كتاب عمر والتشيع (ثنائية القطيعة والمشاركة ) .. حسن العلوي

 

تم اقتباس الكتاب من موقع ملف برس

الكتاب: عمر والتشيع
الكاتب: حسن العلوي
الطبعة الأولى: كانون الثاني (يناير) 2007.
 

الناشر: دار الزوراء ـ لندن

4- CHARTERSCOURT

UB6 – 8BP

GREENFORD

LONDON – U.K.

Tel: 00442088131066

نيقوسيا ـ قبرص: 0035799437224

دمشق ـ مزة غربية ـ جادة قريش رقم ـ 1ـ

00963116123977

00963116119511

 

 التصميم والإخراج الفـنـي:

مي أحمد شهابي

الغلاف:

هاديا حسن العلوي

جميع الحقوق محفوظة 
 

 
 

 إلى ابن أعظمية النعمان بن ثابت إمام الساحل الشرقي

                  عثمان بن علي العبيدي

          إليه رجلاً أنقذ سبع أرواح من الموت غرقاً من بين الحشود التي سقطت في النهر على طريقها إلى إمام الساحل الغربي

وعند الثامنة تعانقت الروحان وهبط الجسدان معاً تحت مياه الجسر المشترك.

 وحسبك أنك حبر هذه السطور.

 

?

حسن العلوي

دمشق  ـ الشام 1/1/2007

 

 

تدافعت حشود عابرة على جسر في بغداد لإقامة المهرجان السنوي لذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق المدفون في مقبرة خصصها لقريش أبو جعفر المنصور عام 150 للهجرة، سميت بمدافن قريش، فدفن فيها ابنه ثم الإمام موسى بن جعفر وحفيده، وعندما توفي الإمام أبو حنيفة النعمان دفن في مقبرة الخيزران، على الجانب الشرقي من دجلة، وهي لعامة الناس، فسميت الأولى بالكاظمية نسبة إلى الإمام الكاظم على الساحل الغربي، وسميت الثانية بالاعظمية نسبة للإمام الأعظم أبي حنيفة، وعلى الجانب الشرقي من دجلة، خرج الشاب عثمان العبيدي،  وهو من السكان الأصليين، فرمى بنفسه إلى النهر سبع مرات، أنقذ في كل مرةٍ طفلاً أو رجلاً أو امرأةً شيعية، وفي المرة الثامنة أمسكه الغريق وقد أرهقه التعب، وخارت قواه، فلم يقدر على حمله إلى الشاطئ، وغرق عثمان بثقل من كان يستنقذه!.

 

  

 

أول الكـــلام

عابور النهر وصاعود المألوف


 

 

الكرادة والكتاب

ما لابن السبعين مرميّاً إلى العباب مختاراً، وأكثر من نصفه معطل عن العمل؟

لماذا لا يركن إلى دعة الضيعة عند أصغر صغاره، أوفي دمشق الشام وأكبر كباره، وبينهما ثلاث يتقحمّن الحياة بعد الجامعة بشجاعة العالم؟.

ما الذي يغريه في تعب المواجهة وهو في هذه السن؟.

أقول: لو كان الأمر بيدي لركنت إلى صُلبي وسكينتي، لكنّي خلقت غير مُوادع ولامُساكن، والأمر أمر ضاحية الكرادة وبساتينها التي ولدتُ وترعرتُ فيها على ضفة دجلة اليمنى، حيث هي اليوم بساتين المنطقة الخضراء.. والحياة على ضفاف الأنهار والمغامرة صنوان، فأنت صاعود نخلة عيطاء في الخامسة، وعابور دجلة سابحاً في العاشرة، وقاحوم ليل البساتين التي لم تعرف نور الكهرباء إلا في السنة الأخيرة من الدراسة في ثانوية الكرخ. وأشجار البساتين حرة وشبه مشاعة، وكان أيُّ منا ينتقل في لحظات من قعر النهر إلى قمة نخلة مترامية في السماء، أو فوق غصن توت. ولنا القدرة على التقاط الناضج، وانتظار موسمه الذي نعد أيامه على الأصابع.

كان النهر مصدر التحدي.. يأكل منا بعضنا ونأكل منه جميعاً. وبواسق النخل تتحدى قممنا الصغيرة، وكان علينا أن نعانق قممها فنصعد وتصعد الأيام، فإذا جَرَفَ النهر شقيقاً عُدنا إليه وكأن من ذهب كان قرباناً يضحي به الصيف للنهر الذي فقد نصف قوته. فإذا سقطتُ من أعلى نخلة، فقد سقط جدي وخالي، ولا يموت من يسقط من فوق نخلة. ولم نعرف سرّ هذا السر؟.

لا أظن الأمر قد اختلف عليَّ كثيراً. والإبحار لم يكن في المجهول. ولاشيء مجهولاً في بساتين الكرادة حتى مكامن الأفاعي ومتارب العقارب، فلم يحدث أن لدغ أحدنا وهو شبه حافٍ في ليلٍ دامس يبحث في البستان عن شيء في لعبة الليل، بل المخاطرة وأكبر المخاطرة أن تعبر المألوف الاجتماعي أو تصعد فوقه وهنا الشجاعة والإقدام.

أظن الكتاب أصبح مفهوماً،.. سباحة فوق نهرٍ عريض وصعودا على جذعٍ طويل، وبحثاً في بستان الأفاعي والعقارب عن مفقودٍ بين البساتين والماء.

أما صاحب الكتاب فكان من ذلك كله وهو فوق ذلك كله، لم يأنس العيش في مقطع زمني حددته له الأقدار، وأقعدته فيه العقائد، فصار ابن الكرادة المفتوح على الماء والسماء والمتحرك مابين قعر النهر وقمة النخلة كاتباً، وكان لابد إلاّ أن يكون هكذا مفتوحاً على ثلاثة أجيال وسبعة أطياف.

فإذا هَرُم جيل فله جيلان. وإذا نكث طيف فعنده الأطياف الستة.

وسلامٌ على النخل ذي السعفات الطوال وسلامٌ على التشيّع.

وعلى ابن حنتمة ألف سلام.

 

حسـن العلـوي

بغداد - الكرادة

26/7/2006

 

 

 

ثنائية الكتاب

هذه كتابة حرة مفتوحة الاتجاهات في عمر بن الخطاب، وفي سياسة الخطاب الشيعي إزاءه، ولا أبتغيها كتاباً موصد الأبواب، وبحثاً مشروطاً مكبلاً بسلاسل الايدولوجيا وشروط الانتماء. وهي في ناتجها كتابة تاريخية في إشكال سياسي راهن، نطل منها على الطوفان العراقي، في وقت ختم الخاتم أن لا نبي بعده، ولا أمل لتقي في دعاء نوح المستجاب، ولا سفينة للنجاة ولا جبل يعصمنا، حتى الجودي مغمورٌ تحت طوفان الدم، وماء الأهوار يغور، وليست في مستوطنة الطيور السومرية مهاجرات قادمات من أقاصي الهند في طريقها إلى أقاصي أوربا.

والعراق منقسم على ثنائية عمر وعلي، التي تسلّكت في قنواتها السرية إلى السياسة الدولية، منذ مطلع القرن الماضي، فيخطط إستراتيجيون بريطانيون طريقهم إلى البصرة آملين كسب المنبوذين الشيعة في الحرب على الأتراك السنة.

وتغير الحرب الأمريكية على دولة الفقيه الشيعي، الذي حجز في طهران على موظفي أكبر سفارة أمريكية في خليج العرب والمنطقة. ليكون العراق وليس باكستان وتركيا السنيتان والحليفتان مكان الإغارة في حرب تستمر ثماني سنوات، فتتخم أسماك نهر كارون وشط العرب بلحوم الجنود قبل أن يحين الوقت المجهول لحرب أمريكية على السنة. فجاءهم الغيث من كهوف طورا بورا وهجوم تنظيم القاعدة على نيويورك بطائرات مدنية قطرت الرؤوس العليا لمعماريات مانهاتن قبل انهيارها مع ثلاثة ألاف أمريكي أعلن عن هلاكهم في الهجوم.

وكان المتوقع، وقد حددت الولايات المتحدة الأمريكية، مساقط رؤوس المهاجمين، أن تبدأ الحرب الأمريكية على السنة في بلد هم فيه أغلبية مطلقة. لكنهم وجدوا في العراق موطناً للحروب لا يضيق بحرب أمريكية رفضت تركيا اندلاعها على أرضها وكذا الباكستان والسعودية ومصر رغم اختلافها السياسي مع شيعة إيران، ولا بحرب أمريكية على سنة العراق سترفض دول العالم الإسلامي والعربي وهي سنية بالإجماع الاستسلام لها. لكن ثنائية علي وعمر، شكلت جاذباً لوجستياً مغرياً ومضمون النتائج يوفر المناخ الصالح لحروب البيت الأبيض على الشيعة والسنة وحروب الباب العالي وغريمه الصفوي، مادام قصر يلدز حافلاً بحروف عمر المنقوشة على جداريات القصر، ومادام شاه تبريز قد أقام مصنعاً للكاشان الممهور باسم عليًّ، وستجد السياسة البريطانية وحليفتها الأمريكية، ما وجده الشاه والسلطان شعباً في بغداد يهلل للمنتصر على ساحلها الغربي وشعباً يستقبل الشاه المنتصر، وقد وسع في الصحن الشريف غرفاً جديدة بعد أن قذف على الساحل الشرقي جثثاً ضاقت بها بساتين الأعظمية. أما أسماك دجلة، فلم تعد تأكل صغيراتها، ففي ثنائية عمر وعلي، الأسماك تأكل البشر، مابين بغداد وخرّم شهر، ومابين القرن العاشر والقرن العشرين.

هو ذاته حقل اهتمامنا التليد يأتيك طارفاً وطرياً في كتب ربع القرن الأخير.

