسى غير قابلة للإصلاح؛ فأمام (المن والسلوى) كان لعابهم يتحلب لمذاق الثوم والبصل. ومع تظليل الغمام في هجير الصحراء طلبوا أن يروا الله جهرا. وعند المرور على قوم يعكفون على أصنام لهم قفزت مجموعة لتقترح على موسى أن يجعل لهم (إلهاً كما لهم آلهة). وعندما رجع بالألواح ليرسي التشريع في المجتمع كان القوم يعبدون عجلاً جسدا له خوار (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي). وعندما اختار قومه سبعين رجلاً للميقات أخذتهم الرجفة ثم رفع الجبل فوقهم كأنهم عصا ممدودة خذوا ما آتيناكم بقوة. ولكن لا فائدة من كل المعجزات مع عبيد ضمرت أجهزتهم النفسية وتحولوا إلى أقزام أمام مهمات العمالقة. وفي النهاية أمام تحدي دخول الأرض المقدسة لم يكن أمام موسى إلا أن يدعو أن يفرق الله بينه وبين القوم الفاسقين ليدفن هذا الجيل المتعفن في رمال الصحراء في تيه يدوم أربعين سنة ويخرج جيل جديد لا يعرف إلا الحرية والشمس وهو الذي يعول عليه في مشاريع الاقتحام الكبرى. ومن هذا التوقيت الزمني يستنبط (ابن خلدون) قانون عمر الجيل. إن مرض (بني إسرائيل) مرض (إنساني ثقافي) وليس (جيني وراثي) وليس هناك من أمة محصنة ضد الإصابة به. وعندما يعتبر المسلمون أن فرعون هو بيبي الثاني وأنهم فوق القانون يصبح القرآن دواء انتهت صلاحيته. والجميل في قصة بني اسرائيل: الوحي والمعجزة والقيادة المبدعة. والمجتمع العربي اليوم يفقد الثلاثة فكيف يمكن أن يخرج من هذا الاستعصاء التاريخي؟ إننا في الواقع نتمتع بميزة فريدة سببها التطور التاريخي فبقدر عمل الأنبياء السابقين على قانون المعجزة بقدر عمل النبي محمد (ص) على سنن تغيير المجتمع داخلياً، فلم يدمر مجتمع قريش بالطوفان أو الزلزال أو الجراد والقمل والضفادع والدم، بل بالمراهنة على أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. وكان التحول في نصف جيل. ولكن تسارع الزمن انقلب اليوم فبدلاً من خروج بني إسرائيل من الأرض الظالمة يتم اختراق حزام دول التيه والخوف من كل مكان بالانترنيت والمحطات الفضائية والكلمات المنقوشة في الهواء على ثبج البحر الأخضر الالكتروني. إن التحول هنا كما يقول (ألفين توفلر) في كتابه (صدمة المستقبل) أن الزلزال يحدث والتحول يتم دون نقلة جغرافية. والمراهنة اليوم هي على ارتفاع مستوى الوعي عند جيل التيه ليزول الخوف. ويروي (مالك بن نبي) عن جيلين من الصينين اجتمع بهم في باريس فأما الأول فكان يلتفت حوله حينما ينطق يرتعش من الخوف، وكان الثاني يتحدث بقوة ويعبر بصراحة. فالفرد عينة من المجتمع مثل عينة الدم من الجسم قد تكون سليمة وقد تظهر الإصابة بسرطان دم.
مائة بالمائة
جاءت نتيجة الانتخابات الرئاسية في العراق في خريف عام 2002م مائة بالمائة. هذه المرة ليس 99,99% وليس 99,97 بل تم تدوير الرقم حرصاً على الكمال إلى مائة بالمائة. وهو مؤشر خفي إلى أن اكتمال الأشياء هي بداية النقص. وعندما يكتمل البدر فهو في طريقه أن يصبح كالعرجون القديم. وقبل السقوط تأتي الكبرياء. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. وعندما يأذن الله بموت الأمم فلها ثلاث نهايات: اجتياح خارجي أو تحلل داخلي أو تجمد في مربع الزمن.
نحن نعرف أنه ليس هناك (انتخابات) في العالم العربي بل مبايعة الخليفة (القاهر) للعباد في حضور المخابرات. نحن نعرف أنها (مهزلة) ولكن الكوميديا لون مسرحي يحضره الناس منذ أيام بركليس في أثينا. نحن نعلم أن الأنظمة الثورية تحولت إلى ملكية، وهي ليست مرض العراق فهناك من سبق العراق إليها. والكل يتلمظ في العالم العربي أن يبني سلالات حاكمة مثل أليخانات أباطرة المغول. ومن الغريب في هذه الكوميديا أن هناك حرص على الديكور في إخراج السلطان بلباس جمهوري كمن يريد من اللص أن يرتدي عباءة النبي. نحن نعرف أن العالم العربي يمشي على رأسه بدون أن يشعر بالدوار. ونحن نعلم أن من يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معاً. ونحن نعلم أن العراق مسموح الحديث عنه فهو مستباح، ولكن المرض العربي واحد مثل حمى الدماغ الشوكية فمنهم من يصاب بالخرس وآخر بالعمى وثالث بالجنون.
مع هذا فهي ظاهرة جديرة بالدراسة أكثر من الحزن أو الضحك أو الشتم. والأطباء يفرحون عندما تأتيهم حالات (مثيرة) وهي لصاحبها مصيبة مثل سرطان المستقيم أو شيخوخة البروجيريا. وكما يهتم علماء الطبيعة والحيوان بدراسة الظواهر الفيزيائية الشاذة والحيوانات المنقرضة والقبائل البائدة واللغات المختفية. كذلك فإن العالم العربي يشكل ظاهرة فريدة جديرة بالدراسة مثل دراسة الماموت أو أفاعي الاناكوندا ولهجات أهل الأسكيمو وحجر رشيد.
إنها فرصة تاريخية كما نرى لتأمل المجتمع العربي بعد أن حافظت أمريكا على الأوضاع كما يفعل علماء الطبيعة بالحفاظ على بقايا الخرتيت في كينيا، وتخصيص سفاري لها خوفا من الانقراض. والمجتمع العربي اليوم هو في حالة سفاري تسرح فيها بقايا حيوانات ضارية محمية بأسلاك أمريكية.
والسؤال لماذا يحدث استعصاء تاريخي في مسيرة مجتمع فيتوقف في مربع الزمن أيام الفرعون بيبي الثاني؟
إن المشكلة ليست في العراق. وإذا كان العراق قد انفرد برفع نسبة الانتخابات إلى المطلق فقد سبقه من ضرب بالمعول في القانون فأحدث ثغرة تناسب حجم السلطان. يصوت عليها مجلس لا يحسن إلا التصفيق. وعندما يتضخم الحاكم إلى هذا الحجم الفلكي فإنه يعني آلياً انكماش الأمة بالاتجاه المعاكس. وإذا كانت نسبة الانتخابات لشخص واحد فرد 99% فهو يعني أن الأمة انكمشت إلى 1%. وعندما يقفز السلطان إلى المطلق فإن الأمة تهبط إلى الصفر. والصفر يعني العدم في الرياضيات. والصفر رياضيا لا يتمتع بأي قيمة رياضية. وحاصل ضرب الصفر بالصفر يعني صفرا. والصفر يعني العدم. والعدم يعني الموت للأمة. وعندما نرى النسر الأمريكي يحلق في الأفق فلأنه رأى جثة عند بابل.
هذه المسألة حيرت كل من درس المسألة الإنسانية. كيف أن شخصاً واحداً يتسلط على رقبة أمة تعد بالملايين؟
في عام 1562م كتب شاب لا يتجاوز عمره 28 سنة هو (أتيين دي لابواسييه) مخطوطة عجيبة يفكك فيها آلة الطغيان كما يفعل ميكانيكي السيارة بتنزيل الموتور.كيف يبدأ الطغيان؟ كيف يتطور؟ كيف ينتهي مثل دورة أي مرض في الطبيعة سواء ذباب الخل أو أنفلونزا عام 1918 م التي فتكت بـ 30 مليون إنسان بدون معرفة المسبب.
يقول (اتيين دي لا بواسييه) إن الحرية ميزة الحيوان قبل الإنسان وما يحدث أن الفرس الجموح وبالترويض يستبدل تمرده بالانقياد فيباهي بسرجه واللجام. وفي منظر عجيب كان المقترع العراقي بأسماله يلقي بورقة، إلى جانب سيارة ابن الرئيس بلون دموي يمشي فيها بين جموع فقيرة، يطردها عن السيارة زبانية غلاظ شداد مثل طرد الذباب عن القطر.
وفي يوم كان غاندي يدخل على ملك بريطانيا بخرقة يلف بها حقويه كما فعل من قبل يوحنا المعمدان فقيل له لو لبست غير هذا لمقابلة الملك؟ قال جئت أمثل شعبا عاريا فاستحيت أن أرتدي وهم عراة. مع هذا فإن الملك كان يلبس ما يكفينا نحن الاثنين.
يقول (لا بواسييه) إن الحاكم شخص واحد محدود القوة العضلية فلو دخل عليه ثلاثة رجال لأحدقوا به وكتفوه ولكنه يمتلك من القوة السحرية ما يرسل الناس إلى الموت. فمن أين له كل هذه القوة؟
يجيب (لا بواسيه) عن هذا السؤال المحير أن نظام الحكم ليس فردا بل عصابة. وبتعبير القرآن " تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون" وهذه المجموعة هم أذرع الجبار لها امتداد جهنمي مثل الشبكة العصبية في الجسم. فكل واحد من مجلس العصابة مرتبط بعشرة يأتمرون بأمره وهم بدورهم مرتبطون بأعداد أكبر منها كلما نزلنا في السلم الجهنمي للأسفل. فإذا سرح الخيال بنا تبين لنا أن الطاغية يمسك في يده خيوط شبكة كاملة تتوتر بحركة خفيفة من أصابعه. كما نحرك أعظم جهاز بكبسة زر. ومنه نفهم كيف أمسك ستالين بالشعب الروسي وهتلر بنصف أوربا وجنكيزخان بمعظم العالم.
ولكن هذا التفسير هو القسم الأسهل والأصغر ويبقى الجانب العظيم والمخفي وهي كيف تتحكم أقلية سخيفة بأكثرية ساحقة؟
هنا يأتي القرآن فيطرح قانونا ثلاثي الأبعاد" أن الشيطان ليس له سلطان على العباد ويدخل تحته أي قوة سواء كانت أمريكا أو الصهيونية أو أي قوة طاغوتية. فالإنسان خلقه الله محرر من علاقات القوة. وهذا يعني أنه لا يوجد شر في العالم يملك سلطانا ذاتيا. و(ثانيا) أن البشر يتبعون الانحراف بإرادتهم. و(ثالثا) أن هذا يحدث بضعف الوعي على منحنى طردي يزداد اتساعا وكثافة وانحرافا بقدر غياب الوعي.
وهنا يجتمع (بواسييه) مع السر القرآني أن إنهاء الطغيان ليس في قتل الطاغية بل ممارسة العصيان المشروع. فنطيعه في الطاعة ونعصيه في المعصية. وهذا يدخلنا على مفهوم (الكواكبي) أنه لا حاجة لتغيير الحاكم بل فرملته. وهذا يدخلنا على مفهوم (التحدي الأرسطي) أن نغضب من الشخص المناسب بالقدر المناسب في الوقت المناسب وللهدف المناسب. وعند (هادفيلد) من علماء النفس أنه لا يوجد (خطيئة ذاتية) وهو يذكر بالعمل الجنسي فهي غريزة تنفع في توليد الحياة كيفما مشت ولكنها خطيئة في الزنا. وعلم النفس يرى أن (الشر) ليس "أمرا موضوعيا بل هو وظيفة خاطئة والوظيفة الشريرة هي استعمال اندفاع خير في وقت خاطيء في مكان خاطيء نحو غاية خاطئة" وبالنسبة للطب النفسي لا يوجد رذائل في ذاتها بل "فضائل منحرفة" بكلمة ثانية "الشر مثل القذارة مادة في غير مكانها".
الطغيان في العالم العربي بكلمة ثانية (مناخ) مريض يحتاج إلى العمل لتطهيره. كما نكافح الكوليرا بالنظافة. وكل منا يحمل وحشا في داخله. وكل منا (كمونياً) صدام. والذي أفرز صدام المناخ المريض. وهو لا يزيد عن خلية مريضة من نقي عظام مريض من ثقافة مريضة. وتغيير (صدام) لن يغير المناخ. والركض خلف البعوض لقتلهم عبث ما لم نردم المستنقع. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. ولو جلس الناس في العراق في بيوتهم فلم ينزلوا للانتخاب المزعوم ما كان صدام فاعل بهم؟ لقد شاهدت الناس وهم يزحفون للاقتراع تحت سحر عظيم أنه يجب أن يذهبوا ويجب أن يكتبوا نعم. مع أن الورقة تحمل لا ونعم؟
إننا نعيش عصر السحر. واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. وأمريكا هي الساحر الأعظم. وعندما يكون الوعي في إجازة فإن حبالهم وعصيهم سوف تسعى. إلى حين مجيء موسى.
جاء في كتاب (خرافات الهند) أن حماراً فقد ذيله في حادث ذات يوم فكانت مصيبة أليمة أغرقته في الأحزان. وراح يبحث عن ذيله في كل مكان معتقداً أنه يمكن إعادته إلى مكانه. وأخيرا مر بمرج أخضر فدخل وهو يظن أنه سيعثر على ذيله المقطوع. ولكن البستاني ارتاع من التدمير الذي أحدثه في نباتات الحقل فاستشاط غضبا وهجم على الحمار فقطع أذنيه وضربه وأخرجه من الأرض. وهكذا فإن الحمار الذي كان يندب ذنبه رجع أصلما بدون أذنين. فكان في وضع متحمل فأصبح سخرية للعالمين. وما يصدق على الحمار والبستاني يصدق على العرب هذه الأيام.
هل ماتت جامعة الدول العربية؟
في خريف عام 2002 م تقدمت ليبيا بطلب الانسحاب من عضوية جامعة الدول العربية. وبغض النظر عن الحركة المسرحية والدعوة غير المباشرة لتفعيل هذه المؤسسة تحت ضغط الإحباط، إلا أنها بنفس الوقت نعوة صحيحة في جنازة جامعة الدول العربية. يناسبها عصابة سوداء على الذراع رمزاً للحداد.
وعندما أعلن (كمال أتاتورك) نهاية الخلافة الإسلامية لم يصدق الناس أن يقدر (أبو الأتراك) على هدم صرح عمره خمسة قرون.
واليوم يعلن بوش أيضاً أن جمعية الأمم المتحدة ستلحق بالمرحومة عصبة الأمم المتحدة التي تفاءل الرئيس الأمريكي يومها (ويلسون) أن تكون (حلف فضول) القرن العشرين تحقيقا لنبوءة الفيلسوف (إيمانويل كانت) التي جاءت في كتابه (نحو السلام الشامل).
ويرى المؤرخ (توينبي) أن هناك علاقة بين (المؤسسات) و (الأفكار) فلا يمكن إيداع أفكار قديمة في رحم مؤسسات جديدة. وبتعبير (توينبي) نقلاً عن الإنجيل:"ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، فيصير الخرق أردأ، ولا يجعلون خمراً جديدة في زقاق عتيقة فالخمر تنصب والزقاق تتلف". ولو لم يعلن أبراهام لنكولن تحرير العبيد لحررتهم الآلة في العصر الصناعي، واليوم تتحول الحدود في أوربا إلى رموز لعهد قديم. وينسخ الانترنيت عصر صناديق البريد. وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها.
وفي القرآن الكريم قصة رمزية معبرة عن الموت والحياة عندما مات سليمان عليه السلام فلم تنتبه الجن إلى أنه فارق الحياة، والذي كشف سر موته (حشرة) أكلت منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وبهذا فإن أتاتورك وزع بطاقات النعوة كما فعل ذلك القذافي. وكمال أتاتورك قام (بدفن) جثة ولم (يقتل) عملاقاً من حجم الخلافة. ولا يزيد دوره عما فعلته (دابة الأرض) التي أكلت منسـأة الرجل الميت على ضفاف البوسفور.
وفي الطب نعرف أن الموت يبدأ بتوقف (الوظيفة) قبل اندثار (الشكل). وعندما يموت من يموت فإنه يحافظ على (شكله) في الساعات الأولى وتبقى الجثة ساخنة قبل التفسخ، فإذا تحللت غاب (الشكل) وعاد إلى دورة الطبيعة بكامل المواد، فأما الغازات فتعرج إلى السماء، وأما المعادن فتحل في التراب، وقد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ.
وقد يشذ المنظر لظروف مناخية من صقيع أو حر مترافق بجفاف فيبقى الشكل مومياء لا تضر ولا تنفع، وقد حاول الفراعنة عبثاً المحافظة على الشكل بفن التحنيط على أمل إعادة (الوظيفة) للذي مات، ولكن لا المحنط ولا المتخشب ولا المندثر أشكال للحياة. بل هي تظاهرات منوعة للموت. والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
وحاول المؤرخ والفيلسوف (شبنجلر) نقل هذه الصورة من تخشب الشجر وجفاف العود بدون نضارة الحياة أنها مصير الأمم والحضارات أيضاً.
وما ينطبق على الجثث والمؤسسات والحضارات والخلافة الإسلامية وعصبة الأمم لن تخرج عنه (جامعة الدول العربية) بفارق أن الأخيرة ولدت مثل الجنين الميت. وجامعة الدول العربية حاليا ميتة منذ نصف قرن بانطفاء الوظيفة وبقاء الشكل الخارجي مثل مومياء رمسيس الثاني ولذلك كان مقرها القاهرة آية للمتوسمين. ومنذ نصف قرن لم نسمع عن هذا الميت أي حركة تشير للحياة. وهي لا تزيد عن ديكور سياسي قد تنفع في المناسبات والاحتفالات ولكن ليس للحسم في القرارات المصيرية. وما نسمع عن الانهيار العربي الحالي والاستعداد الأمريكي لغزو العراق هو تداعيات من حرب الخليج الثانية التي عجزت فيها الجامعة العربية، وهي بدورها نتائج من حرب الخليج الأولى التي عجزت في حلها أيضا الجامعة العربية وفاقد الشيء لا يعطيه. وكل حدث هو في علاقة جدلية بين ما قبله وما بعده، فهو سبب لما قبله وهو نتيجة لما بعده.
ومع أن ولادة السوق الأوربية المشتركة رافقت ولادة جامعة الدول العربية ولكن الفرق بين الاثنين مثل الفرق بين البيضة المسلوقة والبيضة التي خرج منها ديك يصيح على السياج حي على الفلاح.
والسر أن الكائنات إذا بدأت بداية سليمة كما في البيولوجيا فإنها تبدأ بخلية واحدة بكود وراثي مكتمل، فإذا بدأت بخلية مفرغة من النواة والكود الوراثي لم تتابع الحياة، كذلك الوضع في جامعة الدول العربية فإنها بدأت حياتها بدون كود وراثي. وأهم شيء في (الكود الوراثي الاجتماعي) هي (الثقة) فهي تشبه قوى النواة القوية التي تحافظ عل ترابط البروتونات بجانب بعض مع تنافر الشحنات. ولكنها أعظم طاقة في الكون.
يقول مثل صيني: ثلاث أشياء أساسية في المجتمع: السلاح والخبز والثقة. فإذا أردنا الاستغناء عن واحد رمينا السلاح. وإذا أردنا الاحتفاظ بواحد كانت الثقة لأن الناس عاشت بدون خبز إلى حين ولكنها لم تعش قط بدون ثقة.
لماذا نجحت السوق الأوربية وفشلت الجامعة العربية؟ إن السوق الأوربية لم تعلن عن نفسها بشعارات ضخمة مثلنا بل مشت ببدايات بسيطة وسليمة وقابلة للتنفيذ مثل اتفاقية المونتان في الحديد والصلب بين ألمانيا وفرنسا. واليوم يولد اليورو كعملاق اقتصادي خلفه 15 دولة سيلحق بها عشرة. وتتمنى المغرب أن تدخل هذا النادي فلا تستطيع. والأتراك اليوم لا يفتحون أوربا بل يطلبوا من أوربا أن تفتحهم وتدخل ديارهم.
مع هذا فإن القلوب القاسية يمكن أن تخشع لذكر الله. كما يمكن أن تحي الأرض بعد موتها. وموت الأمم ليس فناءً للأفراد بل قلبا لهندسة علاقات الأفراد ، وبذلك يمكن أن يولد مجتمع جديد حي من قديم ميت وسبحان من يخرج الحي من الميت، كما بإمكانه أن يخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون؟
واليوم في الطب يمكن بتقنية الاستنساخ أن نولد كائناً كاملاً من خلية مفردة. وعندما مشى موسى ببني إسرائيل فشق بهم البحر لم يبن عليهم آمالاً كبيرة بل أراد استخدامهم كمحاضن لتفريخ جيل جديد، وهو سر التيه أربعين سنة في سيناء، فهي مرحلة زمنية لدفن (جيل) مترهل في الرمال واستخراج جيل قُدَّ من الصخور.
والمجتمع العربي اليوم في حكم الميت، ولذلك فإن (إفرازاته) السياسية ـ مثل الجامعة العربية ـ ميتة. كما يعرف الأطباء المرض بأخذ عينة بسيطة من (إفرازات) المريض. ويعرف علماء الجريمة دليلهم من شعرة.
وكما تطورت جراحة الجينات وتقنية الاستنساخ وبناء الروبوتات فإن الأمة العربية تتشكل على نحو جديد ومن خلال المعاناة. وبقدر بناء منهج المراجعة بقدر اختصار العذابات، وبقدر عدم المراجعة بقدر تزايد كميات العذاب مع فوائدها المركبة، ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
وعلى العرب الآن أربعة أمور: مصارحة النفس أن جامعة الدول العربية ميتة يجب دفنها في جنازة خاشعة. واعتماد مبدأ الجرذ والسنور في الأخطار المحدقة. والمراجعة مع حدوث الخطأ باعتبارها آلية تصحيح بذراعين من الحذف والإضافة، وليس اعتبار العذاب (ابتلاء)ً تضاعف فيه حسنات المرء، فهذا يخلق عناداً في المقاومة واستمرارا في الطريق الخطأ. والفرق كبير بين ابتلاء الخطأ وابتلاء الإيمان، وهي شعرة بسيطة ولكنها كافية لحجب الرؤية. ورابعاً اعتماد خطوات بسيطة قابلة للتنفيذ وغير قابلة للتراجع عنها وغير معلقة برغبات الزعماء الشخصية بقدر مصالح الشعوب.
زعموا أن جرذا كان يسكن قرب سنور فهو على حذر منه دائم. حتى خرج يوما فإذا بالسنور عالق في شباك صياد. سر الجرذ بذلك ولكن فرحته انطفأت بمشهد بوم يستعد للانقضاض عليه وابن آوى يتربص به ريب المنون، فاقترب من السنور وقال يا صاحبي إن دفعت عني غائلة ابن آوى والبوم قطعت لك الشبكة بأسناني فنجونا جميعا. فوافق السنور ثم بدأ بمعالجة الأعداء بالصوت العالي والتكشير المخيف فهربا. وكان أثناء ذلك قد قرض الجرذ كل الحبال إلا عقدتين. نظر السنور إليه مرتابا وقال هل نويت الغدر؟ قال لا ولكن أستوثق لنفسي فإذا جاء الصياد قطعت آخر عقدتين فانشغلت أنت بالصياد فنجونا نحن الاثنين. وعندما جاء الصياد كان الجرذ يقضم آخر الحبال فقفز السنور في وجه الصياد وولى الأدبار وهرع الجرذ إلى جحره طلباً للأمان. والزعامات العربية اليوم عليها أن تستفيد من حكمة الجرذ والسنور وتتعاون تحت هذا المبدأ للخلاص المشترك أكثر من الأخلاقيات المزعومة والتاريخ المشترك وتعاليم الأنبياء. أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
عصر الانحطاط العربي
في القرن 21
في كتاب (حتى الملائكة تسأل) بقلم (جيفري لانج) أستاذ الرياضيات الأمريكي يذكر فيه أنه سأل والده حينما كان طفلاً: يا أبت هل تعتقد بالجنة والنار؟ أجاب: أما الجنة فلا علم لي بها أما جهنم فقد رأيتها. ووضع العالم العربي اليوم مثل المريض المدنف يصحو على نزف وينام على اختلاط بدون عناية مشددة وأطباء. ويعرف كل من حوله أنه مريض. ويعرف كل من حوله أنه لا يعرف طبيعة المرض أو نوع الدواء. والجميع بين خائف وحزين ويائس.
وفي المحطات الفضائية يرتدي مقدمو البرامج ملابس السحرة فيدمدمون ويسجعون ويجري الحديث عن اعتذار ومصالحات عربية كمن يعالج الإيدز بالبخور والسل بالدعاء. وهو ليس انتقاصا من قدر البخور أو الدعاء سوى أنه ليس في مكانه. ذلك أن مرض الغدر لا يعالج بالكلام. ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. ويمضي التاريخ وفق قوانينه الخاصة. ومضت سنة الأولين.
وقبل دخول الألفية الثالثة سألتني مجلة الرجل ثلاث أسئلة عن أهم الرجال والأحداث في فترة الـ 500 عاماً الماضية. والعقد الفائت والعقد القادم. وكان جوابي أن ما حدث خلال القرون الخمس الفارطة واضح لأنه ظهر أثر أولئك الرجال مثل (كوبرنيكوس) الذي قلب النظام الكوني. و(ديكارت) الذي قلب عقولنا بمنهج الشك الذي يقود لليقين. و(دارون) الذي أعطانا مفهوماً جديداً لمعرفة نشأة الحياة وتطورها. و(غاندي) الذي أحيا منهج الأنبياء بدون نبوة وهو قهر الخصم بالحب دون قتله. و(كولومبوس) الذي قلب خرائط العالم ومعها أقدار الشعوب وقفز الصليبيون الفقراء إلى واجهة التاريخ ولم تعود ملكة بريطانيا تعيش على القرصنة أو يقودهم ملك أمي إلى بيت المقدس. بل ملكوا البحار والثروات ومؤسسات البحث العلمي ومصارف المال ويعلن في ديسمبر 2002م عن استنساخ أول طفل في تاريخ الطب في أمريكا. ويبنى لأحفاد ريتشارد قلب الأسد بيوتا في القطب الجنوبي والقمر والمريخ.
أما رجال العقد الفارط فيختلف قدرهم من زاوية رؤيتهم مثل ماري روبنسون في حقوق الإنسان أو بروز تيار الإصلاحيين في إيران مع خاتمي. أو انهيار حلم الوحدة العربية بعد عاصفة عند الخليج.
ويبقى أصعب الأسئلة هو العقد الذي دخلنا فيه. ولكن الشيء المؤكد فيه هو بروز عصر الملكيات العربية وهو مؤشر قد يكون جيداً من جهة كونه يعطي مؤشرا دقيقا عن المرحلة الفعلية التي تمر بها الأمة العربية المتوقفة في مربع الزمن عند عام 1423 ميلادي قبل فترة الإصلاح الديني في أوربا. بفارق أنه عصر جاء في غير محله كمن يلبس قميصاً بنصف كم في بلاد الإسكيمو.
وأهمية معرفة المرحلة التي تمر فيها الأمة العربية ومؤشرات المستقبل تأتي من أهمية التاريخ العام للجنس البشري وتطوره، وفي المقابلة التي أجرتها مجلة در شبيجل الألمانية عدد 14\ 2002مع عالم الاجتماع (مانويل كاستلز Manuel Castells) من جامعة كاليفورنيا في بيركلين عن تطورات العالم؛ الذي رأى أنه يتحول إلى مجتمع جديد إلكتروني من يدخل فيه على شبكة المعلومات انتمى إليه وأما الجاهلون فمصيرهم الانسحاق في ثقب أسود. وأن العالم الإلكتروني سيكون حكراً على المتعلمين بتفوق ويذهب إلى ما ذهب إليه (آندي جروف Andi Grove ) من رواد شركة انتيل للميكروشيبس أن قفزة عصر الانترنيت تضاهي الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وأن بنية المجتمع سوف تتغير كلية تتراجع فيه سطوة الدولة والمخابرات فيفلت من قبضتها تدفق المال وتيار المعلومات في ضربة موجعة. وحيث الانترنيت لا يوجد مسافات ومن كان خارجه كانت المسافات لانهاية لها. وأنه عصر المرأة وأنه التحول الأعمق للمجتمع الإنساني بنشوء وعي نسائي مستقل وهو غير قابل للارتداد. وأن من يقود العالم لم يعودا رؤساء الدول بل ربابنة بحر الانترنيت. وأن العالم سيعاني من ظاهرة (الاستقطابPolarization) حيث يتحول إلى بنية مركبة من نواة فعالة للغاية تمثل 30% من الجنس البشري في يدها العلم والمال والتكنولوجيا، وأنه مع عام 2007 سيكون من السعداء الفائزين مليارين من البشر متصلين بعالم الشبكة الإلكترونية في الوقت الذي لا يعرف مليار من البشر وهم 16% من مجموع الجنس البشري تهجئة كلمة (كمبيوتر). وأسوء ما سيحدث ليس استعمارا من النوع القديم حيث تنهب ثروات الشعوب بل تحول الجاهلين إلى (عالم رابع) يتم تجاهله لأنهم بكل بساطة ليسوا منتجين ولا مستهلكين (للمعرفة). ومع هذا الاضطراب الكوني فسوف تنمو الأصولية في كل مكان من الدينية والعرقية والوطنية ويدخل فيها الأصولية الإسلامية والمسيحية. ولسوف تتعاظم الجريمة المنظمة واليوم ينفق على الجريمة 1.5 مليون مليون دولار وهو ما يعادل التجارة الأوربية في عام. وفي أمريكا يفتتح كل أسبوع سجن جديد يتسع لألف سجين، وينفق في كاليفورنيا على السجون ما ينفق على التعليم.
وهكذا ففي الوقت الذي دخل العالم القرن العشرين بقدر كبير من التفاؤل بقدر ما يدخله اليوم بكثير من عدم الثقة. وفي الأول من يناير عام 1901م جاء في افتتاحية جريدة (شيكاغو تريبيون Chicago Ttibune) "أن القرن العشرين سيكون قرن الإنسانية والأخوة لكل البشر وسيفوق في عظمته كل اكتشافات العلم وانتصارات الفن التي سبقته" والذي ظهر أن القرن العشرين كان قرن الحروب العالمية والأوبئة مثل أنفلونزا 1918 م التي قضت في أربعة أشهر على البشر أكثر مما قضت الحرب العالمية على الجنود في أربع سنوات. وفرخت العنصرية والنازية والفاشية والديكتاتوريات العسكرية بالانقلابات. وفيه ولد حق الفيتو مثل أي كائن مشوه لا يصلح لحل مشاكل العالم سوى خدمة نادي الأقوياء.
والآن يتفق العديد من المفكرين مثل المؤرخ (ايرك هوبسباوم Eric Hobsbawm 82y) من جامعة لندن والفيلسوف (نوربرت بولتس Norbert Bolz) من جامعة إيسن من ألمانيا وعالم التاريخ ( رولف بيتر زيفرليه Rolf Peter Sieferle) من جامعة برلين أن القرن الحالي أفضل ما يوصف فيه أنه "قرن تزداد فيه الفوضى ويتناقص فيه النظام" وأنه على حد قول (هوبسباوم) كما في كتابه الشهير (عصر التطرف) "أنه لا يوجد أي قوة عظمى بما فيها الولايات المتحدة أن تسيطر وتنظم العالم، وأن الكون في فوضى عارمة".وهو بذلك يولد ولادة جديدة لا يتجرأ أحد على التنبؤ بها فقد علمنا التاريخ مصير مسيلمة الكذاب.
لقد كتب الأمريكي (ادوارد بيلامي Edward Bellamy) عام 1888م قصته المثالية بعنوان (العالم عام 2000م). توقع أن يكون العالم" خالي من الطبقات تعمه الأخوة، بدون سيارات وطائرات وقنابل نووية، يساق للناس رزقهم عبر شبكة هائلة من الأنابيب بالعشي والإبكار". واليوم بعد مرور أكثر من قرن على أحلام الكاتب بيلامي نعرف أنها لا تزيد عن هلوسة.
ونشر قسيس مجهول اسمه (توماس مالتوس) عام 1798م بحثاً قصيراً بعنوان "تزايد السكان وأثره في مستقبل نمو المجتمع" تنبأ بكارثة اجتماعية أمام تكاثر السكان وفق سلسلة هندسة أمام زيادة الغذاء وفق سلسلة حسابية ورأى أن الحل سيكون أحد أمرين: المجاعة أو الحرب أو كلاهما معاً. وهو كان يتكلم عن عدد للسكان في الأرض لا يزيد عن مليار واليوم وصل الرقم إلى ستة مليارات بدون مجاعة وليست الحروب من أجل الغذاء اكثر من سياسة رجال قساة.
وكرس البنتاغون معاهد خاصة لدراسة المستقبل اسمها (مستودعات التفكير Think - Tanks) ظهر أن أخطاء التنبؤ فيها تزيد عن 80%. أما (هيرمان كان ) رئيس معهد (راند) للدراسات المستقبلية فقد توقع لعام 2000 م أن لا يجد سوى 70% من الأمريكيين عملاً. وتوقع (رافي بترا) كسادا مزلزلاً للاقتصاد العالمي عام 1989م على أساس الأزمة الدورية التي تحيق بالنظام الرأسمالي كل ستين سنة وقدم نصائحه للناس أن يستعدوا لدخول سبع سنوات عجاف اشد من سني يوسف. أما (هاري فيجي) و(جيرالد سوانسون) فقد ذهبا إلى أفظع من هذا في كتابهما (الإفلاس الأمريكي عام 1995م ) بقولهما " لن يبق للولايات المتحدة التي نعرفها اليوم أي وجود بحلول عام 1995م). وانطلقا في هذه النبوءة التي رجت مفاصل الناس من فكرة مفادها أن الديون الأمريكية ستصل على صورة عصا الهوكي إلى مقدار 13 تريليون دولار بحيث يدخل الاقتصاد الأمريكي حالة اللاعودة كما في الصدمة اللامرتجعة عند الإنسان.
وفي الطب توقعت وزيرة الصحة الأمريكية عام 1982م الوصول إلى حل لمرض الإيدز في أربع سنوات. واليوم وبعد مرور عشرين سنة علىالتصريح لا يوجد لقاح ضده. ويحمل هذا المرض اليوم أكثر من 33.4 مليون إنسان مات منهم 14 مليونا، وفي أمريكا وأوربا 1.4 مليون مصاب بالمرض.
إلى أين يمشي التاريخ ومن يستطيع أن يتجرأ فيقول إلى أين يمشي؟ الشيء الأكيد أن التاريخ يمشي بخطى تقدمية على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. والشيء الأكيد أن العالم العربي يعيش عصر الانحطاط ولم يتغير كثيرا عن عصر كافور الأخشيدي. وأن الشمس طلعت من مغربها. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والسؤال ما هو هذا الذي بأنفسنا ويحتاج للتغير؟
تقول الرواية أن طفلاً نزقا أراد أن يعلمه والده ضبط النفس فقال له كلما غضبت اثقب في الجدار ثقبا بطرق مسمار فيه ففعل وكانت كثيرة ومريعة. قال له أبوه: عندما تكف عن الثقب ارفع مسمارا عن كل يوم لا تغضب فيه ففعل. وبقي فترة طويلة حتى رفع كل المسامير. نظر الطفل فرأى أن الجدار زالت منه المسامير وبرز محلها فوهات لانهاية لها من آثار الثقوب. استحى الطفل في نفسه فقال له أبوه: قد نكف عن الغضب ولكن الإهانات التي نفعلها مع الناس تبقى ندبات لا تزول مع زوال نزواتنا, وهذه هي قصة العراق والكويت اليوم. فلو بكى أحدنا بقدر نهر دجلة فلن يعيد قتيلاً إلى الحياة.
قانون التاريخ يعاقب المغفلين
وينتقم من المجرمين
في ليلة التاسع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1914 م كانت الساعة تشير إلى الثانية والربع عندما جرت محاولة الاغتيال الأولى في مدينة (بوكروفسكو) للراهب الروسي(جريجوري بيفموتش) القادم من سيبيريا والذي اشتهر في بلاط القيصر نيقولا الثاني آخر الأباطرة الذين حكموا روسيا قبل الثورة البلشفية باسم (راسبوتين). وهي نفس اللحظة التي جرت فيها محاولة اغتيال (فيردناند) ولي العهد النمساوي بيد عصابة (الكف الأسود) الصربية في سراييفو التي أطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك فارق خمسين درجة طول بين المدينتين. ويعقب (كولن ولسن) على هذا أنها:( مصادفة عجيبة أن يشهد التاريخ محاولتين للاغتيال في اللحظة ذاتها تقريبا وهي مصادفة تجعل المرء ميالا للشك بعمى التاريخ).
كانت مدينة (بطرسبورغ) في ذروة الانحطاط الخلقي وكان (راسبوتين) يقضي وقته بين الخمر والنساء والإيحاء لزوجة القيصر أنه يوحى إليه من الله. كان (الخبيث) يلعب بمصير (الجبارين) من عائلة رومانوف. ومن أعجب ما ذكر التاريخ أنه كتب وصيته على شكل نبوءة للقيصر قال فيها "إن كان قاتلي من أهلك فلن يبق منك ومن ذريتك أحد حياً في سنتين بعد موتي وسيكون قاتلكم شعبك الروسي". وقضي فعلاً على العائلة المالكة بكاملها في (كاترينبورج) عام 1918 م. واندلعت حرب أهلية هلك فيها الملايين وهربت طبقة النبلاء تاركة روسيا لأكثر من خمس وعشرين سنة.
إن كل مغزى التاريخ يقوم على انزلاق الأحداث بين قطبي (الخبث) و(الغفلة). وعندما يجتمع الخبيث مع المغفل فإن مسرح الأحداث عامر بالقصص المسلية. ومنها قصة الحرب القادمة على العراق. حيث تمثل أمريكا دور الخبيث أمام العراق المغفل.
يقول (هربرت ويلز) في كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) "إن نظام الكون الاجتماعي يعاقب المغفلين كما يعاقب المجرمين".
ويتولد من هذا القانون ثلاث حقائق: أن الكون يقوم على نظام اجتماعي كما في فيزياء الذرة وبيولوجيا الخلية. وأن التاريخ يعاقب (المغفلين) كما يعاقب (المجرمين) لأن نظام الكون الاجتماعي قابل للارتداد وعكوس "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم". وثالثاً أن من غفل عن سنن الله لا تغفل عنه سنن الله. ويضيف (ويلز )فيقول أيضاً أن قانون التاريخ ينص (أن من يمسك الأمور بيد من حديد يحول الممسوك إلى حديد أيضاً).
وبالنسبة (للمغفلين) فقد ظهرت في حرب الخليج الأولى التي مولتها ثلاثين دولة وامتدت أكثر من الحرب العالمية الثانية وحصدت أرواح مليون شاب وأحرقت 400 مليار دولار وخرجت العراق وإيران بعبث كامل.
وأما قصص (الخبثاء) فيمكن رؤيتها في ظاهرة الاستعمار ومن زاويتين (أخلاقية) و(اجتماعية). ويشرح (مالك بن نبي) هذا فيقول إن الاستعمار مدان لأنه سارق ومجرم. ولكن يمكن النظر إلى الاستعمار من زاوية (تاريخية) أنه جيد وفيه خير وهنا وجه الغرابة. فالاستعمار جاء وانتزع منا لقمة الخبز اليابسة التي كنا نقتات بها واضطرنا أن نمشي على طريق الأشواك والآلام تحت لسع السياط ولكن لولا مجيء الاستعمار وانتهابه لكل ما نملك وانتهاكه لكل محارمنا ما اضطررنا إلى اليقظة، ولبقينا نضرب الشيش في البطون ونزمر لأفاعي الكوبرا المتمايلة ونبلع الزجاج والخرافات، ولكن مجيئه كان رحمة غير مباشرة فاستيقظنا على الصفعة المجلجلة.
ويعتبر المؤرخ (توينبي) أن إسرائيل في المنطقة هي (المنخس) الحضاري للعرب، أو بتعبير (سقراط) ذباب الخيل الذي يهيج الخيول ويخرجهم عن الخمول.
ويذكر (مالك بن نبي) عن (جده) من أنه كان مطمئناً في حالة خدر لذيذ يتغذى على أحلام السندباد. ولكن جيل (والده) فارقته الطمأنينة ودخل القلق إلى حياته بعد أن قلب الاستعمار حياته رأسيا على عقب. وكان يفكر في المشكلة بدون أن يصل للحل. وبتعبير الفيلسوف (فتجنشتاين) الذبابة التي تطن في فضاء زجاجة بدون أن تبصر العنق. وكان هذا بالنسبة لوالده (تقدماً) عما كان عليه جده. أما جيل (مالك) فبدأ في المواجهة الموجعة بعد انهيار عالم ألف ليلة وليلة على رؤوس المسلمين. وبدأ في تحليل وضع المسلمين كما جاء في كتابه (شروط النهضة) أن الأمة تخوض ثلاث مراحل من (دور الوثنية) و(دور البطولة) وعن (دور الفكرة). فأما (دور البطولة) فخاضه الذين قاوموا الاستعمار وإن لم يكن لهم قدرة على تحليل المشكلة كيف جاء الاستعمار؟ ولا ماذا سيفعلون حين يرحل؟. وانحصر دور البطولة في امتشاق السيف واعتلاء الحصان الموروث عن آباءهم. وربما هذا الذي جعلهم في وضع مختلف عن مصير سكان أمريكا الأصليين الذين لم يتمكنوا من تحليل أبعاد الكارثة فقضى عليهم ولم يرحل عنهم الاستعمار. أما دور (الفكرة) فهذا هو الذي يأتي ببطء وهو الذي لم يتحقق حتى الآن في العالم العربي. مع مظاهر نكس باتجاه الوثنية حيث بدأت عقيدة التثليث السياسي في الانتشار ودخول أي معبر حدودي يظهر لك مركب الأقانيم الثلاثة في صور عملاقة تطل على مواطن مسكينا ويتيماً وأسيرا.
وضرب مالك أمثلة لكل دور من الأدوار الثلاثة ومما ذكر عن (بيايزيد) العثماني أنه انصرف إلى حرب تيمورلنك في معركة انقرة عام 1402م بدل أن يتوجه إلى أوربا التي كانت تحمل بذرة التطور البشري، فلو توجه إلى الغرب لأدخل أوربا ليل التاريخ الذي كان يغلف شفق العالم الإسلامي ولتأخر ظهور الحضارة الغربية أولربما أجهضت برمتها. فكأن هذا التحول يدخل في (ميتافيزيقا التاريخ).
وقد عبر عن هذا (جون أرنولد توينبي) بأسلوب آخر حين قال "من عجائب التاريخ أن سلوك البشر يحقق نتائج لا تخطر في بال الذين رغبوا في أهداف تحقق غيرها" وهذا الذي سيحصل في صراع أمريكا مع الشرق. والقرآن يعبر عن هذا بقوله (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً). وهو نفس مبدأ (ابكتيتوس) الفيلسوف الرواقي الذي لا يرى في النهاية شرا في العالم. فلنستبشر إذن ولا نحزن.
إن الله جعل لمخالفي قوانينه من المغفلين والمجرمين العقوبة التي تأتي فوراً أو (لاحقاً) على شكل كموني تغلي تحت السطح حتى تنفجر. ونحن صرنا قابلين للاستعمار قبل أن تتحقق ظاهرة الاستعمار. وكلما تغافل الناس عن العقوبات تأتي العذابات مضاعفة مع فوائدها المركبة. ويكبر حجمها باستمرار. ويبدو أن العالم الإسلامي لم يهتم بالعواقب ولا يربط الأسباب بالنتائج ولهذا لم يوقظه ظهور إسرائيل في عام 48 كما لم تفعل له شيء هزيمة 67 ولم تفزعه حرب الخليج الثانية التي كانت أكبر من أخواتها من الحروب عندما نسي العرب إسرائيل وتبين لهم أن الصراع العربي العربي أخطر من إسرائيل وأمريكا.
هكذا تأتي الفتن يرقق بعضها بعضاً " وربما يغط الناس في سبات عميق ولكنهم في النهاية يستيقظون على انبلاج الفجر. لأنه كما يقول نيتشه " أن هذا من شأن الحقيقة لا شأننا نحن" والعرب مازالوا في مرحلة الفجر الكاذب. والمصائب توقظ الأجيال لأن ذلك يعمل لصالح التاريخ. وبذلك يدخل بنوا آدم دار السلام ويخرجون من دار الفساد.
وعندما تعصر المحنة ويحلك الظلام وتكتمل دورة القمر فإنه بداية الولادة واقتراب الفجر وعودة القمر كالعرجون القديم فهذه قوانين وجودية تحكمنا وتحكم البشر جميعا عربا وأمريكان. ولن تجد لسنة الله تحويلا.
ونحن اليوم نواجه أمم متحدة مصابة بالعنة في مواجهة روما الجديدة. كما كان العالم بعد معركة زاما عام 146قبل الميلاد. ولكن قانون التاريخ دفن روما فلم يبقى من الكولوسيوم سوى الأطلال.
ولو أن ألمانيا النازية انتصرت لما أمكن لهتلر أن يصنع أمم متحدة أسوأ من هذا الموجود. فماذا كان سيصنع أكثر من أن يعطى لنفسه وإيطاليا واليابان حق الفيتو. وهو المعنى الذي لم يكن يتكلم عنه أحد ونطقت به وزيرة العدل الألمانية وقالت إن بوش يتصرف مثل النازيين. لقد انفجر بوش غيظاً من هذا التشبيه ولكن بوش نفسه صرح في نفس اليوم من أن الأمم المتحدة ستلحق بالمرحومة عصبة الأمم ولكن لم يقل أن الأمم المتحدة ستتحول إلى ديمقراطية عالمية. وإذا كان هذا الهدف بعيداً لا يتحدث عنه أحد إلا أنه قريب وسيدينون حق الفيتو كما شبهوا أمريكا بالنازية.
ونحن نراهن أن الحرب إن حدثت فلسوف تدفع العرب إلى الاتحاد تحت الضغط كما في تحول الكربون إلى الماس. فكلها قوانين سواء في الفيزياء أو البيولوجيا أو علم الاجتماع. أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون"
ميتافيزيقا التاريخ
كتب (جيرهارد شبورل Gerhard Spoerl) في مجلة در شبيجل الألمانية عدد 46 \2002م عن الانتخابات الأمريكية في 5 نوفمبر 2002م:" إن الصراع الانتخابي في أمريكا هو دوماً معارك العائلات الكبرى" ويروى عن بوش أنه أنفق لفوزه 150 مليون دولاراً. وهو ما يذكر بعائلات الفلافيين والأنطونيين التي حكمت روما بالمال وشراء الضمائر. وإذا كان بوش بعد أحداث سبتمبر قد قسم العالم كما في العقيدة الزرادشتية إلى ظلام ونور ومحور الشيطان وحلف الرحمن ومن ليس معي فهو مع الإرهاب. فهو في 21 نوفمبر أعلن أنه في طريقه لكسب مشاركة خمسين دولة في حربه الجديدة ضد العراق كما أرسل إلى 11 دولة عربية يعطيهم فيها مهلة شهر أن يختاروا أن يحددوا مكانهم في حربه ضد العراق. ومشكلة القوة أنها أداة بطاشة مغرية للاستعمال كما فعل الغزاة الأسبان على رواية (تزفتيان تودوروف) في كتابه (مسألة الآخر) حينما صقلوا سيوفهم في وادي نهر جاف ثم قاموا بذبح أفراد قرية ومواشيهم للتأكد من مضاء الخناجر. وفي التاريخ كانت آشور تملك آلة حربية مروعة استخدمتها في دفن شعوب كاملة وسوت معظم مدن الشرق الأوسط بالرغام أو أخذتهم لمعسكرات الاعتقال. ويذكر الفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) عن ابن (موسوليني) كيف أنه كان يتمتع بإلقاء القنابل على قرى الأثيوبيين ويتمتع بحرقهم على قيد الحياة. ويقول تحت عنوان (ترويض الدولة) إن قدرة الدولة العصرية بلغت ما كان يتصوره الأثينيون عن آلهة الأولمب. ويذكر (جورباتشوف) في كتابه (البروستريكا) أن الطاقة النارية التي تحملها غواصة واحدة هي أكثر من كل النار التي استعملت طيلة ست سنوات في الحرب العالمية الثانية. وفي 8 أبريل عام 91 نشرت مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 15 أن قافلة عراقية تضم ستين ألف جندي بطول 16 كم كانت في طريقها للانسحاب من الكويت تم عقابها على طريقة آلهة الأولمب فلم يرجع منهم مخبر. ويقول (بوب ناجنت Bob Nugent) يصف الفيرنو " كان منظر الشارع الذي يقود إلى الشمال في العراق يحكي فصولاً من الجحيم لدانتي. فمع تصاعد سحب الدخان وتدافعها إلى عنان السماء مثل الغيلان الفظيعة، تحولت الدنيا إلى ما يشبه الغروب...لم أر مثل هذا حتى ولا فيتنام قالها وهو يلقي نظرة على مقبرة بطول كيلومترات من السيارات المدمرة والشاحنات المحترقة والجثث التي تدافعت إليها كلاب الصحراء من كل صوب والملقاة هنا وهناك في الصحراء. بعض هذه الجثث قد ذاب عنها اللحم وتحولت إلى هياكل عظمية. وفي داخل السيارات المحترقة الجثث المشوية التي التصقت بمقود السيارة ببقايا كانت في يوم من الأيام أذرعاً وأيادي؟!
أمام هذا السيناريو المروع للحرب في التاريخ الإنساني كتب الممثل الأمريكي (سين بين Sean Penn) رسالة مفتوحة كلفته 56 ألف دولار كي تنشر في جريدة الواشنطن بوست يستعطف ويرجو الرئيس الأمريكي أن يوقف الحرب وهو قادر على ذلك. ولكن الحرب كما يصفها الفيزيائي (فيرنر هايزنبرغ Heisenberg) في صدد حديثه عن هتلر في زيارته لانريكو فيرمي: "متى كانت الحرب يا صديقي عقلانية". ومن أمريكا أرسل لي عراقيون حماسهم للحرب الأمريكية وهم بسذاجتهم المضاعفة يرون أن الطاغية نبت في وسط الصالحين، وأن قتل الطاغية سيقيم الخلافة الراشدة كمن يظن أن قتل البعوضة سينهي توالدها من المستنقع. وأن كل المشاكل ستحل مع حلول العلم الأمريكي في بغداد ولا يتصوروا أن الشعوب هي التي تصنع طغاتها كما تصنع العاملات الملكة في خلية النحل. وأنهم بحاجة إلى نظرية كوبرنيكوس اجتماعية. ولكن تفسخ الجثث الميتة لا يوقفها كلامي. وفي خريف 2002م قامت روسيا لتحرير رهائن مسرح موسكو بتجريب الغازات على الفئران البشرية. وهذا يقود إلى جدلية عجيبة بين الطغيان والإنسان والامتلاك "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى". وأرسل لي الأخ (أحمد المسقطي) وهو يعقب على فكرة السلام التي أنادي بها انطلاقاً من مبدأ (ابن آدم) فقال: إن مبدأ ابن آدم يمثل صراعاً بين الحق والباطل أو بين الباطل والباطل. على أربع أشكال: الأول: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. فهذا الرادع هو الخوف من الله. والثاني: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك لأني أخافك. والثالث: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني أنا باسط يدي إليك لأقتلك. فهذا هو رادع التهديد. والرابع: لا أنا باسط يدي إليك لأقتلك ولا أنت بباسط يدك لتقتلني لأننا نخاف دمار كلانا ـ مذهب العقلانية ـ فهذا الرادع هو الخوف من الدمار. فأما رادع الخوف من الله فلا يمكن تعويضه أو تبديله برادع الخوف من الدمار لضمان سلام العالم. فهل رادع الخوف من الدمار وحده كافياً لإنهاء الحروب ليحل السلام في العالم أم السلام بالإسلام الذي هو السلام الحقيقي؟ هل هذا الكلام طوباوي؟ أو أن الرئيس بوش سيصبح داعية سلام وهو يملك في يده آلة حرب ذرعها سبعون ذراعاً؟ أم أن هذا الكلام يسمعه أحد أو تنصاع له أمريكا كما طالبها بذلك الرئيس الأمريكي كارتر في نوفمبر 2002م حينما ناشد أمريكا أن تتخلى عن أسلحة الدمار الشامل كما هي تطالب العراق بذلك من وجهة نظر أخلاقية "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون؟" ومن الغريب أن 19 دولة من حلف الناتو اجتمعت في براغ في 21 نوفمبر 2002م لتتفق على تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل مع أن من يمتلك أسلحة الدمار الشامل يمتد من سور الصين إلى حائط المبكى وانتهاء بالبيت الأبيض. حقاً إن العالم الذي نعيش فيه يدعو للضحك " وأنه أضحك وأبكى". لقد تأملت كلمات الأخ الكريم وخطرت لي خواطر في الموضوع وهو أن أسلوب التفكير وكيفية تناول الموضوع يرجع إلى نوع معين من أساليب الفهم والفكر. فكما أن هناك لغة للتفاهم بين الناس كذلك هناك لغة خاصة لهذا الحقل ولكن لم نبتكر بعد كلمة جديدة لهذا الكشف الجديد. وهناك لغة فكرية ليست كلمات وحروف ونطق وإنما إدراكات وأحكام وقواعد للوجود ولكيفية نقل التصورات. ولا حرج أن نتعاون لفهم هذا الكشف ثم لإعطاء اسماً لهذا الكشف. هناك ثلاث مراحل للإنسان أثناء تكونه الفكري (الأولى) هي مرحلة نقل الأفكار بواسطة السلوك وتصرف الإنسان. (الثانية) مرحلة نقل الأفكار بواسطة الكلام باللغة الصوتية.(الثالثة) مرحلة تلقي الأفكار بواسطة الكتاب والقراءة. المرحلة الأولى تبدأ من وقت الولادة مباشرة بواسطة المعاملة والجو المحيط منها. مثل تعلم الطفل قضاء حاجاته بواسطة البكاء. كما تحدث عن ذلك مالك بن نبي في قاعة المحاضرات في جامعة دمشق بعد هزيمة يونيو وأن هذا يعكس تصرفات الزعماء لاحقاً في طريقة لحل المشاكل وهو ما فعله العرب في هزيمة 1967م حينما ظنوا أن الصراخ والبكاء للعالم سوف يحل مشكلتهم. ثم بواسطة سحنة الوجوه وتقطيب الوجه والابتسام والأصوات الغاضبة أو الأصوات الراضية بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها الإنسان. فنحن نعلم أن المتكلم غاضب وإن كنا لا نعرف لغته التي يتكلم بها. والطفل يمتص القيم والمواقف المرضية أو المغضبة ومعنى العيب والعورة من موقف الناس منها وتفاعلهم تجاهها. والطفل دائم التطلع إلى وجوه القوم المحيطين به ليمتص أو يتعرف على السلوك المقبول أو الشائن والمرفوض من أصوات الرضى والرفض وسحنة الوجه بصرف النظر عن نوع الحروف المستخدمة عربية كانت أو إيطالية. فإذا تصرف الطفل أي تصرف التفت ونظر إلى هذه الذي أسميه (اللغة السلوكية) أو الفهم من المسلك والتصرف لا بواسطة اللغة بل لا بد من ابتكار اسم جديد لهذا الأسلوب من التلقي غير اللغة. لأن اللغة تحدث بأسلوب معين وإلى الآن لا يوجد مصطلح مرضي لهذا الموضوع. وبعضهم يسميه (ابستمولوجيا) أو نظام الفكر وبعضهم يسميه (اللغونة) ويمكن أن نسميه (اللغة التحتية) أو الأسلوب العميق في نقل المفاهيم والقيم والإيحاء. والمفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة يكون إعطاءها وتقبلها عفويا غير واعي لا من قبل المعطي ولا من قبل الآخذ. وكثيرا ما ننكر أننا نحن الذين أعطينا هذا السلوك أو التصرف. ولا الطفل يعرف بدقة كيف أخذ السلوك. وهذا يدفعنا أن نضع هذه المرحلة تحت المجهر تحت عنوان حديث الرسول ص (كل مولود يولد على الفطرة) فأي فطرة هذه؟ إن هذه الفكرة فجرت الحنين في قلب الغزالي قديما ليكتشفها فغاب في رحلة عشر سنوات. هذه المرحلة تكون في الطفل قبل أن ينطق خلال السنتين أو الثلاث الأولى من عمره، وإضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لا يلتفتون إلى هذه المرحلة ولا يعدونها شيئا بارزاً في حياة الناس لأنها غير ملاحظة وغير مهمة وهي أكثر من مهمة وتأسيسية ومنها يتشكل الإنسان طبقا عن طبق.هذه اللغة من عالم اللاوعي هي التي تقود الناس لـ 95% من التصرفات وبوش لا يشذ عن هذا القانون. وهذا يدخلنا على إدراك شيء جديد هو متيافيزيقا التاريخ. فلو كان الأمر بيد بيايزيد الذي كان يجهز جيشا عام 1402م تعداده نصف مليون جندي لاجتياح أوربا لفعل، ولكنه فوجي بتيمورلنك يقفز على ظهره في معركة أنقرة ويأخذه أسيراً مع زوجته ويموت قهرا في الأصفاد لأن الجنين الأوربي كان يولد آنذاك فأنقذه تيمورلنك من حيث لا يريد، كما حصل مع موسى الذي جاء إلى قصر فرعون في التابوت وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني وليكون لهم عدوا وحزنا ويصبح نواة تدميرٍ لفرعون وقومه وما كانوا يعرشون.
القبائل الأمنية
يفتح المواطن العربي عينيه على الحياة وهو في المعتقل. فقبل أن يأخذ الثانوية العامة يجب أن يحظى بزيارة فرع أمني ويتلقى كفاً أو كفين فهذا لحسن السلوك. ويموت المواطن وعمره تسعون عاماً يحمل على النعش وبحقه قرار أمني بعدم مغادرة الوطن. وفي مطارات الوطن أدراج شاهقة مثل الأهرامات غاصة بأسماء عشرات الآلاف من المطلوبين والممنوعين من السفر لدرجة القرابة ثلاثة ولأكثر من جهاز أمني. وبين المهد واللحد يجب أن يكون أي مواطن معتقلا مرة أو مرات. أو يعرف في جواره من اعتقل وأهين، أو سمع عمن اعتقل فكسرت عظامه وأسنانه فخرج يمشي على بطنه مثل الزواحف، أو من نام في أقبية المخابرات عشرين سنة فخرج أقرب للجنون، أو شدخ رأسه بحجر فمات في سجن صحراوي. أو من مات في غرف تعذيب الهولوكوست العربية أو قضى نحبه بالمخمصة بمرض كواشركور منتفخ البطن بنقص البروتين مثل الحامل في الشهر الثامن. أو صديق له رميت جثته أمام زوجته بعد أن جف مثل الحطبة فلم تعرفه إلا من شامة في وجنته. أو من أخذ شاباً لا أحد يعرف السبب بمن فيه المعتقل نفسه فلم ير أمه وأولاده إلا بعد ضغط منظمات حقوق الإنسان من الخارج وبعد ربع قرن من الزمن ولزيارة واحدة. أو من حشر في زنزانة ضيقة يضرب بالفلق كل يوم مرتين بالعشي والإشراق لفترة ستة أشهر محروم من الطعام إلا كسرة خبز في 24 ساعة فيتبرز مثل البعير بعرا. ومن تجرأ فزار من خرج من أفران الاعتقالات شبحاً وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا أحصي عددا وسجل في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ووجدوا ما عملوا حاضرا في كل تحقيق بما فيه نوع الحليب الذي رضعه وهو في المهد صبيا هل كان سيميلاك أو سيريلاك؟ وليس هناك من مواطن إلا أو طلب للتحقيق ولو كانت عجوزا مقوسة الظهر تسعين درجة تمشي بعكاز، أو طفلاً لم يحسن النطق بعد. أو بنتاً ناهداً في عمر الورد وطهارة السحاب. فلعل العجوز مرتبطة بالاستخبارات العالمية. ويبقى الطفل ينطق بالحقيقة فهو أدعى لطلب الحضور ولو أصيب بالصدمة النفسية كل حياته. وتجر الفتاة إلى الفروع الأمنية لأن أخاها طلب الرزق في السويد، فلعله يتآمر على النظام من هناك. ولو كلف هذا أن تنظر للحياة بـتشاؤم بقية عمرها.
إنها روائع أمنية لسمفونيات الأجهزة الأمنية في العالم العربي. في وطن تحول إلى سجن كبير فيه الكل يعتقل الكل. والكل خائف من الكل. والكل خائف من الاعتقال، يراه عن اليمين والشمائل في الحقيقة والمنام. وكل بناية في الوطن يمكن أن تتحول إلى سفينة أمنية عامرة بالزوار في بطنها.
قبل أربعين عاماً كانت فروع الأمن محدودة العدد قليلة المجندين لا يزيد حجمها عن بناية صغيرة. واليوم نمت الفروع الأمنية بأشد من السرطان وأكبر من ديناصور لاحم وارتفع عددها أكثر من أبواب جهنم السبعة، للخارجي والداخلي والعسكري وأمن الدولة والأمن السياسي وفلسطين والحرس الجمهوري والقوى الجوية والأمن العام. وآخر من شكله أزواج. منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.
هذا ما كان على السطح أما ما خفي فلا يعلمها إلا الله والراسخون في المخابرات. وأهم شيء هو استباب الأمن. ولو تحول الوطن إلى مقبرة يمشي فيها حارس واحد وحفار قبور وجثث تتوافد وقبور تبلع.
والمشكلة في هذه الأجهزة الأمنية أنها تشبه قبائل البدو بثلاث فوارق: فشيخ القبيلة الأمنية يلبس نظارة إيطالية ويزركش صدره بربطة عنق أمريكية وتحته سيارة مرسيدس ألمانية ويحمل في يده سلكاً كهربيا صينياً للضرب واللسع.
و(ثانياً) أن من يدخل في جوار شيخ القبيلة لا أمان له ولو كتب له الشيخ كتاب أمان. لأن مضارب القبيلة غير مرتبطة بالجغرافيا. وكل الوطن هو مضرب شيخ أي قبيلة. فقد يقع المواطن في قبضة شيخ هذيل مع أنه في أرض الدوسي. وشيخ أي قبيلة يمكن أن تطال يده مضارب كل القبائل في كل الوطن. وهو قانون ساري المفعول لكل شيوخ القبائل في كرم حاتمي على حساب مواطن مستباح عرضة للاعتقال في أي لحظة على يد أي فرد من أي قبيلة في أي مكان.
إنها تركيبة عبقرية كما نرى تدرس في الجامعات الكندية في قسم العلوم السياسية كنموذج فذ لعبقرية عربية في ضبط الشعوب. ويمكن لرئيس السحرة في أي ساعة من السحر أن يوقظ شيخ أي قبيلة للإجابة على ملف أي مواطن. ولا يدخل على الطاغية أكثر من جنرال فقد يتفق الثلاثة إذا جمعتهم الصدفة أن يعتقلوا الرئيس طالما كان السلاح هو الحكم.
والفارق (الثالث) أن هذه القبائل الأمنية في حالة حرب دائمة فلا تعرف الأشهر الحرم بل السبق الأمني، ولا حرمة كعبة وقبلة وبيت وشيخوخة، بل الكل يتنافس في اعتلاء ظهر مواطن لم يعد فيه مكان للركوب.
والنتيجة التي تتولد من نمو هذه السرطانات في الأمة أنها تصبح أجهزة رعب يجب فكها كما جاء في كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفرانسيس فوكوياما، حينما أرسلت الأجهزة الأمنية في روسيا زوجة مولوتوف وزير الخارجية إلى معسكرات الاعتقال. وكانت نظرة سيئة من ستالين لأحد أعضاء المكتب السياسي تكفي أن يرجف ذعرا بقية حياته. ومات شنقا وحرقا وغرقا وبالرصاص على يد (بيريا) رئيس الـ K.G.B الاستخبارات الروسية في تطهيرات عام 1938 م ما يزيد عن 800 ألف من أفضل مواطني الاتحاد السوفيتي، كما جاء في (الكتاب الأسود) للشيوعي المخضرم ستيفان كورتوا. بحيث هيأ للهزيمة الساحقة أمام زحف القوات النازية عام 1940م. فلم يبق مواطن يدافع عن الوطن بل ستالين والعصابة. واليوم بلغت الدول العربية من الهشاشة الداخلية ما قد ترحب بأي هجوم خارجي يوحي إليها أنه جاء لتخليصها من الطغيان. واليوم كما تقول مجلة (در شبيجل) الألمانية أن الوضع تحول في بعض الدول ليس أن فيها مافيات بل كل الدولة مافيا. وإذا حدثت الكوارث الاقتصادية أو تم دفن النفايات النووية، أو حلت بها الهزائم العسكرية وهي تتبجح بالانتصارات، أو انهدمت السدود فوق رؤوس الناس بأشد من سيل العرم، فكلها تحصيل حاصل وأمر طبيعي أمام نمو تنينات الأجهزة الأمنية.
والمفارقة في تركيبة الأجهزة الأمنية ثلاث: (أولا)ً يظن الحاكم أن خلاصه بالإغداق عليها. وهي كما يقول المثل العربي سمن كلبك يأكلك. ومقتل القياصرة جاء من ضباط الحرس الإمبراطوري على يد أقرب الناس إليهم. والمفارقة (الثانية) أنها تمسك الناس بالرعب، وهي مرعوبة أكثر من الناس. وأستاذ المدارس سابقاً كان يحرص على ضبط الصف بالتلويح بالعصا، ويعمد مروض الأسود في السيرك إلى التلويح بالسوط أو قرقعته في الجو بدون إيذاء الحيوان الضاري. وتضبط الأجهزة الأمنية الناس بالرعب باعتقال أقل عدد من الناس وتجميد البشر في مربع الخوف, كما تفعل الأفعى مع الفريسة. فكلها أساليب نفسية لضبط الحيوان والجمهور. وهدمها سهل كما تنهدم السدود بشق بسيط. ولكن أين الخبير الذي يفجر سد الخوف هذا فيتحرر الناس من ضغط أطنان المياه؟
والمفارقة (الثالثة) أن حماية شخص يحتاج إلى فرق حراسة شخصية ولكن حماية الحاكم من كل الشعب تحتاج إلى جيش كامل من الحرس والجواسيس والإعلاميين وأجهزة تحقيق وتعذيب ومكاتب إعلامية وإذاعات وشراء أصدقاء في الخارج والداخل. إنها كما نرى ميزانية لا نهاية لها لدول لا يجد المواطن فيها الخبز. وهي كما يقول النيهوم "المشكلة التي تعاني منها ميزانيات الفقراء في العالم الثالث بالذات لأنها محنة تعيش بين الفقراء وحدهم كما تعيش البراغيث في فرو الثعلب المسكين".
وفك هذا السحر يحتاج إلى كيمياء خاصة من ثلاث عناصر تمزج بشكل جيد لفك حزام الرعب. (أولاً) تدريب الشباب على المقاومة المدنية فليس أسهل من إطلاق الأجهزة الأمنية بدعوى الأمن عندما تندلع أعمال العنف. (ثانياً) ممارسة العمل العلني وتوريط النظام في أكبر عدد ممكن من المعتقلين، وتفجير السجن من داخله، لأن النظام لا يمكن أن يعتقل عشر الأمة ولا ثلثها. وهو بالتوسع في قاعدة الاعتقال يوفر المناخ لولادة العمل الديموقراطي والقيادات التي أنضجتها نار المحنة. و(ثالثاً) أن تكون المحنة ضمن التحدي الملائم. وفي كثير من الأقطار العربية طحنت المعارضة بسبب أعمال العنف فلم تأت المحنة ضمن الوسط الذهبي. والأجهزة الأمنية تتمنى أن تكرر المعارضة نفس الحماقة ليبقى وجودها مبررا ومكاسبها عامرة إلى يوم الدين. وحتى يعود الوعي من المنفى تسبح الأمة في بحر الظلمات بدون خارطة وبوصلة تسمع دمدمة جن الأجهزة الأمنية فترتعش فرقا وتتصبب عرقاً.
الحالة الاستعمارية
في صباح 3 آب من عام 1914م فوجيء العراقيون بالطبول تدق على غير عادة وشاهدوا على الجدران إعلانات رسم فيها صورة مدفع وبندقية وقد كتب تحتها عبارة تركية:"سفر برلك وار عسكر اولانلر سلاح باشنه" ومعناها أن النفير العام قد أعلن وعلى الجنود أن يكونوا على أهبة الاستعداد. ويذكر عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) أن هذا الإعلان كان بمثابة حكم الإعدام حيث هجم الجند على الحارات يسوقون الناس إلى ساحات القتال فكان النواح والندب في كل بيت. ويذكر المؤرخ أن خاله كان فيمن ذهب إلى الجبهة القفقاسية فلم يرجع.
. وأمام المذبحة المتوقعة كان الناس يفرون من التجنيد فأرسل أنور باشا "فرماناً" من الباب العالي أن يطارد الرجال في كل زاوية. والرجل الذي لا يعثر عليه يلقى القبض على من وجد من ذويه. ويذكر الوردي أن والده هرب فألقي القبض على جده وكان عمره ينوف عن الثمانين سنة. بعد ذلك أصدر أنور باشا فرمانا جديدا يقضي بأن يقسم من ألقي القبض عليهم من الفارين إلى قسمين فنصف يعدم ونصف يساق إلى ساحات القتال. وبدأت بغداد ترى الفارين يعلقون على المشانق من حين لآخر.
ويبدو أن المنظر بين عامي 1914 والآن لم يتغير كثيرا في العراق. فبدل الوالي العثماني تولى المهمة المسئول الحزبي وبدل أنور باشا التركي التمع اسم عربي.
وروى لي تركماني من كركوك عندما جاءه البلاغ العسكري أن يلتحق بالجبهة الإيرانية خلال 24 ساعة وكانت الجبهة تعني الموت كما أن رفض الأوامر يعني الإعدام. فهرب على ظهور البغال مع أفراد عائلته التسعة عبر جبال كردستان الوعرة دون أن يلتفت منهم أحد.
قصص الوردي وقصة صديقي التركماني في العهدين التركي والبعثي لم تتغير كثيرا. ومعنى هذا الكلام أن الشعب العراقي كان يتنقل كالبضائع من يد إلى يد. فلم يتغير شيء وما زال يرزح تحت الاستعمار في صورة جديدة. والمعارضة العراقية الآن تريد نقل صك الملكية إلى مالك أمريكي. فتخطيء ثلاث مرات: باستبدال اللاشرعية باللاشرعية. وإعاقة الولادة الطبيعية من رحم المعاناة. ووهم التحرر.
في العالم العربي نظن أننا نعيش في دول مستقلة. ونظن أن عندنا جمهوريات. ونظن أننا نوحد الله لا نشرك به شيئاً. ولكننا نخطيء ثلاث مرات. فالاستعمار أولاً ليس تواجداً للعسكر الأجنبي بل هو (قابلية) كما في الأخطاء الكروموسومية. والاستعمار قد يكون بحضور الجنود من خارج البلد وقد يكون بسقوط البلد بيد إثنيات وأقليات دينية وعائلات إقطاعية مسلحة. وبتعبير (غاندي) وضع قد يستبدل فيه الطاغوت الأجنبي بطاغوت داخلي أدهى وأمر. وهذا يعني بكلمة ثانية أن تحررنا وهم. ويصف القرآن أنه "ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" ولكن أي شرك هذا وكيف يمارس؟
عندما يمارس المجتمع الطقوس الملكية ويعلن الجمهورية بانتخابات مزيفة تصل إلى مائة بالمائة فهو يقرر حقيقة ويعلن مظهراً. الحقيقة فيه نظام ملكي والمعلن نظام جمهوري. والناس جميعاً تعرف هذه الحقيقة. والناس جميعاً تكذب وهي تعرف أنها تكذب. والناس جميعاً تلعب هذه اللعبة بالإيحاء والسحر والإكراه. ويجب أن لا نغضب ونشتم ونلعن هذه الأوضاع فهي تطور طبيعي في بنية المجتمع من حكم القبيلة إلى الملكية فالجمهورية. ونحن أخطأنا جدا حينما قفزنا فأعلنا الجمهوريات. وعندما يقفز الرضيع ليصبح كهلاً فهو ضد طبيعة الأشياء. وإذا أعلن عن الغلام في المهد أنه كهل فهي لا تحدث إلا مرة واحدة بمعجزة المسيح حينما كلم الناس. ولذا فلعل الأفضل لنا الآن أن نعترف فنعلن الملكيات حيت توجد الجمهوريات فهو أضمن وأريح وأصدق للأوضاع. يشهد لهذا راحة المواطن النسبية أكثر في ظل الملكيات التي تحكي تطورا طبيعيا في الأوضاع.
وعندما فقد العالم العربي قدرة تقرير المصير انتقل من يد مغولي إلى يد بريطاني. ويرى أوسفالد شبنجلر الفيلسوف والمؤرخ الألماني في كتابه (أفول الغرب) أن تفسير استيلاء روما على مقدرات العالم القديم لا يرجع إلى حيوية فائقة في روما بقدر فقدان (قدرة تقرير المصير) عند شعوب المنطقة. ولذا استطاعت روما أن تضع يدها على ثروات العالم القديم لأنها كانت أغناما وأسلابا لأي يد. ولو جاءت أي قوة لفعلت ما فعلت روما. وهذا يفسر أيضا سرعة انتشار الإسلام في المنطقة بعد سحق بيزنطة العسكري. وعندما تأتي أمريكا اليوم لالتهام العراق فهو يخضع لنفس القانون الاجتماعي. وإلا كيف نفهم أن عصابة من الانقلابيين تضع يدها على مقدرات بلد عربي لولا فقدان (قدرة تقرير المصير) عند الأمة. وكشف العلة يجب أن يتم في الأمة والثقافة أكثر من الحاكم.
فهذه (الحقيقة) من (الحالة الاستعمارية) هي توافق بين (الاستعداد) للمرض وضرب الجراثيم. وهي حقيقة مثلثة الزوايا تقول أن العوامل الداخلية تلتحم بشكل عفوي مع العنصر الخارجي المفجر للمرض باختراق الجرثوم للجهاز المناعي. وثانياً أن العامل الداخلي هو الأساس لولادة الحدث. وثالثاً أن الحالة الاستعمارية في علم السياسة تخضع لنفس القانون تماما كما في الشرك في الدين والمرض في البيولوجيا. وحسب (مالك بن نبي) فإن القابلية للاستعمار نشأت قبل وقت طويل من زحف القوى الاستعمارية لبلادنا. وهذا يسلط الضوء على كيفية حل مشكلتنا الحالية وأن استبدال صدام بأمريكا هو كمن يستبدل الصداع بالمغص.
والمعارضة العراقية اليوم أصيبت بالحول المضاعف فهي لا ترى سوى أرنبة انفها. وحكام العالم العربي بدأوا يرتجفون فرقا بعد أن حضر الجن الأمريكي فقالوا لقومهم انصتوا لقد سمعنا كلاماً عجبا ونريد أن نعقد اجتماع قمة. وشعوب العالم العربي لا تزيد عن بضائع جاهزة للتسليم والاستلام بالبريد المضمون. أما المثقفون فيتصارعون في المحطات الفضائية هل سيقتل مائة ألف أو مليون.بما يذكر بقول الطاغية (ستالين) "أن قتل إنسان دراما ولكن قتل مليون مسألة إحصائية". والناس اليوم موزعون على ثلاث طوائف: من يخاف من الحرب ولا يريد قدوم أمريكا. ومن المعارضة من يريد إزاحة صدام بدون دماء في تصور مضاد لطبائع الأشياء ونحن نعرف أن فرعون لم يؤمن حتى أدركه الغرق. ومنهم من يرى أن الإطاحة بصدام يجب أن تتم بعملية جراحية نظيفة. ونحن نعرف أن الحرب ليست نظيفة. ونعلم أن القنابل لا دين لها.
ولكن الشيء الرابع الذي أتصوره أنا لماذا (يجب) أن تأتي أمريكا؟ فطبيعة الأشياء أن حالة (القابلية) للاستعمار تحدث فراغاً (Vaccum) يمتص الاستعمار ويشفطه لملء الفراغ. فهذه قوانين وجودية ولذا ستأتي أمريكا وأوربا بالحرب أو سواها لتقاسم أشلاء الفريسة. والعالم العربي لا يزيد عن أسلاب وغنائم للمغامرين العسكريين المحليين من الطواغيت الصغار أو اللجيونات الرومانية الزاحفة باتجاه بغداد ومجنون. كما زحفت كل القوى الإمبراطورية عبر التاريخ. ولو كان الأمر إلينا وكنا الأقوياء لرأيناه خير ما يفعله المرء ولما انتظرنا طويلا. فهذه صيرورة وجودية وقوانين طبيعية ومنطق التاريخ.
عندما كان الجنرال (مود) البريطاني يهيئ نفسه لاجتياح بغداد في مارس 1916م كان حاكم العراق (خليل باشا) قد شغف بعشق راقصة مسيحية اسمها (فلم). ويقول الوردي أنه كان يخلع عن رأسه القلبق الهمايوني فيضعه على رأسها. وينزع أوسمته من صدره فيعلقها على صدرها ويقول لها" "أنا الحاكم المطلق على هذه البلاد أما أنت فحاكمة علي".
ويقول الوردي أنها عاشت لوقته فبحث عنها وعرف أنها أصبحت عجوزا فقيرة عمياء. أما خليل باشا فقد اجتمع به أناس في استانبول فكان منزعجا للغاية من محو اسمه السلطاني من الشارع الذي بدأ بتدشينه في بغداد؟
الاستعمار والقابلية للاستعمار
مدخل لفهم السيكولوجية الاستعمارية
جاء في كتاب (العبودية المختارة) الذي كتبه (إتيين دي لا بواسيه) عام 1562 م أن أثينا أرسلت اثنين من رسلها إلى فارس فلما دخلوا الحدود استقبلهم الوالي هناك فأطعمهم وأكرمهم ثم قال لهم لماذا لا تتحولوا إلى عبيد سيدي الشاهنشاه. نظر الرجلين بتعجب لعرض الفارسي الذي قدمه بكل حرص وسخاء. وقالا له: إنك لم تذق طعم الحرية بعد. ولو ذقتها لقاتلت عنها بأظافرك وأسنانك.
وعندما كان (جوزيف ويلسون) القائم بأعمال السفارة الأمريكية في بغداد أثناء عملية درع الصحراء يسلم على طاغية دجلة قبل مغادرة بغداد تقصد الثاني أن يمد يده على طريقة الجبارين فينحني ويلسون لكي تظهر الصحافة الإنسان الأمريكي منحنياً والطاغية منتصباً بما يعكس العلاقة النفسية بين الطرفين ولكن الأخير حرمه من هذه المتعة.
وهذه اللقطة تدخلنا إلى فهم سيكولوجية الاستعمار و(القابلية) للاستعمار. وعندما يستعمر طاغية بغداد أهل بغداد فلأن (الاستعداد) موجود عند أهل بغداد. وهو ليس مرض أهل بغداد لوحدهم. والاستبداد السياسي يحكي امتداد الاستبداد الديني. والحاكم السياسي اليوم تلفع بعباءة شيخ الطريقة الصوفية يلعب بالمسبحة والأمة معاً. والطغاة في العالم العربي كثيرون لا نفرق بين أحد منهم. وهم بعوض من مستنقع واحد. وفي صدر كل واحد منا فرعون يتربص فرصته كي يتحول إلى فرعون ما لم يحقن بمصل التخلص من قابلية الاستعمار. وهذا المرض ثقافي وليس سياسيا. والسياسي هو ابن المثقف رضع وفطم على يديه. وصدام هو التوأم النحس الذي ولد من رحم واحدة على يد قابلة اسمها عفلق. وهذا المرض أنتج إنساناً سماه (مالك بن نبي) (إنسان ما بعد الموحدين) ويقصد بها فترة الانحطاط التي بدأت منذ مطلع القرن الخامس عشر للميلاد بعد حكم الموحدين في المغرب.
إذا اجتمع رجلان على تلة فأشار أحدهما بعصاه إلى القمر فلا يعني هذا أن عصاه أصبحت قمراً منيراً. وإذا اجتمع أهل قرية على مريض فإنهم يدركون أنه مريض ولكن هذا لا يعني أنهم شخصوا المرض فضلاً عن علاجه. وإذا كان شعب ما لا يرزح تحت العسكر الأجنبي فهذا لا يعني أنه مستقل. واختلاط العصا بالقمر والمرض بتشخيص المرض والاستقلال بالاحتلال يعكس تماماً مشكلة (الاستعمار) و(القابلية) للاستعمار. وهنا يجب النظر إلى المسألة في ضوء علم النفس والاجتماع.
وعندما انطلق (غاندي) في مسيرته لتحرير الهند أدرك طبيعة المرض ولذا لم يشأ أن يغير الاستعمار (البريطاني) بآخر (هندي) كما تريد المعارضة العراقية هذه الأيام أن تستبدل الاستعمار (البعثي) باستعمار (أمريكي).
ومن يريد أن يتخلص بقوة السلاح يقع رهينة السلاح. وأفغانستان استخدمت السلاح فنقلت ملكيتها من يد الروس إلى يد المجاهدين الأمريكيين ثم إلى يد دولة تافهة تابعة للبنتاغون. وكل قوة تزيل قوة تجلس محلها لا تزداد الأمور إلا سوءً. وكل (لا شرعية) تزيل (لا شرعية) لا تولد معها أي (شرعية). وهناك من يريد احتكار اسم الله في حزبه والله غير حزبي ولا يعترف بالأحزاب والمتحزبين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون. فهذا قانون وجودي وصيرورة تمسك بجنبات الكون والتاريخ.
إن الشعب الذي يعاني من مرض (القابلية) للاستعمار يحمل (متلازمة Syndrom) ثلاثية كما في الأمراض:
فهو (أولاً) قد يستعمر من الخارج وقد لا يستعمر حتى تتهيأ ظروف انطوائه تحت جناح الاستعمار. فمصر وقعت في قبضة بريطانيا ولكن اليمن بقت بمنأى عن ذلك المصير ولم يكن يعني أن اليمن كانت مستقلة. وكل بلد يحمل هذه العلة يخضع للقوة ويمكن مصادرته بيد الطواغيت الصغار المحليين كما يمكن احتلاله من الطواغيت الكبار الاستعماريين.
وهو (ثانياً) مرض عام يتخلل كل المستويات الاجتماعية يظهر ذلك بين الموظف والمراجع والمرأة والرجل والطفل والأستاذ. ومنظر الشرطي وهو يصفر لقائد السيارة وكيفية اقترابه منه في مشية الغوريلا مباعداً بين رجليه رافعاً بطنه للأمام ورقبته للخلف وقائد السيارة المضطرب الممتقع الذي يتزلف بالكلمات والرشوة والحلف بأغلظ الأيمان يفتح عيوننا على الواقع الاستعماري اليومي.
وقصة (الأحكام العرفية) هي رواية بئيسة مترجمة عن قصة الاستعمار. ويمكن لتقرير من مخبر سري أن يقود لإلقاء القبض على مواطن استعمل الانترنيت ليتبادل مقالة كتبها (روبرت فيسك) بعنوان العرب كالفئران. في جو حضانة من المخابرات تسهر على تدجين وعي المواطن أن يعيش على شكل حياة نباتية فعلى المواطن أن يفتح كتاب النبات فيقرأ وظائف النبات ويحفظها عن ظهر قلب مثل: هل يتغذى النبات ويتكاثر؟ الجواب نعم إذا يقوم هو بتناول الغذاء ويتناسل ويفرخ مزيدا من العبيد. ومثل هل يتحرك النبات أو يفكر ؟ والجواب .. لا .. وعلى المواطن (الصالح) أن يتخذ النبات قدوة فلا يسمح لعقله بالتحليل أو النقد. صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
لقد تحول العالم العربي في كثير منه إلى مزارع رائعة لأقليات من وحوش الغابة بحيث يمكن القول بدون مبالغة أنه لا يوجد أي ضمانة لأي إنسان أو شيء في أي مكان أو زمان مثل أبواب جهنم السبعة التي تفتح أبوابها فتستقبل مواطنا فقيرا ومسكينا وأسيرا. ورجل المخابرات العتل الزنيم.
وهو (ثالثاً) تشظي وتراكب في الفرد في نفس الوقت. مثل الدكتور جايكل وهايد. أو مرضى الشيزوفرينيا. أو الأمراض الجنسية فهو سادي ـ مازوخي بنفس الوقت. ويعتبر (الوردي) أن المجتمع العراقي مصاب بثلاث أمراض: (ازدواجية الشخصية) وصراع (الحضارة ـ البداوة) وثالثاً (التناشز الاجتماعي) فهو مجتمع أنبت الحضارة وابتلي بروح البداوة. وهو يريد أن يجمع حيث لا يمكن الجمع بين (الوساطة) وروح (المساواة). وهو يطالب بأقصى حقوقه ولا يقوم بأبسط واجباته.
إن الذهنية الاستعمارية حالة (مركب) يضم (الاستعمار) و(القابلية للاستعمار) كما في الأمراض النفسية. فالمستكبِر هو مستضَعف في أعماقه. ويمكن أن ينقلب المستضَعف إلى مستكبِر حال وضع يده على القوة. وأكبر طاغوت هو في أعماقه أحقر صعلوك. ونحن نعرف أن الفيلم (المحمض) الملون والزاهي هو نسخة عن (الأسود) القاتم غير الواضح. وحقيقة الفيلم واحدة. وبتعبير القرآن فإن ملة المستكبِرين والمستضعَفين واحدة. فمن ملك القوة تحول إلى إله ومن سحبت منه القوة تحول إلى عبد. فهذه العلاقة من (الألوهية ـ العبودية) مادتها القوة وهي بالتالي إعلان لنهاية وموت الإنسان. والأنبياء جاؤوا لتحرير الإنسان وإعادة الوعي من المنفى والإنسان من الموت إلى الحياة أو من كان ميتا فأحييناه.
واليوم فإن بوش وصدام يمثلان وجهي هذه العملة المزيفة. وحتى يظهر موسى فيجب أن يمارس السحرة دورهم فيسحروا أعين الناس ويسترهبوهم بالانتخابات المزيفة ومجالس القرود الشعبية ورعب الأجهزة الأمنية.
يروى عن حسني الزعيم أحد مغامري الانقلابات في الخمسينات في سوريا أن وفدا من أعيان دمشق أراد زيارته لمراجعته في بعض الأمور فدخلوا عليه وهو يصيح في التلفون إذا لم يمتثل للأمر قوموا بإعدامه فورا. ثم التفت إليهم وقد ابيضت وجوههم فزعاً. وقال أهلا بكم جميعا ماذا أستطيع أن أفعل لكم. قالوا عفوا نحن جئنا فقط لنبارك لك العهد الميمون ونتشرف بلقاء شخصكم العظيم. قال لهم: (يعطيكم العافية) انصرفوا إلى قومكم راشدين مع السلامة. ثم التفت لمن حوله بعد انصرافهم وهو يضحك ملء شدقيه: شعب مثل هذا يناسبه حاكم مثلي.
إن المثقفين يتصارعون ويصيحون في المحطات الفضائية ليختاروا أي زعيم يلبسوه ثوب الخيانة. ويبقى الداء خفياً. ويطلق سراح المجرم الأساسي (المثقف) ببراءة كاملة.
لماذا يجب أن تأتي أمريكا للمنطقة؟
يجب أن نستوعب ثلاث حقائق أن العالم العربي لم يعرف الاستقلال وأنه مازال في حالة استعمارية وأن جوهر الاستعمار هو حالة ذهنية.وطالما لم يتخلص من القابلية للاستعمار فيجب أن يزحف إليه الاستعمار كقانون طبيعي مثل نزول المطر من السماء وتساقط الورق في الخريف كما يتساقط العراق الآن.
في 23 نوفمبر من عام 1914م دخل الجنرال البريطاني (باريت) مدينة البصرة فاتحاً وقام مستشاره السياسي السر (برسي كوكس) خطيبا في القوم فقال لا يوجد بيننا وبين العراقيين مشكلة وأننا جئنا نحرر العراق من طغمة الأتراك ونحن نأمل " أن نثبت لهم بأننا حماتهم وأصدقاءهم" وأنه حان الوقت كي يتمتع العراقيون تحت ظل العلم البريطاني "بمنافع الحرية والعدل".
وعندما دخل نابليون مصر في صيف عام 1798م أرسل لأهل القاهرة خطاباً يقول فيه أنه مهمته محصورة في تحرير البلد من ظلم المماليك "الذين يتسلطون في البلاد المصرية ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي فحضرت الآن ساعة عقوبتهم. وقد قيل لكم أنني نزلت بهذا الطرف بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه. وقولوا للمفترين أنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين. وأنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم.
وعندما هجم جنكيزخان من أقصى الشرق حمل في يده الكتاب المقدس (الإلياسا) وجمع جحافل الذئاب الضواري من آسيا الوسطى بدعوى التحرير وتنظيف الأرض من حثالات الأمم. وزحفت القوات النازية إلى شرق أوربا تحت عقيدة المجال الحيوي لعمارة الأرض بالجنس الآري. وزحف نابليون حتى أسوار موسكو بنصف مليون جندي بدعوى نشر الأخوة والعدالة والمساواة.
فأما جنكيزخان فما زال يلعن حتى الساعة. وأما نابليون فأنهى حياته في جزيرة تذكر بجهنم مسموما بالزرنيخ. وأما هتلر فمات منتحرا بالرصاص والسم مع عشيقته إيفا براون في قبو الاستشارية.
وزحف الصليبيون في سبع حملات ضواري خلال 171 سنة بدعوى تطهير الأرض من المسلمين الكفار. فلم يبق في الشرق الأوسط صليبي واحد. فهذا هو قانون التاريخ.
وعندما فتح العثمانيون القسطنطينية كان أول شيء فعلوه هو تحويل كنيسة أياصوفيا إلى مسجد فهرب علماء القسطنطينية إلى أوربا ليكونوا أول بذور النهضة العقلية هناك. وعندما زحف (قره جهنم) بربع مليون من الانكشارية إلى فيينا عام 1683م وجه خطاباً إلى أهلها يقول فيه أن "ملك ملوك الأرض كلفه أن يخاطب أهل فيينا الكفار أن يسلموا أنفسهم وإلا كانوا طعاماً للسيف البتار. واليوم يناشد العثمانيون الأوربيين أن يفتحوا تركيا فيقبلوا انضمامها إلى الوحدة الأوربية.
وفي يوم تربع الخليفة العباسي هارون الرشيد بين الغلمان والحريم وهم يرقصون حوله فمرت سحابة فتناول خصلة من العنب فمضغها ثم خاطب السحابة بسخرية: ولي حيثما تولين ففي النهاية سيأتيني خراجك. وفي يوم أرسل مندوب الملكة فكتوريا إليها يتكلم عن عظمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. أن العالم كله يخدم جلالتها ففي الهند يزرعون لها الشاي ومن الشرق الأوسط يأتي البترول ومن كندا الحنطة ومن أفريقيا الذهب. واليوم تسبح بريطانيا في الضباب بعد غياب الشمس الإمبراطورية.