ففي الشيعة والدولة القومية عالجنا ثلاث قضايا أساسية: أولها تعجيم الشيعة بما يجعل العرب في العراق أقلية أمام الأكثرية غير العربية، لو نجح مشروع التعجيم هذا، وبإبطالنا تعجيم الشيعة إنما ندعو لأغلبية عربية تحفظ الوجود القومي في العراق.

والثانية أن كتاب الشيعة والدولة القومية، يستهدف نقد تمذهب الدولة، وظهور مذهب حاكم يستأثر بالسلطة وامتيازاتها، ومذهب محكوم ومحروم في دولة واحدة، تطرح خطاباً قومياً في الداخل والخارج. ومن العدالة انتصار. كتابنا للمذهب المحكوم والمحروم.

والثالثة أن الشيعة والدولة القومية لم يتحدث على الإطلاق عن حقوق طائفية بل عن حقوق مدنية. وقد جاء في مقدمة الكتاب الصفحة 11 الطبعة الثانية أن الكاتب لا يرجّح، حتى هذه اللحظة مذهباً على آخر، وأنكر أن يكون الخلاف في العراق خلافاً بين أبي حنيفة وجعفر الصادق وأعطى مثلاً أن السلطة التي سميت سنية لا تعرف شيئاً عن مذاهب الإسلام، ولم تحترم رئيس المذهب الحنفي الإمام الأعظم النعمان بن ثابت، فأقامت على أمتار من مسجده دار سينما حرة في عرض الأفلام، وعلى شاطئه صالات تسمح باحتساء الخمور والرقص المختلط في الوقت المناسب.

إن كتاب الشيعة والدولة القومية يدعو لإلغاء فكرة التمذهب، أما وقد سقط النظام القديم، وظهر نظام أعطى للشيعة دوراً أساسيا في صناعة القرار السياسي وبرلماناً هم فيه الأغلبية شبه المطلقة، فقد أوشك أن يكون الشيعة هم المذهب الحاكم وأهل السنة هم المذهب المحكوم.

وبسبب نفوذ حركات إسلامية شيعية، شاعت في الخطاب الشيعي السياسي لغة تضعف موقفي في مواجهة مشروع تعجيم الشيعة الذي اعتنى به وتعهده سنة السلطة في نطاق نظري على الأقل، بينما أوشكت الاتجاهات الراهنة لبعض السياسات الشيعية في العراق أن تكرس عجمة التشيع بأفكار ومشاريع وخطاب كان بعضه رد فعل لممارسات نظام قومي عربي استأثر بالسلطة طائفياً ونكّل بمواطنيه في الأغلبية العربية الداعين لقيام نظام حكم مشترك، غير أن تبريراً لميل شيعة السلطة الحالية نحو عزلة خارج المحيط العربي سيجد معارضة الأغلبية العربية ومثقفيها المستقلين.

في هذا الكتاب يستمر منهجنا من منطلقه العربي والعراقي واعتماد منهج تاريخي يؤصل للصراع ويحيله إلى القائلين أولا بالقطيعة التامة والكاملة والمؤبدة بين الإمام علي وسلطة الخلفاء الراشدين الثلاثة واستخدام خطاب تقليدي يتعرض فيه الدعاة والخطباء لمقامات الصحابة فيثيرون حفيظة الأغلبية العربية والإسلامية، في وقت لا يشكل فيه الشيعة نسبة قادرة على تحمل أعباء العزلة والقطيعة وهي تنتقل من تخوم التاريخ إلى درابين الحاضر.

والكتاب يروج لنظرية المشاركة في سعيه لرفع الحصار عمن ينحدر الكاتب من أصلابهم... وجداً بعمر وسيراً على طريق السلم الأهلي الذي يبدأ عندي من لحظة التصالح مع التاريخ حتى يسهل لدعاة المشاركة أن يتصافحوا في الحاضر.

وبئس كتاب يزعم الدفاع عن عمر... فمن يحتاج إلى هيئة لكتب الدفاع هم الذين لم يكتشفوا عمر حتى الآن. وجزء من الكتاب هو ليس الكتاب،وان كان التجزيئيون من أهل القطيعة سيفعلونها، مثلما جّزأوا التاريخ المشترك لعلي وعمر في القرار وروح المسؤولية التي أدير بها المركز الجديد لإدارة الشرق القديم على حصيرة من سعف النخيل فوق تراب المسجد النبوي.


 

السفر إلى ابن حنتمة

ليس في ذاكرتي القروية جديد يستحق التدوين، فكأي طفل في محيطه، يرتسم عمر في مخيلتي الصغيرة، شخصاً يشتغل في وظيفة مسؤولة عن عذاب الإمام علي وعائلته. ولم يكن لعمر في ذهني من عمل غير صب الأذى على ابنة الرسول وزوجها وولديها.

وربما أمتد دوره إلى نهاية العهد الأموي، مشفوعاً باسم يزيد قاتل الحسين في سجع شعبي يكرره الطفل، كلما أكل ثمرة لأول مرة، أو لبس جديداً، (إلبس جديد والعن عمر ويزيد!). وقد يكون عمر في أذهاننا هو الذي قتل الإمام علي!. ولم نكن نعرف أن الإمام علي توفي بعد وفاة عمر!.

وعلى كراهة محيطنا ليزيد، فإن "العدو"الذي كان اسمه يتردد بكثرة، هو عمر.  فقد كنت أراه في ليلة محددة من كل عام شخصاً من سوقة المحلة، يجري خلفه الصبيان، وقد لفت بطنه بمخدة فوقها ثياب نسوية مما ترتديها الحامل، مصحوباً بزفّة من شعر الزجل الشعبي في يوم يسمى "فرحة الزهرة".

فإذا سألنا الذين هم أسنُّ منا قيل: إنه اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب ففرحت الزهراء بمقتله. ولم نكن نعلم أن فاطمة الزهراء توفيت قبل مقتل عمر بثلاثة عشر عاماً.

كنت أعيش في ضاحية كرادة مريم حي العباسية، مابين مبنى المجلس الوطني العراقي والقصر الجمهوري في المنطقة الخضراء حالياً، حيث بستان جدي لأمي، حتى إذا دخلت المدرسة الثانوية في الكرخ، التي يؤمها الطلاب من (أبو غريب) واليوسفية والمحمودية والكرادة، فضلاً عن أبناء جانب الكرخ، اتيحت لي فرصة العيش مع طلاب معظمهم من السنة، فصحبني أحدهم وكان يتدرب على ترتيل القرآن إلى جامع مجاور يرتل فيه الحافظ خليل إسماعيل الذي صدمني بسؤال عن أهل الكرادة، ولماذا هم يكرهون عمر؟.

فلم أملك جواباً، لكنه أيقظ في ذهني عدداً من التساؤلات الممزوجة بالاستغراب أحياناً. فنحن لا نحب عمر لأنه عمر وهل يوجد هناك من يحب عمر؟!. وفي أيام أخرى صحبني صديق أخر في المدرسة إلى مركز حزب الاستقلال المجاور لمدرستنا، وكان الطالب توفيق المؤمن، الذي يكبرنا بعدة سنوات مسؤول الحزب في ثانوية الكرخ، قد سبقنا إلى المركز. فاستمعت إلى محاضرة عن القومية العربية فيها إشارات إلى تاريخ الأمة ورجالها الأوائل أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد!.

كانت المحطة الأولى ثانوية الكرخ، والحافظ خليل إسماعيل والمركز العام لحزب الاستقلال، وتوفيق المؤمن، والعروبة في أيامها الأولى تحملني طفلاً إلى أحضان عمر قبل أن يأخذني عمر إلى العروبة لاحقاً.

بدأت علامات التحول واضحة على قناعاتي في حينّا الفقير، وكان شقيقي هادي العلوي الذي يكبرني بعامين شبه معتكف في صومعة دينية، جعلت بيتنا الصغير حوزة علمية صغرى. فكان يمنعني من الاستماع إلى أغنية في الراديو، ويأخذ عليَّ عدم قيامي بالفرائض الواجبة، ثم صرت أتمرد على المشاركة في مهرجان " فرحة الزهرة " فيما انخرط شقيقي بكل وجدانه واهتماماته في النشاط الحوزوي رغم مواظبته على الدراسة الأكاديمية، ولم تمض سوى شهور حتى توفيت والدتي ولم تبلغ الأربعين من عمرها، فكان من تأثير هذه الصدمة على شقيقي هادي العلوي أن شرع يتحول عن أسلوبه الديني يوماً بعد آخر، احتجاجاً على المقادير والآجال، حتى تجرد نهائياً من أي أثر ديني وإن كان مازال على  صلة بمراجع التاريخ العربي والإسلامي كالمسعودي والطبري واليعقوبي وابن خلكان وابن الأثير والجاحظ.

 وهو مع موقفه السلبي هذا لم يبرح دائرة الحضارة العربية الإسلامية، حتى أواخر حياته(*) عندما تصدى بعنف لسليمان رشدي، فانعكس ذلك على علاقاته القديمة مع كتاب اليسار الماركسي ومع الليبراليين الذين انتصروا لرشدي.

وبالعودة إلى الخمسينات الميلادية، كان هادي يلقنني تلقين الأستاذ لتلميذه مايقع عليه في المراجع والكتب من تقييم لشخصية عمر المتماهية بشخصية علي.

أمّا والدي، وقد صار وعيي أكثر نضجاً، فقد أثار استغرابي، وهو سيد علوي، أنه لم يكن يحمل ضغينة على عمر كضغينة والدتي، وكان من الذين يحيلون الأمور إلى النوايا وإلى الله الذي سيحكم بين الناس.