إنني أضحك اليوم من السياسيين الذين يتلاومون لماذا تريد أمريكا الهجوم على العراق؟
إن الفيزياء تقوم على التناضح الاسموزي أي رحيل الشوارد المعدنية من الوسط الأكثر إشباعا إلى الوسط الأقل إشباعاً. وفي الفيزيولوجيا فإن نقص اليود يقود إلى ضخامة الغدة الدرقية مثل ضخامة صدام في العراق. والمرض يقتل العجوز ويهب المناعة للشاب. واستعمرت هولندا أندنوسيا مثل أرنب يعتلي ظهر تمساح. وفي الطبيعة ينحدر الماء من الجبال إلى السهول وليس العكس. مثل زحف القوات الأمريكية إلى حقول النفط في مجنون. وفي عالم الحشرات تجتمع النمل على ذنب سحلية ميت. كما يجتمع الأوربيون الآن على تقاسم الحصص من جثة حمورابي المتفسخة. وتحلق النسور حيث الجيف. وعندما ينفجر المرض فهو يحدث ليس لأن الجراثيم لم تكن موجودة فوجدت بل بانهيار الجهاز المناعي. وفي علم النفس فإن التربة النفسية هي التي تفجر أمراضا خطيرة من نوع الشيزوفرينا والبارانويا. وفي علم الاجتماع فإن الثقافات القوية تبتلع الثقافات الضعيفة. وعندما يأتي الاستعمار فلأن القابلية للاستعمار موجودة عند الشعوب وهو يضع يده على غنائم وبضائع قابلة للتداول. وحالة العراق اليوم تخضع لنفس القانون. والعالم العربي يعيش نفس المرض مع اختلاف الدرجة فهو لم يتحرر والجمهوريات خرافات من حكم العائلات. وهو يعيش حالة استعمار داخلية أبشع من الاستعمار البريطاني والفرنسي. وعلة المرض هي (الذهنية) التي ترى أن القوة هي سيد الموقف. ولذلك تحكم بالقوة ومن يأتي بقوة أكبر يحكم أكثر. ومجيء أمريكا تحصيل حاصل. ولذا تزحف أمريكا إلينا لأننا شعوب نؤمن بالقوة ونخضع للقوة ونؤله القوة. ونظن أننا موحدين نعبد الله رب العالمين. سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.
يقولون لماذا تأتي أمريكا للمنطقة ويقولون سيجتمع رؤساء العرب؟
عندما اعتلى الثعلب (محمد علي باشا) كرسي الخلافة في مصر عام 1805 م طلب من وزيره الأرمني (آرتين) أن يترجم له من الإيطالية كتاب (الأمير ) لمكيافيلي. وينقل (علي الوردي) في كتابه (تاريخ العراق الحديث) عن الوزير أنه كان يترجم له كل يوم عشر صفحات حتى كان اليوم الرابع حينما استوقفه "قائلاً: لقد قرأت كل ما أعطيتني إياه من مكيافيلي فلم أعثر على شيء جديد يذكر في صفحاتك العشر الأولى إلا أنني كنت آمل أن تتحسن الحال. لكن الصفحات العشر الأخرى لم تكن أفضل. أما الأخيرة فليست سوى مجرد عموميات. أنني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيلي ما يمكنني أن أتعلمه منه. فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف. فلا داعي للاستمرار في ترجمته"
وفي كندا روت لي ابنتي التي كانت تدرس العلوم السياسية في جامعة (مك جيل) في مونتريال أن الأستاذ وقف في يوم فقال هل تعلمون كيف يحكم فلان في البلد الفلاني من المنطقة العربية وذكر أحد الأنظمة الاستخباراتية. فبدأ الطلبة الكنديون الأبرياء الذي عاشوا عمرهم في الديموقراطية يعصرون أدمغتهم في محاولة استحضار كل أساليب الشيطان الممكنة. وفي كل مرة يضحك الأستاذ من سذاجتهم ويقول لا.. لا.. إنه أذكى منكم جميعا. ثم بدأ يشرح بشكل هندسي ماكينة الحكم والعبقرية الإستخبارتية التي وصل إليها قائد البلد المذكور المنكوب. وكان تحت قانون التنين بسبع عشرة رأساً .
يقولون لماذا تأتي أمريكا للمنطقة ولكني أسأل لماذا لا تأتي؟ ويقولون أن رؤوساء العالم العربي سيجتمعون وأن الوضع سيتغير ولكن زيادة العدم على العدم لا يعني سوى العدم. وحاصل جمع صفر إلة صفر لا يشكل رقماً. وحكام العالم العربي هم تحصيل حاصل من واقع العالم العربي. وهم أفضل لباس تتسربل به الأمة تمت خياطته عند أفضل خياط. وعندما يشب الطفل عن الطوق سيبدل حلته. فهذه قوانين عضوية ووجودية.
وإذا كان العرب لا يتفقون في العمل لإنشاء مصنع فكيف سيتفقون على مصير أمة. وبين الحين والآخر تخوض المخابرات حربا ضارية لصناعة مجالس شعبية ليست بشعبية أو تسيير مظاهرات آخر ما فيها تظاهر ورأي. من أجل مزيد من تدجين وعي المواطن وتزييف إرادته. ولذا فمن دافع عن قضية العرب في شتاء 2003م كان الأوربيون من وراء بحر الظلمات وأرض الفرنجة.
وعلى كل حال فعندما تأتي أمريكا لا تسأل أحداً بل هي تعمل وفق مصالحها وليس أهواءنا. ولكن يجب فتح العين على حقيقة أن المواطن وصل إلى مرحلة مطبقة من اليأس وهو مستعد أن يتقبل أي وضع يغير وضعه. ولكن المشكلة أن هذا (غريزة) وليس (وعياً) فعندما فرت الديناصورات من يوكوتان عندما ضربها المذنب قبل 65 مليون سنة هلكت بالشتاء شبه النووي. وعندما تضع المعارضة العراقية نفسها في جيب أمريكا فلا يعني أن أمريكا ستضعها في قلبها. وعندما يزول (صدام) فيجب توقع جلوس (مصدوم) محله.
إنه من المهم أن يفتح المواطن عينيه على الواقع المدمر المليء بالإحباط فهذا (وعي) مقدس. وجميل أن يتعذب فيضرب ويهان على يد الجلاوزة وتكسر أسنانه وتطحن عظامه في أقبية المخابرات لأنه لاشيء يبقى في الذاكرة مثل الألم. ولا شيء يطهر الإنسان مثل الألم. ولاشيء يحرض على تغيير الظلم مثل الألم. ويجب استيعاب أن الوطن لا يبقى وطن مع تبخر أمن المواطن.
وإذا وصلت الأمور إلى هذه الحافة فيجب على المواطن أن يوطن نفسه على أمرين: فإما غادر المكان وهاجر والتحق بوطن جديد فيه حرية. وإما كرس نفسه واستعد للمقاومة. وإلا حاقت به لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ويجب أن تكون المقاومة (مدنية). والاستعداد بالتخفف من كل ثقل مثل سفينة تواجه الإعصار فتلقي كل حمولة زائدة. لأن أي متعة لن تبق متعة. وكل طفل يولد سيولد للمعاناة والفقر في ظل الظروف الديكتاتورية.
وفي يوم هرب تركماني في شمال العراق بعد أن تم طلبه لقذفه في أتون الحرب الإيرانية فصعد للسطح وهم بإلقاء طفلته الرضيعة من السطح وهو ينظر في السماء ويقول أي حياة تنتظرها وأي مستقبل لها؟ ولكن هاتفا هتف به أن يرفق بالرضيعة فنجت من الموت. ثم ترك بيته وما يملك وهرب مع تسعة من أفراد عائلته عبر جبال كردستان وهو يردد لعنة لوط ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.
ويجب أن لا نخش من السجن بل نعتمد استراتيجية السجن. فالنظام لا يمكنه أن يسجن عشر الأمة. ويجب أن نعالج الأوضاع ليس بالكراهية فالطبيب الذي يعالج مريضه يحقنه الدواء ولا يكرهه.
ويجب أن نستوعب حقيقة أن عصر الجليد انكسر وذاب. وأن الديناصورات الأمنية انقرضت. وأن رجال المخابرات أصبحوا مثل ساحرات العصور الوسطى يقاتلون بالمكانس الأطباق الطائرة.
قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بشهر كان الفيزيائي والفيلسوف الألماني (فيرنر هايزنبرغ) متوجهاً على ظهر سفينة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويقول في كتابه (الكل والجزء) في فصل (تصرف الأفراد في الكارثة السياسية) أن سحب الحرب كانت تغطي سماء أوربا. ومن يركب السفينة في العاصفة عليه أن يتصرف بما تمليه عليه الظروف فيحزم حقائبه ويؤمن على عياله ويعد نفسه للأسوء. يقول وهذا ما فعلته بعائلتي فقد أسكنتهم في جبال بافاريا بعيدا عن المدن إذا قصفت ثم توجهت لأمريكا لوداع أصدقائي فلعلي لا أجتمع بهم بعد ذلك. وينقل عن لقائه مع الفيزيائي الإيطالي (انريكو فيرمي) وكان قد هرب من الفاشية الإيطالية فسأله الأخير عن احتمالات وقوع الحرب؟ قال له هي واقعة لا محالة. قال له ومن تظن أنه سينتصر ألمانيا النازية أم خصومها؟ أجابه: من يقرر الحرب هي التكنولوجيا. وألمانيا لا طاقة لها بأعدائها. وهتلر يعرف هذه الحقيقة. وأتمنى أن يستوعبها. ولكن ياصديقي انريكو متى كانت الحرب عقلانية؟
وأقف أنا عند العبارة الأخيرة. فالحرب على ما يبدو يخوضها البشر بعد توديع العقل والعقلانية. ولكنهم مع هذا يخوضونها بحرص وإصرار وتخطيط ووعي فهل البشر مجانين؟ وللجواب على هذا يجب محاولة تفكيك ظاهرة الحرب ومنها التي تدور في العراق حالياً فلن تخرج عن جنون الحرب عبر التاريخ بفارق التكنولوجيا.
فمن وجهة نظر (علم النفس) يرى فرويد في الرسالة التي وجهها إلى آينشتاين أن الإنسان على ما يبدو تتنازعه غريزة (الليبيدوLibido) و(التانتوسTantus) أي الميل لإعمار الحياة والميل للموت والانتحار. ومن يخوض الحرب لا يخرج كما دخل بل يتحول إلى مجرم لأنه المكان الوحيد الذي يقتل فيه الإنسان بدون أن يحاسب. أو كما يصفها (هرقليطس) الحرب أم كل شيء. وهي أفظع مرض ابتليت به الإنسانية حسب (توينبي) بعد الرق. وهي من وجهة نظر (قانونية) تعطيل لكل القوانين التي تعب الجنس البشري في تحصيلها. ومنه اعتبر الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) من وجهة نظر (فلسفية) أنه لا يجب خوض الحرب تحت أي مسمى وذريعة بما فيها الحرب العادلة فطالما خاض الإنسان الحرب لا يبقى عدل.
وهذا يصب في الخانة التي أعلنها إبراهيم عليه السلام حينما حرم التضحية بالإنسان واستبدلها بالقربان الحيواني فكل الحروب هي تقديم قرابين بشرية. وفي كثير من المناسبات يتم الضحك على الأمهات أنهن قدمن أولادهن للحرب بلف التابوت بعلم. ودعوة إبراهيم هي إعلان للتوقف عن التضحية بالإنسان وأن تضع الحرب أوزارها. ولكن المسلمين يحجون بدون معرفة معنى كل هذه الرموز وبدلا من الدعاء للناس بالهداية يشعل الخطباء الحروب في الأرض باللعنة على معظم الجنس البشري أن يخرب ديارهم وهو ما لم يدعو له إبراهيم. ومنه فإن أعظم شيء فعلته محكمة (نورمبرغ) عام 1945 م أنها اعتبرت الحرب أي حرب جريمة من الناحية (القانونية). ولكن أمريكا تخوض الحرب الآن بما يعكس عسرة تطور العقل الإنساني.
والحرب من الناحية البيولوجية ضد قانون الحياة فبدلاً من أن يدفن الأبناء آباءهم يحصل العكس. والحرب مرض ينبت من تربة الكراهية كما يقول (سكينر) من مدرسة علم النفس السلوكي وأنها تنبت في الرؤوس قبل أن تمارس بالفؤوس. وهي استسلام للدماغ السفلي حيث تعصف الانفعالات ويتعطل المخ العلوي عن ضبط مسار الأحداث. ولعل أهم ميزة لكنيدي في تجنب الحرب النووية عام 1962م أنه وضع أمامه ليس ما ذا نتصرف بل كيف نحل المشكلة؟
والحرب هي ذروة العنف لأن فيها القضاء على الإنسان كليةً وتصفيته جسديا. والحرب لا تحل مشاكل بل تخلق مشاكل لأن العنف يستجر العنف. والدم يفجر الدم. وكما يرى غاندي في اللاعنف أنه يمتاز بالمحافظة على الطرفين من خلال تفاعل الإرادتين ولكن الحرب هي هرس طرف مقابل نهوض طرف.
ومع ذلك فالبشر خلال التاريخ المعروف كانوا يشعلون الحروب بمعدل 13 سنة مقابل سنة واحدة للسلام. وحسب إحصائيات معهد غاستون بوتول فإنه خلال مائتي سنة حصل أكثر من 360 نزاع مسلح مات فيه أكثر من ثمانين مليون إنسان وفي حرب برلين لوحدها مات ثلاثة ملايين إنسان وفي الجبهة الروسية في الحرب الثانية مات أكثر من عشرين مليون إنسان. فهذا الإنسان القاتل الناطق أمره عجيب. والحاصل فحيثما نظر الإنسان للمسألة يتعجب من اندلاع الحرب فهل هناك مفتاح لها يوحي بالأمل في الإنسان؟
في الواقع الحرب هي إفلاس أخلاقي مهما كان مبررها. وحينما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان لم تسأل أتجعل فيها من يكفر فيها؟ بل سألت أتجعل فيها من يسفك الدماء؟ ويبدو أن الحرب تحدث بسبب معقد انثروبولوجي اجتماعي نفسي. فالدولة بناها الإنسان من أجل أمن الأفراد داخلها ومع ولادة الدولة ولدت الحضارة التي نتمتع بثمراتها. مقابل احتكار الدولة لآلة العنف. وهذا لم يحصل في مستوى مربعات الدول. والجنس البشري اليوم في طريقه لتكوين الدولة العالمية التي ستحقق أمن الدول فيما بينها كما فعلت الدولة بالأفراد داخلها. مقابل احتكار العنف بمؤسسات محدودة جيدة التسلح سريعة القفز لبؤر التوتر. ومشكلة الديكتاتوريات ستزول مع هذه العتبة من التطور. ولكن علينا أن نعاني كأفراد طويلاً من مرض أشباه صدام. ولعل نموذج الوحدة الأوربية هو الذي سيسود لأنها بنيت على العدل وليس التوسع الإمبراطوري.
واليوم مع كل مراجعة للحرب يحزن العقلاء. ولكن الطب كان يعالج يوما السعال الديكي بلبن الحمير. وكان العسل يؤخذ بعد قتل النحل. والطفل يخلف قاذوراته ولا يستطيع تنظيفها بنفسه. فهذا تطور وقدر لا فكاك منه. والجنس البشري اليوم يحل المعضلات السياسية بالحرب. ليس لأن المشكلة غير قابلة للحل ولكن لعجز الطب السياسي. فمازال عند مرحلة معالجة السعال الديكي بلبن الحمير. كما كان يعتقد أن مرض الإفرنجي سببه تعكر مزاج المريخ إله الحرب. ويقول عالم السياسة الأمريكي (شالمرز جونسون ـ 70 سنة Chalmers Johnson) ومستشار الاستخبارات المركزية في الحرب الباردة من جامعة بركلي "إن بلدنا مولع بضرب الصواريخ". ويرى في كتابه (الصدمة المضادة Blowback) أن المٍسألة ليست (صراع الحضارات) كما تنبأ بذلك (صمويل هنتجتون) بل هي ردة فعل لشعوب تم دمجها قسراً في نظام اقتصادي بما يسيء إليها مما جعلها تكن أشد الكراهية لبلده بعد أن بلغ سلطان أمريكا ما بلغه الليل والنهار.
وفي المقابلة التي أجرتها معه مجلة (در شبيجلDer Spiegel) الألمانية رأى الرجل أن بلده قام بما يشبه احتلال العالم فهناك 65 قاعدة أمريكا في العالم منها فقط 38 في أوكيناوا وتحولت دول الحلفاء من الحرب الباردة إلى ما يشبه محميات أمريكية (Protectorat) وأن ما ذهب إليه كيسنجر في أن أمريكا سوف ترتكس كما فعلت مع ضرب بيرل هاربر يجعله يخشى أن يصل الرأي العام الأمريكي إلى نتائج خاطئة من وراء كارثة أيلول 2001 وأنه يخشى جداً من عسكرة الحياة العامة وزيادة حقد العالم على أمريكا في الوقت الذي يمكن أن تكسب احترام وود العالم وأن الشيء الملح حاليا هو دبلوماسية ذكية)(العدد 38 \ 2001). أما أوري افنيري الصحفي الإسرائيلي السلامي فقد ذهب إلى أن أمريكا قد تبتلع العراق ولكنها في النهاية سوف تستجر المنطقة إلى المقاومة كما يفعل الجسم مع الباكتريا التي تدخل الدوران المترافق بتشنجات وسخونة وهذيان وهي في عالم السياسة الشغب والقلاقل والغليان الشعبي وغياب العقلانية حتى يتم طرد الجسم الغريب. يقول أفنيري وعندما يرحل الأمريكيون ماذا يحل بدولة بني صهيون.
ولكن كما قال (فيرنر هايزنبرغ) متى كانت الحرب عقلانية؟
قوة كلمة ..(لا)..
قراءة في الأنظمة الشمولية
دخل الأستاذ إلى الصف وتوجه إلى الطلبة من ذكور وإناث فقال: هل هناك أحد غير بعثي في هذا الصف؟ فرفع ثلاثة من الطلبة أصابعهم كان أحدهم (طالبة). قال الأستاذ: إذاً سوف نوزع عليكم استمارة الانتساب للحزب. وفي اليوم التالي كان الطلبة الذكور قد نالوا الحظوة بالانتساب للحزب القائد و بدؤوا بقراءة ترانيم الصباح من إنجيل القائد الذي يحكم إلى الأبد. وبقي في الفصل متمرد واحد (أنثى) تشبثت بموقفها أنها لن تنتسب للحزب. قال لها الأستاذ: لماذا لم تنتسبي إلى الحزب؟ قالت الطالبة: هل الانتساب للحزب إلزامي؟ ارتبك الأستاذ وابتسم ابتسامة صفراء وقال: بالطبع ليس الانتساب إلزامي. ولكن الانتساب للحزب يمنحك العديد من المزايا وبدأ يعدد بركات الحزب من تأمين الوظيفة ودخول الجامعة والانتساب للجيش والانخراط في المخابرات والتجسس على المواطنين وفتح الدكان وصك الزواج؟ أصرت الفتاة على موقفها وقالت: لن انتسب للحزب. طلبها الأستاذ على انفراد حتى لا تحدث (شوشرة) في الصف وقال لها: اصدقيني الخبر فإن كان والداك قد (خوفوك) أو مارسوا ضغطاً عليك فلسوف نتولى أمرهم؟! قالت: لا .. والامتيازات لا أريدها ووالدي تركا لي حرية الاختيار وأنا اخترت أن لا أنتسب للحزب. وأكرر هل الانتساب للحزب إجباري؟ ارتبك الأستاذ هذه المرة أكثر وبدت على وجهه علامات الغضب فلم يواجه حالة استعصاء نادرة مثلها في عقول الشبيبة التي يغسلونها على مدار الساعة، وفي العادة ينضم الجميع مثل الحملان الوديعة بدون تردد، فأحال المسألة برمتها إلى مدير المدرسة كي يعالج هذا التمرد الخطير. وفي اليوم الثالث استدعى المدير الطالبة وأكرمها بمقعد وثير وابتسامة عريضة وتهليل مجيد ثم فتح فاه فقال: أنت من خيرة الطالبات ونحن نبني عليك الآمال والحزب القائد يتطلع إلى أن تنتسبي إليه وتشاركي في النضال بين صفوفه. سكتت الطالبة هنيهة والمدير يتأمل تعبيرات وجهها. وأجابت بهدوء: هل الانتساب للحزب إجباري؟ صعق المدير وأجاب بانفعال وقد ارتفعت طبقة صوته: لا .. لا .. بالطبع ليس إجبارياً .. ولكن ثم بدأ يعدد المحاسن اليوسفية والدرر اللامعة لإنجازات الحزب والقائد. وعندما ختم ديباجته قالت الفتاة باختصار وإصرار أكثر من الأول طالما كان الانتساب للحزب ليس إلزاميا فلن انتسب للحزب.
هذه .. اللا ... اللعينة أحدثت إرباكاً في إدارة المدرسة ورأوا فيها بادرة تمرد خطيرة من طالبة تافهة؟ عندها انتقلوا إلى الوعيد والترهيب فكانت النتيجة نفسها. وكانت جملة "هل الانتساب للحزب إجباري؟" تشكل معادلة صعبة ليس لها حل في رياضيات الحزب. فلما سقط في أيديهم اعتبروا أن عقل الطالبة قد تسمم. وأن خلفيتها بورجوازية. وأن تربيتها عفنة رجعية. وتركوها على أمل اغتصاب إرادتها في مناسبة أخرى.
هذه القصة تحكي واقع النظام البعثي وما يجري تحت الأنظمة الشمولية. كما تحكي القابلية للاستعمار وكيف يولد الاستعمار. كما تحكي قوة (لا) وأن استعمار الناس يتم بأيديهم وأن الشيطان ليس له سلطان إلا على من اتبعه من الغاوين. كما تحكي لماذا تأتي أمريكا للمنطقة لغزو ديار الوثنيين الذين أطاعوا سادتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيلا. ودخلوا حزب فرعون وما أمر فرعون برشيد.
إن القاسم المشترك بين الفاشيست والبعثيين والنازيين هو مركزية الحزب ونظام التجسس وترويع المواطن. وأعظم آفة يتعرض لها مجتمع تحوله إلى مجتمع كله حزب من المنافقين. وهم بممارسة دين (الإكراه) حولوا الأمة إلى قطيع من الخائفين.
إن بركات الحزب كثيرة ولكن ينقصه مزية واحدة ليست في دستور الحزب وهي حرمان الإنسان من (الاختيار). ومعها يحرم من كل (إنسانيته) ويتحول إلى (شيء) من الأشياء. وبها يخسر الأبعاد الثلاثة له كإنسان: "الاستقلالية والإرادة والتفكير". ليتحول دماغه إلى سطح مسطح مثل حدوة الحصان.
إنها بكلمة مختصرة قتل الإنسان بالجملة والمفرق. ولن ينصر الله مجتمعا وثنيا على مجتمع موحد أو هو أقرب للتوحيد. وهذا السر أن العالم الإسلامي كب على وجهه لأنه لا يعبد الله حقا بل يعبد الأوثان فلا تدخل حدود بلد عربي إلا والأصنام مشرعة من صور شتى وتماثيل منتصبة اعل هبل.
ومن أعجب الأمور في حرب ربيع 2003ظهور الجنرالات العراقيين وهم يؤمون المساجد ولم يعتادوا في حياتهم سوى عبادة الرئيس. أو أن يعتقد رجال حزب البعث بالبعث وهم لم يعتقدوا يوماً بالبعث. أو أنهم يعبدون الله وهم الذين نِشؤوا على عبادة الثالوث المقدس: (الطائفية والاستبداد والفقر) بدل (الوحدة والحرية والاشتراكية) التي رفعوها. أو أن توضع كلمة الله على العلم وليس هناك من إله سوى فرعون. مع ذلك فقد كتبت كلمة الله بهمزة (ألله؟) مما تفيد عكس معناها؟ والواقع لا يأبه للشعارات بل الحقائق. وعندما يلقى القبض على مواطن لأنه فتح موقعا محرما في الانترنيت فيجب أن لا نتوقع من هذا المواطن أن يدافع عن وطن لم يبق فيه مواطن ومواطنة؟.
مبدأ الجرذ والسنور
في العالم العربي مظاهرات. ولكن المواطن العربي لا يعرف معنى التظاهر. وكما يقول (بيير بوردو) في كتابه (العقلانية العملية) فإن التظاهر هو إعلان تصور عن العالم. والمواطن العربي خالي الذهن عن أي تصور. ونزول كم كبير من الناس إلى الشارع يعني إحراق المرافق العامة وتفريغ إحتقان القمع الحكومي منذ قرون. وهكذا فالجماهير عاجزة محبطة عمياء. يقابلها حكومات أعجز ينخر فيها الفساد ومؤسسة على إعتقال الأمة في سجن جماعي. الشعوب عاجزة والحكومات أعجز وكل في فلك واحد من العجز يسبحون. الشعوب ترى الخلاص بالقوة في التخلص من حكومات مستبدة، وإذا نزلت إلى الشارع دمرت وكسرت وإن تمكنت فتكت بخصومها الحكام. والحكومات ترى أن القوة هي مبرر وجودها وكل حركة شعبية تحمل خطر إزالتها فهي تقمعها بكل سبيل. الكل يؤمن بالقوة والعنف وأن السيف أصدق أنباء من الفكر وأن الغدر سيد الأحكام. والكل لا يؤمن بالعقل والإنسان. وهو ما يفسر حالة الإستعصاء المطبقة في العالم العربي في إمكان عمل أي شيء أمام قضايا مصيرية مثل مذبحة جنين في ربيع 2002. هناك حلان ولكن كل منهما يمثل استحالة. ولا يتقدم بالحل إلا بإلغاء كل حل. الأول أن تقف القيادة السياسية فتعترف في وقفة مصارحة أنها غير شرعية. ثم تفسح المجال امام انتخابات حرة نزيهة. وتؤسس تعددية فعلية. وتطلق صحافة حرة. لكن هذا يشبه دخول مسابقة مئة متر في سباق عالمي لإنسان معاق! ثم ماذا تفعل النخبة أمام إغراءات الإمتيازات بعد أن تحول الوطن إلى مزرعة عائلية! هل يمكن أن تتنازل عنها دفعة واحدة؟! إنها تشبه حالة اللص الذي نطلب منه أن يصبح نبياً. وأما الحل الثاني وهو مستحيل بدوره عندما تطلب من أمة لا تعرف إلا الاستبداد في تاريخها مثل إنسان أصيب بضمور عضلي متقدم بعد استلقاء مديد ومرض مدنف ونطلب منه ممارسة رياضة حمل الأثقال. إن فرض الكفر ليس كفراً. وإن الحل الأول على فرض تحققه وتحول الحكام إلى انبياء فإن عجز الأمة لا يسمح بتحققه. بكلمة ثانية إن وضع العالم العربي ميؤوس منه والخلاص فيه يخضع لمبدأ الضغط المتتالي والمحن ضمن وسطها الذهبي كما فعل شارون بتوحيد الفلسطينيين. وهو ما يذكر بقصة الجرذ والسنور. وعندما تجتمع قيادات عربية تتبادل العناق ونخب الصحة في الوقت الذي تهيء فيه الخناجر للطعن، فلا يمكن حلها بالكلمات المعسولة إلا مثل معالجة سرطان الثدي بالمداوة بالأعشاب. تقول القصة أن جرذاً كان يعيش في جوار سنور على خوف منه وحذر دائمين حتى كان يوماً وقع فيه السنور في شبكة صياد. فلما خرج الجرذ ورأى السنور عالقاً في الحبال انفرجت اساريره وقال في نفسه الحمد لله لقد تخلصت منه إلى الأبد. لكن فرحته لم تدم طويلاً إذ سرعان ما رأى فوق رأسه بوماً يحوم يتربص به ريب المنون. وخلفه إبن آوى ينتظر فرصة للانقضاض عليه. فأحس بالخطر المحدق فاقترب من السنور وقال له: يا صاحبي كما ترى فأنت في الحبال والصياد في طريقه إليك وأنا فوق رأسي البوم وخلفي ابن آوى فماذا تقول لو تعاونا على الخطر المشترك؟ فأنت تطرد عني خطر البوم وابن آوى وأنا أقطع لك الحبال بأسناني فتنجو من الصياد. كان قلب السنور يدق بسرعة ينتظر موتة شنيعة فعقد الاتفاق بسرعة ثم هب يزمجر بشراسة في وجه البوم وابن آوى حتى طردهما وكان الجرذ يقرض حبال الشبك. ولكنه ترك في النهاية ثلاث عقد تكفي للإمساك برجل السنور على نحو لا يتيح له الخلاص. التفت السنور إليه مذعورا وقال يا صاحبي هل تريد نكث العهد ولم تمض سوى لحظات على اتفاقنا؟ قال الجرذ لا ولكن أترك هذا أمانا لنفسي. وعند مجيئ الصياد قرضت لك العقد الأخيرة فنجوت وانشغلت بالصياد عني وفر كل منا في حال سبيله فهذا أضمن لي ولك. وعندما جاء الصياد أسرع الجرذ فقطع بقية الحبال وقفز السنور في وجه الصياد الذي كاد أن يسقط على الأرض. ونجا كل من الجرذ والسنور. في اليوم التالي نادى السنور على الجرذ: هلم يا صاحبي إلي فنشرب ونأكل سوية فقد أصبحنا أصدقاء. قال الجرذ يا صاحبي لقد جمعتنا المحنة وعاد كل منا سيرته الأولى. إن شخصيات القصة يمكن استبدالها بسهولة برموز من بوش وشارون والأنظمة العربية. والزعامات العربية اليوم عليها أن تستفيد من حكمة الجرذ والسنور وتتعاون تحت هذا المبدأ للخلاص المشترك أكثر من الأخلاقيات المزعومة والتاريخ المشترك وتعاليم الأنبياء. أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لايتوبون ولا هم يذكرون.
مفاتيح التغيير السياسي
مكانها في النفوس
تراهن المعارضة العراقية الآن على الساحر الأمريكي أن يخلصها كما يفعل بهلوان السيرك فيخرج لهم من القبعات السوداء أرانب بيضاء. ويمنحهم من دمار العراق ديموقراطية لامعة بختم أمريكي.
ولكن كلاً من علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والفلسفة والقرآن يقول إن التغيير عملية داخلية أكثر منها جراحة خارجية. وأن التخلص من الاستعمار التركي والبعثي هو بتصفية (القابلية للاستعمار). وأن جذور الاستعمار تضرب في تربة الثقافة. وأن هذا المرض يعس في مفاصل الثقافة العربية مثل الروماتزم الخبيث منذ الانقلاب الأموي وقتل العقل على يد تيار ما سمي (أهل السنة والجماعة) ولم يكن بسنة ولا جماعة. وأن العرب يؤمنون (بالعضل) لأنه (لا عقل) لهم.
وكما يقول (مالك بن نبي) في كتابه (شروط النهضة) أن "الحكومة آلة اجتماعية تتغير تبعاً للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا حرا فلن تستطيع أن تواجهه بما ليس فيه. وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد أن تكون حكومته استعمارية".
ويجب أن نفرق بين (الاحتلال) و(الاستعمار) فأمريكا (احتلت) اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن (هولندا) استعمرت (أندنوسيا).
وظاهرة (القابلية للاستعمار) تشكلت عندنا تحت قباب القيروان وبغداد والقاهرة قبل مجيء العسكر الأجنبي بوقت طويل. فهي (حالة ذهنية) و(وضع نفسي) يتسم بالعجز الداخلي وتشظي المجتمع وفقدان (تقرير المصير).
وهنا يصبح البلد في حالة (تهيؤ) للاستعمار ولو لم يجيء (الاستعمار). وإذا كانت (اليمن) قد بقيت بدون احتلال خارجي فلأنها كانت بلدا (مستعمراً) بيد الإمام الداخلي. ونحن اليوم لم نتحرر من فرنسا وبريطانيا ولذا فأمريكا في الطريق إلينا. بسبب الفراغ الذي تكرهه المادة. وعندما نقول عن القدح أنه فارغ فهذا خطأ علمياً فهو مملوء بالهواء والطبيعة تأبى الفراغ.
ونظرا لأن العرب (يؤلهون) القوة فهم يخضعون للأشد بأسا وتنكيلا. ولذا خضعت رقابهم للمغامرين العسكريين المحليين من فصيلة الطواغيت الصغار في الغابة العالمية. وفي الوقت الذي يأتي من هو أقوى يخطفهم ويغتصبهم. وتصفق الشعوب المخدرة المغفلة للأقوى. كما فعل أعيان البصرة بالترحيب بالجنرال البريطاني باريت عام 1914 م. ونحن اليوم في العالم العربي نظن أننا حققنا الاستقلال ولكن الناس في واقع الأمر يعيشون حالة (استعمار) داخلية بئيسة بيد أقليات إثنية ودينية وعائلات إقطاعية مسلحة بما يترحم عليه من عاش فترة الاستعمار الأوربي. وهذا يعني بكلمة أخرى أن (المرض النفسي) الذي هيأ لهذه الظاهرة المشئومة لم يتعاف منه المواطن العربي بعد سواء حضر الأمريكيون أم لم يحضروا لأنه علة داخلية. ولو خسف الله الأرض بإسرائيل فلن تحل مشاكلهم الداخلية. وكل من يظن أن قدوم الأمريكيين سوف يمنحهم التخلص من (القابلية للاستعمار) فهو كمن يتصور الحمل الكاذب بانتفاخ بطن العقيم بدون حمل. وهي ظاهرة معروفة في الطب وعلاجها نفسي وليس عضوي.
ويعود تعقد الأزمة السياسية الراهنة إلى أننا نجهل "القوانين الأساسية" التي تقوم عليها الظاهرة السياسية عن صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي أنها آلة تؤثر فيه وتتأثر منه على نحو تبادلي. وكما يقول عالم الاجتماع (بورك):"إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها"
وبذلك نشأت عندنا (دروشة) جديدة استبدلنا فيها التمائم والأيقونات والحرز بأوراق الانتخابات ومجالس الشعب والشورى ونحن نظن أننا نقيم جمهوريات ونبني ديموقراطيات. في الوقت الذي احتل الحاكم مكان شيخ الطريقة الصوفية فيبايع إلى الأبد. وهل يمكن تنحية البابا من الفاتيكان أو شيخ الطريقة من الحلقة.
في سبتمبر من عام 1850 م وجه (كارل ماركس) خطاباً إلى (فينيش) لمن أطلق عليهم (أدعياء الكيمياء الثورية) يقول فيه:" إن هؤلاء الأدعياء يعتبرون أن الرغبة هي الدافع إلى الثورة دون أن ينظروا إلى ما يجب توافره فعلاً. أما نحن فنقول للعمال: لسوف تقضون خمس عشرة عاما أو عشرين أو خمسين في الحروب الأهلية والدولية لا من أجل تبديل الأوضاع الخارجية فحسب ولكن من أجل تغيير أنفسكم".
وهذه العبارة الماركسية تصب في خانة الآية القرآنية التي اعتبرت أن تغيير الله معلق بعمل البشر. فهو لا يغير حتى ينطلق البشر فيغيرون. وهذه نقلة نوعية في التفكير فبدلاً من تقليب النظر في السماء يتحول التغيير إلى علم الاجتماع. وبدل الضياع في علم الكلام يصبح اللاهوت في علم السياسة كما عنّون الفيلسوف اسبينوزا كتابه (في اللاهوت والسياسة). وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
أما (علي الوردي) فرأى المسألة من زاوية علم الاجتماع فرأى في كتابه (تاريخ العراق الحديث) أن الفقر والظلم لا يفجر الثورات فالشعوب على حد قوله "قد ذاقت في العصور القديمة والوسطى أبشع أنواع الظلم والاستعباد دون أن تقوم بالثورة على حكامها " لينتهي إلى تقرير أن "هناك رأي تأخذ به طائفة من علماء الاجتماع مؤداه أن الظلم وحده لا يكفي لقيام الشعوب بالثورات على حكامها بل يجب أن يكون في الشعوب شعور بالظلم وحافز يحركها للثورة وهو ما نسميه الوعي الثوري".
ويظن العراقيون أن مجيء أمريكا للمنطقة سوف يغير أخلاق الناس فيحب الشيعي السني ويسامح المتدين العلماني ويحضر الموظف إلى عمله بدون تأخير ويبيع التاجر بدون غش. وخلال شهرين ستنهض حكومة ديموقراطية تنافس حكومة سويسرا...
هيهات هيهات لما يوعدون.
وتذهب مدرسة فرويد التحليلية إلى الحديث عن شيء اسمه (اللاشعور) وهي طبقة تحتية تمارس هيمنة مخيفة على التصرف بدون وعي منا. وعندما يقرر القرآن أن (تغيير) الإنسان ممكن بيد (الإنسان) فهو لا يشير إلى الظروف المادية بل الأوضاع (النفسية). ولكن هذا يتطلب جراحة معقدة أكثر من الجراحة العصبية للدخول إلى طبقة (الوعي) و(اللاوعي). فأما الوعي فالدخول عليه بالأفكار أما طبقة اللاوعي فهي مكان خزان العواطف والخبرات والعادات والمواقف الأخلاقية وهي تشكل 95% من كياننا النفسي. وتغيير اللاوعي ليس بهذه السهولة فكيف يمكن أن يغير الناس شيئاً لا يشعرون به. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسون أنهم يحسنون صنعا.
ويقترح (سكينر) من مدرسة علم النفس السلوكي في كتابه (ما خلف الحرية والكرامة) فهماً أعمق للسلوك الإنساني من أجل التحكم في مساره كما نتحكم في مسار محطة فضائية أو الوصول إلى الصفر المطلق في الرياضيات. ولكن المسار العلمي حتى الآن كان في التقدم التكنولوجي أكثر من فهم التكنولوجيا الإنسانية. ويقول أن سقراط لو بعث في عصرنا لناقش مشاكل الفلسفة والسياسية كما كانت أيام أثينا ولكن تلميذا في المرحلة الثانوية حالياً يمكن أن يصبح أستاذا لفلاسفة اليونان في علم الذرة والكود الوراثي أو تشريح الإنسان.
يحكى أن عملاقاً في منطقة سمع بعملاق آخر ينافسه على الزعامة فخاف منه وأرسل يخطب وده فما كان من الأول إلا أن شتم الرسول ورد الهدية. فغضب الثاني وحمل هراوته وأسرع باتجاه العملاق الأول فاهتزت الأرض من خببه وغضبه. فلما وصلت الأخبار إلى العملاق الأول أصيب بالرعب فظهر ذلك على محياه. قالت له زوجته: لا تخف يا عزيزي واستلق في السرير واترك الباقي لي. ثم إن المرأة الذكية عمدت إلى تغطية زوجها عدا رجليه. ولما وصل العملاق الثاني وهو يتوعد نظرت إليه المرأة الحكيمة بهدوء ورفعت أصبعها إلى شفتها فقالت له: صه .. لا توقظ الغلام. نظر الرجل إلى القدمين العملاقتين خارج الغطاء. فاصطكت مفاصله وقال في نفسه إذا كان هذا حجم الغلام فكم يكون الأب؟ ثم أطلق ساقيه للريح لا يلوي على شيء.
فهذه القصة تروي كل الصراعات الإنسانية وقصة العراق والمعارضة وبوش.
الانتخابات والاجتماعات والمؤتمرات في العالم العربي
في عام 325 للميلاد حصلت أزمة عقائدية في العالم المسيحي بعد فوز المسيحية بالحكم
والإطاحة بالنظام القيصري. فبعد أن زال الاضطهاد اختلف حراس العقيدة حول الشخصية الجوهرية في المسيحية هل هو إله أم بشر. ومن أجل هذا دعا الإمبراطور قسطنطين لحل هذه الإشكالية إلى مؤتمر في نيقية حيث تركيا الحالية فاجتمعت نخبة الأدمغة العقائدية من الحزب الجديد للتعريف بحقيقة المسيح؟
كان عدد مفكري وقساوسة العالم المسيحي المجتمعين من كل أصقاع الإمبراطورية 2048 مفكراً. ولكن ما خرج به المؤتمر حسب ما جاء في كتاب (تاريخ الأمة القبطية) هو ما قرره سيف الإمبراطور حيث اقتنع بفكرة مجموعة بلغ عددها 318 تقول أن " الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قول بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه. وأنه لم يوجد قبل أن يولد. وأنه وجد من لا شيء. أو من يقول أن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الأب. وكل من يؤمن أنه خلق أو من يقول أنه قابل للتغيير ويعتريه ظل الدوران". وبذلك خلقت الكنيسة من البشر إلها متعالياً مع أنه لا يوجد نص واحد في الإنجيل يصرح بهذا.
وهناك من اعترض في المؤتمر مثل آريوس على هذا الاختلاق ولكنه أخرس ضربا بالعصي على الوجوه والأدبار. ثم تمت إدانته بمجمع لاحق ولوحق وأتباعه وكتبه في كل الإمبراطورية. فهذه هي سخرية التاريخ.
وفي معركة صفين تواجه فريقان: من قضى عمره في بناء الإسلام ومن أنفق عمره في حرب الإسلام ولكن من ربح لم يكن أنزه الطرفين. ورفع المصحف على رؤوس الرماح كي يعطل المصحف.
ونحن نعرف في الكيمياء العضوية أن الفرق بين الترياق والسم هو في قلب بسيط في تركيب المادة بدون إضافة على المادة. وأن الفرق بين الفحم والسكر والألماس هو طبيعة تراص الذرات الداخلي. ومنه نذوق الحلاوة أو يتلألأ الألماس أو يوسخ الثياب شحار الفحم. والفرق بين البشر والشمبانزي في الكود الوراثي DNA لا يزيد عن 1% مع هذا فمن هذا الفرق يخرج بنو آدم مكرمون أو قردة خاسئون.
وفي عام 1816 م دخل إبراهيم باشا بن الثعلب الكبير (محمد علي باشا) الذي خلف نابليون في مسك رقاب المصريين فجاءته التعاليم السلطانية من خليفة رب العالمين السلطان العثماني محمود الثاني بالقضاء على الوهابية في جزيرة العرب. فدخل الدرعية بالمدافع والسيوف ثم تظاهر بأنه يريد جمع شمل المسلمين. فدعا إلى مؤتمر عام في الدرعية في الجامع الكبير حضره 500 من علماء الوهابية وفريق من علماء الأزهر المصريين. ودام الاجتماع ثلاثة أيام وإبراهيم باشا ملتزم بأدب الحوار فلم ينبس ببنت شفة سوى أنه كان يتلمس مقبض سيفه. وفي اليوم الرابع قال لشيخ الوهابية باللهجة المصرية: أيها الخنزير أترى أن دينك هو الصحيح والوحيد؟ قال نعم. عندها التفت إليه كما يذكر (الوردي) في كتابه (تاريخ العراق الحديث) فقال: أليست الجنة عرضها السموات والأرض أفلا يوجد مكان لآخرين من غير شيعتكم؟ ثم حل الخلاف بسرعة بالطريقة العسكرية فأمر بذبحهم من الوريد إلى الوريد جميعا ودفنهم في حفرة جماعية في صحن المسجد بما يذكر بالبوسنة.
وفي عام 1755 م اهتزت الأرض في لشبونة ومات في عيد (كل القديسين) بضربة واحدة أكثر من ثلاثين ألف ضحية أوحت لفولتير أن يكتب قصته الرائعة (كانديد) فصرخ المغاربة أن الله انتقم لهم من محاكم التفتيش ولكن أكبر مسجد في الرباط خر على وجهه بنفس الزلزال. أما البروتستانت في بريطانيا فقد أثلج صدورهم ما حصل وقالوا كانت إرادة الله هائلة في البطش بهولاء الكاثوليك. ولكن لم يطول الوقت كثيرا فبعد 18 يوما قتل من البروتستانت أكثر في مدينة بوسطن بزلزال أعتى.
وفي حرب عجاف دامت ثماني سنوات بين العراق وإيران هلك فيها مليون إنسان وخسارة 400 مليار دولار كان صدام يسمي معاركه القادسية والأنفال وكان الإيرانيون يسمونها بدرا وكربلاء وفي النهاية أباد صدام الإيرانيين بالغازات السامة بمساعدة أمريكية في حملة الساجدات العابدات.
والكل يوظف الله إلى جانبه مسلحاً بالأدلة العقلية والنقلية والفقهاء منهم من اشُتروا بدراهم معدودة ومنهم من لا يفقه من الفقه سوى عمامة كبيرة. وهناك من رفع اسم الله على علمه وهناك من احتكر اسم الله لحزبه. والله غير حزبي ولا يعترف بالحزبيين أكثر من كونهم زبرا كل حزب لما لديهم فرحون.
وفي حرب الخليج الثانية اجتمع فقهاء الحركات الإسلامية في جدة وبغداد وكل جنّد الكتاب والسنة في جيشه. ولكن الذي حل المشكلة لم يكن الكتاب والسنة بل روما باللجيونات وصواريخ البلطة.
وفي عام 1975 اجتمع الشاه وصدام وفي جو حميم من العناق والقهوة ووقعوا اتفاقا أن يقتسموا شط العرب بينهم بالسوية. ولكن الاتفاق لم يساوي الحبر الذي كتب فيه. وفي سبتمبر من عام 1980 م زحفت 11 فرقة عسكرية إلى إيران من أصل 12 فرقة يملكها العراق على أمل أن يصبح بطل الأمة العربية ولكنه كتب الآن في الأذلين ويوم القيامة هو من المقبوحين.