وعن الخلاف المتداول المشتعل في أروقتنا بين علي وعمر، كان والدي يفضل الإمام علي بلا شك، إذا ماقورن بغيره من الصحابة، وفيما عدا ذلك كان ينظر إلى عمر وأبي بكر باحترام. وقد شغلني موقفه فيما بعد، وما إذا كان اعتداله غير المتوقع موروثاً عن أبيه السيد سلمان فقيه الكرادة وإمامها، فاكتشفت أن عاملاً آخر هو الذي أثر فيه، فقد كان صديقاً حميماً للقاضي مصلح الدين الدراجي، عضو المحكمة الكبرى في الحلة، وهو من أهل السنّة وقد يكون هذا الصديق الذي كان والدي يجله ويسرف في الحديث عن عدالته وعلمه هو الذي أوجد هذا الانعطاف فيه.

كان العام يمضي فأقترب خطوة إلى موقع متقدم في رحلتي إلى ابن حنتمة، فإذ دخل عامل مهم بعد تحولات هادي العلوي، كانت مفاجأتي كبيرة فيما سمعت من والدي، ولم اكتشف حتى ذلك الحين تلك العلاقة بين عصا الخيزران بقبضتها الجلدية البنية التي لا تفارق يمنى والدي في المنزل والزقاق والعمل، وبين دِرّة عمر.

ظل والدي حتى أيامه الأخيرة يخفق المارة بدرته، إذا مارأى في بعضهم خروجاً على الذوق العام، أو خروجاً على ما هو شرعي. وكان الناس في تلك المحلة(*)، يتقبلون الخفق عن طيب خاطر، وكأنها رحمة!.

ولم أكن حينها قد اكتشفت درة عمر، لكن صديقي الجديد في الثانوية الشرقية التي انتقلت إليها فهد السعدون قد عرفني على والده وهو عقيد طيار متقاعد له اهتمامات تاريخية وحماسة قومية، جعلته يكرر القول، بأن العروبة أهم من الإسلام، لكنه يستثني عمر بن الخطاب وينظر إليه بطلاً قومياً وليس خليفة. وكان يعزو نجاحات الإسلام إلى درة عمر، وإذ نمت قدراتي الفكرية وصرت أستقي المعلومات من مصادرها، اكتشفت أن المرحوم عبد الخالق السعدون إنما كان يشير إلى ما نقله ابن الجوزي عن العامة أنها كانت تسخر بحكامها، وتقول (لدِرَّة عمر أهيب من سيوفكم)(*).

وفي كلية الآداب انشرحت أمامنا أبواب التاريخ العربي، وحضرتْ مراجع الأحداث إلى صفوف الدرس اللغوي والنحوي في فترة كانت بغداد الملكية والجمهورية الصق ببغداد المأمون، فاستمعنا إلى أستاذنا علي الوردي عالم الاجتماع يكتب لمحات من التاريخ بمنهج شعبي ولغة مفهومة، ونختلس مجلس مصطفى جواد يحدثنا عن درابين بغداد وأيامها العباسية، وعرفنا منهج عمر الاقتصادي من المؤرخ المختص بالنظم الاقتصادية في الإسلام عبد العزيز الدوري وعرفنا عروبته من عروبة ناجي معروف. واستمعنا إليه يحاور الإمام علي على لسان الدكتور الوردي، وهو من عائلة شيعية تسكن حول ضريح الإمام موسى بن جعفر، لكنه يخترق محيطه خارجاً بعمر إلى رحابة إنسانية تتسع له ساخراً من المشعوذين، فيرد على كتابه وعاظ السلاطين ثمانية أدباء وفقهاء، خمسة منهم كانوا من رجال التشيع. وخرجت إلى بلدة فوق جزيرة على الفرات مدرسا في ثانوية حديثة، فصرت أحدثهم عن عمر، وهي مدينة لم تلتق بشيعي قبلي على ما أظن، لأن بعضهم كان يسأل عن الشيعة وكأنهم من أهل الأمازون.

وعند أهل حديثة تأكدت أن كتابات على الوردي تعيش في هذه المدينة النائمة على حضن الفرات، ويعيش عمر وعلي مثلما كان صالح الحديثي وكاتب السطور، فشغفت بعمر الذي تشرف ابني الثاني بحمل اسمه، وكان هادي العلوي يهديه النسخة الأولى من أي كتاب يصدر له ويلقبه بعمر الثالث.

وعند عمر ألتقي بشقيقي الذي طالت خلافاتنا منذ الطفولة حتى الكهولة، وكان مما يجمعنا في رأي واحد، انتهاؤنا من قراءة طه حسين، أو علي الوردي، وهما من المعجبين بالإمامين علي وعمر، ونحن هادي وأنا من المعجبين بهذين الباحثين الكبيرين.

وقبل وفاته بثلاث سنوات أسررت هادي بأني بدأت بوضع دراسة عنوانها (الفتوح السفيانية) حيث يجلس العليان أو العمران على صفحات البحث متقابلين باعتبارهما من ممثلي الخط المحمدي الأول، فبارك لي مشروعي هذا ولم أشأ طبعه ونشره لما يثيره عليَّ من صخب واحتجاج قد لا أكون قادراً على صده، فرأيت أن أتوسع بما يتصل منه بعمر وأمامي مشاهد يوم القيامة في العراق المحروق. ويدفعني إلى تدوين كتاب فيه وازع من حب الأمة واحترام التاريخ وتجميع الناس من بني قومي عرب الشيعة في مراكز الكتل الكبرى والانسجام معها كي لا يكونوا أقلية ملومة وصوتاً غير مسموع.

إن الموقف من الصحابة ومن عمر بالذات تتوقف عليه في عصر ثورة الاتصالات أمور لم تكن محسوبة قبل هذه الثورة، وسنواجه بتجريح الصحابة إشكالات اجتماعية حادة في مناخ يسمح بنشر أحكام التكفير والترويج لها في الفضائيات.

يدفعني إلى كتاب عن عمر حاجة الأمة إلى "حاد يحدوها لا يتعالى عليها ولا يجلدها وفي الوقت نفسه لا يتملقها أو ينافق حادٍ يحب قومه و"قبيلته"، ويريد لهم الخير والتقدم، لكنه لا يكره الغير ولا يحتقرهم "(*).

وإني لأرجو الله أن أكون في صف هذا الحادي الذي ينكر على بعضهم هجاء الأمة وتاريخها ولغتها وعقيدتها، ولا يرى في الأمة خيراً لا في قديمها ولا في حاضرها. يدفعني إلى عمر حاجة الأمة إلى شيء من بعض عمر.

 

 

 

البــاب الأول

  

l كونية عمـر

 

l البرية .. والدولة .. والرعية

 

 

 

 

فـي وضـح البـريّة

دِرّة الإبـل وقـانون الســماء

 
 

 

جاذبية المعروض التاريخي

بين منثور العناوين وتشابك الأفكار، وانفلات السيطرة على حركة الوجدان وفي لحظة الانسجام مع جاذبية المعروض التاريخي في شخصية عمر وسياسته، تترابط برية النشوء ونشوء الدولة بنشوء الضمان القانوني للبشرية الإسلامية، محكومة بمصير إيديولوجي وروحي واحد، يتصل في نهايته العليا بالإرادة الإلهية وفي نهايته الأرضية بالذراع المحمدية، وتحت ظلالهما وبوحيٍّ منهما تفسح النشأة البرية لعمر أن يسوح بنفس تتطلع إلى حرية الخلق المطلق، وتشكل الدولة الجديدة منّظماً قانونياً لجموح البرية في نفسه، فيتحقق قدر من التوازن في شخصيته وسلوكه بين الحرية والقانون، وبالمجانسة بينهما يتحقق الاستجمام للمخلوق البشري في هدفه السامي. نظن أن هذا المزيج أنجز عصراً عربياً، هو زيت العصور الإسلامية.

وفي الطريق إلى هذه الكونية يتدفق ذهن عمر وتُعتصر أذهان الصحابة لانتاج علاقات نموذجية بين السلطة والناس، وقبل ذلك بين السلطة وذاتها.  

وكان الإمام علي الشريك الأول، وليس المستشار الأول، في صياغة مشروع الدولة الناهضة وإدارتها، فيما منعت سياسة عمر، القائمة على التمثيل الموسّع للمجتمع الإسلامي الأول وتوزيع دقيق وذكي للمواقع الأساسية بما يشبه حكومات الوحدة الوطنية والجبهة الوطنية في أيامنا هذه، حصول توترات داخلية كالتي حصلت بعد رحيله المبكر، وقد ساعد على تجاوز ما لم يظهر من الإشكالات حق الاجتهاد في تدبير شؤون دولة ناشئة لم تقم على سابقة من النظم القديمة. وبانفتاح ثقافي على تجارب الشعوب، لم يجد رئيس الدولة الجديدة ما يمنعه من استعارة تجارب الأمم وتطويعها لصالح الإدارة الجديدة.


 

المكون البري

السماء فوقه ناعمة ممتدة إلى نهاية القدرة على النظر، والأرض تحته ناعمة منبسطة ممتدة إلى نهاية القدرة على البصر.

فإذا أخذته الرمال، وقد ضاعت الصوى شد حركة قدميه بمواقع النجوم، وأعاده السرى إلى ماء لبني عدي فيرتوي، ويرتوي القطيع الصغير الذي عهد الخطاب إلى صغيره رعيه ورعايته.

والأرض لا تستغني في مرابع الجزيرة عن السماء، وإلاّ ضاع القطيع، وانقطع السبيل ودخل الناس في التيه!.

أظنها ذاتها عناصر الجدلية في فكرة الوجود الإلهي عند العرب، الذي يهدي التائهين بضوء النجوم قبل أن يغمرهم نور الله.