وعندما دعا محمد علي باشا المماليك إلى سهرة عائلية لم يرجع منهم أحد إلى عائلته. وعندما زحف أبو ليث الصفار باتجاه بغداد وكان زعيم العيارين في خراسان قيل له اتق الله في بيعة الخليفة فنادى أحد أصحابه الأشقياء فقال هات لنا عهد الخليفة نقرأه على الناس فأحضر له سيفا ملفوفا بخرقة فأشهره ثم صاح هذا ما أجلس الخليفة في بغداد على عرش الخلافة وهو الذي جعل مني سيد العيارين.
وفي عدن ذبح الرفاق الرفاق في اجتماع حزبي ومن تبقى خرج يزحف كالسلحفاة. وفي بغداد قتل صدام كل القيادة الحزبية من الرفاق المناضلين مصورا بشريط فيديو مثل حفلات أعياد ميلاده.
وعندما اجتمع صدام مع الملا مصطفى البرازاني لحل الخلافات نشبت المعركة في نفس الغرفة بالقنابل والسكاكين ونجا البرازاني بأعجوبة. ولم تجتمع قريش في تاريخها إلا لقتل النبي ولم تحصل وحدة عربية إلا في معركة الخندق لإبادة الإسلام وأهله. ويقول (ابن خلدون) في المقدمة أن الخراب يسرع إلى الأمصار إذا وضعت العرب يدها عليها. وهو حكم لا يخلو من عنصرية ولكن الرجل عالم اجتماع يجب الاستماع لرأيه لماذا؟
واليوم يدعو حاكم عربي صدام إلى الاستقالة ولكن يجب أن يطبق الآية القرآنية أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم فيجب أن يستقيل حكام العرب أجمعون. ولكن الاستقالة تعني كامل الفوضى فيما لو طبقت ولن تقع. ومنذ العصر العباسي وصل الفقهاء إلى مخرج للأزمة السياسية فقالوا حلال على الشاطر فمن يستطيع التغلب وقهر العباد ركب على ظهرهم حتى يأتي من يتغلب اكثر بعصبية أشد بأسا وأشد تنكيلا. وهو نفس الكلام الذي كرره عزيز في العراق: نحن قوم ثوريون وصلنا إلى الحكم بالدبابة والبندقية فمن يريد أن يجرب حظه فليتفضل.
وحاصل هذا الكلام أن الانتخابات مهزلة. وأن المجالس نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد. وأن القواعد توضع لخرق القواعد. وأن الاجتماعات تستخدم لمنع أي تجمع. وأن المؤتمرات تعقد للتآمر. وأن توظيف النصوص لحل المشاكل لا يقترب إلا بعداً عنها. وأننا أمة أمية نخضع للسيف ونعبد القوة. وأننا في زمن التيه التاريخي. وإذا أراد الله بقوم سوءً فلا مرد له ومالهم من الله من وال.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا
النقد الذاتي والنقد السياسي
في مارس من عام 2003م انعقد مؤتمر القمة الإسلامي فقام أعضاء من الوفدين العراقي والكويتي بتوجيه اللوم للآخر بجارح من القول وبذيء العبارات. وتمنيت أن يقوم عزت الكيمياوي من الطرف العراقي عندما هاجمه الكويتي فيقول: إنني أعذر أخي الكويتي فقد سببنا لهم من الألم الشيء الكثير ويا إخوان كلنا مخطئون. وكلنا شارك في هذه المأساة بقدر. وليس لي إلا أن أقول ما قاله آدم من قبل: "ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحما لنكونن من الخاسرين". ويا أصحابي كلنا مستهدفون. وهلموا إلى جلسة اعتراف ونقد ذاتي وتوبة.
لو قال هذا الطرف العراقي لصفقت له القاعة. ولسكت الجميع لأن الكل يعرف أن الكل مشارك في الجريمة بقدر. ولوضع الجميع أقدامهم في طريق الحل الصحيح.
وفي يوم كنت معتقلاً فلما أُفرج عني سألني أحد رجال المخابرات فقال يا أستاذ ما رأيك في مهنتنا؟ قلت: قد حكم الله فيكم. نظر إلي مرتاعاً وهتف: الله تكلم عن المخابرات؟ قلت له نعم. فقد جاء في سورة القصص أن "فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين"
وعندما تحدث القرآن عن الصدع المخيف في المجتمع الإسلامي عند حادثة الإفك قال "لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم ". وأرجع المشكلة إلى عدم وجود ما يكفي من حاسة النقد الذاتي لتعطيل أثر الاتهامات"وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم".
وعندما كان النازيون يحاكمون في نورمبرغ عام 1945م كانوا يرددون جملة بلهاء جوفاء حمقاء" كانت الأوامر ولم يكن علينا سوى التنفيذ" ولكن صدام لم يحرق الأكراد بالكيماوي بيده بل بإيعاز إلى عزت الكيمياوي. كما أن الأخير لم يرش الـ د.د.ت على الذباب البشري بيده بل قام بالمهمة شباب عراقيون مغفلون تلقوا الأوامر فنفذوها وأنهوا حياة الآلاف بأشنع ميتة ممكنة. وصدام ليس المجرم الوحيد فأمثاله لا يحصيهم عدد ولا يضمهم كتاب وجرائمهم أكثر من أن تحصى. وفي خزانة أمريكا من الوثائق لإدانة الكثير من حكام العالم العربي في ساعة الفصل. ويل يومئذ للمكذبين.
ولكن صدام هذه الأيام مستباح الدم. ونحن نكتب ليس لأننا جريئون. كما أن الصحافة تنشر ليس لأنها حرة. ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها. وعلى الكاتب أن ينير القاريء ولو بعد حين.
وهذا المرض ليس عراقيا كما أنه ليس مرض صدام. ونخطيء كثيراً حينما نركض خلف البعوضة وننسى المستنقع. ونتذكر الاستعمار ولا نتفطن إلى القابلية للاستعمار .
وتحرير هذه المسألة على هذا النحو مريح وتجعلنا نتأمل المشكلة في جذورها فتخف حدة غضبنا وكراهيتنا لحكام المنطقة.
وحسب (الكواكبي) في كتابه (طبائع الاستبداد) أنه لا حاجة لإزالة الطاغية بل فرملته وتقليم أظفاره وتعليمه أن لا يتجاوز حدوده.
والتاريخ يعطينا نماذج لا نهائية لهذه الحماقة الإنسانية. فاليهود والنصارى اختلفوا وكل نعت الآخر أنه ليس على شيء "وهم يتلون الكتاب" ويرجع القرآن المرض إلى تشابه الثقافة "تشابهت قلوبهم" كما هو الحال مع الفريق العراقي والكويتي وآخر من شكله أزواج.
وينطبق هذا القانون على السياسة لأن من يصنع السياسة نفوس بشرية مركبة في الأصل على الاختلاف والتحيز. وكل منا متحيز ومتعصب بقدر. وقد يكون أقلنا تحيزا من ينتبه إلى هذا القانون ويفرض في نفسه أنه متحيز. ولو فعل هذا حكام العرب لبدأوا في طريق الحل. ولكن لا أحد ينظر إلى المشكلة كما نظر آدم وحواء فقالوا "ربنا إننا ظلمنا أنفسنا" بل يسلكون سبيل الشيطان وساء قرينا فيقولوا نحن لم نخطيء ولكن الطرف الآخر مخطيء ومتآمر وعميل. ولكن كل منا مخطيء ومتآمر وعميل بقدر وحسب زاوية الرؤية.
وأنا شخصياً أنظر إلى موضوع العمالة وفق تحليل خاص. ولعل أفضل ما قرأت لفؤاد زكريا في كتابه (العقل العربي) في فك أسطورة الحاكم والأتباع أنه لا يوجد حاكم عميل. وإذا كان عميلاً لأحد فهو عميل لكرسيه الذي يجلس عليه. وأن الحكام ليسوا مثل البيدق على لوحة الشطرنج أو العبد الذي يؤمر فيطيع حتى لو كان من نموذج نرويجا طاغية باناما الذي صنعه بوش الأب على عينه فهو يكرر قصة فرانكنشتاين الذي تمرد على من صنعوه.
وعندما يجتمع المختلفون ويحاولون توظيف الله والنصوص المقدسة كل لصالحه فهم لا يحصدون إلا العداوة المريرة. وتعطيل أي اجتماع لاحق. وهو الحاصل من اجتماعات العرب والمسلمين.
ولكن هذا ليس مرضاً خاصاً في المسلمين أو العرب بل هو مرض إنساني عام. وفي حرب الأرمادا 1588م أرادت إسبانيا تحويل بريطانيا بالقوة إلى الكثلكة فهلك الأسطول الذي لا يقهر وعندما وصلت الأنباء إلى الملك فيليب تعجب من الهزيمة مع أنه كان سينشر (الشرع الحنيف).
وفي مؤتمر الدرعية الذي عقد 1816 م ذبح إبراهيم باشا 500 من علماء الوهابية في صحن المسجد ودفنهم في مقبرة جماعية وهو يظن أنه طهر الأرض من المارقين.
وعندما اختلف تروتسكي مع ستالين انتهت حياته ببلطة فلقت رأسه نصفين.
وحزب البعث بجناحيه حصلت بينهما من العداوة ما لم يحصل بين العرب واليهود مع أن الاثنين توأمان من رحم واحدة.
وفي عام 1139 م اجتمع في روما ألف عالم مسيحي من كل أصقاع المملكة المسيحية لفك الاشتباك بين الكنيسة الشرقية والغربية وجمع شمل المسيحيين حول مسألة نظرية لا قيمة لها هي: "هل الروح القدس انبثق من الآب والأبن أم من الآب فقط؟ ولكن المؤتمر فشل وبقي الصدع حتى اليوم.
وعندما اختلف الإخوان المسلمون مع البعثيين في سوريا لجأوا للبعثيين العراقيين. كذلك فعل حزب الدعوة الإسلامي الذي قاتل البعثيين العراقيين وقفز إلى حضن البعثيين السوريين. ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
وعند الصراع يرى كل طرف أنه لو تعامل مع الشيطان فلا جناح عليه. ولكن مشكلة الشيطان أن حزبه من الشياطين. وهكذا فصراع السياسيين هو صراع الشياطين ونار تأكل بعضها البعض لو كانوا يعلمون.
واليوم في ظلمات العصر السياسي العربي يجب تأمل المسألة بعيدا عن الأخلاق وتعاليم الأنبياء لأن هذا يحتاج إلى طاقة صعود أخلاقية غير موجودة ويفتقدها السياسيون كما ينقص الأكسجين في الارتفاعات. ويجب أن يلجأوا لحكمة الجرذ والسنور من أحل البقاء.
وتقول الحكاية أن العداوة كانت مستفحلة بين الاثنين كما هي الآن بين العرب في غابة العربان وغيلانها من الديكتاتوريين.
وفي يوم خرج الجرذ يبحث عن طعامه وهو في غاية الحذر من جاره السنور الذي لا يأمن بوائقه فأبصر عدوين بدل واحد. بوم على شجرة يتأهب للانقضاض عليه. وابن آوى يتربص به ريب المنون. ولكنه فوجيء بالسنور عدوه قد سقط في حبال صياد. قال لعلك فرحت بحالتي؟ قال له: أنا وأنت في الهم سواء. فلنتعاون فننجو جميعاً. فاطرد عني ابن آوى والبوم وأنا أقرض لك الحبال فتنجو معا. ثم إن السنور أطلق أصواتا أفزع بها البوم فطار وهرب ابن آوى فاختفى. وكان الجرذ أثناء هذا منهمك في قرض الحبال فلم يبق سوى عقدتين فوقف. فالتفت إليه السنور فزعاً وقال أهي خيانة؟ قال لا ولكن تركتهما أماناً لنفسي فإن جاء الصياد قطعتها وانشغلت أنت عني بالصياد فنجونا جميعاً. وبعد قليل وصل الصياد فقطع الجرذ آخر الحبال وقفز السنور وانزوى الجرذ في جحره أمام دهشة الصياد.
والعرب اليوم عليهم أن يستفيدوا من هذه الحكمة أكثر من الأخلاق المزعومة والدين المشترك ولغة الضاد التي لا تجمعهم.
الانقلابات والديكتاتوريات والمخابرات
هل يمكن بناء سياسة بأخلاق؟
يعتبر (جيرالد بوست) خبيرا في دراسة (الغيلان) البشرية وقد قدم دراسته عن العديد من هذه الكائنات الشاذة من الجنس البشري إلى البيت الأبيض. ومنهم صدام الذي صدم العرب قبل أربعين سنة في مجموعة حوادث تذكر بمرض التعظم في المشوهين. فهذا المرض يفرض على صاحبه مع كل إصابة أن لا يترمم بل يتحول إلى عظم لينقلب في النهاية إلى تمثال حي متيبس الأطراف. والعالم العربي أصيب بوباء الانقلابات الثورية والديكتاتورية أوصلته إلى حالة الكساح الكامل على شكل أنظمة منقرضة في متحف حي يتجول فيه أشباح من البؤساء.
يصف بوست صدام بأنه عديم الرحمة والضمير. وبأنه فنان في لعبة البقاء فوق الجثث. وأنه يحسب ويقتل ببرود. وأنه خطير إذا حوصر. وبأنه طاغية ليس كالطغاة فطبيعة البيئة العربية تشجع نمو أنواع خطيرة من الجراثيم لا ينفع معها أي صاد حيوي سوى الحرق الكامل والشامل مثل فيروس الإيبولا. وهي المعالجة الأمريكية المقترحة لديكتاتوريات العالم العربي على أساس أنها حالة إيبولا سياسية.
قبل أربعين سنة وفي مطلع الربيع لعلع البلاغ رقم واحد صباحاً وكنا نسمع الراديو وظننا أنه حدث عابر وسحابة صيف ولم يكن يخطر في بالنا أن حوت المخابرات سيلتقمنا في بطنه إلى يوم يبعثون. وبدأ سفر الخروج منذ ذلك اليوم. والعالم العربي مشغول بعبادة الوثنيين ونحن نتأمل ونتألم. وسبحان مجري السحاب وهازم الأحزاب.
لقد كنت يوما في حارة عتيقة في دمشق فدخلت مسجداً أصلي ففوجئت بقبر فيه كان لأم صلاح الدين الأيوبي ولكن المفاجأة الحقيقية كانت خارج المسجد حيث وقعت عيني على أثر تاريخي للأمراء الأيوبيين وقد تحول إلى مبولة فكل من احتقنت مثانته جاء فبال هناك. وقلت لو لم يكن قبر الخاتون في الداخل لأصبح أكثر من مبولة. فهذه هي مصائر الجبارين.
وما حدث حتى الآن هو استعمار داخلي حالك وهلاك مروع لعشرات الآلاف من الناس وذل مقيم وفقر مدقع ونهب منظم للبلد واعتقالات لا نهاية لها وفروع أمنية نمت بأشد من الديناصور اللاحم وهرب الكفاءات وانهيار العملة بأشد من انهيار سد الزيزون. وألبس الله أهل هذه القرية لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وجعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سموم المخابرات. فيها يحكم الفرقة العسكرية ضابط صغير (موثوق) في إمرة جنرال (عنين) مذكراً بظاهرة السرطان. تزحف فيها الخلايا من أمكنتها إلى أمكنة أخرى بالانتشار. فخلايا الكولونات تترك مكانها لتصبح في الدماغ. ومثلها أوضاع العالم العربي فمن كانت مهمته الحراسة يصبح سجاناً. ومن كانت مهمته الخدمة تحول إلى قائد لامع. ومن كانت مهمته الحماية تحول إلى لص شريف بدون شرف.
إن اللغة لها سحرها في الهروب من الواقع تحت غبار كثيف من الألفاظ. وهكذا "فالحاكم المتسلط يصبح قائداً شعبياً. وعصابات القتلة تصبح قوات وطنية والحزب الطائفي يصبح حزب الله والفقيه الجاهل يصبح عالماً في الدين والإدارة البوليسية تصبح حكومة رشيدة". وكما يقول النيهوم إن كل ما أفسده الدهر يصلحه العطار بكلمة منه.
وجاء الثوريون تحت دعوى التخلص من الأنظمة الرجعية ومن أجل إعادة فلسطين وشعارات براقة. فأصبحوا رجعيون اكثر من الرجعيين. ورجالات الحزب تحولوا إلى إقطاعيين جدد. في قبضة أحدهم مسدس روسي وتحته سيارة مرسيدس ألمانية وفي يده كابل صيني فتارة به يضرب وتارة بالكهرباء يلسعون. وقضية فلسطين تحولت إلى استجداء سلام ممن ليس عندهم سلام. وتحت كلمة الأمن نشروا الرعب وجعلوا للأمن تسعة عشر جهاز أمن كل يغتصب المواطن بطريقته. وتحت دعوى الحرية قتلوا الحريات وأسسوا الاستبداد بأشجار تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وتحت مسمى الاشتراكية اشترك الناس في جهنم السياسية فإنهم يومئذ في العذاب (مشتركون). وبحجة فلسطين انقلبت الجمهوريات إلى ملكيات. وتحت الوحدة ترسخت الطائفية وتحول القطر الواحد إلى أقطار. والعراق اليوم أصبح ثلاث وقد يصبح خمس عشرة كما تحولت الصومال تحت حكم زياد البربري إلى دويلات. وعندما تتفسخ الجثة فإن مسلسل الانشطار لا نهاية له إلا في مستوى البناء الذري لو كانوا يعلمون.
ونظام الحكم في دول الانقلابات كائن عجيب يذكر بقصة فراكنشتاين الذي جمع طبيبه جسدا على كرسيه ثم أناب. فهو يتكون من دماغ من عائلة الحاكم وقلب طائفي من آل بيته وقريته وعمود فقري من ضباط عشيرته وطائفته الذين يمسكون بكل المفاتيح الحساسة والفرق العسكرية و19 جهاز أمني يحس بدبيب كل نملة وطنين كل نحلة. وأما العضلات والعظام فهي من أولاد الأقليات. وأما الحشى فهي من بورجوازية المدن المنحلة التي تتعايش مع النظام على طريقة المغني صباح فخري الحلبي "طعماني وطعميتو" وأما الجلد الذي يغلف هذا الكائن الأسطوري فهو الحزب القائد.
وهو كما نرى يتكون من مجموعة متنافرة من الأعضاء في جسد كله ذي عوج.
والآن وبعد مرور أربعين سنة يشعر أن الإنسان أن الجبار نجح في تخليد اسمه على نحو ما كما فعل من قبل هتلر وتيمورلنك وكل السفاحين مقروناً بالرعب والمخابرات والقتل والتهام الجيران والهزائم العسكرية والفوضى الطائفية وتدمير البنية التحيتة وتحويل البلد كله إلى سجن كبير يضم مواطناً مسكينا ويتيما وأسيرا.
هذا الجبار حكم البلد كما وصفه الكاتب الألماني (بيير مان) بدون ضمير ورحمة الانقلابي المدرب قاتل المواطنين ناشر وباء الطائفية استطاع أن يضع البلد لمدة أربعة عقود في براد مثلج في سيبريا شرق أوسطية. ذكرى للغافلين والنائمين في أي غابة يعيشون.
إن الألم له فلسفة فهو يطهر. والمعاناة تفتح العيون على واقع ليس فيه راحة. وكما يقول الفيلسوف (كافكا) في قصته (التحول) أن المواطن ينام ليستيقظ فيجد نفسه قد أصبح خنفسة. وإن المواطن الذي يدخل المعتقل ليس كمن خرج. وكتبت يوما على زنزانتي الإفرادية "ليس من دخل السجن كمن خرج. ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق".
ومن يعيش في السجن الكبير يجب أن يستوعب حقيقة أن المواطن (تحول) إلى (نبات) وعليه أن يفتح كتاب النبات فيدرس وظائف الأعشاب البرية ويحفظها جيدا. فالنبات لا يقرأ وعلى المواطن (الصالح) أن لا يقرأ إلا ضمن ما يقرأه له الحزب والقائد. ومن دخل الأرض المحرمة ففتح الانترنيت على المواقع المحرمة فقد أكل من الشجرة المحرمة ويجب أن يطرد من جنة دولة المخابرات مذؤوماً مدحورا. متهما بثلاث: دخول الأرض الحرام وترويج الأفكار مثل المخدرات وإنشاء تنظيم سري يوزع المنشورات على شاشة الانترنيت.
إن لكل أمة ذكرى حزينة مغموسة بالدموع فالشيعة يجلدون أنفسهم في ذكرى قطع رأس الحسين. واليهود يتذكرون سبي بابل ومذبحة الماسادا ونكبة القدس عام 70 م على يد تيطس الروماني الذي هدم المعبد. ويحتفل الصرب بالشموع عند أمسل فيلد ويبكون. ويشعل أهل المغرب الشموع عند سجن تزما مارت ليتذكروا أولئك الذين ماتوا ألف موتة قبل الموت. وهكذا يجب أن يفعل أهل كل بلد فيجتمعوا كل سنة في يوم الحزن الأعظم حين تمر الذكرى المشئومة ليوم الانقلاب الذي قلب حياتنا إلى محزنة وحريتنا استبدادا وبلدنا إلى مقبرة ونور عيوننا إلى ظلام.
إنه انقلاب قلبنا فأصبحنا نمشي على رؤوسنا. ومن يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معاً.
هل نعلم لماذا يرحب الكثير من العراقيين بقدوم الأمريكان؟
تحرير العراق أم استعماره؟
(قصة الحرامية والحبابين)
سوف يسجل التاريخ يوم 20 مارس عام 2003م أنه أحد أيام الجنون العالمي. لأن كل حرب هي إعلان لإفلاس أخلاقي. كما يفعل الطبيب الفاشل فبدلاً من معالجة المريض يلجأ إلى قتله. ولكن قبل تفكيك ظاهرة الحرب سأروي لكم محادثة أجراها حفيدي إلياس مع أمه حتى نستوعب لماذا يعاقبنا التاريخ على هذه الصورة؟
إلياس البالغ من العمر أربع سنوات سمع عن اعتقال (عبود)، أحد أقرباء العائلة، في بلد (ثوري) عربي وإيداعه السجن بسبب أنه دخل الأرض المحرمة فأكل من الشجرة المحرمة وفتح موقعاً محرماً على الانترينت فألقي القبض عليه وعلى سيارته وفاكسه وكمبيوتره ودخل في بطن حوت المخابرات لا أحد يتجرأ أن يسأل أين هو؟ وفي أي دولة من دول المخابرات التسعة عشر مصيره؟ سأل إلياس، وهو الكندي، والدته باستغراب:ولكن السجن (للحرامية) وعبود "حباب"، فلماذا وضعوه في السجن؟! فكرت أمه في كيفية شرح هذه المعضلة لطفل صغير يريد أن يفهم ما يجري حوله، فقالت له: ولكن يا إلياس هناك دول يتحكم فيها الحرامية بالأمور، فيضعون "الحبابين" السجون. وهناك دول يتحكم بها الحبابون فيضعون "الحرامية" في السجون؟ سكت إلياس قليلا في معادلة صعبة الحل وسأل من جديد؟ ونحن هنا في كندا، من يذهب إلى السجن، الحبابون أم الحرامية؟ قالت له أمه مطمئنة: هنا في كندا الحرامية هم الذين يوضعون في السجون لأن كندا فيها ديموقراطية. أصغى الطفل وبدأت الأشياء تدور في ذهنه واستوعب من خلال قصة (الحرامية) الموضوع على نحو أفضل.
وشاهدي من هذه القصة أن دول الحرامية كثيرة في العالم العربي بدون شرطي. ومشكلة الشعب العراقي أنه مرتهن بين اثنين في ساحة يتم فيها تبادل النار. مثل أي طائرة مخطوفة بين مجرمين مسلحين وشرطة مسلحة ومن يدفع الثمن هم المرتهنون. والعالم العربي في كثير من دوله طائرات مخطوفة بيد مجرمين مدربين. وما يحكم في العالم العربي ليس الدستور (المكتوب) بل دستور المخابرات (غير المكتوب). والحياة لا تأبه بالمكتوب بل تتعامل مع القانون الفعلي الذي يسود البلد. وينص على سبع فقرات مثل أبواب جهنم السبعة:
(1) الفقرة الأولى اعتماد الكذب هادياً ودليلاً. ويجب أن يكذب أحدهم ولو لم تكن هناك حاجة للكذب. فالكذب يشكل أحد مكونات الدم عندهم فهم يستنشقون ويزفرون كذبا.
(2) لا ضمانة لأي إنسان في أي زمان ومكان. ويعني استباحة المواطن في كل شيء حتى يرى المواطن المخابرات في المنام ويشعر بهم ولو هاجر إلى كندا واختفى في غابات يوكوتان.
(3) استخدام أي أسلوب للوصول إلى المعلومة ولو لم تبق معلومة. وتطبيق مبدأ (الحلاوة والكرباج). وأي أسلوب مبرر. وكل حديث عن القيم ليس بقيمة. وكل المحرمات مسوغة.
(4) الشك والشك بدون حدود. وفي يوم قال ضابط أمني لواحد هل تعلم لماذا ضحك عليكم فلان وكان تاجرا جمع أموال الناس بدعوى الربح السريع الوفير. قال: لأنكم تثقون ونحن لا نثق بأحد.
(5) مسك الناس بقانون الرعب فيجب الضرب ونشر أخبار الضرب وبكل سبيل. واعتماد (التنفيس) فيسمح بالمسلسلات المضحكة وانتخابات مزيفة لصناعة مجالس قرود يمكن أن تغير الدساتير في اللحظة الحرجة .
(6) الوصول بالمواطن إلى (التوبة النصوح) وأن يفتح كتاب (النبات) ويدرس (وظائف) النبات فيكون النبات له قدوة. وعلى المواطن (الصالح) أن لا يفكر لأن التفكير خطير ومصيره أقبية المخابرات يرفس ويشتم بالغدو والآصال.
(7) قانون التنين: أي خلق كائن أسطوري له تسعة عشر رأسا. وفي مونتريال في كندا كان أستاذ العلوم السياسية يشرح للطلبة هذا القانون وهو أن رئيس العصابة يسخر الفروع الأمنية أن تعمل بشكل غير مركزي. وتتنافس فيما بينها. ولا يوجد تقاطع في المعلومات. وكل يعمل بذراعه ورجله ومسدسه. وأن نسبة القتل يجب أن لا تزيد عن 6%. وأنه مسموح لهم باعتقال من يشاؤون بالكمية التي يرغبون ولكن إطلاق عصفور تتم بيده ومذيلة بتوقيعه. وبذلك يتحول البلد الواحد إلى 19 دولة وينقلب الوضع إلى قبائل أمنية مضاربها كل البلد وشيخها يمسك أي مواطن في أي لحظة فيفعل به ما يشاء. عندما سمع الطلبة الكنديون ذلك فتحوا فاههم من الدهشة ولم يعقبوا.
والآن كيف يمكن فهم الحرب الطاحنة في العراق هل هي (تحرير) أم (استعمار)؟ هي في الواقع الاثنين معاً: تحرير من الاستعمار البعثي والحكم العائلي الإقطاعي. وهو استعمار جديد و(سايكس بيكو) جديدة للمنطقة. والأنظمة المجاورة التي ترتعش تفعل ذلك لأن النسر الأمريكي يحلق في الفضاء يبحث عن فرائس أخرى. وهي سوف تطلق سراح معتقلي الرأي بدعوى الوطنية والصف الداخلي ومنهم (عبود) الحباب؟! ومن سيكسر ذراعهم هي هراوة بوش التي تئز فوق رأسهم أزا. ألم تر أنا أرسلنا (الشياطين) على (الكافرين) تؤزهم أزرا؟ ونحن غير فرحين بقدوم الأمريكيين كما أننا لسنا حزينين على مجرمي حلبجة والأنفال. وكذلك نولي بعض الظالمين بما كانوا يكسبون. وعندما يتحول صدام وأشباه صدام إلى رماد وحطام فلن تبكي عليهم أرض أو سماء. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.
اقتربت ساعات صدام الأخيرة وليس الوحيد في غاب العربان. وإزالة صدام هو الفصل السهل في المسرحية ولكن التحدي هو ما بعد صدام. وأقول للمعارضة عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون.
إن الأمم كما يقول المؤرخ البريطاني (جون آرنولد توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ) تواجه حالة إخفاق تقرير المصير بثلاث مخارج:
(1) الأول ليس بمخرج وهو الدخول في حالة تحنط كما حصل للبدو والاسكيمو واليهود في التاريخ فتحافظ على الشكل وينتهي الدور التاريخي.
(2) وإما ولادة روح جديدة بتعبير الفيلسوف الألماني (أوسفالد شبنجلر) فتتجدد الأمم بقيم جديدة وبولادة عسيرة من رحم التاريخ.
(3) وإما أن تجتاحها غيلان التاريخ بقوى خارجية بعد أن عجزت عن الولادة الداخلية. وفي الأمثال العامية اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمي. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون. وكأن قدر الله يمضي على نحو خفي فعندما عجزت الشعوب عن تغيير وضعها داخليا جرفتها قوى التاريخ فجاءت الغيلان الأمريكية تنتزع السرطان البعثي بجراحة جدا دموية.
وأنا شخصيا لم يعد يهمني الحديث كثيرا عن الصهيونية ففي داخلنا ما هو العن من الصهيونية ويجب أن نلتفت إلى فهم عللنا الداخلية.
مع هذا فهناك ثلاث قوانين أساسية في الحرب يقول الأول: تستطيع أن تبدأ في الحرب ولكن نهايتها لا يعلم بها أحد إلا الله ثقلت في السموات والأرض. ويقول الثاني أن الحرب لا تحل مشاكل بل تخلق مشاكل. وما سيواجه الجنرال تومي فرانكس هو ما واجه الجنرال مود عام 1917م فيستقبل أولاً بالورود لمدة ثمان وأربعين ساعة أو ثمان وأربعين يوماً ثم بالرصاص ما لم يحسنوا السيرة كما فعلوا مع كوريا الجنوبية وألمانيا الغربية. فالشعوب لا تأبه كثيرا بشكل الحاكم بقدر عدله. والاستعمار هو واحد بعثيا كان أم صهيونيا أم أمريكيا. والقانون الثالث هو كما في المثل: حساب (الجرايا ما يزبط مع حساب السرايا). بمعنى أن كل شيء متوقع وممكن في الحرب. ونحن نعلم أن الحرب تعني التكنولوجيا وأن لا طاقة للعراق بأمريكا. وأن أمريكا صنعت فرانكنشتاين وتدمره الآن. مع هذا فلعل أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث أن يبقى صدام في مكانه ويتحول إلى بطل جماهيري ويعيش فرانكنشتاين حقاً وليس خيالاً وهو يفتل شواربه الستالينية وينفث دخان سيكاره الكوبي وتقفز له الأمساخ تهتف بالدم بالروح نفديك يا صدام؟
نعي أمريكا
ونهاية الديكتاتوريات العربية
في عام 1976 م خرج المؤرخ الفرنسي (ايمانويل تود Emmanuel Todd) على الناس بكتاب مثير يحمل عنوان (ما قبل السقوط) يتنبأ فيه بسقوط الاتحاد السوفيتي. وهو الآن يفاجئنا بكتاب جديد يحمل (نعوة القوة العالمية الأمريكية)؟!. وهو أمر حاصل بغض النظر عن مصير طاغية دجلة.
وفي المقابلة التي أجرتها معه مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 12 \2003 قال إن أمريكا تعاني من كل (الأعراض الوصفية) التي تسم مرض انحدار القوى العظمى. فأمريكا يحصل فيها تحلل داخلي ولا ينتخب معظم الناس وتحكمها تدريجياً قوة أولغاريكية عسكرية.
والذي يرى ظواهر الأمور في صراع ربيع عام 2003م فإنه يشبه جوليفر في جزيرة الأقزام (ليلي بوت) كما وصفت مجلة در شبيجل الألمانية حرب أمريكا على العراق. فهي العملاق الاقتصادي الأعظم في العالم ومقابل 4,5% من سكان العالم فهي تنتج 31% من الاقتصاد العالمي. والإنتاج السنوي لها يبلغ 10455,6 مليار دولار. وهي تضم 290 مليون نسمة في أرض تتمتع بكل المناخات في خمسين ولاية من المحيط إلى المحيط. ومنها ينال جوائز نوبل أكبر عدد من العلماء. وهي تملك أعظم ترسانة أسلحة لم يحلم بها زيوس رئيس آلهة الأولمب أيام أثينا. ولو رجع الأمر إلى القوة المطلقة لمسحت أمريكا العراق في ثلاث ساعات بكل سكانه ولكن معادلة التاريخ اليوم غير أيام تيمورلنك ونيرون. وهذا الذي ينقذ رقبة صدام اليوم. واليوم عنده ما هو أشد من أسلحة الدمار الشامل من المظاهرات العالمية والاعتراض على الحرب ومحور السلام الجديد الأوربي في حقبة جديدة يدخلها الجنس البشري.
وفي التحليل الذي نشره (ايريش فولات Erich Follath) و (جيرهارد شبورل Gerhard Spoerl) في مجلة الشبيجل الألمانية 12\2003م فأن العجز الاقتصادي في أمريكا سيرتفع في العشر السنوات القادمة من 500 مليار حالياً إلى 1.8 بليون دولار وهو ما يذكر بصيحة الفزع التي أطلقها قبل عدة سنوات كل من (هاري فيجي Harry E.Figgie) و(جيرالد سوانسون Gerald .Swanson) في كتابهما (الإفلاس الأمريكي The Coming Collapse of America and how to Stope It?) حيث تنبأ منذ عام 1995 أن العجز الأمريكي في طريقه إلى أن يأخذ مخطط (عصا الهوكي) بمقدار 13 تريليون دولار بعجز يفوق طاقة أي أمة.
هل نحن شهود تراجع أعظم إمبراطورية عرفها الجنس البشري حتى الآن لتصبح دولة من الدرجة الثانية كما يتنبأ لها بذلك المؤرخ الأمريكي باول كينيدي؟ بأن كل القوى العظمى في القرون الخمسة الفارطة أصيبت بنفس المرض ودلفت إلى القبر بنفس العلة وهي ظاهرة (فرط التمدد الاستعماري Exapansion ). فلم يمر على أمريكا وقت كما هو حالياً تقاتل في كل جبهات الأرض بنفس الوقت وتضع نفقات للتسلح والحروب يتجاوز مجموع العشر دول التالية لها في النفقات. فهي تدفع 329.1 مليار دولار لآلة الحرب مقابل روسيا 65 مليار والصين 47 واليابان 40.3 وبريطانيا 35.4 وفرنسا 33,6 وأقلهم ألمانيا وهي تنفق 27.5 مليار دولار. وهو ما يذكر بنموذج ( دولة آشور) التي ماتت (مختنقة في الدرع) على حد تعبير (توينبي) فأحد الكوارث العارمة التي أودت بأقوى دولة في غرب آسيا كانت حماقة الروح الحربية.
وانتبه المؤرخ البريطاني (توينبي) إلى هذا التحول في مصير الأقلية (المبدعة) التي تبني الحضارة حينما تندفع الأكثرية خلفها بآلية (المحاكاة) لتنقلب بعد حين إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بالإكراه و(الكرباج).
ويكشف (شينتارو أيشيهارا) في كتابه (اليابان تقول لأمريكا: لا ) عن سر هام في موضع التفوق العسكري أن (الهاي تيك) أي التكنولوجية العالية لم تعد تنتج في أمريكا وأن دقة تصويب الصواريخ الذكية تحتاج إلى ميكروشيبس يصنع في اليابان.
ويقول (روبرت غرين) في كتابه (قوانين القوة) تحت القانون 47 أن أخطر ما يواجه الإنسان "الغطرسة والثقة المفرطة وبالذهاب إلى أبعد مما ينبغي فيخلق أعداءً أكثر من الذين يمكن دحرهم" فلا تدع النجاح يدير رأسك. فهذا الضبط للنفس شبه إلهي. ولم يقتل الإمبراطوريات شيء مثل شهية التوسع.
ومما يرويه لنا التاريخ قصة قورش العظيم الذي فقد حكمته في آخر عمره فدمر تدميرا. فقد سطع نجمه عام 599 قبل الميلاد ثم مد نظره إلى قبائل (الماسا جيتاي) الهمجية عند بحر قزوين وهناك أرسلت له (توميريس) ملكة الماسا جيتاي رسالة تقول فيها "يا ملك الميديين أنصحك بالتخلي عن المشروع وليس عندي خزائن ولكنك بالطبع سترفض نصيحتي لأن آخر شيء تتمناه أن تعيش بسلام" ولكن قورش ضحك من قولها ودبر لهم مكيدة وقع فيها (سبارغا بيزيس) ابن الملكة في الأسر. فارسلت له الملكة تستعطفه أن يعيد لها ابنها وتعطيه ثلث الملكة ويرجع وإلا "فإنني اقسم بإله الشمس أن أعطيك دماً أكثر مما تستطيع شربه". فرفض. ولما أن شعر ابن الملكة أنه لن يطلق سراحه لم يطق الإذلال فقتل نفسه. وعندما علمت الملكة بموت ابنها علتها الأحزان وقاتلت قورش بيأس فهزمته وقتل قورش في المعركة فلما وجدت جثته قطعت رأسه ثم دسته في زق جلدي للشراب مملوء بالدم صائحة" انظر كيف انفذ تهديدي فلديك ما يشبعك من الدم".
ومن الغريب أن خطوط التماس كما يراها (توينبي) بين البرابرة والحضارات تميل لكفة البرابرة.
والتاريخ يقص علينا من نبأ الأولين وأن أمريكا لن تكون بدعاً من الأمم فقد هلكت قبلها أمم وانقرضت حضارات.
إن قانون موت الحضارات وانهيار القوى العظمى ينص عليه القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي صيغ لأول مرة عام 1829م على يد الفرنسي (سادي كارنو Sadi Carno) وهي تدعى في العمل الهندسي بالتآكل وفي البيولوجيا الشيخوخة وفي الكيمياء التحلل وفي علم الاجتماع الفساد وهي في التاريخ الانحطاط"
ونهاية أمريكا تعني نهاية الديكتاتوريات العربية فهي التي ساعدت في الانقلاب البعثي عام 1963م وأمريكا هي التي أمدته بالتكنولوجيا والخبرة العسكرية في أعلى المستويات في الحرب مع إيران بما فيها رش الكيمياوي على الذباب البشري في حلبجة والفاو. وهي التي خدعته عام 1990م عن طريق (ابريل جلاسبي) السفيرة في بغداد أن أمريكا ستكون على الحياد مع التهام الكويت فكانت قصته مثل الجرذ الذي بلع الجبنة المسمومة.
قد تحتل أمريكا العراق وتلتهم الأوبيك وتحتل أكثر من العراق وتسيطر على النفط وتتحكم في سعر البترول وتعيد رسم خريطة المنطقة كل ذلك وارد وأكثر منه ولكن سيحصل مع أمريكا ما هو معروف في علم الأمراض بتشكيل المضادات في الدم وتبدأ المقاومة وفي النهاية سترحل أمريكا وتبقى الدولة الصهيونية في فلسطين لوحدها مطوقة بحزمة من دول تطلب رأسها ويكرر التاريخ دورته كما في قصة صلاح الدين والصليبيين.
وتلك الأيام نداولها بين الناس. فيجب أن لا نحزن ونستبشر بقانون التاريخ الذي يمشي دوما باتجاه ما هو خير وأبقى.
عندما حصلت المواجهة بين المسيح وروما ان سؤال الحاكم الروماني ما هو الحق؟ كان جواب عيسى عليه السلام "مملكتي ليست من هذا العالم" وهي كلمة لا تحتاج لصقل أو شرح أو وتعليق فلا يوجد حل وسط بين كائن يستخدم شعوره الواعي وبين شعور واع يخضع له الكائن.
يقول شبنجلر: "وهذا هو المعنى النهائي لتلك اللحظة التي جعلت المسيح وبيلاطس يقفان وجها لوجه. ففي العالم الواحد تسبب العالم التاريخي الروماني بخاتمة للجليلي. وفي العالم الآخر كان محكوما على روما بالدمار والهلاك" وهذه كانت إرادة الله.
فلسفة الحرب
في عام 482 قبل الميلاد كتب هرقليطس فلسفته عن الحرب أنها (ربة الأشياء) فهي التي تفرق الآلهة عن البشر والفيصل بين الحرية والعبودية. والكون يقوم على الصراع والصيرورة. ولا يضع إنسان قدمه مرتين في نفس النهر. وفي هذا الوقت اندلعت ثورة في (بابل) ضد الملك الفارسي (اريوس الأول)فسحق الانتفاضة ومسح دولة بابل من التاريخ ودخل معبد إلههم (مردوخ) فدمره تدميرا.
وبعد مرور 25 قرناً تندلع الحرب على أرض (بابل) ولكن بفلسفة جديدة سوف يصاب هرقليطس بالدهشة لو بعث من مرقده فرآها. فلو أرادت أمريكا في حرب 2003م أن تحرق فرق الحرس الجمهوري حمورابي ونبوخذ نصر وكامل سكان العراق من الحلة وسماوة وحتى نينوى وخرمال وخلال ساعات وتحويل كل شيء إلى رماد نووي لفعلت ولكنها (لا تستطيع).
وهنا تحدث (مفارقة) عجيبة في تاريخ الجنس البشري أن من (يمتلك) قوة (لا يستطيع) استخدامها. وبعد أسبوعين من الحرب يتم الإعلان عن مقتل 250 مدني يعتذر عنهم في الوقت الذي قتلت قاذفات الحلفاء في مدينة درسدن الألمانية لوحدها في الحرب العالمية الثانية 200 ألف مدني بدون اعتذار.
وهذا اللون من (المفارقة) يسجل مرة أخرى أن (العلم) يمشي إلى الأمام باستخدام أحدث التقنيات. في حين أن (الحرب) تتراجع إلى التقنيات (المتخلفة) من الطاقة النارية. فلا تستطيع أن تستخدم الأسلحة الاستراتيجية كما فعل الطب والجراح الذي لا يستخدم جراحة المناظير يعد من المتخلفين أما الحرب فتبقى حبيسة الطاقة النارية بدون الإفلات منها.
والسبب في هذا (الفراق) بين (امتلاك القوة) و(عدم التمكن من استخدامها) يرجع إلى ثلاث أمور:
(1) الرأي العام العالمي بمن فيه الأمريكي الذي لا يسمح بإبادة شعب كامل بالسلاح النووي.
و(2) التقنيات الجديدة من تطور (الانفوميديا) اندماج المعلومات بالإعلام. ويمكن الآن رؤية ما يحدث داخل العراق على الرغم من أنف طاغية دجلة. ولم يعد ممكناً حصد عشرين ألف من سكان مدينة. أو رش الكيمياوي على الذباب البشري بدون أن يعرف الناس في كل مكان. ولو انتظرت المعارضة وتسلحت بالوعي التاريخي لسقطت تفاحة السلطة ناضجة بيدها. وهذا يشرح لماذا كان الوعي (مقدساً)؟
و(3) الأمر الثالث هو تشكل عقل جماعي إنساني فالناس تتظاهر في كل مكان في العالم. وتغني في سان باولو في البرازيل وتهتف في الساحة الحمراء وتينامينن. ويصرخ الممثل في حفل أوسكار ارجع إلى بيتك يابوش. ويقول الطفل في بريطانيا بوعي وإصرار نحن نخرج (ضد الحرب) وليس من اجل (صدام).
ولكن مشكلة إيقاف الحرب معناها المحافظة على إمبراطورية صدام قرناً آخر من الزمن كما حكم (هولاكو) العراق مائة عام باسم العائلة الأليخانية. كما أن استمرار الحرب إفلاس أخلاقي مثل الطبيب الذي يريد معالجة مريض اللويكيما بجراحة تقتله.
وأنا متيقن أن هناك من عصابة صدام من يقول له حاليا: أيها القائد المهيب افتح عينيك واعرف قدرك فأنت لم تعد زعيم الأمة العربية بل أصبحت زعيم العالم أجمعين. وهو الآن يفتل شواربه الستالينية وينفخ في سيكاره الكوبي الغليظ ويتأمل الأمساخ البشرية حوله تهتف بالروح بالدم نفديك يا صدام؟! ويهرع (المجاهدون) المغفلون ليدافعوا عن نظام ميت كما فعلوا من قبل في حرب أفغانستان عندما خاضوا حربا أمريكية بعباءة إسلامية. ويصدر الفتاوى الدينية فقهاء يأخذون رواتبهم من (الطاغوت) ينتمون إلى العصر المملوكي أيام السلطان (برقوق) أن القتال إلى جانب صدام جهاد في سبيل الله وبينهم وبين الجهاد مسافة سنة ضوئية.
إن (الرأي العام) الأمريكي لا يتحمل الخسارة الكثيرة في صفوف القوات الأمريكية. وكلمة (كثيرة) هنا ليست (58) ألف جندي يقتلون في خنادق الحرب العالمية الأولى بقيادة (كيتشنر) تحصدهم الرشاشات الألمانية في 12 ساعة ولا يعرف الرأي العام البريطاني عنها شيئاً فقد مضى ذلك الوقت واليوم يحاصر الرأي العام الجنرالات بالأسئلة المحرجة كيف تقتلون الأطفال؟ حدث هذه خطأ! كيف تقتلون المدنيين؟ نحن نأسف ونعزي الأهالي العراقيين!
إن مراهنة صدام على الرأي العام العالمي كبيرة فهي أثقل في الميزان من كل (خرافة) أسلحة الدمار الشامل التي كان يتلمظ لاقتنائها. وكان يمكن أن يخوض كل الحرب بدون حرب وسلاح. ولكن كيف يؤمن بالسلام من نشأ في صفوف البعث الفاشي وتدرب على القتل منذ نعومة أظفاره. وقتل وزير الصحة بيده عندما ورط وزراءه في سؤال: "أن الخميني عرض وقف الحرب مقابل أن أتنحى؟" فنصحه وزير الصحة أن يتنحى مؤقتا إلى حين زوال العاصفة فساقه بيده إلى غرفة جانبية فأسنده إلى الحائط وقتله بيده. وهو الذي صفى معظم الكادر الحزبي كله في حفلة إعدام جماعية بيد فريق منهم وهو يصورهم بالفيديو كما يصور حفلات ميلاده بكعكة وزنها ثلاث طن. وهو الذي قتل من الأكراد مائتي ألف تحت اسم سورة قرآنية (الأنفال) وهو الذي سمم الإيرانيين في الفاو بالغازات السامة وبتدخل أمريكي إلى جانبه تحت اسم جملة من المصحف الشريف ( العابدات القانتات).
إن كل القتل يأخذ مشروعيته من القرآن مثل مسجد الضرار الذي أمر الله نبيه بهدمه. واليوم يقوم المجرم باستخدام الورقة الدينية كما فعل (ستالين) في الحرب العالمية الثانية فأطلق أجراس الكنائس بعد أن شنق القسس وحول أماكن العبادة إلى أصطبلات. فهذا هو صدام الذي يهرع إليه (المجاهدون) وتطلق له (الفتاوى) ويبنى عرشه المثقفون والمحطات الفضائية.
إن كل ما أفسده الدهر يصلحه العطار (صدام) بكلمة.
ومن أعجب الأمور ظهور الجنرالات العراقيين وهم يؤمون المساجد ولم يعتادوا في حياتهم سوى عبادة الرئيس. أو أن يعتقد رجال حزب البعث بالبعث وهم لم يعتقدوا يوماً بالبعث. وكل تعاليم الحزب تنفي البعث والنشور. أو أنهم يعبدون الله وهم الذين نِشؤوا على عبادة الثالوث المقدس (الوحدة والحرية والاشتراكية) وهي في الواقع (الطائفية والاستبداد والفقر). أو أن توضع كلمة الله على العلم وليس هناك من إله سوى فرعون. مع ذلك فقد كتبت كلمة الله بهمزة (ألله؟) مما تفيد عكس معناها؟. والواقع لا يأبه للشعارات بل الحقائق.
ومن أجمل ما فعل التحالف مع دخول العراق في حرب 2003م أنه أزال رموز الوثنية عندما صادر التاريخ شخص باسمه فاستبدلوا اسم المطار (مطار صدام) باسم إنساني: "مطار بغداد الدولي" وحيثما دخلوا مزقوا صور الوثن وحطموا أصنامه.
وعندما تتهيب أمريكا من استخدام السلاح الذي ينهي الحرب في ساعات فإنه يحكي هذا التطور الخفي في استخدام القوة. وأن تغييرا (نوعياً) في (منظومة الحرب) قد حدث. وأن قوة جديدة برزت إلى الساحة ليست بالأسلحة بل بالكلمة خلال المظاهرات والمناقشات في المحطات الفضائية. وهو الذي يعيق تقدم القوات الأمريكية في العراق. فهذا الشيء الجديد القديم هو البزرة التي زرعها الأنبياء وبدأت تطلع من التربة في نبتة غضة طرية لم تستو على سوقها بعد وتشق طريقها بكل زخم الحياة.
واليوم لم يبق في العراق إلا أفعى الأناكوندا وأمساخ من البشر يصفقون وقرود تحتاج إلى إعادة تأهيل نفسي لردها إلى الحظيرة الإنسانية. وريح صرصر عاتية تحصد الناس. والمجتمع الذي يعيش في الديكتاتورية عقودا من الزمن تتيبس فيه المفاصل العقلية ويتوقف عنده الزمن ويصبح خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا وتقتل فيه الحياة قتلاً. وهنا تصبح عمليه إعادة تأهيله مشروعا مشكوكا في نجاحه. ومازالت ألمانيا الشرقية حتى اليوم مثل الطفل المعاق الذي يتأتأ في النطق. والهبل المنغولي ليس له علاج. وإزاحة صدام هي الفصل الأسهل من المسرحية. والتحدي الأكبر هو بعد الخلاص من فرعون وحزبه. وعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون.
الزلزال العراقي
ونهاية الأنظمة الشمولية العربية
فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد. يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود. وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود. ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد. إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.
إنني أتعجب من العقل العربي هذه الأيام ومن نوعية التحالفات التي تضم مزيجا يثير العجب والضحك بين المثقفين والفضائيات وصدام. فمن كان فيه بقية من ذكاء وعقل يقول إن صدام مختبيء في ملجأ سري وسيعود مقاتلاً فيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملأها الأمريكان جورا. مع ولديه الطاهرين طبعاً. والعراق بلد الأساطير فمنها نبعت أسطورة جلجميش. وفيها اختبأ الإمام في سرداب قبل ألف سنة وما زال الأتباع ينتظرونه ويدعون أن يعجل الله فرجه.
ولو ظهر صدام وبدأ بقتال الأمريكان فسوف يصبح بالتأكيد الإمام المهدي وينضم إليه (المجاهدون) المغفلون. وتصدر له الفتوى بأنه إمام الموحدين وسيد الغر المحجلين. وسوف تظهر الجماهير وهي تصفق بالدم بالروح نفديك يا صدام؟ ولسوف يفرح الكثير من مراسلو المحطات الفضائية العربية الذين أصابهم الكمد باختفاء النجم. فنطقوا بسقوط الصنم بحزن وهم يصلون. ونحوم من هذه النوع تسطع لأن العرب يعيشون في بهيم الليل. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت؟
فهذه العقول التي أشربت العجل في قلبها حقبة طويلة تحولت إلى كائنات ممسوخة تحت أرضية يبهرها شعاع الشمس كما جاء في قصة الكهف عند أفلاطون. فعندما خرج الرجل من الكهف فأبصر الحياة ورجع إلى قومه اتهم بالجنون.
ومنهم الذي كنت تظنه فيلسوفاً ينطق بالحكمة لتكتشف أن كل الحكمة تبخرت من أسطره ليرى أن إسرائيل هي سبب تخلفنا وهي التي أعاقت نمو الديموقراطية بين ظهراني العرب. مع أن إسرائيل تسبح في الديموقراطية؟إن الحقيقة موجعة ولا تقال. أو من يقول أن الاتحاد السوفيتي سقط لأن أمريكا استدرجت المعسكر الاشتراكي إلى التسلح فنزف حتى الموت وسقط. وينسى (دين الإكراه) الذي عاش الناس في ظله. وأن انهيار الاتحاد السوفيتي جاء من داخله قبل أن يكون هجوما خارجياً. وكما يقول (توينبي) عن علة انهيار الحضارات أنها تموت بالانتحار. كما ماتت دولة آشور (مختنفة في الدرع). وهي نفس الحجة التي رويت عن هزيمة هتلر في الجبهة الروسية بسبب البرد. وينسون أن الناس رحبت بالنازية أولاً لتندم على الستالينية فهي على الأقل تحافظ على حياتهم ولو كانوا خنازير؟ أما النازية ففرغت الأرض منهم ولم تبق عليهم. وهذا الذي حافظ على رقبة ستالين. وأعجب من أدلى بالحكمة هم (العسكريون) الذين طلبوا للإدلاء بآرائهم مثل النجار الذي يستفتى في علم الوراثة. فقالوا إن تبخر النظام (الستازي) الصدامي كان بسبب تفوق الآلة العسكرية الأمريكية وفاتهم أن الجيش تبخر بدون قتال. كما قال الشيطان لله أن سبب غلطه هو الله "بما أغويتني" وهي حجة مريحة للعرب أن يسبحوا في العاصفة حتى الغرق.
إنه مهرجان رائع للفكر العربي حيث تعرض بضائع فات وقتها. وهي لحظات مدمرة تظهر تفاهة العقل العربي على لسان حكمائه. وأنه لم يبق في أرض العرب مثقفون. والمحظوظ من استطاع متابعة الأخبار بثلاث لغات.
ومن أعجب الأمور الخفية في موت الأمم مرض (الوثنية) فترفع الصور وتنصب الأوثان. ونفهم لماذا هرب إبراهيم عليه السلام من العراق قديما ودعا الله أن يجنبه وبنيه أن يعبد الأصنام" إنهن أضللن كثيرا من الناس" ونحن نظن أن فرعون وحزبه في القرآن هو بيبي الثاني الذي حكم في الألف الثانية قبل الميلاد. ولا يخطر في بالنا أن يكون صدام وحزب البعث. الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد.
هذه الصور يرفعها اليوم الجميع من طهران إلى كردستان وحتى المحيط الأطلسي حتى لا يفوت الخير الجميع من الفرس و العربان والأكراد والتركمان. فمنهم من يرفع صور الإمام. ومنهم من يرفع صور البرزاني ومنهم من يرفع صور صدام ومنهم من يرفع صور بوش. وهي كلها حكاية عن اغتيال العقل وعودة الوثنية. ومتى غابت الفكرة بزغ الصنم. مع أن أرض العرب ـ نظريا ـ هي أرض التوحيد؟ ولم يحرم الإسلام الصور من فراغ.
إن (الشرك) مثل مرض القراد الذي يصيب النحل فيقطع أجنحته فلا يعرف الطيران وجني الرحيق. وهذا المرض يصيب كل الأمم ولتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لاتبعتموه.
ومن أعجب الأمور (الفتاوى الدينية) التي تدعو للجهاد في سبيل الطاغية. ونحن نعلم أن قصة عناق (الجبت والطاغوت) قديمة. ومنذ أيام سومر كان الكهنة يكتبون للحكام أنهم من نسل الإله ومن خرج عليهم فهو خارج على الملة والشريعة.
وفي يومٍ كان رجل يضرب بالحجارة في الطائف لأنه (مرتد) عن الملة حتى امتلأ حذاؤه بالدم واشفق عليه رجل من نينوى (الموصل) حاليا فقدم له عذقاً من عنب. وقال قد سبقك إلى هذا نبي الله يونس. والسؤال المزلزل هو لو كنا معاصرين للأحداث هل كنا سننصره أم سنكون مع الضاربين؟
إننا اليوم نصلي عليه أنه نبي الرحمة لأننا ولدنا في ثقافة لا تستطيع إلا أن تحترمه بعد أن رفع ذكرها في العالمين. ولكنه لم يكن كذلك في عيون المجتمع الميت وقتها. ونقل هذا التصور إلى مفاهيمنا الحالية أننا على دين آباءنا نحمل آصارهم والأغلال يجعل الأرض تنفتح تحت أقدامنا فنكون من الأسفلين.
ومن ينظر إلى هدم تماثيل طاغية دجلة يتساءل من هم الموحدون ومن هم الوثنيون؟ إنها لحظات تاريخية لمعرفة سيكولوجية الشعوب.من هو المؤمن ومن هو المشرك؟ من يقيم الأوثان أم من يكسر الأصنام فيجعلهم جذاذا ؟ الشيوعي الذي يسجنه الطاغية في الإفرادية 17 سنة أم واعظ السلطان الذي يقسم على الله أن الطاغية وذريته من أصحاب اليمين؟
في عام 1895 م كتب (جوستاف لوبون) كتاباً مثيراً عن (سيكولوجية الجماهير) أن (الفرد) يتمتع بالعقلانية والاستقلال وقدرة النقد ولكن هذا الفرد عندما يكون بين الجموع يتحول إلى كائن بدون رأس تعتمد ارتكاساته على منعكسات النخاع وهي بدائية. فلا ننخدع بمن يهتف مع أو ضد. والعرب اليوم ودعوا العقل ويعبدون القوة ويؤلهون الأقوى ولذا خرجوا من دين صدام ودخلوا في دين أمريكا أفواجا. حتى يعود الوعي المغيب في المنفى فيدركوا أن القوة هي في الفكر وليس السلاح. وأن الجيوش تسقط في لحظة وأما الشعوب فتقاوم فلا تقهر. وهنا الرهان.
إن ما حصل في العراق (تراجيديا) لمن يشعرون ولكنها (كوميديا) لمن يفكرون كما يقول (دانييل جولمان) صاحب كتاب (الذكاء العاطفي). فهذا (الفراق) هو الذي جعل الفلسفة تتبخر عند من كان على سطح الفلسفة تلميذا يحسن النقل ولم يهضم العلاقات الخفية ولم يصبح بعد فيلسوفاً. وهي التي جعلت بقية (العقل) تضيع من عقول أهل الحكمة الذين يوجهون مؤسسات فكرية فيتصوروا أن الأموات يبعثون فيخرج صدام من تحت الأرض بعد أن أصبح جسدا على كرسيه كما حصل مع جثة نبي الله سليمان. فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
إن قوانين التاريخ تعمل بطريقتها الخاصة وهي لا ترحم المغفلين والجاهلين ومن أدخل إصبعه في النار احترقت. ومن وقف أمام المصعد (يدعو) سنة كاملة أن يعمل فلن يعمل. وهو يفتح ويعمل في لحظة بكبسة الزر الصحيح. وهذا يقص علينا كثرة الدعاء في العالم العربي لأنه لا يملكون سنن الأشياء. ومن فهم سنة الشيء تسخر له الشيء بدون دعاء. والدعاء إذا استخدم في غير موضعه مشى وفق قانونه. ومن يدعو على الكفار أن يدمر الله ديارهم فالذي يحصل أن ما سوف يدمر هو ديار المسلمين. وحين يسلط العذاب على القرى فلأنهم ظلموا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا.
وقانون العذاب التاريخي لا يرتفع إلا بالرجوع عن الخطأ بنسبة عكسية. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. فمن رجع خُفِّف عنه العذاب ومن مضى متكبرا متجاهلاً قانون التاريخ زيد له في الجرعة حتى يرجع أو يهلك فيصبح سلفا ومثلاً للآخرين.
والتاريخ مملوء بأشلاء لانهاية لها من الحضارات . وعندما انحرف أهل سبأ عن قانون التاريخ أرسل عليهم السيل العرم ومزقهم كل ممزق وأصبحوا أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون؟ .
وبغداد والعرب غير محصنين ضد قانون التاريخ الذي لا يحابي. ومن يعمل سوءً يجز به . والعرب عملوا السيآت وما زالوا. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
والأمة العربية ليست الأولى التي يطويها التاريخ. وموت الأمم لا يعني التدمير البيولوجي بل الانتهاء الثقافي ومن أبرزها اللغة. واليوم في مصر لا يوجد من بقايا الفراعنة سوى أهرامات معطلة وقصر مشيد ولا يوجد رجل واحد ينطق الهيروغليفية أو يعبد آمون. والعرب غير منيعين أو محصنين ضد أمراض التاريخ.
ومن أعجب الأمور أن الكوارث تعالج بكارثة أكبر فعندما دخل نابليون مصر هرع الناس إلى الأزهر ليقرأوا صحيح البخاري. وهناك من الوعاظ الدجالين الجدد من ينصحون باللطيفية أن يقرأ الناس حسبنا الله سبع عشر ألف مرة في اليوم. وهي مثل الجراح الذي يرى النزف فينشغل بالحديث بدل ضبط النزف بالطرق الفنية. فكل شي له طريقته التي تحقق نتائجه. ولكن العقل الإسلامي الغارق في الخرافة لن يرتفع عنه العذاب حتى يتخلص من الخرافة. وأهم ما في الخرافة أنها إسلام ضد الإسلام. في محنة ثقافة مزورة. وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا؟
إن ما حدث في الزلزال العراقي أنه صدع الأرض بعدة شقوق. فهو أدخل الشرخ إلى الأنظمة الشمولية المجاورة وعليهم أن يركبوا قارب النجاة قبل الغرق فيفتحوا البلد وينسلخوا من جلد الحزب كما تفعل الحية بتجديد جلدها وحياتها مع ربيع العراق وبناء التعددية الفعلية وتخليص الجيش من الطائفية والإسراع بالإعلان عن انتخابات بدون تزييف، تكون نتائجها ليس مائة بالمائة وليس 99% أو 97% وبأكثر من مرشح حتى يكون الانتخاب انتخابا وليس بيعة للخليفة المملوكي برقوق. قبل أن يدخل الآخرون عليهم الباب فإذا دخلوه فإنهم غالبون.
والأمر الثاني أنه إنجاز ثلاثي إنساني وعربي وإسلامي: فهو إنجاز بشري بجهد مشترك في التخلص من أي طاغية حتى يضاف إلى كوكبة المجرمين من التماثيل في متحف (مدام دي توسو) الشمعي في لندن.
وهو ثالثاً تذكير بإبراهيم عليه السلام الذي هرب من نمرود العراق فدمرت بابل تدميرا على يد داريوس عام 482 قبل الميلاد بما فيها الإله مردوخ معبود الجماهير صدام القديم. وهي روح جديد في العالم العربي يعطي العافية والأمل بقدرة الشعوب على التخلص من الأنظمة الشمولية والأصنام الكثيرة في دنيا العرب بعد أن انقطع الأمل وعجزوا عن التغيير الداخلي.
وفي قصة إزالة صنم الطاغية في بغداد ظهر واضحاً عجز الجماهير العربية عن إنزال صنم حجري بعد أن مات البشري بكل حماسهم وحبالهم وعصيهم وقفزهم وسلمهم بعد أن مات البشري فتجمعوا حوله كما يحتشد النمل على جثة ديناصور. ولم يسقطه في النهاية إلا الآلة العسكرية الأمريكية المحترفة. بنفس الطريقة من اجتياح مملكة النمرود. وهذا موجود في علم الطب باستخدام الصادات الحيوية الخارجية. وأي طبيب يترك مريضه في السرير ومعه التهاب صاعق اعتمادا على مقاومة الجهاز المناعي عنده يغامر بحياته. ولكن في النهاية فمن يحسم المعركة ليس الصادات الحيوية بل الجهاز المناعي في البدن. والصادات الحيوية تلعب الدور المساعد كما هو معروف في العلم الصيدلاني. والجسم الذي ينهار فيه الجهاز المناعي لا يمكن تركه أبد الدهر يعيش على الصادات الحيوية ولا يمكن. والجسم الذي يعيش في العناية المشددة وهو غائب عن الوعي في حالة موت دماغ سيموت بعد حين.
ونقل هذه المفاهيم إلى وضع العرق في ربيع عام 2003م أن الصادات الحيوية الأمريكية لن تنفع العراقيين إلا بوجود جهاز مناعي داخلي. ونحن نعرف أن من جملة آليات الجسم أنه لا يستفيد من الصادات الحيوية بعد حين بل ويكِّون ضدها حساسية ومناعة خاصة. والتحدي أو الحرب الفعلية بدأت الآن في العراق من أجل التخلص من شياطين صدام وبوش وبن لادن وأخطرهم هو الأخير.
إن ما حصل في العراق جيد وسيء. جيد بولادة الحرية من رحم الاستعمار البعثي وسبحان من يولد الحي من الميت. وهو سيء لأن الخلاص تم على يد قابلة أمريكية وهو يعني أن المجهول في المعادلة الرياضية هو قدرة الشعب والدخول الأمريكي يعني تلقائياً عجزاً عراقياً داخلياً ومن كان مشلولاً فلن يمشي قط بالعكازات الخشبية.
إن الزلزال في العادة ذو طبيعة ثلاثية: فوهة تقذف بالحمم وتصدعات تخترق طبقات الأرض وجهاز يسجل طيفه في أي مكان في الأرض. فأما اللافا فهي السلب والنهب في العراق وهو قانون طبيعي في انهيار الدول واليوم من يسلب العراقيون هم العراقيون. وينتقم المعذبون من جلاديهم والفقراء من دولة كانت ليست لهم. وأما التصدع فقد وصل إلى كل العروش العربية. وأما تسجيل قوته فهي عند البنتاغون وأما من يحلله علميا فهم علماء التاريخ. ولتعلمن نبأه بعد حين.
كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.
فقد المناعة ضد الاستبداد
خطر انزلاق العراق من الطغيان إلى الفوضى وخطر ظهور صدام ديني؟
وقف الخطيب في بغداد وكأنه (ميرابو) في الثورة الفرنسية يوجه تهديده للأمريكيين وزعق في جمهور اعتاد الهتاف بحياة القائد إلى الأبد: أيها الأمريكيون اخرجوا وإلا أخرجناكم على رؤوس الرماح؟ فزعق الجمهور خلفه الله أكبر؟ وجدير بالذكر أنه خلال 35 سنة من حكم صدام لم يسمع المواطنون في خطبة الجمعة إلا الدعاء للسلطان أن يشد بالحق أركانه. ولنتصور الخطيب أيام صدام وهو يقول له كما فعل الممثل في حفلة توزيع جوائز أوسكار في أمريكا فخاطب بوش: إن الأمة لا تريدك واذهب إلى بيتك؟ ثم يرجع الخطيب إلى بيته؟
إن خطيبنا (المسلم) لم يستطع فتح فمه إلا تحت المظلة (الأمريكية). وإن الأمة (المسلمة) العراقية كانت تقيم الأوثان حتى جاء عسكر الأمريكان فحطموا الأوثان فجعلوها جذاذا؟ إن الخطيب صمت دهرا لينطق هجرا. كما يفعل السكران الذي ما زال تحت تأثير الغول.
(الإيدزAIDS) أو مرض(فقد المناعة الكسبي) في الطب يعني مرض الأمراض. ومع أي مرض ينشط الجهاز المناعي بواسطة الكريات البيض للقضاء على الجرثوم الأجنبي. ولكنه في الإيدز لا يبقى جهازا مناعيا. وينقلب في وظيفته من جهاز دفاعي إلى جهاز استعماري منتج للفيروس. والكريات البيض المخصصة بالأصل للدفاع تصبح محطات إنتاج للمستعمر. وإذا انهار الجهاز المناعي دفعة واحدة انهار سد يأجوج ومأجوج الواقي أمام كل أنواع الكائنات المدمرة بما فيها السرطان فهم من كل حدب ينسلون.
والمجتمعات يمكن أن تصاب (بالإيدز السياسي) وتتعرض لمرض (فقد المناعة ضد الاستبداد). وإذا كانت (الوحدات) الإمراضية هي الفيروس والجرثوم. فإن الوحدات في الأمراض النفسية الاجتماعية هي (الأفكار).
والعالم العربي اليوم مصاب بمرض فقد المناعة ضد الاستبداد ولذا فهو مستباح داخلياً وخارجياً كما أظهر العراق ذلك بوضوح. فمع انهيار الجهاز المناعي الثقافي أصيب بالسرطان (البعثي) داخلياً. وهو يتعرض للاجتياح الجرثومي (الأمريكي) خارجياً. وعندما يصاب الجسم بالتحلل الداخلي تهرع إليه طيور السماء وديدان الأرض. فهذا قانون وجودي.
وهناك حقيقة لا يستوعبها الناس ولا يشرحها المثقفون وتتجاهلها الفضائيات بإصرار وتعمد وتجهيل أن ما حصل في العراق يخضع لثلاث معادلات: (أولا)ً أن العراقيين كانوا في حالة عجز داخلي كامل ويأس مقيم أن صدام وعائلته سيحكمون العراق كما حكمت العائلة الأليخانية بعد هولاكو العراق 120 سنة أخرى. وهي ليست مرضا عراقيا بل عربيا فالكثير من الجمهوريات تستعد للتحول إلى الملكيات. وهو انقلاب معقول لولا أنه مثل إنسان الاسكيمو الذي يريد أن يلبس في فبراير جلابية مواطن في العراق ولا يشعر بالبرد. وظهر العجز واضحا في التخلص من الأصنام الحجرية فلم ينفع العراقيون حماسهم بقدر احتراف الآلة العسكرية الأمريكية في نقض الصنم.
و(الثاني) أن من خلَّص العراقيين هي قوى خارجية وهي التي مكنت الخطيب أن يتحدث بعد أن أصيب بالخرس نصف قرن من الزمن. وهي التي مكنت عدسات التصوير أن تنقل وبالصورة الحية ولأول مرة بدون كذب وتزييف انطلاق الآلاف يهتفون ضد أمريكا التي يحميهم جنودها من أنفسهم؟ وهو الذي مكن الخطيب أن يهيج جماهير جاهلة لم تستفد من خطبة الجمعة منذ أيام المماليك سوى الدعاء للسلطان والحديث عن الجنة لشعب يعيش خاشعا في غابة. فأطلقت لسانه من عقال الخوف فهو يدين بفك عقدة خوفه للغزاة. ولكن الاعتراف بهذا أصعب من قص الأنف بالمقص بدون تخدير؟
وفي الوقت الذي ينسحب الغزاة سوف يقفز صدام جديد تهتف له الجماهير بالدم بالروح نفديك؟ وهي حقيقة موجعة ومأساة مزدوجة لمحنة ثقافة مزورة تضافرت فيها المافيا الدينية والسياسية على تجهيل المواطن.
و(الحقيقة الثالثة) وهي الأشد مرارة أن هذا العجز (لم يرتفع بعد). ومن يظن أن العبد عندما يحرر يتحول إلى سيد بكل وظائفه النفسية يثبت جهلاً مريعا في قوانين النفس الإنسانية. وعندما كنت أنا مسجونا لأشهر طويلة مع عشرة أشخاص في غرفة صغيرة لم أستطع المشي بعد الإفراج عني لأني مفاصلي كانت قد تيبست. وهذه قضية معروفة في الطب العلاجي في المريض الذي كان مربوطاً إلى سريره لفترة طويلة. ونحن نعرف من قوانين (الفيزيولوجيا) أن كل عضو لا يستخدم يضمر. وهذا يعني اجتماعياً أن المريض العراقي الذي ينطق الآن يقذف بعبارات جنونية مثل التي نطقها خطيبنا الذي يلعب بالعبارات بأشد من اللعب بالنار.
إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة؟
إن هذا الجنون مبرر لسببين: (1) ردة الفعل الهائلة من احتقان سابق حسب القانون الثالث في الميكانيكا الذي ينص على أن كل فعل له رد فعل يكافئه في القوة ويخالفه في الاتجاه. وهذا القانون يختلف في علم الاجتماع. فالاحتقان يفجر من القوة أكثر من المحتقن وعلم الاجتماع ليس مثل الرياضيات. وهو يفسر تدمير كل شيء في العراق فلم تسلم المكتبات والمتاحف. والمكان الوحيد الذي نجا كانت الأسود الجائعة خلف الأقفاص في حديقة الحيوانات. ومن حماها كانت مخالبها بعد أن تحول العراق كله إلى غابة ووحش؟
(2) صعوبة استعادة الوظيفة المتوقفة. وعندما تتيبس المفاصل لفترة طويلة فهي تحتاج لفترة نقاهة أكبر وتمرينات مكثفة لاستعادة الحركة. ومرور وقت طويل على مفاصل لا تتحرك يدخلها حالة (الجسأ) أي التحجر ويصبح التماثل للشفاء واستعادة دور الوظيفة مشروعا محفوفا بالشكوك؟
وألمانيا حينما اشترت ألمانيا الشرقية الشيوعية ندمت على فعلتها لأنها أخذت بقايا شعب ألماني ميت ملفوف بعلم جرماني. وتخلصت رومانيا من شاوشسكو ولكن بينها وبين دخول العصر أحقابا. والشعب العراقي ومعه الشعب العربي مشلول منذ أيام كافور الأخشيدي يدخن الأرجيلة على أحلام رحلات السندباد. وعندما جاء نابليون إلى مصر عام 1798م كان الزمن متوقفاً عند سفح الأهرام منذ أيام الفرعون بيبي الثاني. وعندما دخل الأمريكان العراق ربيع 2003م لم يتغير الأمر كثيرا فما زالت شهرزاد تكافح عن رقبتها برواية القصص للسلطان شهريار. فالطاغية كان يستمتع كل ليلة بجارية ويعدمها في الصباح. وكثير من الممالك العربية ما زالت تحكم بنفس طريقة المماليك أيام الناصر قلاوون. وتحت مظلة الحكم المملوكي تتعانق المافيا الدينية مع المافيا السياسية.
وهناك من المثقفين من قام بالتنظير نيابة عن الأنظمة الشمولية وحذرها من المساس ببنية النظام السياسي وأنها ستتعرض لنظرية (الدومينو). وأن الخطأ القاتل الذي ارتكبه جورباتشوف كان في إصلاح البنية السياسية. وأن المساس بالكود الوراثي السياسي سيقضي على الخلية وأن المحافظة على النظام الشمولي هو أم الوصايا.
وفي قناة فضائية صرخ المتحدث (الكردي) أريد مخابرات كردية تضربني ولا أريد عربيا يكرمني. ونحن نريد حكماً عربيا (بعثيا) غير ذي عوج والمهم أن يكون حكما عربيا لقوم يجهلون. ولو رفع الأوثان وأذل الأوطان؟
إن الاستعمار يأتي أو يحدث بسبب القابلية للاستعمار وقد يكون خارجياً أو أسوء داخليا غير منظور. والاستبداد البعثي الذي زال عن العراق لا يعني أنه تخلص من (القابلية) للاستبداد. وإمكانية أن يقفز على رقبة الشعب العراقي صدام جديد وارد باسم جديد. بسبب عدم الولادة على نحو عفوي كما في قوانين الطبيعة. والديموقراطية لا يمكن فرضها على الناس بقوة السلاح فهذا ضد الديموقراطية. وقد تكون العملية القيصرية إنقاذا للأم ولكن قد يكون الجنين خديجاً يحتاج لحاضنة ولفترة طويلة. وعندما يأتي الاستعمار فهو ليس قضاء الله الذي لا يرد وتجري الأمور وفق قانونها الخاص الذي يعاقب المغفلين وينتقم من المجرمين. وكان كيد الشيطان ضعيفا. ومجيء الاستعمار يشبه الصفعة التي توقظ من السبات وتعطي الأمل في أن التغيير قانون وجودي إن لم يحصل من الداخل فسوف يتم من الخارج. وقانون التدافع وجودي. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. والكون يقوم على الصيرورة. وهو أس الأفكار في تعاليم البوذية.
إن أخطر ما يواجه العراق الآن بزوغ شمس بن لادن التي غربت في أفغانستان. وتحت المطالبة بالدولة الإسلامية قد تدخل الديكتاتورية من الباب الذي خرجت منه وتحت عباءة إسلامية وهي حجة الجبابرة في التاريخ وتحت اسمها أخضعوا رقاب العباد. ويمكن في جو الفوضى أن يلمع نجم مزيف لصدام تحت مسمى ديني. وليس أفضل من أجواء الثورات والفوضى العارمة لخروج لينين وستالين. وكما قال عالم شيعي من العراق: علينا إقامة دولة علمانية. وفصل الدولة عن الدين حفاظاً على الدين. وكفانا 14 قرنا من مصادرة الإسلام تحت أنظمة استبدادية شتى والحكم باسمه.
يجب الحذر من كلمة (دولة إسلامية) ويجب أن نطهر أنفسنا من حمى الشعارات. لأن كل المقتل جاء منها. وكل ألوان الاستبداد جاءت تحت مسمى الدولة الإسلامية. والنظام العباسي أقام ديكتاتوريته باسم الشريعة وآل البيت. وهو الذي فعله النظام الفاطمي في مصر لمدة قرنين وهو الذي مكن العثمانيين من التلقب بالخلافة. والطالبان كانت دولة إسلامية تحكم بالشريعة فقطعت الرؤوس والأطراف ووأدت المرأة وذبحت الشيعة ونفت العقل إلى المجهول ودمرت آثار إنسانية بدعوى الأصنام فانتقمت أمريكا لبوذا فدمرت الطالبان تدميرا. وجرب العرب الدولة الإسلامية في السودان فعلق (محمود طه) بتهمة الردة على حبل المشنقة فتدلى وعمره يناهز السبعين وهم الذين ارتدوا عن العدل ولم يرتد الرجل. وأخيرا وضع مؤسسها على يد تلاميذه في الإقامة الجبرية وكان محظوظا أن يحافظ على رأسه حتى اليوم. وفي يوم وقف رئيس العيارين (أبو ليث الصفَّار) فاجتمع حوله الأتباع في خراسان وأراد بناء دولة إسلامية فلما حذروه من بيعة الخليفة سحب سيفا ملفوفا بخرقة وصرخ في الجموع: ما أجلس الخليفة في بغداد على العرش هذا السيف فعهدي وعهده واحد. وتحت كلمة (باسم الشعب) ذبح الشعب. كل المظالم وقعت على الشعب باسم الشعب. وباسم الحرية ألغيت كل حرية. ولا حرية لأعداء الشعب. وباسم الأمن أنشئت أجهزة الرعب. وباسم الثورة على الفساد قطع كل لسان ينتقد الفساد. وتحت شعارات (الحرية والوحدة والاشتراكية) تم تكريس الاستبداد والتفرقة والفقر. وفوق العلم العراقي كتب (الله أكبر) والأكبر كان صدام. وفي يوم أمر الله نبيه أن يهدم مسجدا (ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل).
إن هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات وأنها لا تزيد عن توابيت جوفاء تشحن أو تفرغ بالمعنى حسبما نهوى. وأنه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال النيهوم. وأن الجمهور كما يقول الفيلسوف (كريكجورد) مارد هائل بقدمين من صلصال كالفخار.
جاء في كتاب (شطرنج القوة) لروبرت غرين ص (352) قصة البومة التي أصبحت إلهاً. أنه في ليلة مظلمة غارت نجومها أراد اثنين من الخلد أن يتسللا في جنح الظلام فصرخت بهما البومة أنتما مكانكما؟ فارتجفا في خوف وذهول كيف يستطيع أحد أن يبصر في الليل ثم هرعا إلى حيوانات الغابة فقالا إن البومة إلهة؟ فجاء طير كبير فقال لها كم مخلباً أخفي؟ قالت اثنان فرجع وقال إن البومة أعظم وأحكم حيوان في العالم لأنها تستطيع أن ترى في الظلام وتجيب على كل سؤال؟ فصاح ثعلب أحمر ولكن هل تستطيع أن ترى في النهار مثل الليل؟ فضحكت حيوانات الغابة من هذا السؤال السخيف وهجموا عليه وأصدقاءه فطردوهم من الغابة. ثم ما لبثوا أن أرسلوا إلى البومة يتشفعون إليها أن تكون زعيمتهم إلى الأبد؟ وعندما ظهرت البومة بين الحيوانات كانت الشمس في أشد سطوعها فأخذت تسير ببطء وترنح مما أعطاها المزيد من مظهر الوقار؟ وراحت تحملق بعينين واسعتين بلهاء فأعطاها هالة من الأهمية الرهيبة. وصرخت دجاجة إنها إلهة؟ فردد الجميع نعم إنها إلهة؟ وتبعوا البومة أينما ذهبت. وعندما بدأت تتعثر وتصطدم بالأشياء فعلوا نفس الشيء وهم يظنون أنها عين الحكمة؟ وأخيرا جاءت إلى شارع عريض وراحت تحملق في منتصفه بذهول ولا تكاد تبين فلاحظ صقر مرافق للموكب شاحنة تقترب بسرعة خمسين ميلاً في الساعة فصرخ: هناك خطر قادم؟ وسألها من حولها ألا تخافين؟ فردت البومة: ممن؟ وكانت هادئة لأنها لم تر الشاحنة فصرخت المخلوقات كلها: إنها إلهة ولا شك؟ وكانت تردد الهتاف بالدم بالروح نفديك يابومتنا الغالية؟ وبعد لحظات دهست الشاحنة البومة ومعها معظم الموكب. أما من نجا من الباقين فاحتار كيف تموت الآلهة؟
فهذه هي قصة صدام والأمريكان والشعب العراقي؟
السيناريو الأسوأ في حرب العراق
لعل السناريو المظلم والأشد سوءا في حرب العراق في ربيع 2003م لو أنه سار في طريق أن يدمر العراق ويبقى صدام. ويكون بذلك بوش خسر خسارتين كل واحدة كارثة. خسر مستقبله السياسي وهذا ليس المهم. ولكنه يكون قد ساهم في جعل صدام بطلاً عالمياً.
وأنا متيقن أنه كان هناك من ركض وقال لصدام استيقظ وافتح عينيك واعرف قدرك فهذا العالم كله يسعى إليك والمظاهرات تهتف باسمك والمسيرات تحتشد لشخصك الكريم والنساء يبكين من أجل عينيك ويقبلن شواربك الستالينية. إنك الآن أيها القائد المهيب لست زعيم الأمة العربية بل أصبحت زعيم العالم بدون منازع. وأنت الآن حققت رابع مستحيلات العرب. فقد جمع الله فيك حكمة قورش وقوة هرقل وقلب الاسكندر الأكبر وتكتيك نابوليون وتصميم هتلر بدون التصميم على الانتحار. وفي مظاهرة لندن نطق صبي صغير بسرعة: نحن لا نتظاهر من أجل صدام بل ضد الحرب. وطرف من الحرب التي احتشد العالم لمنعها هي الخوف من إقدام الأطراف على استخدام أسلحة ليست بالحسبان. وفي تقديري أن صدام عنده من (جرادل) و(كشتب) الأسلحة الكيماوية والجرثومية الكفاية وإذا كان ليس بحوزته فلن يكون صداماً لأن تاريخه يقول إنه نشأ على الدم والقتل وبيده قتل أكثر من وزير وفي ليلة قضى على معظم الكادر القيادي الحزبي وهو يصورهم بشريط فيديو كما يحتفل بأعياد ميلاده فينفق الملايين بما يعجز عنه الخديوي إسماعيل. وهذا الخلط بين المظاهرات التي تعم أوربا ضد الحرب والمظاهرات من أجل صدام يجب التفريق بينها. وهناك من اقترح أن تحل المشكلة بالطريقة القديمة بين الرجلين بحمل الغدارات ثم الابتعاد عن بعض ثم توجيه الطلقات القاتلة ولكن بوش ليس ذلك المدرب على القتل مثل صاحبنا العربي ولذلك لن يدخل مباراة من هذا النوع. والأسلحة البيولوجية خطيرة جداً لو قام مجندون لصدام ومن نفس أولاد الدول الغربية من ألمان وسويديين بحمل عصارات من فيروس الجدري أو جراثيم الطاعون في جيوبهم في محفوظات مثل الكشتب الذي يستخدم في الوجبات السريعة مقابل ملايين من اليورو تدفع لهم كاش من التي يحبها صدام ويوزعها بسخاء على الأسلحة والمخابرات أقول لو قاموا بنشرها في الأنفاق أو أمكنة الزحام والمواضع العامة في العواصم الأوربية فإنهم سيقودون إلى كارثة عالمية فهي مواد مثل الماء لا يكشف عنها أي كاشف وإذا انفجر الجدري مثلاً فهو يقتل على الأغلب في مدى عشرة أيام وفي القرن العشرين مات منه 500 مليون إنسان وكان من المفروض أنه تم التخلص منه تماما مع نهاية عام 2002م ولكن بعد أحداث سبتمبر تغير العالم. والمهم فإن مخاطر الحرب كبيرة ولا أحد يريدها ولكن صدام مشغول الآن بفتل شاربيه الستالينية لكثرة المعجبات برشاقته وقيادته الموهوبة والمنافقين من حوله الذين يوحون إليه زخرف القول غرورا أن التاريخ لم ولن ينجب مثله. ولكن قانون الله غير ذلك فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا.
وفي القناة الفضائية الألمانية DWقال المعلق إن الشعوب تهوى الأساطير. فإن عاش صدام أصبح أسطورة. وإن مات تحول إلى أسطورة. مثل بن لادن. وبذلك يكون تيمورلنك العرب خلد نفسه على كل حال في التاريخ كما فعل من قبل هتلر وجنكيزخان وأتيلا.
وأذكر من أفكار مالك بن نبي أن سيد قطب عندما أعدمه عبد الناصر حوله إلى شهيد وخلد أفكاره الزائلة. فبدأ كتاب الظلال يطبع بدون توقف وما يزال. وأفضل وسيلة لترويج أفكار شخص ما اضطهاده أو قتله. وهذا الفكر المتطرف يعتبر ترسانة ممتازة لمدارس التشدد الإسلامي. ويعتبر أيمن الظواهري تلميذ متواضع لأفكار سيد قطب في المعالم والظلال. أي أن الاستعمار يلعب دورا عجيبا في قتل شخص ما يحمل أفكارا ضارة ولكن بقتله يحول أفكاره إلى مصدر طاقة وإلهام للأتباع بدون مراجعة ونقد. ويصبح الفكر بذلك محصناً ضد المراجعة والتمحيص. فكيف يمكن نقد فكر (الشهيد) المتعالي؟ وبذلك يختلط صدق الفكرة بمعاناة صاحبه. وبقدر تضحية صاحبها تزداد فيها جرعة الصواب. ولا رابط بينهما. ولو كان السجن دليلاً على صدق المسلك لكان شرار القتلة المحكومين بالمؤبد خير خلق الناس كلهم.. وهذا يقود ليس لخدمة الفكر بل قتل الفكر. والمزيد من حرف الطريق لمن أراد الاستقامة على الطريق.
بكلمة أوضح قتال الخصم بأفكار الخصم. وهي لعبة جهنمية.
وفي علم الكيمياء العضوية يفعل العلماء نفس الشيء فيأتون إلى المركب العضوي فيغيروا فيه في موضع ذرة في كامل البناء بدون تغيير الكتلة الذرية أو الشكل العضوي فيتحول السم إلى ترياق والترياق إلى سم.
وفي الطب نعرف هذه الظاهرة بين المركبات فالمركب شديد الفعالية يتعطل مفعوله بسحب قطعة واحدة أو تبديلها في كامل المركب. والإنسولين البشري أو من الخنزير لا يختلفان في أكثر من حمض أميني واحد في سلسلتين من 51 حمض أميني مربوطين بسلسلتين من الكبريت.
وينقل عن أديب الشيشكلي الحاكم العسكري في سوريا في فترة الخمسينات انه دخل يوماً إلى سجن المزة العسكري وهو باستيل سوريا وكان مملوءً بالمعتقلين السياسيين فصرخ فيهم: لا أريد أن أجعل منكم أبطالاً ثم طردهم من السجن حتى يحرمهم من هذا (البرستيج) الامتياز.
وإن كانت هذه الأفكار هي التي تطبق في الحرب العراقية وانتهى السيناريو على هذه الشاكلة فيكون الأمريكيون قد خدموا صدام بما يعجز عنه أبالسة الجحيم. ويكونوا قد رسخوه لقرن آخر من الديكتاتورية على ظهر شعب لم يبق فيه مكان للركوب.
وقد يتساءل المرء هل خططت أمريكا لحرب من هذا النوع؟ إن الإنسان يكاد يصاب بالدوار لو أن الحذق الأمريكي وصل إلى هذا الحد من العبقرية؟
ومع أنني أستبعد هذا اللون من التفكير ولكن الكثير يطرح نفسه لماذا اختلف الأصدقاء بعد طول عناق ليتبادلوا الرصاص بدل القبلات؟ والقناة الفضائية الألمانية أظهرت على السطح برنامجاً على حلقات بعنوان صدام صديقنا. ومن أعجب المغالطات تلك التي تقدم بها شيراك وهو نفسه الحالي ولم يكن في منصبه الحالي وكيف تعاون مع صدام من اجل تسليحه بالمفاعل النووي كيف قال إن لم نبع صدام المفاعل النووي فعله غيرنا؟
صدام إذا صنيعة غريبة فهم الذين بنوه كما فعل الطبيب مع فرانكنشتاين. ولكن السؤال لماذا اختلفوا وكان يخدمهم على افضل وجه وليس الوحيد في المنطقة؟ لنقل بكلمة أخرى لماذا انكسر التحالف والتفاهم بينهم؟
أنا شخصياً لا أومن أن الحاكم تلعب به الاستخبارات العالمية مثل النادل في مطعم تأمره أن يأتيك بقدح ماء فيسارع بالطلب، أو البيدق الذي يحرك على لوحة الشطرنج. فالحاكم في النهاية هو عميل نفسه وهو مخلص لكرسيه أولاً وأخيرا وعميلاً لكرسيه في الظاهر والباطن وهو بهذا عليم.
ويبدو أن الأقرب للتحليل أن الذي حصل مع صدام هو ما حصل مع فرانكنشتاين فهم سلحوه والألمان بنوا له مصانع السلاح الكيماوي الذي قضى به على الأكراد في حلبجة والإيرانيين في الفاو. والألمان بارعون فيه منذ أن طوره فريتس هابر وتسبب في قتل أكثر من مليون في خنادق الحرب العالمية الأولى وأنهى حياته صهيوناً مهاجرا إلى إسرائيل.
وأما صدام فلما استشرى خطره وتطاير شرره في الغابة العالمية. وبدأ في التجرؤ على دخول غابة (السادة الكبار) كما تقول مجلة (الشيفرة Code ) الألمانيةويصرح انه سيجعل من العراق بلدا كبيرا مثل الصين. وسال لعابه لامتلاك جيرانه. هنا حنق عليه الكبار وشعروا أن حقيرا دخل ناديهم وأخذ مكانا لا يستحقه. وفي هذه النقطة يقول أوري أفنيري الصحفي الإسرائيلي السلامي أن حرب 1991م لم تكن من أجل البترول بل خوفا من زعامة عربية قوية تمسك المنطقة. ونحن نعلم يقينا أن هذا لو حدث فسوف نهرب من المنطقة التي تمتد لها يده كل من يستطيع الفرار. ولكن الجبارين في التاريخ أسسوا الإمبراطوريات على حد السيف. هكذا فعل أورانغزيب في الهند وقوبلاي خان في الصين وأتيلا في أوربا وستالين في الاتحاد السوفيتي ويمكن لصدام أن يقلد الفرعون بيبي الثاني أو نيرون الروماني ويمكن أن يبني إمبراطورية عربية لو استقامت له الأمور على جماجم الكويتيين وعظام السعوديين ومقابر أهل الخليج جميعا وربما يسيل لعابه إلى إيران من جديد وسواها بعد أن يكون قد امتلك القاعدة المالية من النفط التي تمول آلتيه العسكرية وجنوده من المخابرات والحرس الجمهوري وعصابات المرتزقة فهم يوزعون.