فمن الصعوبة إذن، تنكر العربي في باديته للسماء، وصدوده عنها، فهل توصلنا إلى قاعدة لسنا حذرين في الإعلان عنها، وتقضي بصعوبة انتشار الإلحاد في الجزيرة العربية؟. وإن كان ذلك لا ينسينا برية الإنسان في الجزيرة وفهمه للمطلق، وحصره المطلق بالحرية والحركة والانتقال. والانطلاق بالقليل من الضوابط والأقل من القواعد القانونية العليا، فهو يؤمن بفكرة الله وينتفع بها،  ولا يؤمن بما يترتب عليها من ضوابط في مجتمع غير ممتثل إلا لحاجاته القبلية والمعيشية. وعمر بن الخطاب من هذه البيئة، وعليها ربا ونما، وربت سريرته ونما وعيه، فوق برية ليس فيها حواجز وتضاريس، فنشأ مخلوقاً سهل النفس، منبسط السريرة، بعيد النظر. ولم تكن الحياة خاضعة لسلطان يتزلف إليه. ولا ذهبت به طبيعة العيش إلى المداورة والمداجاة. فانكشفت سايكولوجيته عن وحدة لا ازدواج فيها،  مشرقة واضحة. وليس عنده لأحد حاجة. ومعه ضرع المعزى، وظهر الدابة، وشكيمة النفس فوق شكيمة المقادير.

لقد تعاشق عمر والبرية، بما لم يتوفر مثاله لرجال سينتمي لاحقاً إلى محيطهم.

فهو لا يشبه أبا بكر الذي تشايخ صبياً فثقلت حركة يديه ورجليه. وليس له مثله عشرةً سابقة مع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المهموم بمصير البشر قبل اتصال الوحي وبعده.

ولم يكن كعثمان ابن المدينة وسليل الإمارة، المجرب العارف بحياة الشعوب وأنظمة الدول في تجارته مابين الجزيرة والحبشة وبلاد الشام.

ولا كان عمر كعلي بن أبي طالب، وارث النبالة الهاشمية في بيت قضت الإرادة الإلهية أن يقام فيه بيت النبوة. كان عمر في حي متواضع من أحياء قريش، ليس له تاريخ من الحروب، ولا أساطير يرددها الشعراء، ولا أطلال يمر عليها أصحاب المعلقات. لكنه خرج إلى ما وراء الخيمة بعيداً في عمق الحياة، وإلى ما وراء الديار المحصنة قريباً إلى الأسواق كاسباً  لا تاجراً، خابراً نوايا الناس، عاركاً دروبهم، فارتبطت برية الطفولة في ضنك العيش. عاش عمر بريته الجاهلية على فرس اجرد، وترك للطبيعة الحرة أن تطبع اتجاهاته نحو الحرية في مفهومها الجاهلي المطلق، قبل أن يتداركها في إطارها الإسلامي المنظم.

والبرية تنتج إنساناً طبيعياً، خلواً من شائبة المداراة صفواً من كدر النفاق.

ولم يكن يوم إسلامه آخر عهد له مع البرية. وسلوكه مع أخته وزوجها كان برياً خالصاً في لحظة إسلامه. فصرع ابن أخيه سعيد كما لو كان في حلبة عكاظ. وأدمى وجه أخته كما اعتاد في بريته. ثم عاد إلى صفاء النفس. وعادت رجولته البرية في هاتف من الضمير.

واستمر الرجل بعد إسلامه على برية واضحة في سلامة القصد وسهولة الحياة، ومزاجية شفيفة لا تثقل على الآخر وقع كلامه. وكانت من آثار البرية عليه معترضاته الشهيرة التي في أعلى مراحلها موقفه من نص في صلح الحديبية.

وكان عمر بري الحياة، وهو رئيس أكبر دولة في الشرق القديم، في هزئه بالترف، وافتراشه الأرض، وزهد عيشه، وبساطة لباسه. وفي مهابة التباسط بعض منعكسات حياته البرية الأولى.

ولا أجد تفسيراً لعلاقة عمر بالبّرية دون غيره من الخلفاء سوى الدرة من صلة مع بريته الأولى يوم كان مسؤولاً عن رعي إبل وأغنام، وقد تحول إلى مسؤول عن رعية، محتفظاً بدور الراعي وهو يردد: لو أن جدياً مات بطفّ الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر. وقيل في الرواية صيغة: لو أن عناقاً "أنثى المعزى" أخذت لأخذ بها عمر.

ويلاحق بعيراً ندّ "أي هرب" من إبل الصدقة وهو على قتب يعدو، ويسأله الإمام علي ولمّا عرف سره، قال لقد اذللت الخلفاء من بعدك. وكان متيسراً لعمر أن يكلف أحداً غيره بالبحث عن ذلك البعير، لكنها مسؤولية الراعي وحده، وحيداً في البرية، وكأن الحياة لم تتغير، ولم يكن عمر ساعتها أميراً يحكم أعظم دولة ناشئة في الشرق. فلعل في قولنا هذا ماتلين له قلوب بعض الكتاب في العلمانية ومن أهل القطيعة، المتسائلين باستهجان: عن سبب ملاحقة عمر بنفسه لكثير من القضايا الصغيرة، وتحت سلطته ملايين الاتباع. وعدّوا ذلك من الغلو والمبالغة في تعظيم عمر.

وفي ظننا أن الأستاذ عباس محمود العقاد لم يرسم شخصية عمر بدقة في منهج استقراه واستقاه من حياة الجندية.

إن عمر ليس نتاج مكوّن وحيد، وإذا كانت البرية من بعض صغرى مكوناته. فلم تكن جندية العقاد ذات صلة بتلك الشخصية.

إن البرية، ولا بأس أن يحدد مصطلحها العلمي الحديث، أي الطبيعة، تعطي إحساساً فطرياًً بالولادة الحرة لإرادة الكائن البشري محضونها الأكرم المتجول في جغرافيا اللامحدود، وتحت سيادة شبه مطلقة لمطلق الحرية، على حساب القانون الذي يتنحى في البرية إلى المراتب الدنيا، أعرافاً وتقاليد، لا تؤسس قواعد قانونية عامة. وما هو قانوني في العرف القبلي قد لا يكون كذلك في مفهوم دستوري واسع، والطبيعة سعة إلى ما وراء الممكن للحرية، وضيق إلى حد قطع النفس في المساحات المخصصة للقانون.

وفيما يقترب من الحاجة المادية في التطور البشري لقانون ينظم الحياة وعلاقات الإنسان مع بعضهم ومع الكائنات العليا، كان ظهور الإسلام في الجزيرة العربية استجابة متوقعة لتحقيق التوازن بين الحرية والقانون.

إن شخصية الصحابي إلى ما بعد عصر الصحابة بقليل يتعاون على تشكيلها وصياغتها عنصرا الطبيعة والإسلام، أي الحرية والقانون وإذا كان البشر مختلفين في الاستعداد الذهني والنفسي للانجذاب نحو أحد هذين القطبين، فإن النفوس المقدر لها النهوض بأدوار في التأسيس الحضاري ستنزع نحو القانون بجدية قد تثير حفيظة المستقرات الطبيعية في المجتمعات البرية.

إن عمر بن الخطاب شاخص مادي وروحي لاجتماع الحرية والقانون. ولكون القانون طارفاً أو ناشئاً في تلك المجتمعات، ولميل عمر نحو إلزامية القانون، كانت ولايته صعبة وثقيلة على قطاع من المتمرسين على الحياة بالقليل من القانون.

وكان القانون في شخصيته يتكلم بأطراف الدرّة في قضايا المخالفات العابرة والصغيرة ويأخذ مداه في مؤسسة القضاء، التي كتبت المقادير أن تنتعش بمستخرجات هذا البري النادر.

إن درة عمر، وسيأتي حديث عنها، تشبه الإشارات الضوئية في أيامنا في تنبيه المارة إلى حق الحركة والتوقف،  فكانت بداية بسيطة لعصر سيدخل المجتمع العربي فيه إلى عالم القضاء الإسلامي المتشابك في عروق الاحتمالات والإشكالات ومزدحم الحلول المطروحة في مذاهب الفقه.

ودرة عمر الأجلى تعبيراً عن مشترك الذاكرة البرية وقانون المدينة.

فتى عكـاظ

التقى رجل راعياً،ً فقال له: أشعرت أن ذلك الأعسر أسلم؟.

فقال الراعي: إنه الذي كان يصارع في سوق عكاظ. فلما أجابه الرجل أنه هو ذاك. قال الراعي: أما والله ليوسعهم خيراً أو شراً.

وسبب شهرته في المصارعة، أن له طريقة خاصة في منازلته الخصم على الحلبة. فيتركه زمناً يحاوره ويحتال لصرعه وهو منه في موقف المدافع لا يبذل من الجهد، ما يبذله خصمه، فإذا شعر أن صاحبه قد هاضه ونال منه الجهد انقض عليه فركب أكتافه وألقاه على الأرض صريعاً، وهو الأسلوب الذي يستخدمه الملاكم العالمي محمد علي كلاي ذاته. فيتوجه عمر وسط ترحيب المراهنين عليه وكثرة منهم من النساء إلى إحدى الخمارات حيث الجميلات يتهنّ دلالاً وعمر يشرب بالكبير وهو الكاسب الرهان، ويشرب غيره بالصغير، وكان له شاربان مفتولان من نهايتهما إلى الأعلى على الطريقة التقليدية للرجل الدرزي. وقد اعتاد عمر أن ينفخ ويفتل شاربه قبل نزول الحلبة، وهو يقول: لست للخطاب إن لم أصرعه لأول مالقاه.

كما عرف في مسابقات الخيل، وكانت له شهرة في المصارعة. وكان لسان حاله يقول ماقاله أبو نؤاس بعد أن تاب فصام وصلى.

وأسمت سرح اللهو حيث أساموا

 

 

ولقد نهزت مـع الغواة بدلوهـم

 

فـإذا عصـارة كـلِّ ذاك أثـامُ

 

 

وبـلغت مابلـغ أمـرؤ بشـبابه

 

قامته تربو على مترين

 يوصف عمر بن الخطاب بانه ضخم جسيم، مديد القامة، تعلو هامته هامات الجمع كلها. فإذا كانت أعلى قامة في المعدل تزيد على المائة والتسعين سنتيمتراً في قياساتنا فإن هامة تعلو هامات الجمع كلها ستربو على المترين إلاّ قليلاً. وسيكون تقدير وزنه، مابين مائة وعشرة كيلوغرامات الى مائة وخمسة وعشرين تقريباً وهذا ظن لانقطع به.

يروى أن الناس جمعوا في مكة على صعيد واحد، فإذا رجل قد علاهم جميعاً فكان هو عمر بن الخطاب، وفي رواية لابن سعد في الطبقات أنه علاهم بثلاثة اذرع! وهذا من المبالغة غير المعقولة.

يقول محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر:" لقد بلغ من إكبار المؤرخين لسيرته أن أضافوا أموراً أدنى إلى المعجزات التي خصّ بها الانبياء، وإن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ اثباته،  وعمر في غير حاجة الى شيء من ذلك يضاف الى سيرته، ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها ولجنّبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها. ولما طفف ذلك من قدر عمر.

هل وأد ابنته؟

أصحيح أنه وأد ابنته على طريقة بعض قبائل العرب في بعض أماكنهم  والمجهول من أزمانهم..؟.

لعلها فرية كبرى أراد بها أتباعه ومحبوه أن يبرهنوا على ما أحدثه فيه الإسلام  من انعطاف وما كان هو عليه في جاهليته من جهل وقسوة تكون ذروتها أن  يدفن الأب ابنته حيّة وكأنها ظاهرة يومية وعرف لا تحيد عنه، فيما يروى أن عمه عمرو بن نفيل كان بسبب إحساسه الإنساني ونبذه لتلك العادة التي فرضت أخبارها علينا يدفع ثمن من يراد وأدها فيتبناها أو أن يترك لأهلها مالاً يعيلون به الموؤدة.

فلماذا لم يدفع لابن أخيه جملاً أو جملين ثمناً لشراء ابنته لتبقى حية؟ إذا كان عمر لا يجد في قبيلته من يعيل طفلة؟ كما يقول العقاد.

 ولماذا لم يئد ابنته حفصة التي ولدت قبل البعثة النبوية، وهل عرف عن بني عدي أنهم يئدون بناتهم، أم أن المعروف والسائد في الروايات أن زعماءهم كانوا على سُنة عمرو بن نَفَيل.؟

عندما أمرُّ على هذه الرواية أتذكر المرحوم حندش ابن عمة والدتي محمد بن محمود وهو دليمي من قرية الكرابلة  هذه التي صارت اسماً يتداوله صحافيو العالم لرفضها الوجود الأمريكي، أقول أتذكر حندش بطيبته وفطرته ونقائه يبارك لصديقه الحاج مهدي عودته من أداء فريضة الحج قائلاً بين حشد من أهل الكرادة: سبحان الله سبحان الله، كيف يتغير الإنسان بالحج وماذا يفعل الإيمان، أتذكر يا حاج مهدي قبل ثلاثة شهور كيف كنت تسرق الدجاج من بيت جوري؟؟.

إن المؤرخين الذين يتحدثون عن وأد عمر لابنته، لا يختلفون عن رأي حندش بالحجي مهدي. 

إن التشهير بعمر الجاهلي، لا يخدم عمر الإسلامي، وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام.

أما حياة عمر بأسلوب الحياة الجاهلية، فهو لا ينتقص منه مثلما لا ينتقص من أي صحابي قادم إلى الإسلام من العصر الجاهلي.

البرية أم الجندية

يقول عباس محمود العقاد في عبقريته:

" إن طبيعة الجندي في صفتها المثلى، هي أصدق مفتاح للشخصية العمرية في أهم الخصائص التي تجتمع لطبيعة الجندي في صفتها المثلى، كالشجاعة والحزم والصرامة والخشونة والغيرة على الشرف والنجدة والنخوة والنظام والطاعة وتقدير الواجب والإيمان بالحق وحب الانجاز في حدود التبعات أو المسؤوليات.

هذه الخصائص تتجمع في ألوف السنين من تجارب الأمم في تعبئة الجيوش، حتى عرف الناس أخيراً أنها لازمة للجندي في أمثل حالاته، وكل هذه الخصائص عمرية لا شك فيها. وعمر وحده واضح بين أمثاله في جميع هذه الخصائص ".

ونقول: إن هذا التشخيص لا يتسق مع ما عرف عن موسوعية العقاد وتنوع أدواته في التحليل العلمي، فيدور بعمر حول فرضية جعلها مفتاحاً لشخصه، وهي لا تشكل في مراتبها العليا سوى سلك دقيق غير مشع في الشخصية العمرية المنسوجة بما يصعب إحصاؤه من خيوط الحرير الناعمة والصوف الخشنة والكتانية المتينة.

شخصية مركبة في نسيج مركب ومنشور بألوان البرّية والعقيدة والحياة والمزاج والضرورة والطموح والاستجابة والتحدي والتطبيقات المفتوحة للنصوص وإبداع ما اعتبر في ما بعد نصوصاً سارت عليها الأمم والشعوب الإسلامية، مما لا يصح اختزاله بوضع الإبهام والخنصر على رأس خيط منها ليكون ذلك مفتاحاً لشخصية عمر.

والعقاد شاعر كبير وناقد لا غيره يفهم شخصية الشاعر. لكنه ابن مدينة القاهرة لم يخرج إلى البرية ليرى عمر هناك يرعى إبلاً للخطاب، وينشأ على يومياتها وخلائقها. وأعجب منه أنه لم يكتشف في عمر شخصية الشاعر، ليس بمعناها السائب، بل بإحساسه وقدرته على الالتقاط ورهافته. شاعر له عشق الحرية والعدل والناس. فأي جندي هذا الذي يشبه عمر وإن كان المقصود من جندية العقاد الفروسية بمعناها الواسع؟.

يبدو تحليل العقاد من البساطة في هذه النقطة، وليس في غيرها، وكأنه يدخل في صالة النادي العسكري ويتطلع إلى لائحة التعليمات المعلقة عن أخلاق الجندي وشروطه، فيمليها فقرة بعد أخرى بتسلسل يبدأ من الشجاعة والشهامة واللياقة البدنية وطريقة المشية العسكرية شديدة الوطأة على الأرض، وتنتهي بالطاعة وحسن أدائه للواجب.

إن واقع عمر والمرويات عنه وخطوط شخصيته لا تؤشر على كثير من شروط النادي العسكري. فهو يكره الوطأ الشديد على الأرض خشية أن يكون المشي مرحاً وقد تعرض لعمرو بن العاص لما رآه يمشي مشية الضباط فخفقه بالدرة، لكنه يمشي سريعاً لأنه أروح القدمين، وهذه حالة طبية معروفة لسكان البادية. من جانب آخر، لسنا نعرف أن العسكريين في العالم إلاّ أقلية تحتفظ بما تصفهم لوائح الثكنات العسكرية، نخوة ونجدة وشهامة.

إن مزاجية عمر القائمة على الحيوية والانفتاح، تتعارض وجمودية العسكري وبواعث الإبداع في المرويات عنه، وتتعارض مع إلزامية ترسم حياة الجندي وعقله، وتضعه على سكة إن مال عنها سقط على الأرض، وليس كالجندية حقل تتكرر فيه المشاهد الرتيبة والكلمات والحركات.

من الثابت والبديهي أن صاحبنا على سكة صاحبيه، لا يحيد عنها  لكنه قد يتزود من وقود شخصي وطاقة ذاتية، ليستمر على مواصلة سيره، وقد يفتح للسكة فروعاً عندما تصل به إلى حافة مغلقة. وإذا ما منع عمر مشية الخيلاء، فقد جلد رجلاً أقبل مرخياً يديه طارحاً رجليه يتبختر، بعد أن عجز عن ترويض مشيته بصورة طبيعية، فكأنه رأى فيه ميوعة الأنثى!.

أغلب الظن أن العقاد، وقد استمالته الجندية فالبسها قميصاً لعمر سمع قول الشّفاء بنت عبد الله:

إنه كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقاً. والعقاد الأديب والشاعر عانى ويعاني مما تفعله القافية، وما يفعله السجع وضروراته، فيملي على الساجع مفرداته ليستقيم الصوت الواحد، وإن جنح به المعنى على غير قصده.

صحيح أن عمر كان إذا تكلم أسمع، وكانت لقريش قبل الإسلام مؤسسة خاصة تشرف على كلام الحجاج، فلا تترك أحدهم يعلو الضجيع، وهي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وتدعى عمارة المسجد، ولم تكن العرب تهمس في الكلام، بما لا يسمع لأنه من فعل النساء أو من فعل الوسواس الخناس.

أما أن يكون عمر إذا ضرب أوجع، فهو غير صحيح، إلا إذا كان الضرب أقامة لحد، وهو متروك لغيره عادة. أما أن تقصد الشفاء درة عمر فلم تكن توجع، ولهذا عرفت في استخدامها جملة (علاهم بالدرة) أو (خفقهم).

ولم تستخدم الدرة للإيذاء والايجاع أو للعقوبات، بل كانت عصا الإشارة والتنبيه فلم يضق بها كبار الصحابة الذين علاهم بها.

ولو استمر سجع الشفاء بنت عبد الله لقالت مثل ما نقول اليوم، وإذا أكل شبع، يوم لم يكن عمر يصل حدّ الشبع في وجبة زهيدة.