والمهم الآن فقد زلزلت الأرض زلزالها وحمي وطيس الحرب وأصبح مطلوبا. والعراقيون مثل المختطفين في طائرة بين مجرمين مدربين و(شيرف Sherif) أمريكي. ويجب أن يتخلصوا من الاثنين. وحرص القوات الأمريكية أن لا تدخل المدن ليس فقط بدعوى الحفاظ على أرواح المدنيين أو التقليل من الخسائر في صفوفهم بل لسبب خفي خطير يذكر بما فعله هتلر في معركة دنكرك. فالمجرم ترك بعد سقوط خط ماجينو ووقوع مئات الآلاف من البريطانيين ينجون بجلودهم إلى جزيرتهم وهم تحت مرمى مدفعيته. ووقف محللو التاريخ كثيرا أمام هذه الحماقة أو السر. ولكن بعض المحللين يقولون ليس في الأمر سر ولا حماقة. ولكن هتلر أراد أن يستلم المستعمرات من سيدة المستعمرات بعد أن انتهى دروها وانهزمت في الحرب. بكلمة ثانية أراد هتلر أن يتسلم بالبريد المضمون الممتاز هدية المستعمرات بعد أن حل محل بريطانيا كمستعمر جديد.
والآن تفعل القوات الأمريكية نفس الشيء وهي أن تحاصر القوات العراقية في المدن ومعها عناصر المخابرات وميليشيات الحزب من المجرمين حتى يتم تسلم العراق بملفاته السرية إلى يد الأمريكيين فلا تحدث فضيحة الاستازي التي وقعت في ألمانيا الغربية بعد أن اكتشف الناس أن المجرمين من الحشرات الإنسانية كانوا في بيوتهم وبين ظهرانيهم. فكم من امرأة تبين أن زوجها كان يتجسس عليها. وكم من صديق تبين أنه كان يزود المخابرات بتقارير سرية منتظمة عن أحب الناس إليه. وأمام الشعب العراقي الآن الفرصة التاريخية أن يتخلص من جلاديه البعثيين والاستعمار الأمريكي بضربة واحدة من خلال ثورة شعبية. فلم يبق شيء يخافون عليه. ووضع أيديهم على ملفات الاستازي الصدامي الذي بني على عين وخبرة الأمريكيين. ويجب أن لا نفرح بالأمريكيين كثيرا فهم سيبدلون صدام بمصدوم وعلي الكيمياوي بالخزرجي الكيمياوي الذي هرب من العراق إلى الغرب ليعود بمهمة جديدة.
ولكن المشكلة أن هذا يحتاج إلى وعي وتنظيم. وصدام حوّل الشعب العراقي إلى قرود تصفق في الإذاعة وجثة مفسخة عاجزة عن أي تنظيم. بعد أن قتل كل المعارضة وكل الشعب.
لغز اختفاء القيادة العراقية؟
أفضل طريقة لدخول عالم الأساطير أن يختفي صاحبها. ولا يجمح الخيال في وسط مثل ضباب التكهنات وبخور الإشاعات. وهو الذي حصل لصدام في العراق مع ربيع 2003م حينما اختفى فجأة مع كل أعوانه وكأن الأرض انشقت فابتلعتهم مع لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب.
ومع الزلزال العراقي ذابت القيادة العراقية ومعها كل النظام السياسي الشمولي ورموزه بدءً من طارق عزيز بسيكاره الكوبي الغليظ الفاخر وانتهاء بالحرس الجمهوري العلوج عتل بعد ذلك زنيم. ذابوا مثل ذوبان الآيس كريم في نهار قائظ من صيف حارق. أو "كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف".
فأما أن تنهار الديكتاتورية فلها أجل ويخضع لقانون الشجرة الخبيثة التي تسقط تحت ثقلها الخاص اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. في موعد لا يستقدمون عنه ساعة ولا يستأخرون. أثّمَّ إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون؟
طارق عزيز ونظيره السوري طلاس رددوا نفس المقولة: نحن ثوريون جئنا إلى الكرسي بالبندقية والدبابة فمن يريد أن يزيحنا فليجرب حظه؟ وفي تكريت كانت أطقم الدبابات فارغة بعد أو ودعها الشباب الثوريون. الذي غذاهم صدام ثلاثين عاما ليوم الفزع الأكبر فهربوا وتركوه لمصيره.
وحسب تحليل قناة (DW) الألمانية فإن سر هذا السقوط المريع هو أن النظام لا يثق بالشعب. والشعب لا يثق بالجيش. والجيش لا يثق بالحرس الجمهوري. والحرس الجمهوري لا يثق بالحماية الخاصة. فهنا ينشأ نظام مفكك لا يمسك مفاصله سوى الرعب. والمراهنة التاريخية هي عند كسر هذا الحاجز الواهي.
وما يبقي نظاما يتمتع بكل الجبروت الخارجي متماسكاً ويحميه من السقوط مؤقتاً هو غلالة الرعب. فإذا انقشعت بقتل عنكبوت الأرملة السوداء تمزق النسيج كله. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
هكذا انهار النظام وولى الأدبار عناصره بعد أن رموا سلاحهم وخلعوا ملابسهم وأطلقوا سيقانهم للريح. فلم يبق من يدافع ولماذا يموت؟.
كان أشد ما يثير حنق هتلر هو استسلام فون باولوس رئيس الجيش السادس المحاصر لستالينغراد والتبرؤ من القائد. ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار.
وكم قصمنا من قرية ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا منها يركضون. لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون؟ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين.
إن النظام الشمولي يحمل بذرة فنائه وهو منذ ولادته جسدا طرحاً ليست فيه مقومات الحياة والاستمرار مثل المرض الوراثي وما يحتاج لإنهائه هو من يملك السر ويوجه إليه الضربة الفنية في الوقت الملائم فيسقط ويكون لسقوطه دوي عظيم.
مع هذا فيبقى سر اختفاء القيادة العراقية لغز يثير التساؤل؟ ويذهب كثير من المحللين أنه أمر دبر بليل. وهو تواطؤ بين القيادة العراقية وقوات الحلفاء لتسليم البلد بدون قتال. فقد انتهى دورهم وأدوا عملهم على خير وجه وقبضوا مكافأتهم.
وهذا التحليل يصب في نظرية المؤامرة التي أُشبع بها الخيال العربي. وعلى كل حال فهو للعقل العلمي احتمال. ونحن لا نملك المعلومات. والأسرار لا يعلم بها إلا الله والراسخون في الاستخبارات الأمريكية. وهم يعرفون يقينا أين هو صاحبهم؟ وفي كل تعليقاتهم لم يأبهوا كثيرا للموضوع وهو يحمل أمرين إما تفاهته أو الإحاطة به؟
ولكن التحليل النظري يقود إلى ثلاث مخارج: فإما أن الشريحة القيادية قضت نحبها بقصف صاروخي. وإما أنها هربت خارج البلد إلى مكان مجهول تم التعتيم عليه والتفاهم حوله. وإما أنها مختفية في سراديب سرية تحت أرضية حتى حين. كما أظهرت ذلك مجلة در شبيجل الألمانية أن صدام بنى مخبأ وقد يكون أكثر من واحد وبتقنية ألمانية تشبه مخبأ تيتو الذي يتحمل صدمة نووية.
وصدام سيد (الحرامية) في فن الاختباء والبقاء. وقصة السراديب في العراق مشهورة وما زال الإمام الغائب مختفيا في السرداب منذ 1200 سنة ولم يخرج حتى الآن وما زال أتباعه يدعون له كل يوم أن يعجل الله فرجه بدون فرج وخروج.
وأظهرت قناة (الديسكفري) فيلماً وثائقياً عن مشروع (نوراد NORAD) الذي اشتغلت عليه أمريكا عام 1957 سراً خوفاً من هجوم نووي بكلفة 15 مليار دولار انتهى بناؤه عام 1965م بنت فيه سرداباً يمكن أن يعيش فيه أكثر من ألف شخص في كولورادو في جبل (شيان) فيه إمكانية البقاء لفترة أشهر للقيادة الأمريكية مزوداً بالطاقة والغذاء والماء والتهوية والتكييف والإنارة والحماية من صدمة نووية بأبوب يزن الواحد خمس عشرين طن ويغلق آلياً في ثلاثين ثانية، ويتحمل مخاطر الانفجار (Blast) والحرارة (Heat) والصدمة الزلزالية (Seismic shock) والأشعة الكهرطيسية القاتلة والاهتزاز على 1300 نابض. وكان التصميم أن تنشأ مساحة مقدارها 208 ألف قدم مربع في بطن الجبل تضم 15 مبنى على شكل الكرتونة التي تحمل البيض على شكل متقاطع من ثلاثة اروقة. تمتد فيها الأنفاق على طول ميلين ونصف. فيها كل التقنيات المطلوبة ووسائل الراحة وقدرة الاتصال بالعالم أجمع بمسح كل قيعان المحيطات وما فوق السحاب فيعلمون من خلال شاشة تلفزيونية بعرض 16 X 12 قدما ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. بما فيها المذنبات التي تطوف بسماء الأرض الدنيا وتهددها بالضرب. على ارتفاع 200 ـ 22500 ميل بمسح جوي يبلغ 27 تريليون ميل مكعب.
ومن المعروف أن هتلر بقي يقاوم في مخبئه (Bunker) حتى أصبح الروس على بعد مائة متر الرايخستاغ دار الاستشارية. وعندما أدرك أنها النهاية لا ريب فيها انتحر مضاعفاً بالسيانيد والرصاص بعد أن جرب السيانيد على كلبه المدلل وتأكد من موته. وودع الجميع بيد لا تهتز وختم على حياته وأنهى مصيره بيده بعد أن رأى موسوليني معلقا مثل الخاروف في المسلخ. وأحرق النازيون جسده على طريقة قبائل التيوتون الجرمانية مع عشيقته إيفا براون فلم يعثر لهم على أثر. وسرت الإشاعات أن هتلر نجا واختبأ في مكان ما وأنه سيقاوم الحلفاء وسيحرر ألمانيا. وبقي أناس لا يصدقون أنه انتهى كما نفرك أعيينا حالياً مع نهاية الوحش البعثي. بعد نصف قرن أصدرت مجلة (PM) الألمانية صورة له وهو في عمر التسعين والبلد المحتمل أن يكون عاش فيه كل الفترة السابقة.
وأعجب ما كان يلفت نظري في عاصفة العراق الاطمئنان على وجوه عناصر القيادة وقدرة الكذب على لسان مسيلمة الصحاف. الذي كان يكذب بوعي وإصرار عسى أن تنفعهم يوم الزلزلة. فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب.
والآن سواء هرب صدام ومعاونوه كما فعل (هملر) رئيس الجستابو (الاستخبارات النازية العسكرية) في ثياب امرأة ولكنه كشف فانتحر واليوم يظهر الصحاف على شكل امرأة عراقية في الانترنيت بذقنه الحليق. أو أحرقته الصواريخ الأمريكية.
أو أنه قتل نفسه وأولاده كما فعل وزير الدعاية الهتلرية غوبلز وهو مستبعد لتباين عقلية هتلر مع صدام.
أو التجأ إلى سوريا الذي هو التوأم السيامي للبعث العراقي. أو أنه قام بصفقة مع الإدارة الأمريكية سلم بموجبها البلد. وهي في قسم منها جيد كما فعلت باريس مع النازيين. وإن كانت لم تسلم بغداد من يد النهابين كما حصل لآثار باريس.
أو أنه ارتحل إلى جزيرة جلاباغوس في أرخبيل كولون في المحيط الهادي مع ملياراته بصفقة مع البنتاغون.
أقول فإن النتيجة واحدة وهي موت صدام ونظامه. ونهاية البعث العفلقي. وخاتمة حقبة. وعراق جديد. وتشكل جديد للشرق الأوسط. سيهتز فيها نظام البعث التوأم السيامي له في سوريا فإما غيَّر نفسه وسلخ جلده مثل الأفعى مع ربيع العراق وألغى نظام البعث وفك الحزب وفتح البلد وإلا فتحه الأمريكيون بالعصا الغليظة. ومن غفل عن التاريخ فإن التاريخ لا يغفل عنه.
وهذا المصير ترتعش منه كل أنظمة المنطقة التي قامت بالأصل على الانقلاب والاستبداد واغتيال الأمة.
وهو مصير جيد من جهة لأمة ماتت والموتى يبعثهم الله. وقد يكون في غاية السوء على المدى القصير من التهام المنطقة وصعود نجمة داوود فيعلوا علوا كبيرا. ولكن الحجر الأمريكي ضرب الماء الراكدة العربية التي أسن ماؤها وفاحت رائحتها في العالمين. فحدث لها كما حصل للمذنب الذي ضرب الأرض قبل 65 مليون سنة فقضت على الديناصورات. وهي الآن نهاية الديكتاتوريات وولادة المنطقة بعملية قيصرية نازفة.
يا ترى هل استفاد العرب من الدرس؟ وهل قوة الزلزال كانت كافية لهدم الأبنية الهشة من الديكتاتوريات المتخلفة أن أننا بحاجة لزلزال أقوى؟ هل صحا الفلسطينيون؟ وهل فكر البعث السوري أن يعيد حساباته؟
إنه لا شيء موجع كالحقيقة. ولا شيء يجمع كالمحنة. وليس من كاشف للنفس أفضل من المعاناة. ولا صحبة مثل الحبوس. ولا صداقة مثل أيام الخنادق. ولا توحد في العلاقة مثل الفزع وفي الإعصار الجيولوجي ينضغط الفحم الأسود متحولاً إلى ألماس متألق. والعالم العربي الآن ينصهر في فرن التاريخ. ليتشكل خلقاً آخر ونشأة مستحدثة. ولا شيء يطهر مثل النار. ولقد خلقنا الإنسان في كبد.
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا. فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا. أعدّ الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا.
وفي العراق في ربيع 2003م يكتب التاريخ.
كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيه فاكهين كذلك وأرثناها قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.
سوف يسجل التاريخ يوم 9 أبريل 2003م بأنه يوم الزلزال العراقي واختفاء صدام ونهاية النظام البعثي وبداية حقبة جديدة في التاريخ العربي.
وما حصل في العراق لا يخرج عن مصير الطغاة في التاريخ. فقبل أن يموت (تشاوسسكو) بأربعة أيام سئل عن الأوضاع في رومانيا وكان في زيارة إلى طهران أجاب: هل تنبت شجرة التين حسكاً ؟ لقد تساقط من حولي ولكنكم لا تعرفون الشعب الروماني وقيادته الحكيمة. وبعد أربعة أيام كان يحاكم ويعدم ولا يعرف قبره. وأما شاه إيران فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت وظن أن لا ملجأ إلا أمريكا فخذلته وأفردت له ملفاً بعنوان (الخازوق). وفي النهاية مات بالمرض الخبيث عند طاغية مثله وأصبح سلفاً ومثلا للآخرين.
هكذا رسم مصير الطغاة في التاريخ وكلاً أخذنا بذنبه. بين طلقة في الرأس مع جرعة سيانيد في نهاية هتلر. وبين فرعون يغرق في اليم هو وجنوده أجمعون. أو الإمبراطور الروماني (دوميتيان) الذي يقتله 14 من أهل بيته دفعة واحدة طعناً بالخناجر. وبين من علق من قدميه كالخاروف في المسلخ في ساحة عامة كما حصل (لموسوليني) وعشيقته (كلارا بيتاتشي). أو أودع دورة المياه وردم فوقه بالإسمنت كما انتهت حياة إمبراطور الحبشة (هيلاسي).
ولكن التاريخ يفاجئنا بصورة مبتسرة غير مكتملة بل وأحيانا مقلوبة حيث مات (ستالين) في كل طغيانه وعنفوانه. ومات (فرانكو) طاغية أسبانيا عزيزا كريما ووضع جثمانه في ضريح عظيم بناه أعداءه من الشيوعين المعتقلين. وأما (لينين) فمات وهو يرسل الناس إلى الموت بإشارة.
التاريخ إذا يظهر ثلاث صور متباينة: طغاة يُقتلون. وطغاة يُحملون على محفة عسكرية إلى قبورهم فيدفنون في ضريح عظيم يحج الناس إليه. وأناس صالحين يموتون شر ميتة من أجل أفكارهم. مثل (سقراط) الذي أعدم بتجرع سم الشوكران. و(جيوردانو برونو) الذي احرق في ساحة عامة. و(ابن تيمية) الذي حبس حتى الموت في سجن القلعة بدمشق. و(سعيد بن جبير) الذي نحر بين يدي الحجاج وهو يشخب في دمه. و(الحلاج ) الذي قضى صلباً في بغداد بكلمة بعد أن جلد ألفاً و قطعت أطرافه. ومات الحسين وجميع آل البيت معه ذبحا على يد يزيد الخليفة الأموي. وأنهى المفكر السوداني محمود طه حياته وهو يتأرجح على حبل المشنقة بتهمة الردة.
الصورة كما نرى ضبابية فبقدر النهاية التي تحمل العبرة في سقوط الجبارين بقدر نجاة الكثير من الطغاة بجلودهم. أو على العكس بمصرع الكثير من المصلحين حرقاً أو صلباً أو شنقاً. فهل يمكن أن نفهم ما يحدث؟
تبدو نهاية الدنيا (كوميديا) لمن يفكر و(تراجيديا) لمن يشعر. فقد ينتهي طاغية في الدنيا بما يستحقه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كما حصل مع (ميلوسوفيتش) وصدام. أو على العكس قد يودع الحياة هنيئا مريئا مرتاحا على كرسي السلطة ويحكم من قبره. وإذا كان تشاوسيسكو قد دلف إلى قبره باللعنة والرصاص فإن كثيرين ماتوا بالهتاف بحياتهم. وهناك من زحفت في موته جماهير هائلة بحيث يفرك المرء عينه ولا يصدق هل هو المجنون أم هم المجانين؟
إنها جدلية محيرة كما نرى يحتاج الإنسان فيها إلى بوصلة جديدة ليفهم هذا اللغز؟
إن المصلحين الاجتماعين والفلاسفة المفكرين قد تنتهي حياتهم على شكل أسيف في عصر الظلمات السياسي ولكن موتهم يختلف عن موت الطغاة. فهم يخضعون لقانون دفن البذرة في الأرض كي تخرج منها شجرة باسقة طلعها هضيم. وأما موت الطاغية فهو نهاية نظام ورهط أتقنوا الإجرام واستكان لهم الناس بالفزع الأكبر.
ويمضي التاريخ وتنضج الشعوب ويتقلص ظل الجبارين ويموت أهل الفكر فيتركون أملا في الحياة ويسحق الجبارون سحقا. ويكتشف الناس في ذهول أن الموت حق لأنه يكنس الظالمين ويطور الحياة وبذلك يصبح الموت أحد مفردات الحياة.
يقول (ديورانت) إن الإمبراطور (كاليجولا) قال لجدته أنطونيا عندما حاولت نصحه :(اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان) وأرغمها في النهاية على قتل نفسها. وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه قتلهم أجمعين وهم متكئون في مقاعدهم. وكان وهو يحتضن عشيقته يقول لها ضاحكاً (سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي). ونجا عمه (كلوديوس) من القتل عندما تظاهر بأنه مجنون. وأخيرا طلب من الناس عبادته لأنه أفضل الآلهة ونصب تماثيله في مداخل المدن والساحات العامة. وفي النهاية قتل على يد ضايط من الحرس (البريتوري) وعندما ترددت الإشاعات في البلد أنه قتل لم يصدق الناس ويقول (ديورانت) إن: (كاليجولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس إلهاً).
قبل أن يموت (تشاوسسكو) بأربعة أيام سئل عن الأوضاع في رومانيا وكان في زيارة إلى طهران هل يمكن أن تتأثر بالإعصار الذي يدمدم في شرق أوربا وتتساقط فيه تباعاً عروش الملوك الحمر ؟ قال : سلوا شجرة التين هل تنبت حسكاً ؟ صحيح أن من حولي تساقطوا ولكنكم لا تعرفون الشعب الروماني وقيادته الحكيمة . وعندما سألوه عما يحدث في مدينة (تيمي شوارا) والعصيان المدني خلف قس مغمور؟ قال : أما القس الذي حرض على الشغب فهو أخرق مأفون وأما من حوله فهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون. وبعد أربعة أيام كان يحاكم ويعدم ولا يعرف قبره. وانطبقت عليه دورة التاريخ فأخرجوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيه فاكهين كذلك وأرثناها قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين. وأما شاه إيران فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ إلا أمريكا فخذلته ورفضت استقباله مع أنها هي التي صنعته على عينها. وعندما تشفع لأولاده أن يتابعوا دراستهم سمحت لهم بدون رفقة الوالدين . وعندما شكا من المرض قالوا له بعد وساطات وتوسلات إنها إقامة للعلاج فقط فإذا قضيت خرجت ولم تعقب . وبعد العلاج دفع بعربة من البوابة الخلفية للمستشفى فخرج من حيث تخرج النفايات وتدخل البضائع. وعندما أصبح في (باناما) عند ديكتاتور صغير قطعوا عنه التلفون وبدأوا يخططون لتسليمه للحكومة الإيرانية الجديدة. وعندما أوى في النهاية إلى طاغية مثله بكى سوء الحال وانقلاب الزمن وتنكر الأصدقاء ونفض أمريكا يدها منه إلى درجة أن أفردت له ملفاً بعنوان (الخازوق) وأن يخاطبه مسئول أمريكي بقوله : يا صاحب الجلالة يظهر أنك مختل عقلياً . وأن يبتلع أحد سماسرته سبعين مليون دولار بضربة واحدة فيعض الشاه على أسنانه محنقاً إنها سبعين مليوناً فهل ضاعت في أنابيب المجاري . وفي النهاية كاد أن يموت الشاه غيظاً فحبس نفسه في حجرة عندما علم أن رجل أعماله (بهبهانيان ) اختفى مثل الملح في الماء بمئات الملايين من الدولارات وهو لا يستطيع أن يقاضيه أو يرفع عليه دعوى لأنها كانت صفقات سرية . روى كل ذلك (حسنين هيكل) في كتابه (زيارة جديدة للتاريخ) . وفي مصر فتح يديه بالهبات والمجوهرات التي كان يحملها معه في حله وترحاله عسى أن تؤلف القلوب ، وقيل أنه حمل معه من ثروة إيران ما زاد عن خمسة مليارات دولار ، واعترف مسئول بنكي سويسري بثروة له زادت عن عشرين مليار دولار ، وكانت أربع حقائب كبيرة محشوة بالكنوز لا تفارق عيناه حتى قبل موته بلحظات عسى أن تنفعه يوم الزلزلة فما أغنتهم عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب. وفي النهاية مات بالمرض الخبيث وأصبح سلفاً ومثلا للآخرين. إن أمريكا تستخدم الطغاة ولا تحبهم فهي تصيخ السمع لخونة الشعوب ولكنها لا تحب الخائن وتعرف أن دور الجلادين لا يزيد عن (ممسحة زفر ) فإذا انتهى دورهم رسا مصيرهم حيث ترمى أوراق المهملات التي نظفت القاذورات لتصبح مع القاذورات وبئس القرار . هكذا رسم مصير الطغاة في التاريخ بريشة سريالية. فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا . وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. هكذا يرسوا مصير الطغاة بين طلقة في الرأس مع جرعة سيانيد كما انتهى هتلر. وبين فرعون يغرق في اليم هو وجنوده أجمعون. أو الامبراطور الروماني (دوميتيان) الذي يقتله 14 من أهل بيته دفعة واحدة طعناً بالخناجر . وبين تشاوسيسكو التي انشقت الأرض من تحت قدميه فابتلعته. وبين من دارت عليه الدائرة بعد طول جبروت ليعلق من قدميه عاريا كالخاروف في المسلخ في ساحة عامة كما حصل (لموسوليني) وعشيقته (كلارا بيتاتشي) أو امبراطور الحبشة (هيلاسي) الذي أودع دورة المياه وردم فوقه بالإسمنت. ولكن التاريخ يفاجئنا بصورة مبتسرة غير مكتملة بل وأحيانا مقلوبة الظل حيث مات (ستالين) في كل طغيانه وعنفوانه وكانت نظرة مريبة منه إلى أحد أعضاء المكتب السياسي تجعله يرجف هلعا بقية حياته حتى يرضى . كما ذكر ذلك (فرانسيس فوكوياما) صاحب كتاب (نهاية التاريخ). ومات (فرانكو) طاغية أسبانيا عزيزا كريما ووضع جثمانه في ضريح عظيم في مبنى هائل بناه أعداءه من الشيوعين المعتقلين . فهو نصب خالد لكن من زار مدريد. وأما (لينين) فمات وهو يرسل الناس إلى الموت بإشارة وكلمة كما كشفت الأبحاث الحديثة عن رسائله الأصلية المكتوبة بخط يده والمودعة في سرداب فظيع محفوراً تحت الأرض بثلاث بوابات مصفحة يصمد لقنبلة نووية. إن لينين كان مفكراً وكاتباً قبل أن يكون حركيا وكتب ما يزيد عن خمسين كتاباً تمثل الوحي المقدس عند الشيوعين لمن بقي يعتقد في عصمته حتى اليوم، ولكن أوامر الإعدام كانت عنده قضية روتينية ولا تزيد عن مسألة إحصائية فعندما تمرد الفلاحون على المزارع الجماعية (الكولخوز) بعد أن صودرت محاصيلهم كانت أوامر لينين تقضي بانتقاء مائتين من كرام القوم وإعدامهم على أعين الملأ وأن يحشر الناس ضحى. فهذه هي أساليب الفراعنة جرت قانونا سرمديا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. التاريخ إذا يظهر ثلاث صور متباينة: طغاة يَقتلون ويُقتلون. وطغاة يَقتلون ويُحملون على محفة عسكرية بكل مظاهر التكريم إلى قبورهم فيدفنون في ضريح عظيم يحج الناس إليه من كل فج عميق لإظهار الولاء كما حصل مع جثة لينين . وعلى العكس من ذلك بنهاية بعض الصالحين والفلاسفة والأنبياء الذين عذبوا وشردوا وقتلوا بدون قبر. فـ (سقراط) انتهى بتجرع سم الشوكران. وطعن (سبينوزا) بسكينة في رقبته. وأحرق (جيوردانو برونو) في ساحة عامة عندما احتفلت الكنيسة قبل أربعة قرون ابتهاجا بالتخلص من أخطر المارقين فأحرقته على النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون به شهود. وحبس (ابن تيمية) حتى الموت في سجن القلعة بدمشق. ونحر (سعيد بن جبير) بين يدي الحجاج وهو يشخب في دمه. الصورة كما نرى ضبابية فبقدر النهاية التي تحمل العبرة في سقوط الجبارين وأن الكبرياء سبقت السقوط دوما. بقدر نجاة الكثير من الطغاة بجلودهم في عزة وشقاق. أو بالعكس بمصرع الكثير من المصلحين حرقاً أو ضرباً بالرصاص أو صلباً أو شنقاً. فـ (حسن البنا) مات صريعا بالرصاص في شارع عام. والمصلح الديني التشيكي (هوس) انتهت حياته حرقا. ومات (الحلاج ) صلباً في بغداد بكلمة اختلقت ضده بعد جلد ألفاً و قطعت أطرافه. ومات الحسين وجميع آل البيت معه ذبحا على يد يزيد الخليفة الأموي . وأنهى المفكر السوداني محمود طه حياته وهو يتأرجح على حبل المشنقة بتهمة الردة. ماتوا جميعا لا لذنب فعلوه بل من أجل أفكارهم ونشاطهم. هل يمكن أن نفهم ما يحدث ونرى الصورة واضحة متألقة في نهاية الطغاة والصالحين؟ تبدو نهاية الدنيا في بعض الأحوال كوميديا تدعو للضحك وليست خاتمة المطاف أو نهاية الدور الأخير على خشبة المسرح. فقد ينتهي طاغية في الدنيا بما يستحقه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كما حصل مع (آركان) و(ميلوسوفيتش) في صربيا . أو على العكس قد يودع الحياة هنيئا مريئا مرتاحا على كرسي السلطة ويحكم من قبره كما حصل مع جنكيزخان. وإذا كان تشاوسيسكو قد دلف إلى قبره باللعنة والرصاص فإن نظائره وهم كثر ماتوا بالهتاف بحياتهم ولطم الخدود لفقدانهم . وهناك من زحفت في موته جماهير هائلة بحيث يفرك المرء عينه ولا يصدق هل هو المجنون أم هم المجانين ؟ إنها جدلية محيرة كما نرى يحتاج الإنسان فيها إلى بوصلة جديدة بإحداثيات مغايرة ليفهم هذا اللغز. وأحيانا يمسك الإنسان رأسه بين يديه ويتساءل هل هو في بلاد أليس للعجائب أم أرض عبقر للجن. إننا مطوقون بالظلمات مسحورون سكرت أبصارنا ختم الله على قلوبنا وعلى سمعنا وأبصارنا غشاوة. إذا يمشي التاريخ وفق قانونه الخاص وترزح الشعوب في العذاب المهين إلى أجل غير مسمى وتتحمل الأمم كثيرا ويموت الكثير من الطغاة بكل سؤدد وفخار . فقد حكم (رمسيس الثاني) سبعين سنة وأنجب مائة من الأولاد ، وبقي الفرعون (بيبي الثاني) متربعاً على سدة الحكم تسعين سنة ، وأما (فرانكو) فقد استمر يركب ظهور العباد يقودهم بالسوط أربعين سنة كاملة . وهو الذي عين الملك (خوان كارلوس) الحالي بدلا من أبيه . وعندما مات (لويس الخامس عشر) طرب الناس في جنازته ولم يصدق الناس أنه رحل فقد ملوا حكمه الطويل الذي تجاوز نصف قرن. وعندما رمي (بريجينيف) في قبره وقع التابوت فتكسر فلم يأبه له أحد فالكل مله وانتظر نهاية مرحلته بعد طول عفن. إن الأوضاع السياسة تصل في بعض مراحلها أن البلد كله يوضع في ثلاجة فتتجمد فيه مفاصله حتى موت الطاغية. ونشرت مجلة (در شبيجل) الألمانية في إحصائية مثيرة عن أطول الناس حكماً فكان في رأس المخطط حكام العالم العربي في متوسط يصل ثلاثين عاما ويزيد! في إعلان خفي عن بزوغ عصر الملكيات . إن الطفل عندما يكتمل خلقه في الرحم لا يسأل كيف جاء إلى الحياة وهل كان من زواج أو سفاح أو اغتصاب. وعندما يولد إلى الدنيا يأخذ اسمه. وفي عالم السياسة تتخمر الأحداث والأيام حبالى وتتكون الأوضاع وتبرز إلى السطح فيتعجب الناس كيف حدث هذا وهي من صنع أيديهم. يقول المؤرخ الأمريكي (ديورانت) وهو يستعرض بعض المراحل التاريخية أنه مر عدد من الحكام لم يحصل في فترة حكمهم شيء يؤبه له أو يحتاج أن يذكر. ونحن اليوم نتذكر (ابن رشد) مثل الشعرى اليمانية في أفق التاريخ ولا نذكر أسم الملك الذي عاصره. فقد انمحى أسم الملك من الذاكرة لأنه لا جديد تحت الشمس مع أنه أيام الملك الموحدي كانت كل مصائر الناس بمن فيهم ابن رشد بين أصبعين من أصابع الحاكم يحركها كيف يشاء مثل اللعب بالمسبحة وهو الذي قرر النفي لابن رشد في عمر السبعين. إن الملك الذي نفى ابن رشد يتمنى لو قرن اسمه باسم ابن رشد. إن هؤلاء الشهداء لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون. إنهم كسروا حاجز الموت ومربع الزمن فهم يسبحون في فضاء الذكر إلى يوم يبعثون. إن المماليك حكموا خمسة قرون وكذلك العثمانيون. ولكن مسلسل المماليك البرجية والبحرية يمكن ضغط الزمن فيه فلا يتغير شيء. وهكذا فالزمن كما يقول (محمد إقبال) إنه ليس دورة الفلك بل حالة النفس وتقلب المجتمعات. إن أحدنا تمر عليه أسابيع يعيش مثل النبات وفي بضع ساعات يتطور فيها بأكثر من سنوات. ذلك أن شخصية الإنسان هي بتراكم الخبرات وليس بالرتابة اليومية والروتين القاتل. ومن العجيب أن ما يصقل جوهر الإنسان ويسمو به في معارج القدس هو المعاناة . ولقد خلقنا الإنسان في كبد. إننا لا نفهم حركة التاريخ ولا نملك التحليق العلوي لنبصر تسلسل الأحداث ولا نعي لماذا ترزح الشعوب في الضلالة وتسبح بحمد الطواغيت مع أنه لا يقدر عليهم إلا بقدر ما منحوه أنفسهم. إنها (عبودية مختارة) كما يقول (آتيين دي لا بواسيه) ولا تحتاج للتخلص من هذه القيود أن تقتل الحاكم أو تتآمر عليه. إن ما تحتاجه يختصر بكلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان وهي : (رفض التعاون) و (عدم الطاعة). لكنها وصفة لا يعرفها المثقفون ولا يتقنها المواطنون ولا يوجد حولها مؤسسات ولم تخلق بعد في قاموسنا الفكري والكل في الضلال المبين. إن المصلحين الاجتماعين والفلاسفة المفكرين قد يقتلون أو تنتهي حياتهم على شكل أسيف في عصر الظلمات السياسي التي تمر بها الأمة ولكن موتهم يختلف عن موت الطغاة. فهم يخضعون لقانون دفن البذرة في الأرض كي تخرج منها شجرة باسقة طلعها هضيم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. و(نزار القباني) بقي منفياً طول حياته ولم يقبله وطنه إلا جثة ولكن شعره يقرأه الأطفال قبل الكهول وفي كل الأرض . وأما موت الطغاة والجبارين فهو شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. إن موت الطاغية هو نهاية نظام ونخبة لأن الحاكم لا يحكم بنفسه بل بشبكة جهنمية يديرها من حوله رهط أتقنوا الإجرام واستكان لهم الناس بالفزع الأكبر. لكن الذي يحدث يتكرر كما حصل مع شاه إيران عندما قال : إن حولي 750 ألفا من الجنود والضباط فمن يريد الوصول إلي عليه أن يقفز فوق رؤوس هؤلاء أجمعين. واستكبر هو وجنوده بغيا في الأرض حتى جاء يوم الزلزلة وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود. ويمضي التاريخ وتنضج الشعوب ويتقلص ظل الجبارين ويموت أهل الفكر فيتركون أملا في الحياة ويسحق الجبارون سحقا. ويكتشف الناس في ذهول أن الموت حق لأنه يكنس الظالمين ويطور الحياة وبذلك يصبح الموت أحد مفردات الحياة. يقول (ديورانت) إن الامبراطور (كاليجولا) قال لجدته أنطونيا عندما حاولت نصحه :(اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي انسان) وأرغمها في النهاية على قتل نفسها. وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه قتلهم أجمعين وهم متكئون في مقاعدهم لايبرحون . وكان وهو يحتضن عشيقته أو زوجته يقول لها ضاحكاً (سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي). وكان يرسل إلى النساء ممن يهوى كتابا بالطلاق بأسماء أزواجهن (فلم توجد امرأة ذات مكانة إلا دعاها إليه) وأنفق في أحد ولائمه (عشرة ملايين سسترس) وفرض الضرائب على كل شيء حتى الحمالين والعاهرات ولو تزوجن . ونفى كل الفلاسفة من روما لأنهم رمز الخطر ومقلقي النوم العام ومفكر واحد أخطر من فرقة عسكرية مدرعة. وجاء اسم الفيلسوف (سينكا) في قائمة الاعدام إلا أنه نجا لكي يقتل لاحقا على يد نيرون. ونجا عمه (كلوديوس) من القتل عندما تظاهر بأنه أبله مجنون. وأخيرا طلب من الناس عبادته لأنه أفضل الآلهة ونصب تماثيله في مداخل المدن والساحات العامة وهو يحيي الجماهير. وفي النهاية قتل على يد ضايط من الحرس (البريتوري) وعندما ترددت الإشاعات في البلد أنه قتل لم يصدق الناس ويقول (ديو) المؤرخ أن : (كاليجولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس الهاً) .
هل هي نهاية الفكر المتطرف
وولادة ديموقراطية إسلامية؟
اشتبكت في نقاش طاحن مع مجموعة من المتشددين استمر عشر ساعات حول سؤال محدد: لماذا تقدم الغرب وليس معه كتاب وسنة؟ ولماذا تخلف المسلمون؟ وكان الجواب أن الغرب غير متقدم لأنه غير مسلم. وأن التقدم ليس في إنتاج الطائرات والكمبيوتر. وهكذا وقعنا في فخ المنهج الأرسطاطالي. فكل تقدم غير الإسلام هو تخلف. والغرب غير مسلم. الغرب إذاً متخلف. وبناء على التعريف السابق يصبح البرلمان الأوربي حسب رؤية المتشددين تخلفاً.. وفخر الصناعة الألمانية في إنتاج سيارات المرسيدس في شتوتجارت تخلفاً. والصدق في المعاملة. والالتزام بالمواعيد. واحترام حقوق الإنسان. وإتقان العمل. ونظافة دورات المياه العامة. والعدل في الرعية فلا يعتقل المواطن على الشبهة ويوضع على الخازوق. يصبح كل هذا على حد تعريف المتشددين تخلفاً. ألا ساء ما يحكمون.
وفي ألمانيا افتتح كاتب مقالته في مجلة إسلامية بهذه الجملة: (المسلم الحق لا ينطق إلا حقاً). وهذا التقرير لا يوجد إلا في دماغ الكاتب فلا يوجد (المسلم الحق) والله وصف نفسه بالحق فقال (ذلك بأن الله هو الحق). والمغالطة الثانية أن المسلم الأرضي ينطق حقا وباطلاً.
وهنا يحصل خلط بين ثلاثة أمور: الإسلام والمسلمين. البشري والإلهي. الذات ومسألة الآخر. فالإسلام هو نموذج مثالي والمسلمون بشر يصعدون ويهبطون يحققون ويفشلون. وعمل البشر يخضع لقوانين اجتماعية. والله غير متحيز للمسلمين وقانونه يسري على الجميع. قل فلم يعذبكم (بذنوبكم) في الجزائر وأفغانستان؟
وهذا يفسر ثلاثة أمور: لماذا استوردنا سيارات ولم نستورد الديموقراطية؟ ولماذا نبايع الزعيم السياسي مثل شيخ الطريق الصوفية إلى الأبد؟ وتوزع البطاقات الانتخابية مثل الحروز والتمائم على حد تعبير مالك بن نبي. وثانياً لماذا ينجح البرلمان الأوربي في إنقاذ حياة أوجلان الكردي وتغيير قانون الإعدام في تركيا بعد أن لاح فوق رأسه حبل المشنقة ثم دنا فتدلى. ولم تنجح كل مظاهرات الأكراد في إنقاذ رقبته. وثالثاً لماذا توقفنا عن الإنتاج المعرفي وتحولنا إلى كوكب تائه في الفضاء التاريخي الموحش بدون جاذبية وتوازن.
إن أعظم أزمة ساحقة يتعرض لها الإنسان هي عجزه عن الاستفادة مما حوله. واعتبر القرآن أن كثيرا من الآيات يمر عليها الناس وهم عنها معرضون. كما اعتبر أن الحمار لو حمل على ظهره موسوعات المعرفة كلها لم يحمل سوى أسفارا. والكنيسة باعت تذاكر لمقاعد وهمية في الجنة وهي تتلو الإنجيل. والذي فك حجر رشيد لم يكن المصريون بل شامبليون الفرنسي. والبترول موجود تحت أقدامنا منذ الأحقاب الجيولوجية والذي كشف عنه الغرب لحاجته لهذه المادة. وثروتنا المتواضعة تعود إلى صدفة جيولوجية أكثر من العمل. فهذه كلها شواهد على قانون نفسي اجتماعي يفيد أن أعظم المناظر لا يراها الأعمى. وأن انهيار الأسواق المالية لا تعني شيئاً لفقير لا يملك يورو أو دولارا. وأن معجزات موسى التسع بتحويل الأنهار إلى دماء وقفز الضفادع فوق رؤوس الأنام لم تزد قلب فرعون إلا قسوة فصلب الناس على جذوع النخل وقال لتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى.
وهذا السؤال في إشكالية تخلف المسلمين دفعت (حسين أحمد أمين) أن يضع عنواناً لكتابه (دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين) كما كتب (شكيب أرسلان) (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) وقدم الكتاب (رشيد رضا). وتعالج سلسلة كتب مالك بن نبي مشكلة الخسوف الحضاري التي انتبه إليها ابن خلدون منذ عام 1408 م حينما أشار في (مقدمته) "أن لسان الكون نادى بالخمول والانقباض فاستجاب". وهو يعني به كسوف شمس العرب من سماء الأحداث الكونية. ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. و(موت الأمم) هنا حسب القرآن يختلف عن (موت الأفراد البيولوجي). فالجسم الحي عندما يموت تعتريه مجموعة من الصفات تسمه بالموت. تبدأ بتوقف (وظيفة الشيء) ثم يتبعه (تحلل الشكل) وموت الأمم يشبه ذلك فتتقطع شبكة العلاقات الاجتماعية ويعجز المجتمع عن السيطرة على مشاكله اليومية قبل أن يتم ابتلاعه حضاريا ًمن أمم أخرى قوية. عندها لا يبقى للأمة سوى مدافن التاريخ. أما (الأفراد) فيبقون (بيولوجيا) ولكنهم يندمجون كقطع (بلوك) في بناء أمم جديدة حية. وهكذا تهلك الأمم في التاريخ والأمة العربية لا تخرج عن هذا القانون.
وبالنسبة للعالم العربي فقد انتهوا كحضارة منذ منتصف القرن الثالث عشر وخرجوا من مسرح التاريخ حينما انهار جناحا العالم الإسلامي إشبيلية وبغداد. ومازال مخطط الانحدار مندفعاً إلى الأسفل بقوة ودون رحمة. وخيل للعرب منذ نصف قرن أنهم تخلصوا من الاستعمار ولم تنتبه القيادات السياسية أن معركة الاستقلال الفعلي لم تبدأ بعد. لأن الاستعمار رصيد النفوس قبل الاحتلال العسكري وعندما فشل العرب في حل المعادلة استبدلوا الاستعمار الخارجي باستعمار داخلي أدهى وأمر. مثل من استبدل مرض السل بالإيدز.
وحسب مقالة الصحفي الإسرائيلي (أوري افنيري) الأخيرة عن المنطقة أنها ستصبح في قبضة المارد الأمريكي وينتهي الاستقلال العربي وتتبخر أحلام الوحدة وتقرر أمريكا سعر البترول وتلتهم الأوبيك وتدفع دول الخليج إلى حافة الإفلاس ويفتح ملف الحرب الصليبية الثامنة ويعيد التاريخ دورته كما كانت أيام صلاح الدين. وكما بدأنا أول خلق نعيده.
وهذا يلقي الضوء على مخطط الانحدار منذ الخمسينات الذي ازداد نكساً وأصبح الوضع السياسي أسودا مرباداً كالكوز مجخياً. فلم نحصل استقلالاً بل استبداداً، وسقطت شعوب المنطقة في يد ديكتاتوريات تفوح رائحتها حتى واشنطن فيطالب بوش بتغيرها. وهو في قسم من ذلك على حق. ونحن اليوم بفضل أمريكا نتنفس الحرية بنسمات إلكترونية عبر الانترنيت. وكنا من قبل نحاسب على الهمسة وتفتح صناديق البريد والرسائل من المخابرات. وبواسطة العلم الغربي انتهت الجغرافيا وتكسرت المراقبة ومعها الاستبداد وطغاة الشرق لا يصدقون. ولكن التاريخ كما قالت (كوندوليسا رايس) أن حركته ليست على نظم واحد ولكنه يتدفق بموجب طفرات مثل الكوانتوم فيتشكل العالم على نحو مستحدث كما حدث في الحرب الكونية وانهيار الاتحاد السوفيتي وأحداث سبتمبر.
وفي المقابلة التي أجرتها مجلة در شبيجل الألمانية في عددها (26\2002) مع الفرنسي (جيل كيبل Gilles Kepel) وهو متخصص في الإسلاميات. اعتبر أن الفكر الإسلامي على منعطف هام يودع فيه الفكر المتطرف. وأن بن لادن كان يريد استدراج الأمريكيين إلى أفغانستان كي يدفنهم في أرضها كما حصل مع الروس والبريطانيين من قبل، والذي فاته أن الأمريكيين استوعبوا درس التاريخ ولم يكرروا قصة الجرذ مع المصيدة. وهو يقول في تحليله للأوضاع أنه لا يعول على حماس الجماهير في الشارع فنصف حياة (تذكر) البطولة قصير في العالم العربي. وهو يشاهد ظاهرة جديدة من التحام القوى الإسلامية المعتدلة مع العلمانيين نحو توليد ديموقراطية إسلامية في المنطقة، وأن تفاؤله خف مع القيادات الشابة الجديدة لخوفهم أن انفتاح المجتمع معناه كنسهم. وأن عهد الثورات مثل ثورة إيران انتهى. وأن القوى المتطرفة لا تستطيع تحريك الشارع العربي. وأخطر ما يهدد الأنظمة هو الانفجار السكاني أكثر من المتطرفين. وقد يكون قسم من كلامه صحيحاً ولكن الشيء الأكيد أن هناك تيارات معتدلة تتشكل في المنطقة. وان هناك قدر من هامش الكتابة والتعبير وأنه يزداد باتساع وتسارع. وهناك قوانين لتغيير المجتمعات تعمل بطريقتها الخاصة سواء تفاءلنا أم تشاءمنا.