أسلم على طريقته البرية: بالصوت أم بصدمة الصوت

يقول العقاد: وقد تعددت الروايات في إسلام عمر واختلف بعض هذه الروايات في اللفظ واتفق في المغزى، وجعل أناس ينظرون فيها، كأنما الصحيح منها لا يكون إلا رواية واحدة وسائرها باطل لا يشتمل على حقيقة، فلم لا تكون صحاحاً كلها؟. ولم لا تكون أسباباً متعددات في أوقات مختلفات؟. فمن المستطاع المعقول أن نسقط منها قليلاً من الحشو هنا وهناك ثم نخلص منها إلى جملة أسباب لا تعارض بينها في الجوهر، وقد يعزز بعضها بعضاً في نسق السيرة وفي لباب النتيجة.

الرواية الأولى:

روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (كنت للإسلام مباعداً، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش. فخرجت أريد جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحدا. فقلت: لو أنني جئت فلانا الخمار!. وخرجت فجئته فلم أجده. قلت: لو أنني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين!. فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، وقام بنفسي أنني لو دنوت أسمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها ما بيني وما بينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام).

وبتنجيم سيرته واستقراء قراراته وانعطافاته، وما يروى عنه نتوقف عند لحظة يتوقف فيها عمر أو يتحرك منها، وهو في هذه وتلك يخضع إلى ما نسميه بنظرية الصدمة.

إن إسلام عمر يقترن في الروايتين المختلفتين باستماعه إلى الصوت القرآني مثلما هي حالة الكثير ممن أسلموا تحت التأثير البلاغي والروحي لهذا الصوت.

 في الرواية الأولى دخل عمر إلى الكعبة مختفياً وراء ثيابها والنبي يقرأ القرآن فاستهواه ذلك فأعلن إسلامه. لا نرجح هذه الرواية لافتقارها إلى عنصر الصدمة.

إن عمر من مثقفي الجاهلية وهو واحد من (17) رجلاً كان يكتب ويقرأ وهو المعروف بمناقضة الإسلام ومناضلة القرآن، فهل يعقل أن لا يكون سمع القرآن في ست سنوات خلت ولم يرقّ له قلبه فيبكي ويسلم؟.

الرواية الثانية:

وروى ابن اسحق في سبب إسلامه: (أن عمر خرج يوما متوشحاً بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم. فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟. فقال: أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر!.أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟. أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟. قال: وأي أهل بيتي؟. قال: أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه.. فعليك بهما..

قال: فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟. قالا له: ما سمعت شيئاً!. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها..

فلما فعل ذلك قالت له أخته: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى، وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.. وقرأ سورة طه، فلما قرأ منها صدراً  قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، لما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: ياعمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله ياعمر!. فقال له عند ذلك عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، وقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً بالسيف، فرجع إلى رسول الله وهو فزع، فقال: يارسول الله!. هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: تأذن له، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه!. فقال رسول الله: ائذن له. ونهض إليه حتى لقيه بالحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟.  فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يارسول الله!. جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله!..

هاتان الروايتان هما أجمع الروايات للأسباب (المباشرة) التي قربت بين عمر والإسلام. وتتفرع منهما روايات منوعة يزيد بعضها تارة أن عمر قد أوفد لقتل النبي من قبل قريش، ويزيد بعضها تارة أخرى آيات من القرآن الكريم قرأها عمر في بيت أخته غير الآيات التي تقدمت الإشارة إليها في سورة طه. وأشبهها بالتصديق أنه لما أطلع على الصحيفة قرأ فيها اسم " الرحمن الرحيم " فذعر وألقاها. ثم رجع إلى نفسه فتناولها وجعل كلما مرَّ باسم من أسماء الله ذعر. فلما بلغ ".. ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم أن كنتم مؤمنين.." قال: أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وهذه على اختلافها روايات متقاربة يبدو لنا أنها قصة واحدة.

إذا كان ذلك صحيحاً، فما الذي كان يستفزه في كتاب لم يسمع منه آية واحدة، فإذا استبعدنا الرواية الأولى، فالثانية التي أوردها ابن إسحاق تنتهي هي الأخرى باعلان عمر إسلامه لحظة قراءته الآيات الأولى من سورة طه.

مناقشة الرواية

يبدو منهج العقاد هنا وكأنه يستخدم مهاراته الأدبية وآليات الجدل الصوري ومحاورات المناطقة للتوفيق بين المتعارضات وجمع النقيضين وجعلهما واحداً مع اختلاف الرواية. ولعله يتحاشى الوقوع في منزلق الشكوك الخاصة بمصداقية رواة ثقاة. أما منهجنا في فحص الروايات فيعتمد على استيعاب الموحيات النفسية التي نتذوق بها الخبر العمري.

إذعاناً لنصيحة الأستاذ العقاد نسقط الحشو في هذه الرواية بمناقشتها أولاً على ضوء التحليل النفسي لشخصية عمر ونظرية الصدمة وملائمة الرواية للواقع الاجتماعي آنذاك.

1- لا نظن أن عمر خرج ليقتل النبي. إذ كيف سيتمكن من ذلك وهو يتوجه إليه والنبي في بيت محاط بفرسان الصحابة أمثال الحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعدد كبير منهم.

2- لا نعتقد أن نصيحة نعيم بن عبد الله وتهديد عمر بما سيفعله بنو عبد مناف به في حال قتله للنبي قد غيّر فيه لأن ذلك سيعزز من عزيمة عمر المعروف بعنفوانه وإقدامه.

إن قارئ عمر وعارف سايكولوجيته سيرفض رواية يبدو فيها عمر وكأنه شخصية مهزوزة يثني إرادته تخويف عابر سبيل، فكيف والأمر يتعلق بمسألة على مستوى اغتيال النبي محمد؟.

المرجح هو أن عمر كان في زيارة روتينية لشقيقته فاطمة وزوجها سعيد ابن عمها وفي بيت فاطمة واجه عمر عدداً من الصدمات المتلاحقة.

µ الصدمة الأولى: سماعه هينمة أو صوتاً خافتاً.

µ الصدمة الثانية: وجود الصحابي الخباب بن الأرت.

µ الصدمة الثالثة: إحساسه السريع بأنهما قد أسلما. أي أن الإسلام أصبح في عقر داره. ومن أسلمت هي أخته وابن عمه، فأين هو مقام عمر ومكانه في العائلة؟. الصدمة، أن تصبح أخته وابن عمه وهما عدويان من قريش تلميذين بإمرة ألقين مولى أم انمار بنت سباع الخزاعية الذي أهداه والدها إليها.

إن الخباب في تلك اللحظة لم يكن بالنسبة لعمر العضو السادس في أول خلية إسلامية شكلها أبو بكر، وإنما هو عبد لسباع بن عبد العزى.

µ الصدمة الرابعة: أنه أهان ابن عمه سعيد أمام زوجته، وأهان أخته أمام هذا المولى الغريب.

وعليك أن تقترب من وجدان عمر ومنظومته القيمية ليرتسم أمامك حجم ردّ فعله، وهو الخاضع دائماً للشعور بالإثم وعتاب الضمير لأعمال هي أقل مما حدث له في بيت أخته. فإذا نهض نهضت من لاوعيه احتجاجات ضاربة وصراعات متضاربة، فماذا كان عليه أن يفعل؟.

لقد أستفرغ شحنة الغضب بوطأه ابن عمه على الأرض، ونفحه أخته في وجهها فبدا يستعيد توازنه، فيأخذ الصحيفة ويقرأ ثم يصاب بالذعر، ويتوقف بعد ذكر البسملة قبل أن يستعيد عزمه لقراءة الآيات الأولى من سورة طه.

في ظننا أنه أسلم عند قراءة البسملة وإذا كان اسم الله معروفاً، وليس له ذلك الوقع فإن (الرحمن الرحيم) استلت من عمر جبروت القسوة، وكأنها علاج عاجل لأزمة الشعور بالذنب فانحلت عنده عقدة وانزاح عن صدره تأنيب الضمير، فهو الآن في بطن الرحمة والرحمة في بطنه تحت ظلال الرحمن الذي تنتشر رحمته على وجه فاطمة المدمي وظهر سعيد المعفر بالتراب وامتعاض الشاهد.

فعسى أن يغفر الله لنا إن نحن استبعدنا جملة قيلت حقاً في حوار عمر مع أخته طالما أن إنكار بعض فقرات الحوار يبقى ملحاً على أصابع الكتابة. ننكر أن تجرأ أخت لعمر صفعه بكلمات مثل إنك نجس أو إننا أسلمنا رغماً عن انفك، لأن مثل هذا الكلام لايصدر لا عن فتاة جاهلية شقيقها عمر بن الخطاب، ولا عن سيدة مسلمة نبيها بعث بمكارم الأخلاق، ولا نكاد نصدق أن عمر استجاب لها كالطفل فغسل يديه وتوضأ قبل أن يمسك بالصحيفة، وهو بعد لما ينطق بالشهادة، ولم يكن الإيمان قد ملأ قلبه ولم يكن الرجل من صنف الذين يستجيبون لأوامر امرأة، وكأنه طفل بين يديها.

لكن الرواية أرادت أن تمنح شقيقة عمر هذا الامتياز الإسلامي.

أجل، لقد أسلم عمر بالصوت القرآني عندما أحدثت البسملة فيه تلك الصدمة.

رقم اسلامه 67 :

المشهور أن عمر بن الخطاب اسلم بعد 45 رجلاً وإحدى وعشرين امرأة فيكون رقمه في اللائحة الأولى للمسلمين 67.

وقيل: إنه أسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، وكانوا تسعين بين رجل وامرأة، فيكون رقم عمر في تلك اللائحة يتجاوز المائة.

وفي رواية أقرب إلى مزاجه وواقع حياته، وتسند إلى عمر نفسه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعداً وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها واشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم فلم أجد فيه منهم أحداً، فقلت لو أني جئت فلاناً الخمار وكان بمكة يبيع الخمر، فخرجت إليه فلم أجده.. وبقية الرواية تنتهي بالكعبة ولقائه بالنبي وإسلامه.

لاتتعارض هذه الرواية مع قولنا بإسلامه بالصدمة وبالهاتف الوجداني، بل هي تؤكد أمرين: الأول أن بيئة عمر "الخاصة" ومحيط صداقاته صار للانحسار حد شعوره بالوحدة والغربة وهم ذهبوا إلى الدين الجديد. والثاني أن هذه الحالة لا تكون وعدد من أسلم هو 45 رجلاً لم يكن معظمهم من رواد ذلك الوسط وهم معروفون بانتماءاتهم الاجتماعية، فيكون رقمه في الإسلام تجاوز المائة كثيراً، وإن كان حب المؤرخين له يجعلهم يختزلون في زمنه الجاهلي لصالح زمنه الإسلامي، فيستعجلون عليه بأرقام متقدمة لاينتقص من دوره طولها، ولايطيل في قامته قصرها. فحيث تقفر  الحانات والمحلات ويهجر الخمار حانته فمعنى ذلك أن غالبية المجتمع قد أسلم. ومجتمع مكة لم يكن يتكون من 45 رجلاً وإحدى وعشرين امرأة ولا من تسعين هاجروا إلى الحبشة، فإذا أسلموا وهاجروا أقفرت مكة من أهلها!.

إن رقم عمر في لائحة المسلمين قد يرتفع إلى ضعف أعلى رقم حدده المؤرخون لو أخذنا بروايته. وعمر فيها كما كان في غيرها صادقاً مع نفسه واضحاً مع الناس، فصدقت مروياته ووضحت ملامحه.

 

 

 

دولة الـمشروع الـمحمدي

التجانس بعـدالـة التوازن


 

عبقري السقيفة:

ليس من شأن هذا الكتاب الولوج في بطون العقائد،ولا الاقتراب من هوامشها وحواشيها، وليس في منهجنا الوقوف بين مشتجر الخلاف وسطاً، ولا نذهب إلى سوق الاشتجار براية الهلال الأحمر.

وكقارئ يفزعني ما تقع عليه عيني من محاولات التوفيق التي تصفق لها الصالة، وتبتسم لها المنصة، حتى إذا انفرط الجمع وولوا الدبر، عاد أي منهم إلى كهفه القديم.

ولا نخرج في هذا الكتاب عن أفكار تضمنتها كتبنا المطبوعة، لا سيما الشيعة والدولة القومية، الذي لم نتعرض فيه لخلاف المذاهب وتفضيل مذهب على آخر أو الترويج لمذهب ضد آخر. فمثل هذا الحقل سيكون خاصاً بالمشتغلين في العلوم الدينية والفقهية. ونحن نشتغل بعلوم الفكر العام والسياسة العامة. فإذا اهتزت مشاعرنا لرأي أو لموقف أو لإجراء، فلأن في ذلك قرباً عاطفياً أو إنسانيا أو اجتماعياً لما نبغيه وليس لطابعه المذهبي الخاص.

وبهذا المنظور ندخل سقيفة بني ساعدة التي لم يكن للنص الديني رأي فيها. فقد كانت من اجتهاد الصحابي سعد بن عبادة وجمع من الأنصار.

والسقيفة سقف ليس تحته نوافذ. مشرع لرياح الجنوب والشمال. وزمان محتقن مأزوم في يوم قد ينقطع عن يوم قبله، أو يتصل بيومه السابق، فتمتد السلسلة الزمنية والروحية للمشروع الإسلامي إلى حيث نحن الآن في اليوم الأول من الشهر الأول للعام الهجري السابع والعشرين بعد الاربعمئة والألف.

عرب مسلمون ومسلمون عجم نختلف في الاختلاف، ونتفق في الاتفاق، وننشق بأنفسنا فرقاً وطوائف، لكن مشروع ابن آمنة آمن متماسك، واحده الله ونبيه محمد والشهادة قائمة والصلاة قائمة.

إن دور عمر في المكان المفتوح منحه دوراً مفتوحاً في زمان دائم. أنجبته تلك اللحظة الحضارية التي أغرب ما فيها وما في ذلك المكان غياب المقدس عنها. فلم ينص عليها في قرآن، ولم يشر إليها في حديث شريف. ولم يكن لعمر دور في تأسيس ذلك المكان الذي قدح فكرة خاطفة لصحابي من الأنصار، فأجتمع إلى جمع من قومه مدفوعاً بالنية الطيبة وبإحساس استراتيجي وشعور بالمسؤولية في وقت قضى الله فيه أمره، وتوفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسيحدث فراغ في  إدارة المشروع المحمدي إن تركت الأمور على غاربها. فكانت دعوة الأنصاري سعد بن عبادة إلى اجتماع السقيفة، هي اللبنة الأولى لاستمرار المشروع المحمدي في غياب صاحبه. ثم جاء دور عمر بن الخطاب ليختطف اللحظة ويحدد أطار المؤسسة الجديدة ورجالها الذين سيتحملون المسؤولية.

وقد ضرب عمر ضربته وكأن لم يقل قائلنا اليوم إلا فيه وعنه.

فتى خبط الدنى والناس طراً                      وآلى أن يكونهما فكانا

لم يكن الوحي حاضراً في غياب الرسول. وليس للقرآن رأي في السقيفة، فهي فكرة بشرية خالصة، وقرار سياسي ورغبة جماعة من الصحابة صيرها عمر بما أوتي له من حيوية قريش ومهارتها في تصريف الأزمات حدثاً لايزال الرجل يواجه المعترضين عليه!.  فبدا مُجيل اللحظة، وقابض الزمن برغبة ليس لها سقف، لجعل يوم السقيفة هو اليوم الأول والأخير لفراغ السلطة، فيتقدم اليوم التالي متصلاً باليوم السابق حين كان للمشروع صاحبه منذ أربع وعشرين ساعة. ولم يحدث الفراغ، ولا حتى الفجوة ولم تترك فرصة لأسباب الخلاف أن تتنفس في حينها لكنها ظلت تلاحق تاريخ عمر وتاريخ الإسلام، فتصير السقيفة مكان الكيد عند فئة، ومكان الفتح عند باقي المسلمين.

إن السقيفة كانت المكان الذي غاب عنه المقدس، فكان بداية الزمان لحياتنا المقدسة بعد أربعة عشر قرناً. وكان عمر قامع الفرقة في ذلك اليوم وحَقَّ له أن يحظى بلقب قفل الأمة.

حركة عمر في السقيفة أنجبت حركة حضارية لأمة كانت تتشكل على الأرض، فصارت حركة خلاف مذهبي يتصاعد مع التصاعد الحضاري للأمة، ومشكلة دينية تقوم على رفضها عقائد وعلى احترامها عقائد. وبالاحتكام إلى المعايير السياسية في نشوء الدول والحضارات، تصبح السقيفة بأعمدتها الأربعة التي أنجبت أربعة خلفاء لم يتكرروا في التاريخ.  قراراً وليس مؤتمراً بأن لا تموت الدولة الناشئة بموت مؤسسها.

الحذر من شبح القيصرية

 لم يخطط عمر لمفهوم دولة كبرى بالامتداد الذي وصلت إليه. وهي تنساح إلى أبعد مما كان في ذهنه. وحتى الوطن العربي، كان في تصوره لايمتد الى ماوراء الحدود الفلسطينية – المصرية عند معبر رفح الحالي، والذي تجاوزه عمرو بن العاص، وهو يشاغل مبعوث عمر إليه، حتى يدخل إلى الأراضي المصرية فيفتح كتاب الخليفة وعند ابن العاص إحساس ومعرفة سابقة بعدم رغبة عمر في توسع الفتوحات والعبور إلى مصر، فلم يفتح الكتاب إلاّ بعد تأكده من اجتياز الحدود، فأبلغ الخليفة أن جيش الفتح في الأراضي المصرية ووضعه أمام الأمر الواقع ووضع نفسه تحت مراقبته المستمرة وملامة مكاتيبه ومبعوثيه. أما عبد الله بن أبي سرح، فكانت قواته تمرح في سهول ليبيا.

وعلى جبهة البصرة، كان عمر يرغب بعدم ذهاب قواته إلى ما بعد الاحواز (عربستان الحالية) متمنياً جبلاً من نار يفصله عن بلاد فارس، فلا يقاتلهم ولا يقاتلونه، لكن قادة الفتوح تحملوا مسؤولية إقناعه بالتوغل في بلاد فارس وملاحقة مراكز القيادة الكسروية المتنقلة والمستقرة آنئذٍ في خراسان، وتبنى الأحنف بن قيس هذه المسؤولية في الدبلوماسية مع عمر والعسكرية في الانطلاق إلى خراسان بعد أن اقتنع عمر بأن وجود كسرى في جوارهم سيثير الكثير من المتاعب وقد انتقضت مدن كثيرة في بلاد فارس فأعاد عمر فتحها ثانية. وفي ظننا أن شبح الكسروية والقيصرية والخوف من الوقوع في نموذجها، هو الذي كان يحدد رغبة عمر في الوقوف عند مشارف ماكان يعتبره وطناً عربياً ولا يتجاوزه.

وكان القليل من الخروقات القيصرية والكسروية يدفع الدولة الراشدة للتفكير ببناء مؤسسات وتقاليد، واستخدام مهارات ليس للجزيرة العربية عهد بها. وكان بعض قادة الفتوح يتحركون في فسحة قيصرية، محدودة لكنها مفيدة، وناجحة، فضلاً عن أمثلة الانسياح إلى أبعد من المشارف القصوى لحركة الفتوح عند عمر.

 كانت الدبلوماسية تجرب أولى نشاطاتها في وفد يبعثه الخليفة إلى سعد بن أبي وقاص في طريقه لمناظرة كسرى يزدجرد، فيضيف سعد إليه آخرين أختيروا بمواصفات دولة قيصرية وكسروية تأخذ بالقيافة واحجام الطول وعرض المناكب، وسعة التجربة. وملاحظة انحدار المبعوث من أسر ذات تقاليد "ارستقراطية " بمصطلح يومنا، وكان ذلك من بعض أسباب نجاح الوفد في كسب المناظرة.