أرسل لي شاب في حالة ذعر كتابا ينتشر اليوم عن قرب قيام الساعة وقدوم المهدي وأن الإمام السيوطي جزم في كتابه (الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف) بأن عمر الأمة لن يتجاوز 1500 سنة بحال. وهذا يعني أن أمامنا لقيام الساعة 77 سنة.
وقع الذئب يوما في فخ الصياد فاقترب منه الثعلب يتأمله. قال له الذئب يقولون أن القيامة قامت. أجاب الثعلب أما القيامة فليس عندي خبرها ولكن الشيء الأكيد أن قيامتك قامت. ويبدو أن موعد قيامة الفكر المتشدد قد اقتربت.
جدلية المستضعفين والمستكبرين
في السبعينات من القرن الفائت كانت حمى الانقلابات العسكرية الثورية ناشطة في العالم العربي. وفي عام 1971 م وقعت محاولة انقلاب عسكرية فاشلة في بلد عربي. حيث احتجز في ضربة واحدة مئات الشخصيات التي تمثل (دماغ البلد) وكانت فرصة ممتازة لضابط مليء بالعقد النفسية أن يمارس طغيانه ويتمتع بالضحايا؛ فعندما اقترب منه صديق له وكان بين الأسرى عانقه ثم أفرغ الرصاص في بطنه فأرداه قتيلاً. وعندما لاحت منه نظرة ليكتشف غريمه رئيس الدرك أخرجه من صف الرهائن ليقول له أهلاً بك إن الدنيا صغيرة ثم يأمر باطلاق الرصاص عليه وعندما يخبره منفذ الجريمة أن مازال به رمق يضرب صدغه بقدمه ويقول هنا مكان القتل وإذ تدوي الطلقة مفجرة الجمجمة يرتعش الضحية ثم يهمد نهائياً. وفي كتاب (تذكرة ذهاب وإياب الى الجحيم) لمؤلفه (محمد الرايس) وكان يومها ضابطاً تحت أمرة جبار الانقلاب فيؤمر بقتل رجل بريء. يقول (الرايس):(ثم استدار نحوي ومسدسه مصوب الى صدري ثم أصدر الي الأمر التالي: الرايس اقتل هذا الخائن. ترددت وحسبت أنني أحلم وأنها مجرد تهيؤات لاأقل ولاأكثر. لكن (أعبابو) كرر الأمر بلهجة تهديد وقد صوب الماسورة نحوي والتمعت في عينيه شرارة حقد ورعب. وكان ينتظر رفضي ليرديني قتيلا دون شفقة أو رحمة. نظرت إليه نظرة المتسول الذي ينتظر صدقة وكانت صدقتي التي انتظرها من هذا الانسان البشع والمنعدم الضمير هي تراجعه عن قراره القاسي والحال أنه أصر بألحاح وهددني بالقول حذار لاتدفعني لكي أقتلك أيضاً. هذا الإنذار هز كياني فطفا الى السطح جبني الذي طالما أخفته أنفتي الزائفة واستولى على جبن رهيب وقاهر وتاهت نفسي في سراديب الخوف من الموت في عز شبابي. اهتز جسدي كله وأنا أفكر بأنني سأقتل انساناً لاشك أنه بريء وأعزل على الخصوص. لم يكن أمامي اختيار فإذا ما أنا رفضت تنفيذ هذا الأمر الوضيع سيقتلني أعبابو لامحالة ويقتل القبطان أيضاً. وإذا قتلته ستظل الجريمة عالقة بي إلى الأبد. حتى لو كانت فعلتي غير إرادية وإجبارية تحت تهديد أعبابو فستظل جريمة وعملاً غير عادل ولا إنساني في حق شخص اتهمه المتآمر الرهيب بأنه خائن. كنت أفكر فيما سأقدم عليه. اختلطت أفكاري وتشوشت ذاكرتي مع تسارع الأحداث ورعب الفعلة. لم استطع أن أقاوم طويلاً إحساسي الإنساني الذي منعني من القيام بما أمرت به وانتصر الجانب المدنس فيَّ ودفعني الى الضغط على الزناد. حتى إن دويّ الطلقة فاجأني. خر القبطان صريعاً وسقط معه ليس فقط كل ماضيّ الذي كان مصدر عزتي وافتخاري تاركاً وراءه احساساً بالعار بل سقط معه أيضاً مستقبلي. أصبحت انساناً محطماً لأن (أمحمد أعبابو) نزع مني في رمشة عين أعز مالدي: شرفي). إن القرآن الكريم يذكرنا بواقعة مشابهة عندما يهم فرعون بقتل موسى (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه) ولكن القرآن يخلد الواقعة التاريخية في سورة كاملة تحمل اسم صاحبها (سورة المؤمن) لرجل واحد يوازي بموقفه حقبة تاريخية بأكملها بين جموع فاسدة باعت ضميرها للشيطان عندما يقف فيعلن رأيه :(أتقتلون رجلاً أن يقول رب يالله) ولكن السؤال من أين تأتي القوة النفسية لهذا فيعترض على حكم الأعدام مع أنه لم يدع لفعله فلايسكت على الظلم، في الوقت الذي ينفذ (محمد الرايس) ما أمره به (أعبابو) فيقتل رجلاً بريئاً لأنه أمر بذلك. إن هذا يحتاج الى تفكيك سيكولوجي اجتماعي. ينقسم الناس عند الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) إلى قادة وأتباع خاصة في الظروف الخطيرة التي تتطلب الحسم في اتخاذ القرارات. وهناك طرز ثالث من :(الذين ينسحبون ويجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية لرفض الاذعان). ولكن الانسحاب بذاته يمكن السادة المسيطرين أن ينظروا الى المادة الانسانية :(نفس النظرة التي تعلموها بالنسبة لآلاتهم ويرون فيها شيئاً لا إحساس فيه) ولكن نظرة من هذا النوع كفيلة بإنتاج عصر مرعب :(تغلب عليه صفة من اللاانسانية المجردة تفوق كل ماعرفه العالم في عصوره السابقة). إن القيادة تختلط بالعبقرية والأبداع كما جاء ذلك في الدراسة التفصيلية التي تقدم بها (دين كيث سيمنتون) ولكن العبقرية لاتعني القيادة والعكس صحيح فلا يشترط في القائد التميز والابداع. وأسوء الأنواع هم العسكريون عندما يتحولون من مواقعهم التنفيذية الى مراكز التفكير كما لو أدخلنا خلية عضلية أو عظمية لتحتل موقع خلية عصبية. إن الدماغ محاط بأربعة أنواع من الحماية بين قحف عظمي وعضلات حافظة وأغشية مغلفة ثم الماء الذي تسبح فيه المادة العصبية أما الدماغ بحد ذاته فهو في غاية الهشاشة. ولكن أن تزحف خلية عظمية الى داخل الدماغ هو وضع سرطاني وفي المجتمع يحدث نفس الشيء عندما يقتحم العسكر مراكز التفكير ليفرضوا التوجيه. إذا كان العباقرة يتميزون فليسوا بالضرورة قادة وكان (هنري كفنديش H.Cavendish) مثلاً (الذي اكتشف الهدرجين وقام بحساب كتلة الأرض لم يكن يخاطب النساء ولم تزد كلماته لأي رجل عن بضع كلمات وكان له مدخله الخاص الى المنزل وقد بنى هذا المدخل بحيث كان يمكنه الذهاب والإياب دون الالتقاء بأحد) في الوقت الذي كان هتلر خطيبا مفوهاً يسحر الألباب ويتلاعب بمشاعر الجماهير. جاء في مذكرات (رودولف هيس) :(حضرت يوما اجتماعاً شعبياً كان يتحدث فيه هتلر وكانت تلك المرة الأولى التي كنت أبكي وهتلر يتكلم . كان حديث هتلر أشبه بالميلوديات الخالدة يربط بين ماهو قديم وجديد والناس تعتصرهم الأحاسيس الجياشة مرة تصعد بنا كلماته الى السماء وتارة تهبط بنا الى الجحيم وغالبا كلاهما معا وكانت المتعة في الألم والخوف والبهجة ممزوجة باعجوبة. هكذا كان يتكلم الزعيم). كذلك وحسب احصائيات مجلة در شبيجل فإن القادة العسكريين كانوا أقرب الى الحمق منهم الى الذكاء. وفي الدراسة التي أجرتها (كاثرين كوكس) عن القادة الـ 109 كان أقلهم ذكاء الـ 27 من القادة العسكريين . وفي القرآن الكريم تم تشريح مشكلة (الأتباع) في العديد من المواضع حيث يتبرأ كل طرف من الآخر. (إذ تبرأ الذين اتُبِعوا من الذين اتَبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتَبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم). وفي سوة سبأ نرى مسرحية كاملة (للظالمين) ونفاجأ أن شريحة الظالمين مكونة من لونين من الناس كل فريق يلقي اللوم على الآخر : المستضعفين والمستكبرين. (ولو ترى إذا الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين). إن كلمة (ظالم) توحي بأنه عمل يوقعه شخص بآخر وهو فعلاً كذلك بالمعنى الفلسفي عندما يوقع الانسان الظلم بنفسه. فهذا الانشطار بين الانسان ونفسه هو جذر المشكلة. وعندما يتشكل وسط الاستضعاف فإنه يقود مثل الانشطار النووي الى سلسلة مضاعفات. فالاستضعاف يولد الاستكبار. وكلما استسلم الأتباع أكثر زادت شراسة الزعماء وشعورهم بأنهم فوق الخطأ ومعصومون. إن (الاستكبار) حالة ورمية غير صحية لأنها نفخ وحقن (ذات ضعيفة) بصفات كبيرة كما أن العكس صحيح. فمع تفريغ القوة من الشخص المتورم يحيله الى كائن ضامر. وهذا التردد أو الانقلاب بين الضعف والتجبر هو مؤشر فقدان التوازن وغياب الصحة النفسية. ونحن نعرف هذه الظاهرة المرضية في العديد من المستويات. ففي مستوى الفيزياء نعلم أن تدفق التيار الكهربي هو شحنة سلبية ولكنها تردد بين قطبين موجب وسالب. كما أن الصورة الفوتوغرافية تبدأ من صورة سلبية سوداء داكنة قبل (تحميضها) وإخراج صورة ملونة منها. وكذلك في مرض (الاستكبار) فقد توحي مظاهر القوة بالجمال كما نادى فرعون في قومه أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين. كان موسى في نظر فرعون شخصا تافها عييا في النطق أما هو فهو الذي يملك المقدرات والمصائر ويحسن النطق فيقول ماعلمت لكم من إله غيري وما أريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد. وفي علم النفس نواجه في عالم (الجنس) مرض السادي والمازوخي وفي شمال ألمانيا توجد مؤسسة عملاقة في مدينة (فلنسبورغ) تحصل المليارات من الماركات سنويا من نشر بضاعة الجنس على كل المقاييس والأذواق ومنها توريد أدوات التعذيب من سلاسل وأحزمة وسياط ذلك أن السادي لايصل الى الذروة الا ببمارسة التعذيب. ويذكر (كولن ولسن) في كتابه (أصول الدافع الجنسي) عن مرض (النيكروفيليا) و (الفتيشية) الشيء العجيب من ممارسة اللذة مع الجثث أو الاثارة برؤية الملابس الداخلية. والسادي تعريفاً هو الذي يتهيج جنسياً عندما يلحق الأذى بالآخر. كما أن المازوخي لايتمتع جنسيا مالم يجلد ويتألم ونحن نعرف أن هذا الخلل النفسي هو وجهان لعملة واحدة فالسادي هو مازوخي وبالعكس. وتصلح هذه القاعدة لعلم السياسة فالجبارون ضعاف لأن المحتوى النفسي الداخلي كاذب غير حقيقي، كما أن سطوتهم لاتزيد عن أوهام، والديكتاتورية شجرة هشة لأنها نبتت في جو اللاشرعية والجريمة، والكلمة الخبيثة شجرة خبيثة تسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص فيكون انجعافها مرة واحدة. إن الاستضعاف والاستكبار عملة مزدوجة وطاقة تبادلية مثل توتر الكهرباء بين السالب والموجب، أو مخطط القلب الكهربي من ذروة فوق خط السواء وموجة أسفل منه. وهذه الحركة النواسية المزدوجة التبادلية هو سر المرض برمته. وهو معمم داخل النفس الواحدة وانتهاء ببناء عالم ثنائي الأقطاب مشوه الصورة مريض الأداء. إن منظر الشرطي والسائق في العالم الثالث يفضح هذا المرض. لنتأمله وهو يوقف سائقاً مضطربا جاف الريق ممتقع القسمات وهو يقدم أوراقه، وبين الشرطي وهو يتقدم شامخ الرأس واثق الخطا مباعدا بين رجليه يطالب المجرم بتقديم أوراقه. ومن الغريب أن المنظر قابل للتكرار بقلب الأدوار وبفارق تغيير الملابس أي القشرة الخارجية لا أكثر. فعندما نحشر الشرطي في مقعد السائق ونلبس السائق قبعة الشرطي فإن المنظر يتكرر بحذافيره في شاهد واضح أن (الوحدة الإمراضية) واحدة بسبب خلل رافعة القوة. فالمستكبر في أعماق نفسه هو مستضعف والعكس بالعكس. وباتجاه ثاني عندما يتقدم الشرطي الى الضابط الأعلى منه فإنه يصبح مستضعفاً وهو كان قبل لحظات مستكبرا أمام السائق. كما أن الضابط أمام الجنرال يصبح حقيرا. أما الجنرال أمام الحاكم الأعلى فهو بين يدي الإله لايتكلمون الا من أذن له وقال صوابا. هذا المرض يتخلل كل المستويات بين الشرطي والسائق والرجل وزوجته والموظف والمراجع وبين ضابطين بفارق نجمة واحدة مالم يكن هناك خلل من نوع ثاني، فقد يكون هناك ضابط بنجمة واحدة ولكنه يحل المشاكل بأفضل من جنرال كبير، أو ممرضة في الجناح أهم من رئيس قسم الجراحة بكل ثقله العلمي بسبب أنهم مدعومون بشبكة جديدة تمسك بالبلد من عائلة أو طائفة أو قبيلة أو حزب فهنا تتبدل الحسابات من جديد وتدخل مفردات جديدة في المعادلة. وينتقل هذا المرض الى مستوى نوعي جديد بين الحاكم والأمة أو بين دولتين. فتمسح الأمة (المستضعفة) لصالح الحاكم الفرد (المستكبر) أو بين دولة مستكبرة مثل أمريكا ودولة ضعيفة من العالم الثالث. المرض كما نرى انساني عميق الجذور خبيث الطبيعة مثل السرطان الذي يتظاهر بالتمرد الخلوي في الوظيفة والمكان. فعندما تترك خلايا الثدي مكانها لتنشط في الدماغ، أو تضرب خلايا الكولون بإعصارها في الكبد كذلك يحدث الخلل الوظيفي الاجتماعي والعالمي فمن كانت وظيفته الحراسة ينقلب الى قائد. ومن كانت مهمته الأمن ينقلب الى جهاز رعب. ومن كان في القاع يصبح له جناحان فيطير الى السقف. إن الانسان عندما يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معا. ومن نتائج هذا الخلل النفسي أن الانشطار الداخلي هو تفكك الشخصية لتتحول الى شخصيتين (جايكل وهايد) في فصام نكد ومرض بدون علاج لأن صاحبه آخر من يدرك أنه مريض كما في علة القصر فهي علة وراثية غير قابلة للعلاج ولو بلبس بنطلون طويل. وهنا تبرز الى السطح ثلاث ظواهر على مستوى الفرد (الانسان العصا) أو (انسان الفكرة) أو (انسان المبادرة). الانسان العصا أو البوق أو المسدس هو من يؤمر فيطيع بدون تردد وهو يقول حاضر سيدي حتى لو امر بهدم الكعبة كما فعل الحجاج. وفي جيوش العالم العربي يستفتح الجندي أول أيامه بحفظ القاعدة الذهبية (نفذ ثم اعترض). وهكذا وتحت هذا الاغتيال المنظم للعقل والارادة أمكن تحويل الجنود الى (روبوتات) والجيوش الى (مطارق لحمية) خرساء عمياء تقوم بالتهام الجيران واستباحة الأمة وهدم المدن بالصواريخ ورش الغازات السامة على المواطنين ليتساقطوا كالذباب ودفن الناس في قبور تحت الأرض عشرات السنوات كفاتا أحياء وأمواتا في سجون خاصة كما فاحت من رواية (بطاقة ذهاب وإياب الى الجحيم). وإذا كانت بعض الدول العربية لم تصل الى هذه الدرجة من الشراسة فليس بسبب الحصانة بل لغياب ظروف إبرازها الى السطح. وكل ذلك بسبب إنتاج نموذج الانسان المريض (المستضعف المستكبر). أما (انسان الفكرة) فهو الذي تحررت إرادته فيطيع في الطاعة ويعصي في المعصية ولاينفذ الا مايقتنع به ويناقش الأوامر وصلاحيتها. ولكن (انسان المبادرة) هو من نوع مختلف وعندما تأتي الأوامر بهدم الكعبة يقول لن اقف مكتوف الأيدي ولايمكن أن أبقى على قيد الحياة وأنا أرى ذلك. وفي كتاب (زيارة الجحيم) يسأل الجنرال (أوفقير) ضابط الانقلاب:(كان عليكم أن تشغلوا دماغكم فأنتم ضباط ولستم حميراً) فكان جوابه :(لقد نحتوا في أذهاننا الطاعة العمياء والخضوع المطلق وفي كل لحظة دونما سؤال أو رفض) من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة على طبيب كان صديقه في زيارته سألته: لو أُعطيت مسدساً ووُضِع على صدغك مسدس ثم طُلب منك تحت التهديد بقتلك قتل هذا الذي أنت في ضيافته ماكنت فاعلاً. فوجيء صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشي ثم اعترف بأنه سيقتل. إلا أنه اكتشف نفسه قد تحول إلى مجرم. عندها تدفق من فمه سيلًٌ من المبررات ليس آخرها أن الله سيغفر له لإنه (مُكْرَه). هنا أدركت أن هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر وأن نماذج (محمد الرايس) و(أعبابو) موجودة بكثرة بأسماء مختلفة وأن عصر الظلمات السياسي في العالم العربي تحصيل حاصل.
مراجع وهوامش لمقالتي (القادة والأتباع) و( جدلية المستضعفين والمستكبرين).
(1) مجلة المختار ـ عدد سبتمبر أيلول 1982 م ـ ذو القعدة 1402 هـ ـ ص 132 ـ معركة ستالينجراد ـ ملخص من كتاب بقلم وليم كريغ) (2) المقدمة ص 147 طبعة المثنى ببغداد (3) كتاب (العبقرية والابداع والقيادة) تأليف ديت كيث سايمنتن ـ ترجمة شاكر عبد الحميد ومراجعة د . محمد عصفور ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 176 ص 13 (4) نفس المصدر السابق ص 179 (5) كتاب (السلطان) ـ تاليف (برتراند راسل) ـ ترجمة خيري حماد ـ دار الطليعة بيروت ص 37 (6) مذكرات رودولف هيس ـ ترجمة زهير مارديني ـ دار اقرأ ـ ص 36 (7) سورة الزخرف الآية 50 - 52 (8) كتاب (أصول الدافع الجنسي) ـ تأليف (كولن ولسن) ـ ترجمة يوسف شرورو وسمير كتاب ـ دار الآداب بيروت ـ ص 200 (9) العبودية المختارة ـ أتيين دي لابواسييه ـ ترجمة مصطفى صفوان(10) فقه اللغة للثعالبي النيسابوري (11) كتاب (الانسان يبحث عن المعنى) ـ فيكتور فرانكل ـ ترجمة طلعت منصور ـ دار القلم ـ ص 50 (12) مذكرات محمد الرايس ـ تذكرة ذهاب وإياب الى الجحيم ـ ترجمة عبد الحميد جماهري ـ مطبعة دار النشر المغربية ـ ص 43 ت 44.
(تشريح بنية الوثنية السياسية)
جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد:(يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا: شأنك. فخرج إليهم فقالوا ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد أجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلِّمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم أخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن)(1). إن هذه القصة تحكي اختلاط الالهي بالبشري والتشدد بالجهل والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الاسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فإن (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه إعيد أحياؤه مرة أخرى بدون اسم الخوارج. وفي الوقت الذي تعيش الطالبان خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا ولاتعرف ماهي المعاصرة وترتهن لقوة السلاح. فإن التاريخ ينقل لنا أنهم ليس أول من سن هذه السنة السيئة في هدم آثار من خالفه الرأي بل حصلت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الأولى قام بها البروتستانت عام 1529 م في سويسرا وهولندا وألمانيا تحت شعار: أيها الصنم إن كنت الهاً كما تدعي فدافع عن نفسك؟ وإن كنت بشراً فيجب أن تنزف دماً بالتصفية الجسدية. ويعلق (بيتر يتسلر Peter Jezler) مدير المتحف التاريخي في (بيرن) هل كان مافعلوه جنوناً أم إرادة الله حقاً كما يزعمون؟ وختم كلامه ( إنه سؤال للضمير في أوربا المسيحية والعالم الاسلامي)(2). والمهم أن أعظم التحف الأثرية في الشمال الأوربي تم نسفها نسفاً بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الانساني (ايراسموس Erasmus von Rotterdam) ووصف تلك النزعة التدميرية:( أنها تشبه تدمير طروادة في العصرالقديم). وأما التدمير الثاني وكان أشد هولاً وأعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الأسبان حيث لاتعلم أوربا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني شبنجلر ماحدث بهذه الأسطر المأساوية:( فحضارة المايا لم تمت جوعاً بل قتلت قتلا وهي في أوج ازدهارها ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس إذا ماقطع أحد المارة تاجها. فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية وأكثر من اتحاد وبما لها من حجم موارد أضخم بكثير من موارد الدول الأغريقية والرومانية في زمن هانيبال ونظام مالي أعد بعناية وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور وأنظمة إدارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية، مجتمعات لايستطيع الغرب أن يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك . أقول كل هذه الدول وبكل مالها من أرصدة حضارية لم تندثر نتيجة لحرب يائسة ، بل إنما جرفتها خلال سنوات قليلة عصابة ضئيلة العدد من اللصوص ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها السكان بلهاء لاتحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة. فمن المدينة العملاقة (تينو شتتلان) لم يبق حجر واحد لم يغيبه الثرى في أحشائه. وأذعنت العناقيد من مدن المايا العظيمة التي شيدت في غابات يوكاتان العذراء لهجمات نبات الأرض واستسلمت لها استسلام من فترت همته وخارت عزيمته. وهكذا ترانا اليوم لانعرف اسم مدينة من تلك المدن. ولم تعف يد الدمار إلا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن أحد حتى الآن من قراءتها. أما أشد مظاهر هذه المأساة إيلاماً للنفس وترويعاً لها كون هذا التدمير الساحق الماحق يتنافى وأبسط ضرورات الحضارة الغربية. وقد جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس اولئك المغامرين. ولم يترام الى مسامع المانيا وفرنسا أو انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك ويحدث. وهذا المثال لدليل قاطع مابعده دليل على أن تاريخ الانسانية لايمتلك أي معنى كان . وعلى أن المغزى العميق إنما يكمن ويثوي في مجرى حياة كل حضارة على حدة. فالعلاقات المشتركة بين الحضارات هي من بنات الصدف ودون أهمية. ولقد بلغت الصدفة في هذه الحال درجة من القسوة والتفاهة والشذوذ والغباء بحيث لايجوز لنا أبداً أن نبدي أي نوع من التسامح نحوها. فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها)(3). وقصة الطالبان اليوم تفتح النقاش حول مفهوم الصنم فما هو ؟ قد يكون الصنم حجراً أو بشراً أو (ايديولوجية). ولكنه يتظاهر دوماً بأنه متعالي مافوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الانساني الانصياع والرهبة أمام (سيطرته). لذا وصف الفيلسوف (محمد إقبال) أن الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الأزمنة:(تبدل في كل حال مناة ... شاب بنو الدهر وهي فتاة). ولم تهدأ معركة (الصنم) و(الفكرة) عبر التاريخ. قد يكون الصنم (تمثالاً) لامعاً يمنح البركات يطوف حوله بشر مغفلون يزعمون أنه يشفي العلل ويقيم المشلولين وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشراً) متعالياً فوق النقد والخطأ كلماته حكم خالدة وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع وصوره مرفوعة بكل الألوان والأحجام واللقطات حيثما قلب المرء وجهه. أو (ايديولوجية) لاتقبل المراجعة فرضها كهان يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لايفهمها المواطن أكثر من فهم زمع الكهان ونفث السحرة. الذين ترتبط مصالحهم بالوثن الذي رفعوه وتتعلق كل امتيازاتهم بهذه المراهنة الحمقاء فيبنون لأنفسهم مجدا على حساب قتل الأمة ثم بدورهم يقتلون. أبسط الأصنام مانحت من الحجر لظهوره وأعقدها الايديولوجية لاختفاءها خلف الشعارات في كلمات ما أنزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الأصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من علٍ بوجه مكفهر ويد ممدودة إلى جماهير مطحونة تعيش كي لاتعيش مغموسة بالذل لقمتها ليس عندها قوت يومها غير آمنة على نفسها مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى وإذا تنفست كان الجو عابقاً بجزيئات (رجال الأمن). عبد أهل الجاهلية الأوثان فأقاموا نصب الَّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وظن العرب أنهم نجوا من موبقة الوثنية ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد بنسخ مستحدثة عندما غربت شمس (الفكرة). وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وفرضت ايديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن. يخطيء من يظن أن (الصنم) مرتبط بالتمثال من حجر. كما يخطيء من يعتقد أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله. كذلك يقع في الوهم من يتصور أن معركة الأنبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تمعن في الجدل النظري وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله. ويخطيء من يظن أن فرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. لو كان (التمثال) صنماً لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور. وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق:(إن البعرة لتدل على البعير وإن الأثر ليدل على المسير. سماء ذات أبراج. وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج. ألا تدل على وجود اللطيف الخبير). واختصر القرآن ذلك في نصف آية فقال:(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولُّن الله فأنى يؤفكون). كما أن معركة التوحيد التي خاضها الأنبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الأرض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية تستخدم أدوات (علم الكلام) و (المنطق) بل كانت اجتماعية سياسية تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية. ولذلك كانت طاحنة قاسية هُدِّد فيها الأنبياء بالرجم والهجر والإخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمناً لذلك، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع أن يتحول الى فرعوني بلبس مسوحه والتحلي بأخلاقه عندما يتشقق المجتمع الى طبقات وتحول أهله شيعاً. إنه لايهم أن يكون الصنم من حجر أو تمر أو شعار أو حزب أو عائلة بل نظرتنا إليه. ونحن من نشحنه بالمعنى. والأهم من هذا السدنة الذين يقفون خلفه يوحون إلى الجماهير زخرف القول غرورا أنه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق .ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى ومواكب الكذب وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية. والتقدم إليه بالقرابين البشرية في الحروب عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف المبين. إنها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. إن هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته والرسول (ص) يقرأ الآية(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله). إن عدي استفظع الموضوع كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة الى رب؟ فشرحه له (ص):(إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فذلك عبادتهم إياهم)(4). وعندما وجه رسول الله (ص) رسله الى الأرض طالب بكلمة السواء أن لايتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا. وهي ماوصلت إليه الديموقراطية اليوم أي أن يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع أفقي. فنرى الرئيس الأمريكي (ترومان) يأكل مع الجنود ويحمل طعامه بيده وهو يعلن ضرب اليابان بالسلاح النووي قبل خمسين عاماً. أو نرى حفيده (كلينتون) وهو يساق الى المحكمة للتأديب أمام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر. إنها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. إنها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى. لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لابصرون بها. أين الأصنام إذاً هل هي حقاً في أفغانستان ؟ هل هي أصنام بوذا العملاقة أم سدنة السياسة؟ إن اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ومع استيلاد الوثنية وسطوتها ورسوخ شجرة الاستبداد تموت الحياة ويستل منها رمق الحياة. ويعاني العقل من الاختناق بنقص اكسجين. وتسبِّح الأمة بحمد الجبارين جهراً وتلعنهم سرا لتنشأ ظاهرة النفاق. وإذا منحت أي حق هو لها كان منحة رائعة من يد عليا. ظلمات بعضها فوق بعض أذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور. إننا نضرب في المكان الخطأ كما ينطح الثور الاسباني خرقة المصارع وهو يظن انه يحسن صنعا. إن الطالبان يفعلون كما يقول النيهوم بالتورط في نوع من مصارعة الثيران يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ويؤدي فيها الطالبان (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوماً بالهجوم لكي يموت بعد ذلك أمام جمهور يصفق بحرارة وهي صورة تعالجها وسائل الإعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة رغم إلمامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الإعلام الرأسمالي أن يذهب إليه قبل أن يعرف أنه الدجال)(5). إن من السهل إزعاج الاخرين ولايحتاج كسر قلوب عشرين شخصاً اكثر من عشرين إهانة في عشرين دقيقة. ولاحاجة لأن تستعدي عليك العالم أكثر من التعرض لمقدساته ولكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع الى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتجتون) يفرك يديه فرحاً الآن بتحليل صدام الحضارات عندما قام الطالبان بالمهمة مجاناً بصدم العالم الاسلامي بالبوذي. إنه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. أو كما يقول مونتسكيو :(موقف الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة)(6). أو كما يقول (لورد اكتون):( كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق). لايمكن لأي سيارة أن تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل ولا رائحة للمعارضة في حالة أكبر من الكارثة. أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم. إن وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التي جاء من أجلها الأنبياء وعليه مات بعضهم والآمرين بالقسط من الناس أو طوردوا الى حافة الصلب فرفعه الله إليه؟ وكما يقول جودت سعيد ( إن البشر حين يعظّمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من أمريكا إلى أصغر ديكتاتور... ولفهم الطاغوت قصَّ الله علينا قصة أكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات أكبر الآثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفراً بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر. وقصة فرعون مع موسى من أطول قصص القرآن وأكثرها تكرارا حتى لايبقى شيء من أمر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون أكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى أكثر من مائة مرة، وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. إنها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وماوراء الكلمات من مسلمات وأسس يبني عليها وهي ليست ظاهرة بل خفية تحت الأبنية التي أقيمت عليها. وسيكون هذا موضوعاً شيقاً للدراسة والمقارنة ومعرفة طبيعة الانسان)(7).ولكن من الغريب أن المسلمين يلعنون فرعوناً خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الأوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) في شاهد صاعق عما تفعله الثقافة في تعطيل أقدس النصوص وأن معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (إمام عبد الفتاح إمام) يسجل مثل هذه الفقرات الحزينة المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية):(وعندما أجلت البصر وأمعنت النظر في مجتمعنا العربي بصفة عامة بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم أشد سوءاً وكلما أوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على مايسوء حتى وصلت الى البدايات الأولى عند البابليين والفراعنة. دون أن أجد مرحلة استطاع فيها المواطن أن يقول بملء الفم هذه بلادي وأنا أنعم فيها بانسانيتي وكرامتي وأتمتع بجميع حقوقي وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصتع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة أشد تشاؤماً:(إننا نتقهقر .. ومن هنا فلاتزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلاً والنفس حزينة حتى الموت)(8). وأنا كنت أتأمل دعاء الفجر (إنه لايذل من واليت ولايعز من عاديت) فعرفت سر الذل الذي يصب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس لإن الوثنية تتمتع بحصانة عندنا وخفاء، في الوقت الذي تخلص الغرب من أوثان السياسية واقترب درجة اكثر من التوحيد فرفعه الله. وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى أن هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم :(وإذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية لأنه لايغرس أفكارا بل ينصب أصناماً ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح) ورأى أن الوثنية غيرت لونها فاستبدلت (الدروشة الجديدة التمائم والحروز بأوراق الانتخابات) والمطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن :( الحكومة مهما كانت ماهي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه. وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلابد أن تكون حكومته استعمارية) ولذا فإن ماحصل كان سقوطاً :(في أحضان الوثنية مرة أخرى كأن الاصلاح حطم الزوايا والقباب من دون الوثن.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية)(9). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو أن هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن عبد الطاغوت يقتربون في أشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً. أذاعت محطة بريطانية في 31 مارس من عام 1846 م أنه سيكون في الأول من ابريل معرض هام وكبير لكل أنواع الحمير في صالة عرض فخمة وفعلاً جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة وأخذوا في الانتظار وهم يمنون النفس برؤية هذا الحيوان المشهور بآذانه الطويلة وغباءه المعهود فلما امتد الوقت لم يظهر أحد ولم يكن هناك في القاعة إلا من حضر عند ذلك ضحكوا على أنفسهم الى درجة الأغماء لأنهم عرفوا إن كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الأول من ابريل المترافق بكذبة نيسان(10) هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟
مراجع وهوامش
(1) كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد ج 2 ص 122 نقلاً عن كتاب (أدب الاختلاف) تأليف (طه جابر العلواني) المعهد العالمي للفكر الاسلامي ـ الطبعة الخامسة 1992 م ص 12 (2) مجلة در شبيجل الألمانية ـ العدد 11 تاريخ 12 \ 3 \ 2001 م ص 223 عنوان المقالة هل أنت اله دافع عن نفسك؟ (3) أفول الغرب ـ تأليف أوسفالد شبنجلر ـ ترجمة أحمد الشيباني ـ دار مكتبة الحياة بيروت ـ الجزء الثاني ص 285 (4) يراجع في هذا كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم ـ أبو الأعلى المودودي ـ فصل الأله(5) كتاب (صوت الناس ـ محنة ثقافة مزورة) ـ تأليف الصادق النيهوم ـ نشر رياض الريس ـ ص 236 (6) كتاب (الطاغية) الدكتور إمام عبد الفتاح إمام وهذه الفقرة والتي بعدها للورد اكتون من نفس الكتاب نشر مدبولي ص 49 (7) جودت سعيد ـ مجلة المجلة ـ العدد 1102 ص 76 (8) كتاب الطاغية ـ تأليف أ . د . إمام عبد الفتاح إمام ـ الناشر مدبولي ـ ص 27 (9) مالك بن نبي ـ شروط النهضة ـ ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبد الصبور شاهين ـ دار الفكر ـ ص 36 (10) كتاب (فلسفة الكذب) ـ محمد مهدي علام ـ مكتبة التراث الاسلامي ـ ص 69.
غيلان العصر
في داخل كل فرد منا وحش نائم ينتظر الإيقاظ. وكل منا يمكن أن يتحول إلى الفرعون بيبي الثاني فيما لو منح القوة بدون كوابح. وهذا القانون إنساني لا يفترق فيه توني بلير عن نرويجا ولا ميتران عن صدام. ومن يظن أن طيبة الأخلاق يمكن أن يوثق بها فقد ضل ضلالاً مبينا. طالما كان الحاكم تحت يده قوة هائلة بدون ردع ومساءلة. وكمية من الغاز قابلة للانتشار في أي حيز ولو كان كل غلاف الكرة الأرضية طالما لا يوجد حاجز يمنع من الانتشار فهذا قوانين وجودية تمسك بالكون مالها من مرد.
ويقول اللورد أكتون أن قليل من السلطة يعني قليلاً من الفساد وأن السلطة المطلقة تعني الفساد المطلق. ويذهب (برتراند راسل) في كتابه (السلطان Power) أنه لا مانع لدى الإنسان أن يصبح إلهاً . فهي متعة بدون حدود. حينما يلعب بصرر النقود والمسبحة ومصائر الناس. وحتى نعرف من هو الله الفعلي في حياة الناس فليجرب المواطن حظه بالتعرض بالسوء لذكر الحاكم في مكان عام أو رب العزة والجلالة. ولير أيهما أسرع في تحريك الأيادي واللسان إليه بالسب والأذى.
إنها أفكار مزعجة ولكنها حقائق لا يريد أحد أن يتكلم بها.
وفي كتاب (العبودية المختارة) للفيلسوف الفرنسي (إتيين دي لا بواسييه) الذي كتبه عام 1562 م قام بتفكيك مذهل لآلية الطغيان أن شبكة الطغيان الرهيب تبدأ من عدة رؤوس لا تتجاوز الستة في العادة من الطاغية والعصابة حوله. الذين يتصلون بدورهم بستمائة وهكذا نزولا في السلسلة مثل الشبكة العصبية في الجسم تتحرك بومضة من وحي الزعيم.
ويرى القرآن أن تركيب الإنسان بني على الطغيان طالما امتلك ورأى نفسه أنه "استغنى". والنفس البشرية مبنية على الازدواجية من الفجور والتقوى. وجمهور النحل يتفاهم بالرقص ولكن إذا حاولت نحلة مثقفة أن تقول لزميلاتها شيئا عن الحرية بالرقص فهي قد تستمتع بالرقصة ولكن لن تفهم شيئا عن الحرية لأن النحل كما يقول النيهوم "محصن غريزيا ضد فكرة الحرية".
وكل من شيل الألماني وتاتشر البريطانية تركوا الحكم وفي المآقي الدموع. ولو ظفر كلينتون بعرش العراق لزعم أن جده الرابع عشر كان من قبيلة كلدة والحارث. ولعل أعظم شيء فعلته أمريكا أنها تتخلص من أي حاكم بعد بضع سنين ولو جمع بين حكمة قورش وبطولة الاسكندر وقوة هرقل فتقول له قبل أن يدفأ تحته اذهب إلى بيت أمك وأبيك. أما نحن في العالم العربي فقد اعتنقنا عقيدة الثالوث المقدس في السياسة بثلاث صور عالية. واتخذنا البابا نموذجاً بحكم إلى الأبد ولو أصبح ظهره مقوسا 95 درجة وعلته رعشة باركنسون. وفي الفيزياء نعلم أن من يمسك السيارة هي الفرامل. ومن يمنح الصحة النفسية هو النقد الذاتي والتوبة. ومن ينشر العدالة في المجتمع وجود المعارضة السياسية. وفي قوانين الميكانيك كل فعل كوني له رد فعلي يكافئة بالقوة ويعاكسه بالاتجاه. والرجل المؤمن من آل فرعون رأى أن الحكمة هي في معارضة فرعون وليس السكوت عنه فقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. فهذه قوانين سيكولوجية اجتماعية.
وفي عدد در شبيجل الألمانية 3 \2003م قام (جيرولد بوست Jerrold post) بدراسة غيلان العصر من الديكتاتوريين. ومن الدراسات المرعبة التي قدمها بطلب من الحكومة الأمريكية لمعرفة نفسية هذا النفر من شواذ الجنس البشري كانت حول (موبوتو سيسي سيكوMobutu Sese Seko) حاكم زائير ونرويجا طاغية باناما وبالطبع صدام حسين خليفة نبوخذ نصر. ووصل إلى ثلاث: أنه ليس مريض نفسيا ويحسب حساباته بشكل بارد وأنه فنان في البقاء على قيد الحياة وانه عديم الرحمة والضمير ولا يمكن توقع ردود فعله حينما يحاصر.
ونخطيء كثيرا إذا ظننا أن طاغية العراق هو الوحيد في المنطقة. والقرآن علمنا حكمة كبيرة أن لا نفرق بين أحد منهم. كما نخطيء ثانية إذا توجهنا بإصبع الاتهام إلى الطواغيت ونسينا الثقافة التي تفرخهم. كما نخطيء ثالثا إذا ظننا أن حل المشكلة في قتلهم. لأن المستنقع الذي يولد البعوض لا يجف بقتل بعوضة.
الشعوب إذن هي التي تصنع الطواغيت كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات. كل ما تحتاجه حتى تصبح ملكة هو تغذيتها برحيق خاص. وفي عالم البشر يمكن لأي مغامر من أمة مريضة أن يقفز على ظهر حصان عسكري إلى مركز الصدارة والتأله. وينبني على هذا تغيير زاوية الرؤية بالكامل أن لا نتوجه للزعامات المصنوعة بالكراهية لأنها من صنع أيدينا، ونحن بالهجوم عليها نهجم على ذواتنا من حيث لا نشعر فنحن من صنعناها. وإذا أرادت الشعوب رؤية وجهها في مرآة تاريخية فليس عليها سوى أن تحدق في سحنة حكامها. وقياداتها السياسية هي أفضل قميص تتسربل به خيط عند أبرع خياط . وحينما تنضج كما ينضج الطفل فيصبح يافعاً لن يبق أمامه سوى أن يبدل حلته . سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.
سئل (تشاوسيسكو) طاغية رومانيا السابق قبل مصرعه بأربعة أيام وقد اندلعت الأحداث في مدينة (تيمي شوارا) على يد قسيس مسالم عما يجري وهل يخشى أن تتطور الأمور الى أسوأ قال: عندما تتحول أشجار البلوط الى تين عندها قد تتغير الأوضاع في رومانيا. قال له الصحفي من جديد ولكن العاصفة في أوربا الشرقية عرت كل الأشجار فهل يمكن أن يصيب رومانيا ما أصاب من حولها أجاب بثقة مطلقة: هذا صحيح وقد تغيرت الأوضاع في كثير من دول أوربا الشرقية ولكن رومانيا شيء آخر لاتعرفونه أنتم نحن نعلمه. من الغريب أن كل طاغية يكرر نفس المقولة ويحيق به نفس العذاب. كان ينطق على نحو من يسيطر على القدر وتجري الرياح مرسلات بين يديه. وأنه يشكل استثناءً أسطورياً فوق قوانين التاريخ. ولكن الذي حدث أنه في أيام معدودات أصبح تحت التراب عظة لكل طواغيت الأرض الذين لايتعظون. وترك خلفه (قصر الشعب) الذي أنفق عليه ميزانية خاصة كي يعمره فسكن المقابر والبلى وتركه خلفه خاويا على عروشه بما ظلم. وسرى عليه قانون التاريخ كما سرى على فرعون والمؤتفكات وأصبح سلفاً ومثلاً للآخرين. وانهار نظامه بأسرع من بيت كرتون. وودع هو والنخبة التي روعت البلاد والعباد فما بكت عليهم السماء والأرض وماكانوا منظرين.
من المثير أنه من رومانيا انتشرت اسطورة (دراكولاDRACULA ) فيخرج في الليل بأنياب ذئاب لينقض على النيام فيمتص دماءهم ويحولهم الى أشباهه على شكل أشباح تعس في عتمة الليل البهيم تنشر الرعب.
كان شاوسسكو دراكولا ولكن يمارس الرعب في وضح النهار. وكان قطيع الاستخبارات (السيكوريتات) مائة ألف أو يزيدون مسلحين بكل عتاد في أوجرة تحت الأرض بأنفاق لانهاية لها ولكنهم اختفوا خلال أيام وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
كل طاغية يكرر كلام شاوسسكو على نحو آخر فيقول نعم إن شاوسسكو سقط لأن قدميه كانت من صلصال من فخار أما أنا فمعدني من مارج من نار.
والسؤال كيف يمكن لفرد الامساك برقبة امة تعد بالملايين؟ ماهي الآلة الخفية الجهنمية للاستبداد؟ كيف نفهم آلية عمل الحاكم والأعوان؟ كيف تتشكل القبائل الأمنية الضاربة؟
في عام 1911 م وزع منشور شيوعي على شكل كاريكاتور يضم خمس طوابق وفوق الجميع استقرت صرة مكتنزة بالدولارات. وفي أسفل المنشور كتب (الهرم الرأسمالي). إذا تأملنا الصورة تبين لنا في أعلى الهرم الطبقة الحاكمة وبجانبها عبارة:(نحن نحكمكم). وأسفل منها يبدو أعوان الحاكم وسواعده من كاهن ومبشر وبجانبها كلمة:(نحن نخدعكم). أما الطابق الثالث فقد امتلأ بالجنود والأسلحة وبجانبها كلمة:(نحن نقتلكم). وفي أسفل الهرم ارتمى حشد لانهاية له من الجياع والأطفال المهملين والعائلات المحطمة لصنفين من الناس: العمال والفلاحين وبجانبهم جملة:(نحن نعمل من اجل الجميع نحن نطعم الجميع). وبين طبقة البؤساء هذه وطبقة الجنود جلست طبقة مترفة منعمة تأكل من عرق وجهد المساكين وبجانبها كلمة ساخرة:(نحن نأكل من اجلكم).
من سخرية الأقدار أن شاوسسكو كان شيوعياً أحمراً مراً، والشيء الذي جاءت من أجل اقتلاعه الشيوعية تحديداً تم ترسيخه على يد الرفاق أضعافاً مضاعفة فخدمت الرأسمالية أيما خدمة. وعُبِد ستالين ولينين وماوتسي تونغ بأشد من عبادة بني اسرائيل للعجل الجسد فكان له خوار ألم يروا انه لايكلمهم ولايهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين.
الدولة تقوم على احتكار العنف بواسطة الآلة العسكرية وامتداداتها من القبائل الأمنية الضاربة بفارق أن من يدخل في (جوار) شيخ قبيلة أمنية لايحمي نفسه من بقية القبائل التي تصل أذرعتها لكل مواطن أينما كان في أي وقت في ظل أحكام عرفية مفتوحة.
الجيش يقضي على الفردية ليحول المجموع الى قطعة لحمية مستلبة التفكير والمبادرة والارادة تعمل لصالح أرادة خارجية تنفذ من دماغ متفرد بأرادة شخص واحد هو القائد. وحتى لايحصل أي تمرد ولضمان مطلق الطاعة والانصياع فإن التدريب يقوم على أن حياة الفرد من حياة القطيع ومخالفته للأوامر يعني الموت في محاكم ميدانية.
بهذه الطريقة تنشأ جيوش المرتزقة المستعدة للقتل بموجب الأوامر بدون تردد. وعندما يوقد مجنون عسكري ناراً للحرب فإن الفرق العسكرية مزودة بفرق إعدام خلف الجيش فإذا لاحظوا أن الجندي لايطلق الرصاص سحب وأطلق عليه الرصاص. وإذا التقى جيشان كما وصف (فولتير) فليس أمامها سوى أن تقتتل بما لاتفعله البهائم بآلية المحافظة على الحياة. ويروي المؤرخ توينبي عن الحروب أنها كانت (تسلية الملوك) فكان الشباب ينحر بعضهم بعضاً بأشارة من أصبع. هكذا فعلت المؤسسة العسكرية وكذلك يفعلون. والى هذا القانون الاجتماعي انتبهت الملكة اليمنية قديماً أن العسكريين إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون. يقول (جارودي) في كتابه (نحو ارتقاء المرأة) أن العمود الفقري للآلة العسكرية تقوم على مبدأ التخلي الكامل عن المسؤولية الفردية والارادة المتميزة والتخلي عن أي مسحة تفكير. كما أن سمة المؤسسة العسكرية الأولى الذكورية وبذا مسخ الوجه الانساني للمجتمع فظهر بعين واحدة كما في أسطورة عملاق أوديسوس.
وكل فلسفة القرآن تقوم على تحرير المسؤولية الفردية أن الحساب في الاخرة فردي يوم يفر المرء أمه وابيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً عله ينجيه. كلا لاوزر.
الحاكم يمسك الأمة بواسطة الجيش ويتماسك الجيش بأمنه الخاص فيُقتَل من لايقتُل. وهي بدورها تصعد لتشكل في قمة الهرم الاجتماعي شريحة صغيرة متفاهمة لاتزيد عن أصابع اليدين عددا تعمل بهذه الآلية وهي التي تفطن لها منذ القرن السادس عشر للميلاد (أتيين دي لابواسييه) فسجلها في كتابه (العبودية المختارة) عام 1562 م فوصف (مجموعة الستة) التي تمسك بالبلد على النحو التالي:( إنني اقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما أعتقد زنبلك السيادة وسرها ،ويكمن أساس الطغيان وعماده... إن من يظن أن الرمَّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطيء. فلا جموع الخيالة ولافرق المشاة ولاقوة الأسلحة تحمي الطغاة، والأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى ولكنه الحق عينه: هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله الى مقود العبودية. في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ اليهم إذن الطاغية يتقربون منه أو يقربهم اليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لابشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما افسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكل اليهم مناصب الدولة ويهبون إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا بهم متى شاؤوا، تاركين إياهم يرتكبون من السيئات مالايجعل لهم بقاء الا في ظلهم، ولابعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها الا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الاتباع بعد ذلك ! إن من اراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة لوسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم الطاغية بهذا الحبل).
ويرى لابواسييه أن هذه السلسة يمكن أن تمتد بالطول والعرض من خلال فتح الباب لكل مظاهر الحظوة:(من هنا جاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه. كل هذا يقينا لا من أجل العدالة بل أولاً واخيراً من أجل أن تزيد سواعد الطاغية).
أما نوعية الناس التي تلتف حول الطاغية فيجب أن تكون من معدن خاص يقول لابواسيييه:( ماأن يعلن حاكم عن استبداده بالحكم الا والتف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها وماأعني بذلك صغار اللصوص بل اولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد ليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير. هكذا الشأن بين اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد وفريق يلاحق المسافرين. فريق يقف على مرقبة وفريق يختبيء. فريق يقتل وفريق يسلب).
ويصف الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) هذا النموذج من الأعوان:(الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم الى الشرطي والفراش وكناس الشوارع. ولايكون كل صنف الا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً؛ لأن الاسافل لايهمهم جلب محبة الناس وإنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد. وهذه الفئة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج الى زيادة جيش العاملين له واحتاج الى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لاأثر عندهم لدين أو وجدان واحتاج الى لحفظ النسبة بينهم بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طبعاً أعلاهم وظيفة وقربا. إن العقل والتاريخ يشهد أن الوزير الأعظم هو اللئيم الأعظم في الأمة).
ونعود الى قصة شاوسسكو فبعد تصريحه عن شجرة البلوط والتين جمع الناس في صعيد واحد واستنفر الزبانية وسلَّح السيكوريتات ثم خرج على الناس يخطب في الجموع: أليس لي ملك رومانيا وهذا الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون واستخف قومه فأطاعوه. ثم حدثت المفاجأة عندما صفر أحد الحاضرين استهزاء فانكسر حاجز الخوف ولم ينفع رصاص القمع وكانت شرارة تحولت الى حريق كبير التهم كل نظام الطاغوت في ساعات فقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين.
الشعور بالحاجة إلى التغيير والتغيير سلمياً ولابد من تصور البديل هكذا صاغ الكواكبي وصفة الخلاص مثل قوانين الرياضيات
بثلاث جمل اختصر (عبد الرحمن الكواكبي) الوصفة مثل قوانين الرياضيات في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) في فصل:(مبحث السعي في رفع الاستبداد):(الشعور بالحاجة الى التغيير) ويتفق بهذا مع الفيلسوف (ايمانويل كانت):(1) (الأمة التي لاتشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لاتستحق الحرية. و (يجب أن يتم التغيير سلمياً وبالتدريج) ويتفق بهذا مع قانون الأنبياء في التغيير الاجتماعي أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم، وليس بقتل الحكام أو الانقلابات العسكرية في الظلام. (2) (الاستبداد لايقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج). وثالثاً (لابد من تصور البديل). (3) (يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد) ويتفق بهذا مع (ديكارت) الذي يرى في كتابه (المقال على المنهج) أنه يجب عدم هدم البيوت القديمة مهما كانت سيئة فلا يفعل هذا مهندس عاقل ويضع أصحابه تحت المطر والريح بل لابد من تهيئة البيت الجديد فإذا انتقل إليه لم يرجع إلى القديم قط. من الملفت للنظر أن القوانين الثلاث التي وضعها الكواكبي قبل قرن من الآن (1902)م للتخلص من الاستبداد تفتح الوعي على طريقة جديدة في التفكير بعد أن جرب العالم العربي وصفة الانقلابات فلم يزدد المرض إلا نكساً و وخامة، وتدهورت الأحوال بدون توقف منذ نصف قرن وبتسارع في علاقة جدلية موجعة بين (المرض) و(الاختلاط)، ونحن نعلم أن المريض في العناية المشددة عندما يستمر في النزف لايقف عند نقل الدم ولكنه يصل إلى القصور الكلوي. والأمة العربية التي تسكن اليوم العناية المشددة التاريخية تحت إشراف أسوأ الأطباء وأقلهم خبرة وأضعفهم اختصاصاً نزفت بما فيه الكفاية وهي الآن في حالة قصور اجتماعي وهذيان على صورة صراخ الجماهير الهستيري في تمجيد الأصنام. لقد كانت الأمور سيئة بما فيها الكفاية من الانفكاك عن صيروة التاريخ وأحداث القرن ولكن التطور المهين خلال نصف قرن الفائت يجعلنا نتساءل إلى أين ستمضي الرحلة؟ وهل هناك ثمة قاع ترسو عليه سفينتنا الغارقة في عمق المحيط؟ وهل انتهينا من قدر الهبوط أم مازال أمامنا فصول أشد بؤساً؟ لا أحد يعلم. يؤرخ الفيلسوف (عبد الرحمن البدوي) في كتابه (سيرة حياتي) التطور المأساوي في بلد عربي في مسلسل أحداث القرن شاهداً على القرن وهو الذي أنتج 120 كتاباً فلسفياً في حياة علمية حافلة بالإنتاج وإتقان اللغات والاطلاع على ماأنتجه الفكر الحديث وهو يصلح للتطبيق على أماكن ليست بالقليلة في العالم العربي بسبب المرض الثقافي المشترك في (النوعية) مع الاختلاف في (الدرجة) كما في الحمى (التيفية) التي قد تصيب أحدهم بالترفع الحروري والإنهاك، ولكنها قد تضرب عند مريض آخر عضلة القلب فلا أحد يستطيع التكهن بمخطط رحلة المرض طالما تمكن من مفاصل المريض. وكذلك هي مصائر بلدان عربية منوعة بين العجز أو الكارثة الاجتماعية لأمم تعيش خارج التاريخ كمريض مصاب بأفظع حمى. سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون. يصف (البدوي) هذا التطور المرضي على نحو مفزع نقتطف منها حزمة بشيء من الاختصار والتصرف: ( كانت الحرية نعمة .. وإذا بها حكرا جديدا على فرد تحيط به عصابة. كانت الكرامة من أعز ما يعتز به.. فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدراً لكل حرمان وشقاء. كان الأمن على النفس والأموال موفوراً لكل شخص فصار الخوف على كليهما يقض مضجع كل فرد وأسرة. كان النفاق مقصوراً على فئة من الوصوليين وعديمي الضمائر فأضحى خصلة لشعب بأسره يتنافس الجميع في ممارستها ويتباهى بالتفوق فيها. وكان التفريط في أي حق من الحقوق الوطنية خيانة تنهار بسببها الحكومات وإذا بالتخلي عن أكبر الحقوق إنجازاً يتباهى به الحكام. وكانت الهزيمة سنة 1948 كارثة تزعزعت بسببها الثقة في الحكام وإذا بالهزيمة الساحقة الماحقة عام 1967 تحتشد لها جماهير للهتاف بحياة من تسببوا في الهزيمة. وكان النقص في السلع أمراً نادر الوقوع فصار القاعدة. وكانت العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية تتسم بالمودة وتبادل المنافع فصارت القطيعة والعداوة هي الصفات السائدة. وكانت حقوق الإنسان مكفولة بالدستور والقوانين فإذا بها تصبح تعطفاً متعالياً من الحاكم على المحكومين. وكان الاقتصاد يقوم على أسس راسخة وأرقام صادقة وإذا به يصبح أرقاماً بهلوانية يتلاعب بها وزراء لا علم عندهم ولا ضمير يقدمون موازنات زائفة مما أدى بالاقتصاد إلى الإفلاس وتكاثر الديون وانهيار العملة انهياراً متواصلاً. وكان الإسكان ميسورا في كل مكان وإذا بالملايين لا يجدون مساكن لهم. وكان لكل مواطن الحق في أن يغادر وطنه طلباً للرزق أو للعلم وإذا بالوطن يتحول إلى سجن كبير. وكانت أدوات الثقافة تتدفق في حرية تامة وإذا بها تمنع تدريجياً حتى فقدت الاتصال بمصادر الفكر العالمي) وقد يتساءل المرء وهل كانت الأحوال قبل هذا التطور المريع مع منتصف القرن العشرين رائعة؟ والجواب أن الأمور نسبية وقد استدركها (البدوي) فقال ولكن الأمر كما قال الشاعر:
وهذا المرض السياسي قديم على كل حال نشأ مع الانقلاب الأموي ومصادرة الحكم الراشدي وتابع رحلته الإمراضية عبر القرون وكل من حاول استعادة الرشد من بعد لجأ إلى الغي أي نفس الأداة المروانية الجاهلية السيف. هذا مافعله العباسيون ومن بعدهم قرونا كثيرا فلم ترجع الحياة الراشدية واستمر (السيف) فوق (القانون) فحيث شق السيف طريقه لحقه الكتاب كما في تعبير (ابن تيمية) فبارك وصدق وختم على ما فعله. هكذا كانت علاقة (القوة بالمشروعية) في تاريخنا. ومازال السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب كما وصف شاعرنا قديماً الوضع بصدق وقناعة، واحتضن اللاوعي الشعبي هذه الجرثومة الثقافية أن (البطل) من يأخذ حقه بيده في مصادرة كاملة لكل الإنجاز الإنساني في معنى الدولة والقانون.
ونرجع الى الكواكبي الذي صاغ (قوانين التغيير) على نحو مبللور قبل قرن بدون أن يترك أثراً في الثقافة الجماهيرية وانتكست الأوضاع الى ماهو أسوأ مع كل الوعي الاجتماعي الذي كان تحلى به الرجل، وهو بوحي أنه كان على اتصال بغذاء فكري (غير تقليدي) حتى استطاع صياغة هذه القوانين. ويبدو من كلماته اتصاله بالفكر الغربي الحديث مع أيمان عميق بقيم الإسلام وانتباه حساس وإدراك لطبيعة الفروق الثقافية بين الشرق والغرب بل حتى خصوصية كل مجتمع غربي مثل إدراكه للفروق الدقيقة بين المجتمع الألماني والفرنسي (فالجرماني جاف الطبع وهو يحب العلم من أجل المال واللاتيني مطبوع على العجب والطيش ويرى العقل في الإطلاق والحياة في خلع الحياء) مما يدل على احتكاكه المباشر بهذه المجتمعات.
إن الفكر الذي خلفه لنا آباؤنا أعجز من أن يفرز مثل هذه الرحيق لأنه لم يقطف من زهور الحرية ولم يعد فيه ما يحرك إلى التغيير، وانفصل عن حركة التاريخ، وكما يقول (مالك بن نبي ) إن أكرم مكان لجثث الموتى هو إيداعها المقابر كذلك يجب أن يكون مصير (الأفكار الميتة) من تركة الآباء التي توقفت فيها حركة الصيرورة وماتت فمكانها مقبرة التاريخ، بكل احترام كقيمة في الذاكرة وليس كوجود في الحياة. إن الفكر التقليدي يحمل إشكالية عميقة انتبه لها الفيلسوف (محمد إقبال) فأشار إلى أن الكثير من تراثنا كتب في ظروف مشبوهة ويبقى القرآن هو الكتاب الوحيد الذي حفظ بدون عبث من تغيير رسمه، ولكنه مع هذا لم يسلم من ثلاث: توظيفه للسلطان. وكتم حقائقه. وأن يشترى به ثمناً قليلاً. وهذا يفتح الطريق إلى الاستنفار لمحاولة إضاءته على نحو عصري بتطويع العلوم الحديثة لفهم حقائقه. كذلك نفهم لماذا استنفر علماؤنا أنفسهم سابقاً لغربلة الحديث فينتقي البخاري من نصف مليون حديث ألفين ويزيد، ويعلِّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث شائع ليفاجئه لاحقاً أنها مكذوبة فيتعجب فيقول له كي تعرف أنها موضوعة فتحترز منها. وأما بقية التراث فكتب كله في ظل السلاطين وفي أجواء سياسية تقوم على الغدر وقنص السلطة الدموي المحموم. كان النص يلعن فرعون ولكن فرعون وجنوده كانوا في القصر يحرسهم جيش من المرتزقة في دولة ودعت الخلافة وتحولت الى نموذج بيزنطي. أمامنا اليوم كما نرى عمليتان في الجراحة الفكرية الأولى: في غربلة التراث بالحفر المعرفي لاكتشاف ذاتنا الحقيقية بدون مكياج وقناع . والثانية الاتصال بالعصر لنعرف إضافات المعرفة وكما يقول (مالك بن بني) كل من يدخل العصر ولا يدرك إضافات المعرفة الإنسانية لن ينجو من سخرية التاريخ.
في 29 سبتمبر مات الرئيس الكندي الأسبق (بيير ايليوت ترودو) في خريف العمر في منزله عن 81 سنة بدون اغتيال وانقلاب أو نفي. مات مواطناً عادياً في بيته خارج الحكم بعد أن حكم كندا ثلاث مرات ولكنه اعتزل الحكم والسياسة منذ أكثر من عقد وأهم ما أنجز مرسوم (الحريات والحقوق) ووضع كندا على الخارطة العالمية كبلد مسالم في استقلال عن أمريكا. إن تاريخ كندا كان معظمه سلمياً ولم يكن انفصالها عن بريطانيا دموياً على غرار الثورة الأمريكية وهو نموذج للتغيير جدير بالتأمل. واجتمع في جنازته النقيض بمن فيهم أشد خصوم أمريكا كاسترو. ومازال الناس يزورون منزله حتى اليوم بحب وتقدير وبدون خوف من الاستخبارات. أنها مشاهد رائعة من كندا تشبه ألوان أوراق شجرة القيقب المضرجة بالاحمرار المتساقطة مع خريف كندا الرائع. وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
إن ميزة التفكير العلمي الاستعداد لكل الاحتمالات بما فيها نهاية الكون والجنس البشري. ليس بحماقة إسرائيلية نووية أو حتى غير إسرائيلية، ليس من حماقات البشر باستخدام أسلحة الدمار الشامل، بل بتعرض الأرض لمذنب كما حصل مع انقراض الديناصورات قبل 65 مليون سنة حينما ضرب أمريكا الوسطى مذنب بقوة خمسة ملايين قنبلة نووية.
وفي تقديري أن هناك خطة للوجود أو هكذا يخيل إلي؛ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا. وفي حقبة قديمة عم دخان كثيف غشى الناس بعذاب أليم بعد انفجار بركان في أندنوسيا فلم يبق من البشر سوى 75 ألف نسمة. ومع ذلك تابع البشر طريقهم.
وحسب تحليل الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانت) في كتابه (نحو السلام الشامل) فإن الاضطهاد كان خلف الانشقاق المتتابع لمجموعات البشر مثل مجموعات النحل عندما تنفصل عن خلاياها وتنشأ خلايا جديدة. بل حتى طوفان نوح يبدو في الإضاءة الأنثروبولوجية الجديدة من كشوفات مدينة (سينوب) على ساحل البحر الأسود في تركيا أنه كان شرارة نقل الثورة الزراعية من حواف بحيرة حلوة فاجأها طوفان مدمر كسر عتبة البوسفور وحولها إلى بحر مالح فهربت شعوب المنطقة التي كانت تملك أسرار الزراعة وبدأت الحضارة قبل ستة آلاف سنة.
ومن خلال هذا المنظور فهناك أمل وتفاؤل أن الجنس البشري على الرغم من المعاناة القاسية ـ والتي هي بدورها شرط للنمو ـ أن يولد طبقا عن طبق باتجاه الاستمرار والنمو والدخول في مرحلة الحضارة رقم 3 حيث كانت الحضارات سابقاً تنمو منعزلة عن بعضها البعض ولا تعرف عن بعضها شيئا، كما كانت مفاجأة وصول الأسبان إلى حضارة الازتيك في أمريكا الوسطى. والآن نحن ندخل مرحلة الحضارة رقم 2 أي الحضارة العالمية لندخل مرحلة الحضارة رقم 3 أي اكتشاف حضارات أخرى في كواكب أخرى. ونحن نعرف اليوم وللمرة الأولى أن هناك كوكب يبعد عنا خمسين سنة ضوئية، وعن طريق تقنية (ترنح النجم) يمكن كشف الكثير من الكواكب السابحة حول نجوم أخرى وفيها حياة وبذلك يمكن الوصول إلى حضارة المجرة في ضوء وجود 100 مليار نظام شمسي، مع احتمال وجود حياة على كل 10 ـ 50 نظام شمسي. وكما حدث في رحلة البولونيزيين لاكتشاف المحيط حيث تم التوسع على شكل قفزات بمعدل قفزة جيل كل 200 سنة، وهذا يعني أننا خلال خمس ملايين من السنين سوف نستعمر كامل المجرة. ورقم خمس ملايين سنة ليس بشيء إذا علمنا أن الشمس عندنا ما زال أمامها خمسة مليارات سنة لاستهلاك وقودها.
وفي كتاب (آفاق المستقبل) للمفكر الفرنسي (جاك أتالييه) يقول أن البداوة ستعود على شكل جديد من الترحل المستمر بأدوات بسيطة ولكنها كافية مثل الموبايل والبريد الإلكتروني والكمبيوتر الشخصي المتصل بالانترنيت، وحتى البيوت سوف تستغني عن الرخام والمرمر كي تصبح أكثر عملية تناسب عصر البداوة الجديدة فكل شيء للاستهلاك والاستبدال. والبريد الإلكتروني اليوم لا يحتاج لصندوق بريد ومفتاح. وهذا التنقل مفيد من جهتين: تحقيق الآية القرآنية بوجود السائحات( مسلمات مؤمنات عابدات تائبات سائحات). وتكرار لما حدث في صلح الحديبية حيث كان الناس يتقاتلون والجو في غاية التوتر والحواجز السيكولوجية شديدة الكثافة. وتقول الرواية أن الناس دخلوا في دين الله أفواجا عندما بدأ منطق الحوار. والآن عن طريق الانترنيت والهجرة الهائلة من العالم الإسلامي ـ حسب مبدأ كانت ـ حيث يزحف عشرات الألوف من المسلمين فارين من الوطن الإسلامي فقراً واضطهاداً من جمهوريات الخوف والبطالة وهم يحملون معهم الإسلام.
صحيح أن الكثير سيموت في بطن سمك القرش الإسلامي، ولكن ستخرج نسخة جديدة معدلة من الإسلام المستنير، ليس من نموذج بن لادن بل من نموذج علي عزت بيجوفيتش فهناك نسخ منوعة من الإسلام "وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا و"تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة". بحيث يعم الإسلام الأرض، وقبل عشرين سنة كان في إيطاليا عشرة آلاف مسلم واليوم أصبحوا مليونا حسب رواية السفير الإيطالي الذي اعتنق الإسلام وأشهر إسلامه بعد أحداث سبتمبر، وفي ألمانيا أكثر من خمسين ألف من الألمانيات انتظمن في جمعية أخذت اسم (أخوات محمد). وفي أمريكا يعتنق الإسلام سنوياً عشرين ألف أو يزيدون. حسب رواية قناة الديسكفري.
في رحلة الجنس البشري حصل خطأ كرموسومي حيث استولى الذكور على المجتمع، وكان له تأثير سلبي كما يحصل مع انعدام الرؤية الفراغية عندما يصاب بالحول أو العور، وهكذا تمت هندسة المجتمع على الحرب، وتشكلت كما يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه) مؤسسات يدعو عنوانها للضحك فكلها تحمل اسم (وزارات الدفاع) وهذا يحمل بشكل مبطن النية السيئة وإساءة الظن بالجوار أنه يبيت الغدر فوجب الدفاع. ولكن مع برمجة هذه الروح فلا يهم كثيرا من يهجم ومن يدافع، لأن الحروب تنشأ في هذا الجو وتحت مبرر بريء هو الدفاع عن النفس. والقاتل والمقتول في النار. ومع الحرب والجيش والثكنة تشوه كامل تركيب المجتمع وهندسته، ودفعت المرأة إلى كائن قاصر يفرض عليه الوصاية ويفصل وينظر إليه كجيب جنسي. وتم تطوير السلاح إلى حده الأقصى حتى وصل الأمر إلى نقل وقود النجوم من باطنها بعشرة ملايين درجة إلى سطح الأرض. ولكن الخطأ لا يصبح صحاً. كما أن الشجرة الخبيثة لا تؤتي أكلها بإذن ربها بل اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. ولذا وصل الذكور النكدون إلى نتيجة القرد الذي انهرس ذنبه في شق الخشب حينما أراد تقليد النجار في عمله فتدخل في ما لا يعنيه فناله ضرب النجار وألم الذنب المعصور. وهذا يعني أن هذا الخلل الكروموسومي يحتاج إلى جراحة جينات متقدمة، ولكن لا بد منها. وإذا كانت جراحة المستقبل هي جراحة الجينات بعد أن تم فك الشيفرة الوراثية الكامل للإنسان على يد (كريج فنتر). كذلك فإن جراحة اجتماعية هي أكثر من ضرورة لإعادة تركيب المجتمع الإنساني، بحيث تعود الرؤية الفراغية الكاملة ويرتفع العور فبصرك اليوم حديد.
ويحضرني في قصة السائحات قصة الملا الكردي الذي كان ينقل نصاً فقهياً من العربية إلى الكردية قال لهم: إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حية يبقى السمن حلالاً. فلم يخطر في باله أن معنى كلمة (حية) سوى أنها ثعبان. فقام أحد التلاميذ وسأل: ولكن أيها الملا لقد وقعت وكانت فأرا فكيف خرجت ثعباناً. قال له الأستاذ منتهراً: اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر. قد نضحك من هذه النكتة ولكن وضع المرأة عندنا وصلت إلى نكتة بحجم فلكي حينما يرى جل المفسرين القدماء أن كلمة السائحات تعني الصائمات.
يجب استيعاب الحقائق الثلاث التالية: وحدة المصير الإنساني. و(ثانياً) تعانق العلم والإيمان كوجهين لعملة واحدة كما حدد آينشتاين علاقة الطاقة بالمادة. والسلام كقدر لا مهرب منه، وتضع الحرب أوزارها، وتضيء الآية القرآنية إضاءة جديدة من سورة المائدة لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ... فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين .. ومن النادمين.
هل ستنهار أمريكا
كما انهار الاتحاد السوفيتي؟
كتب (إيسوب) في القرن السادس قبل الميلاد كتاباً عن (الخرافات) فقال زعموا أن ضفدعتين سكنتا في بركة فجفت بحرارة الصيف فتركتاها وذهبت للبحث عن سكن آخر وأثناء البحث عثرتا على بئر عميقة تترقرق المياه في قاعها. قالت إحداهما للأخرى اقفزي بدون تردد فتكون لنا سكنا لأولنا وآخرنا. قالت الثانية بحذر أكبر: ولكن افترضي أن الماء جف كما حصل مع بركتنا الأولى فكيف سنخرج من هذا الجب العميق؟
يقول إيسوب: لا تفعل شيئا دون النظر في العواقب. وهذه هي القفزة التي تنتظر بوش ورامسفيلد في العراق.
ويقول منظر علم الحرب (كلاوسيفيتس): "لا يوجد سوى عدد قليل جدا من الرجال القادرين على التفكير والشعور بما هو أبعد من اللحظة الراهنة وهؤلاء هم الاستثناء"
والسياسيون في العادة مصابون بالحول لأنهم يحدقون في أرنبة أنفهم فيكبوا على مناخرهم حصائد نظرهم القصير. والبوشيون اليوم هم من هذا الصنف.
ولكن المشكلة أكبر من بوش ورامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي خريف عام 2002م فأمريكا كما وصفها (باتريك سيل) في مقالته في مجلة (العالِم) عدد سبتمبر 2002م (تواجه أزمة مالية خانقة تأخذ أبعاداً كارثية وقد تكون مقبلة على انهيار اقتصادي كبير مشابه للذي حدث عام 1929 م). وهذا يعني أن أمريكا ومعها العالم يدخل منعطفاً جديدا. وبتعبير (ابن خلدون)" وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة".
إن العالم يدخل مرحلة جديدة تذكر بوضع روما بعد معركة زاما عام 146 ق. م وتفرد قوة واحدة في العالم القديم. ولكن (أوسفالد شبنجلر) في كتابه (أفول الغرب) يرى أن نهاية (قرطاجنة) أعلنت نهاية (روما) فانتهت الجمهورية لتتحول إلى دولة استعمارية. ويعزي سبب تمددها في حوض المتوسط إلى فقدان قدرة (تقرير المصير) عند شعوب المنطقة أكثر من حيوية روما. فأصبحت غنائم وأسلاب لكل نهاب أثيم. وهو الذي يفسر استرداد الإسلام المنطقة بمعارك رمزية في القرن السابع الميلادي لأنها وجدت شعوبا ترحب بقدومها.
يقول (شبنجلر ):" كانت السيطرة الرومانية على العالم القديم ظاهرة سلبية فلم تكن هذه السيطرة وليدة فضلة من حيوية لم تخب في الرومان. فالرومان استنزفوا آخر طاقات حيويتهم منذ عهد زاما. بل جاءت نتيجة لعجز الشعوب الأخرى عن المقاومة والدفاع. والشيء المؤكد أن الرومان لم يفتتحوا العالم، بل وضعوا أيديهم على غنائم وأسلاب كانت في متناول يد كل راغب. فلم تسلك الإمبراطورية الرومانية طريقها للتجسد والوجود كتلك التي طبعت الحروب البونية بطابعها، بل مارست وجودها لأن الشرق القديم كان قد تنازل عن جميع حقوقه في تقرير مصيره"
وما يحدث اليوم في استعداد أفعى الأناكوندا الأمريكية لابتلاع العراق هو من هذا القبيل بعد أن عجزنا عن حكم أنفسنا بأنفسنا. وهي رواية الأمة العربية التي تعيش مسحورة في عصر التيه والخوف.
العالم اليوم مقبل على تحول وتفكك. فـ (جمعية الأمم المتحدة) تحتضر. و(جامعة الدول العربية) ولدت جثة منذ لحظة ولادتها وتحتاج للدفن. و(منظمة دول عدم الانحياز) دفنت منذ أمد بعيد مع جثة تيتو ونهرو. و(منظمة الدول الإسلامية) شبح لا يضر ولا ينفع. و(منظمة الدول الأفريقية) مثل ساحر القرية الأفريقي. (ومجلس الأمن) مثل ثوب الجنين لعملاق عاري من عالم كبر حجمه بعد الحرب العالمية الثانية. ومع (حق الفيتو) في مجلس الأمن تم اغتيال العدل في العالم وأصبح مجلساً إجرامياً ورمزا للوثنية العالمية. مثل عجل بني إسرائيل الذي نسفه موسى في اليم نسفا. وبوش وقف في قومه فنادى أليس لي ملك العالم وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين.
هناك من يرى أن أمريكا هي نهاية التاريخ والجغرافيا بعد أن كسر الانترنيت الامتداد. ووضعت أمريكا يدها على العالم بـ 63 قاعدة. ومنهم يرى أنها باقية إلى ألف سنة كما زعق يوماً هتلر معلنا ولادة الرايخ الثالث. فلم يعمر أكثر من 12 سنة. وهناك من يرى أنها قوة ديموقراطية وقلعة للحريات فلا يمكن مقارنتها بدولة سرجون وسنحاريب الآشورية وفيها من آليات النقد الذاتي ما تصحح مسارها وتلجم غرائزها عن الأكل من الشجرة الاستعمارية المحرمة فتنجو من عقوبة التاريخ. ولكن سخرية التاريخ تنبئنا أن الإنسان كائن غير عقلاني. وبتعبير (الوردي) أن العقل البشري مهزلة. فالعقل ليس شيئا يبحث عن المنطق والحق والعدالة بقدر قيامه بوظيفة البقاء. فهو عند الإنسان مثل الناب الأفعى أو القرن للثور أو الزعنفة للعقرب أو الساق للنعامة.
وأمريكا اليوم تواجه هذا التحدي فما هي المؤشرات وهي تتلمظ لوضع يدها على ثروات العالم القديم كما فعل قورش مع ثروات بابل في القرن السادس قبل الميلاد؟
في الطب لا يعني التورم الصحة. فقد يكون مؤشرا لارتخاء القلب أو قصور الكليتين. وقبل 150 مليون سنة حكمت الديناصورات البسيطة بأوزان كالجبال. ثم اختفت قبل 65 مليون سنة وخلت مكانها للثدييات الصغيرة. ولم تنفع جسامة العتاد الحربي من موت دولة آشور (مختنقة بالدرع). وقتل داوود جالوت بمرقاع وحجر بدون أسلحة دمار شامل. كما انقلبت الأدوار بعد ثلاثة آلاف سنة بين إسرائيل النووية وأطفال الحجارة فأخذ داوود مكان جالوت وبالعكس. وهزمت إسرائيل في أضعف بلد عربي كما قتلت بعوضة النمرود. وأكبر تحدي في شق (قناة باناما) لم يكن الجبال الراسخات والغابات الكثيفة بل البعوض. فهذه أمثلة من البيولوجيا والآركيولوجيا والتاريخ والطبيعة.
إن كلاً من (السرطان) و(الديناصورات) و(آشور) و(جالوت) و(البعوض) يحكمهم قانون واحد وإن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا بعوضة فما فوقها. وعندما يكبر حجم (الخلايا) أو (الكائنات) أو (النظم) أو (المخابرات) بما يدخل الخلل إلى التوازن الكوني، فإن قوانين الوجود تتدخل فتقضي على صاحب السرطان وتنقرض الديناصورات، وتمحى الدول، ويصبح رئيس الدولة أسير الأجهزة الأمنية التي صنعها، وتنهار الحضارات. سنة الله في خلقه.
إن الموت والحياة لهما قوانينهما النوعية الخاصة ولو بكينا بقدر نهري دجلة والنيل فلن نرد ميت إلى الحياة. ويمضي الوجود وفق مسراه فيسحق من يقف في طريقه ولا يخاف عقباها.
وما ينطبق على الخلية يصدق على النفس ويسري حكمه على المجتمع والدول. وهو السؤال الذي طرحه ديورانت في كتابه (دروس التاريخ) فقال:"لماذا يمتليء التاريخ بكل هذا الركام من أنقاض الحضارات؟" ولكن من يقرأ التاريخ؟ هل يقرأه بوش ورامسفيلد؟
يقول (أوري افنيري) الصحفي الإسرائيلي عن بوش وشارون أن قد فاتهم الإصغاء لسماع نبض التاريخ الذي اختفى في زحمة طبول الحرب.
في القرن الثامن قبل الميلاد كانت أثينا تنمو بجانب إسبرطة فامتدت عبر البحار إلى مستعمرات في صقلية وإيطاليا ونمت فيها الثقافة والفن بجانب التجارة. أما إسبرطة فلم تغير ونما شعبها على الحرب والقتال فكان الطفل يؤخذ من أمه وعمره سبع سنوات فينام على القصب ولا يغير ثوبه في السنة سوى مرة والأطفال الضعاف يرمون في كهوف في الجبال ليموتوا في أفواه الضباع ولم يشتغلوا بالأرض واحتقروا المال وكانت نساؤهم تقاتل مثل الرجال وكان عشرون صابرون منهم يغلبوا مائتين. وفي عام 431 ق. م وقعت الواقعة بين أثينا وإسبرطة فاندلعت الحرب البولوبونيزية واستمرت سبعة وعشرين عاما انتصرت فيها إسبرطة ومدت يدها على رقعة واسعة من الأرض ولكنها مع تمددها دمرت في ثلاثين سنة فلم تقم لها قائمة وأصبحت سلفا ومثلاً للآخرين.
كتبت مجلة (دي تسايتDie Zeit ) الألمانية مع اندلاع الحرب الإيرانية عن الخميني "أن أسوء ما فيه أنه يعني ما يقول" وعندما تورط بريجينيف في حرب أفغانستان قالت الجريدة كيف أمكن لهذا الرجل الذي أوهنته السنون أن يتنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي قال الخميني يومها" إن شجرة الإسلام سوف تستمر في النمو يغذيها دم الشهداء وأما شجرة الاتحاد السوفيتي فسوف تجتث من فوق الأرض مالها من قرار وخلال عشر سنوات" وإذا كان الخميني قد تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي بعد انتحار برجينيف في أفغانستان فهو أمر سوف يكرر نفسه مع روما الجديدة. فقانون الله ينتقم من المجرمين كما يعاقب المغفلين.
قانون انهيار الإمبراطوريات
في عام 559 قبل الميلاد قفز شاب إلى مسرح الأحداث يدعى (قورش) جمع القبائل الفارسية المبعثرة وزحف بها إلى (ميديا) فامتلكها وهزم ملكها (آستياجس). وتوج نفسه على ميديا وفارس. وشرع في تكوين (الإمبراطورية الفارسية) .ثم دحر (كروسيوس) حاكم (ليديا) غربي آسيا الصغرى. ثم اتبع سببا فبلغ مغرب الشمس عند الجزر الأيونية غرب اليونان فامتلكها. ثم اتبع سببا فوضع يده على كنوز بابل وحرر سبي بابل من اليهود فأعادهم إلى بلادهم. وتوالت انتصاراته خلال ثلاثين سنة وراح يلقب بقورش الأكبر ملك العالم. ثم اتبع سببا حتى وصل عام 529 ق. م إلى منطقة قبائل (الماساجيتاي) الهمجية المحاربة على بحر قزوين فأراد وضع يده على بلادهم. وبعد ثلاثين من حكم عادل وملك واسع ارتكب حماقة كبيرة فعبر نهر (آراكسيس) إليهم فأرسلت له ملكتهم (توميريس) أنه ليس عندنا ثروة بابل فتطمع بها وأرضنا جبلية وشعبنا محارب فضحك منها. وفي خدعة حربية وقع الشاب (سبارغابيزيس) ابن الملكة أسيراً في يده فأرسلت له توميريس تستعطفه أن يطلق لها ابنها ويكتفي بثلث مملكة الماساجيتاي فأبى. ثم أن ابن الملكة لم يطق الإذلال والأسر فقتل نفسه. فغرقت الملكة في الأحزان وأرسلت له تقول:" إنني أقسم بإله الشمس سيدنا أن أعطيك دماً أكثر مما تستطيع شربه رغم كل شراهتك" وفي غمرة غضبهم مزقوا الجيش الفارسي شر ممزق وقتلوا قورش نفسه. ويعقب (روبرت غرين) في كتابه (القوة) بقوله:" أنها بحثت عن جثة قورش وعندما وجدتها قطعت الرأس ودسته في زق جلدي للشراب مملوء بالدم صائحة: رغم أنني انتصرت عليك وأعيش الآن فإنك قد دمرتني بأخذ ولدي عن طريق الغدر وانظر كيف انفذ تهديدي فلديك ما يشبعك من الدم" وبعد موت قورش انحلت الإمبراطورية الفارسية وأصبحت في ذمة التاريخ.
وتفسير ما حدث أنه لا شيء يسكر أكثر من النصر. وهو ما يحصل مع أمريكا بعد أفغانستان.
وكما يقول نابليون يأتي الخطر الأعظم في لحظة الانتصار. وحسب القانون 47 لكتاب شطرنج القوة (لروبرت غرين) فإنه يحذر بأن لحظة الانتصار قد تدفع إلى الغطرسة والثقة المفرطة بالنفس والاندفاع إلى ما هو أبعد من الهدف الموضوع. وخلق أعداء أكثر من الذين تدحرهم فلا تدع النجاح يدير رأسك. ضع نصب عينيك هدفا وعندما تصل إليه توقف".
ولكن إذا اعتاد النمر أكل لحم الإنسان استعذبه فلم تمنعه طلقة الصياد. ويقول (توينبي) عن مناط الحقيقة "أن السيف الذي انغمس في الدم لن يحال بينه وبين العودة إليه" وجميع أولئك الذين يتخذون السيف بالسيف يفنون. والشيء الوحيد الذي لا يمكن فعله بالحراب الجلوس على أسنتها.
وهذا الفخ هو الذي وقع فيه (شارون) عند اجتياح لبنان عام 1982م فأغراه كما تغري رائحة الجبن الجرذ الجائع فلا يملك المقاومة فيقع في المصيدة. وهو ما حصل مع شارون الذي كان مخططه الاستيلاء على الشريط الحدودي اللبناني ولكنه وقع تحت إغراء تفاحة العاصمة العربية من الشجرة المحرمة فأكل منها وبدت له سوأته وطفق يخصف عليه من ورق شجر الأرز وخرج من جنة لبنان عارياً. بعد أن قتل 17500 إنساناً. وأدخل الأفاعي إلى مخيم صبرا وشاتيلا ففعلوا مافعلوا. ولم تهزم إسرائيل إلا في هذا المكان في واحد من أضعف بلدان العالم العربي وأقله سكاناً ينزف دما في حرب أهلية وبدون جيش وطني وأسلحة دمار شامل ولا توجد حكومة تدخل نفق المفاوضات. ومع معركة بيروت طرد شارون مذؤوما مدحورا وبدأ مخطط الانكسار في مسيرة الإمبراطورية الصهيونية، وانتقلت معارك إسرائيل من خارجها مع الجيوش العربية إلى داخلها فيما يشبه مغص البطن القاتل وبأسلحة من انتحاريين هم أخطر من أسلحة الدمار الشامل فماذا يفعلون لمن يريد أن يموت؟
وهذا المرض الإمبراطوري يتكرر على وتيرة واحدة عبر التاريخ. بدون أن يستفيد أحد من درس التاريخ. ولا أحد يتعلم إلا من المعاناة. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
ويتكلم (توينبي) عن علة انتحار (آشور) بأن المؤرخ (كسنوفون) عندما مر في المنطقة بعد أكثر من قرنين من زوال آشور من مسرح التاريخ ذهل من فخامة التحصينات في منطقة خالية من السكان. ولم يكن اسم آشور معروفاً حتى تم العثور عليه في منتصف القرن التاسع عشر. وعرف أن هذه الأمة بقيت قائمة لألفي سنة وأمسكت بمصائر شعوب المنطقة لفترة قرنين ونصف، وتسلطت على الأمم المجاورة بذراع حربية بطاشة ندر مثيلها فاحتلت كل المنطقة حتى مصر، وسوت مدنا كاملة بالأرض وحملت إلى الأسر شعوباً بأكملها: دمشق عام 732 ق.م موساسير 822 ق.م بابل 689 صيدا 677 ممفيس 671 وطيبة 663 وسوسا 639 ولم ينجو من عدوانهم سوى صور والقدس "من جميع كبرى مدن الدول التي بلغتها الذراع الآشورية".
ويتساءل (توينبي) عن الجائحة المروعة التي دفنت آشور بأنها لم تكن تقصيرا في الآلة الحربية فقد كانت " تفحص بدقة وإمعان وتجدد وتعزز حتى يوم دمارها" ولكنها ماتت بنزعة (انتحارية الروح الحربية) التي فرضت ضغطاً متواصلاً على الموارد فحصل فراق بين متطلبات الآلة وتوسع الرقعة، وهو نفس القانون الذي توصل إليه المؤرخ الأمريكي المعاصر باول كينيدي في كتابه (صعود وسقوط القوى العظمى) أن قانون (فرط التوسع) هو الذي أودى الإمبراطوريات المهالك في القرون الخمسة الفارطة. كما يحصل في الصدمة الطبية وفراق (الضغط) عن (النبض) فكلما تسارع النبض وانخفض الضغط كان مؤشر الصدمة أشد ومشى المريض باتجاه الموت.
يقول (توينبي) عن نهاية آشور "إن المحارب الذي لا يقهر الذي وقف متحفزا في نينوى عام 612 ق.م كان في الواقع جثة في سلاحها أمكن المحافظة على انتصابها بفضل جسامة العتاد الحربي الذي ضيق الخناق على هذا المنتحر فمات به" وعندما شعر الجيران المعذبين أن آشور لا تزيد عن جثة مختنقة في الدرع انقضوا عليها فقطعوها مثل العقبان. ويعقب (توينبي) " أن مصير آشور يعيد إلى الذهن لوحة (الجثة في سلاحها) كما حصل مع الفيلق الإسبرطي في ميدان معركة لوكترا عام 371 ق.م والانكشاريين في الخنادق أمام فيينا عام 1683م".
كانت نهاية آشور واحدة من الكوارث التاريخية العارمة التي أودت بالقوة الحربية الآشورية عام 614 ـ 610 ق. م "ولم تتضمن دمار أداة الحرب الآشورية فحسب، ولكنها تضمنت كذلك محو الدولة الآشورية من الوجود واستئصال الشعب الآشوري". وهو مصير لا أحد يملك المناعة ضده بمن فيها أمريكا.
ويعلل (توينبي) كارثة النزعة الحربية بالثلاثي (بطر ـ حمق ـ جائحة) بمعنى أن البطر يقود إلى ارتكاب الحماقات وهي تفضي بصاحبها إلى الكارثة. ويستعير لتأكيد القانون التاريخي بقانون نفسي لأفلاطون هو (قانون التناسب):" إن ارتكب أحد إثماً ضد قوانين التناسب فأعطى شيئاً كبيراً للغاية إلى شيء صغير للغاية ليتولى حمله مثل تزويد سفينة صغيرة للغاية بشراع كبير للغاية. وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية. لو تم ذلك لكانت النتيجة وبالاً تاماً. ففي صورة الحمق يسرع الجسم البطن نحو المرض. في حين يندفع المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق". وهو ما تفعله أمريكا اليوم. ويكرر بوش غلطة دولة آشور وسيف تراجان الروماني واورانجزيب الهندي وكزركسيس الفارسي وورتي من اسرة هان من الصين وقره مصطفى حينما حاصر فيينا بربع مليون جندي من الانكشارية عام 1683م. والصليبيون عام 1099م.وكما يقول (توينبي) فإن الصينيين حركوا أعشاش الزنابير الأوراسي، كما حرك العثمانيون عش الزنابير الأوربي. واليوم تعيد أمريكا نفس الغلطة فتضع أصابعها في عشر الزنابير الإسلامي. وإذا كان هادريان حاول أن يرمم ما فعل سيف تراجان حينما انسحب من الحدود الرومانية عند الخليج الفارسي فإن الرجوع في المساحة لا يعني ذلك في السياسة. كما أن الحصار العثماني عام 1683 استنفر هجمة مضادة ولم ينجو الغزو العثماني من العقاب واستمر التراجع بدون توقف حتى بحر مرمرة ودمرت الخلافة عام 1923م وانحصر الأتراك في الأناضول موطن أجدادهم ومزقوا كل ممزق وأصبحوا أحاديث. واليوم لا تفتح تركيا أوربا بل تطلب أن تُفتَح وتناشد الانضمام للوحدة الأوربية وتعدل قوانينها فينجو رأس أوجلان من حبل المشنقة بعد أن تدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.