كان عمر يأخذ بمبدأ الضرورة فيلتقط برامج وآليات العمل الإداري من دولتي كسرى وقيصر، فيستحدث مكاتب الديوان والسجلات وتأرخة الأحداث بعام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد مناقشة مستفيضة انتهت بترجيح مقترح الإمام علي.

إن النبي محمد (ص) أنكر في الكسروية والقيصرية، زخارفها البيروقراطية وترفها السلطاني وأموراً دينية، وسياسية، لكن ذلك النقد لم يستهدف رفض تجربتها التكنوقراطية وتطور أساليب الإدارة. وتوزيع العمل وتوثيق السجلات. وتنظيم وسائل الاتصال في البعوث الدبلوماسية، ومؤسسات البريد.

وكان عمر يجرب أولى محاولات الاستفادة من ذلك أو بعض ذلك، فاستطاعت الدولة الراشدة مع حذرها البالغ، من اختراق هذا الشبح الذي كان من الأسباب التي عرقلت نمو مؤسسات الدولة الراشدة بما لم يجعلها قادرة على الاستجابة لاحتمالات المستقبل، فلم يتحول اجتماع المسجد النبوي إلى مجلس شورى كامل العضوية والصلاحية وبناء هيكل للدولة شاسعة الأطراف وضوابط لاتعتمد فقط على شخصية الخليفة.

إن النبي (ص) الذي رفض استبدال الحصير بمقعد وثير في جوابه الخاص بعمر وانتقال الحديث عن طريقه، حمّل عمر مسؤولية نبوية بعدم استبدال حصران النخيل بعروش قيصر وكسرى.

وهذا بعض سرّ نزوع عمر في زهد الدولة، كي لاتصل أو يصل بها إلى مشارف كسروية ففضلها محمدية على غرار بري وطبيعي وعفوي. وهنا المشترك الأوثق والأوضح بين سايكولوجية علي وعمر وروحية كلٍ منهما وسرّ مبدأ المشاركة، وكلٌ منهما قد نَفِس الآخر على النوم فوق التراب.

لقد كان الإمام علي وعمر يشتركان في هذا الحذر بدرجة أكثر حساسية مما لدى أصحابهما الآخرين، الذين لو أتيح لبعض منهم إدارة دفة الدولة في المقام الأول لأخذوا الكثير مما تجنب عمر وعلي أخذه من تجربة الدولتين الكسروية والقيصرية.

وكان متوقعاً وشبه حتمي سيرورة الدولة الراشدة إلى الكسروية والقيصرية فوقع المحذور النبوي وحصل الانقسام بين المفهوم الراشدي للدولة والمفهوم القيصري للأمويين، وكان مفترضاً وقوع النزاع بين العمريين والأمويين، وفي أكثر من مرة، كان الأمويون يخشون تجربة عمر، فإذا اكتشف أحد زعمائهم في خليفة منهم، ميلاً إلى الزهد أو المساواة أو رجوع الدولة إلى بعض ماكان في عصرها الراشدي خرجت عبارتهم الشهيرة.. اتريدها عمرية؟. 

لكن أسباباً لسنا بصددها هنا استدارت بالخلاف العمري الأموي إلى ثنائية الخلاف العمري والعلوي. فخرج الأمويون من هذا الصراع بمهارة عالية وساعدهم على النجاح تيار القطيعة الذي استجمع الأوصاف والأحداث والمسالك الأموية ونسبها إلى عمر، فأصبح ابن الخطاب أموياً بمفهوم أهل القطيعة وباجتلاب الأمويين لاسمه يحصنون به دولتهم من الطعون. ونسبتها إلى عمر بن الخطاب لترسيس طعنه باحتضان القادة الأمويين وهو مايتمناه الآخرون من سعيهم الذي لم ينقطع إلى يومنا هذا، باجتلاب تاريخ عمر وسيرته إلى جانب دولتهم يحصنون به سيرتهم من طعون الفقهاء وتيارات المعارضة عند الشيعة والخوارج وسواهما.

سـياسة التعيينات:

وفي تحليل سـياسة التعيينات، استخدم عمر أسلوب البريد في مراقبة الولاة, إذ يكلف رجلاً بالسـير في أحياء الولاية، مُنادياً أنّ من له بريد إلى الخليفة فعليه أن يسلمه إليه، وهذا يحمله بدوره إلى عمر مختوماً لا يطلع عليه أمراء الولاية ولا عاملها، فيعرف عمر ماذا يجري في الأمصار يوماً بيوم.

وهذه الطريقة بمصطلحنا الحاضر، تحمل طابعاً إستخبارياً اعتدنا أن نسميه التقرير الحزبي. والرسالة في لغة المسلمين سوى أنّ عمر بن الخطاب جعل الاستخبارات علنيّةً وليست سرّية. حتى لا يكيد الناس لبعضهم ويتحولوا إلى جواسيس ولعل هذا هو الفارق بين الاستخبارات العمرية وبين مفهوم التجسس.

اعتاد عمر أن يقرأ البريد وحده ويجيب على مُرسليه باستحضار الوالي أو بإرسال ممثله الشخصي الذي هو في العادة الصحابي محمد بن مسلمة الأنصاري، والذي كان يتمتع بصلاحيات التحقيق مع العمال واعتقالهم وتجريمهم، ويعتبر قراره نهائياً على الأغلب.

كان عمر يدعم جهاز الولاية بصحابةٍ من الرعيل الأول ومن هم في مدارج الإيمان أعلى درجة من أمير الولاية وبعض قادتها.

 بعد أن أخفقت تجربته الأولى  بتعيين هؤلاء الصحابة ولاةً، كسلمان الفارسي في المدائن، وبلال في بعض ولايات الشام، اكتشف أن الأعلى في درجة الإيمان والأقدم في الإسلام، قد لا يكون هو الأقدر على إدارة الأزمات وتصريفها في فترة التأسيس الأولى للدولة، والعرب مازالت على لقاحيتها تنفر من الإذعان للسلطة المركزية، فكيف وهي سلطة عمر الصارمة إزاء الاختلالات الاجتماعية؟ مما دعاه إلى اختيار أسلوب إداري آخر يقضي بالتفريق بين درجة الإيمان ودرجة الكفاءة والأهلية، ففضّل من نسميهم اليوم بالتكنوقراط وحين ينفّذ هذه الفكرة فسيكون رجال قريش عمالاً وأمراء وقادة إداريين في المرتبة العليا.

وفي إحدى الروايات أن عمر بن الخطاب استقبل سيد بني كلب امرؤ القيس بن عدي بن أوس، وكان لا يزال على نصرانيته وبحضور الإمام علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين، حيث أعلن إسلامه، فلم يتردد عمر كما تقول بنت الشاطىء في كتابها (سكينة بنت الحسين) أن يعقد له اللواء على من أسلم من قضاعة بالشام ودعا عمر برمح وقلّده إياه، وليس للرجل سابقة في الإسلام لكن له سابقة في الزعامة والإدارة والسمعة الطيبة.ومن المصادفات في ذلك اللقاء أن امرأ القيس بن عدي قد زوّج ثلاثاً من بناته لكلٍ من الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين، وكانت بنته الرباب من نصيب الإمام الحُسين، وهي التي أنجبت له سُكينة.

 أشرنا أن عمر كان يكلف في مثل هذه الحالة صحابةً من الرعيل الأول ليكونوا مراقبين، فاختار مثلاً عبد الله بن مسعود للقضاء وبيت المال في الكوفة وعثمان بن حنيف على سَقي الفرات، وعمار بن ياسر على الصلاة وأرزاق الجند. وكان عبد الله بن مسعود حرفياً، يتصرف مع سياسة الإنفاق من بيت المال، وكأنه مدير مكتب للمحاسبة القانونية في وول ستريت، فلا يتساهل بدينارٍ، وقد ترتجف يداه وهو يأخذ من بيت المال ليوزعه خشية أن يذهب المال إلى غير مستحقيه. ولو كنا نصنع مصطلحنا، وننتج لغتنا ولا نستعير المنتوج اللغوي والاصطلاحي من صانعيه الأوربيين، لكان مصطلح المسعودية كافياً للدلالة على ما يعنيه مصطلح المحاسبة القانونية.

وفي أكثر من مرة كلّف عمر بلال الحبشي للتحقيق مع العمال والولاة وشملت واحدة من تلك المهمات التحقيق مع خالد بن الوليد لمنحه الأشعث بن قيس عشرة آلاف دينار، فوضع عمر له سيناريو التحقيق بأن ينزع بلال قلنسوة خالد ويربط بها يديه إلى الخلف، بحضور أبي عبيدة بن الجراح، فاستسلم من لم يستسلم للأباطرة فحنى رأسه لتكون العمامة بين يدي بلال وأرسل يديه إلى الوراء ليشدهما بها إلى بعض. يقول المؤرخون الإسلاميون والفقهاء والدعاة من بعدهم إن مبادىء الإسلام هي التي أذعن لها خالد بن الوليد وهذا صحيح، فما يمنع من أن يكون إلى جانب هذه المبادىء سببٌ أخر أو عامل آخر يُدعى عمر بن الخطاب. لأني أشك أن يحدث هذا الذي حصل لخالد مع رجلٍ غير عمر لا قبله ولا بعده إلا في استثناءات لم يكن المتهم هو خالد ولا المحقق هو بلال. أقول.... هل كان خالد بن الوليد سيذعن لأمر بلال، لو كان أبو ذر بدلاً من عمر ودرجة إيمان أبو ذر وأسلوبه لا تقاسان بالمقاسات التقليدية؟.

هل كان غير عمر قادراً أن يقاضي شرحبيل بن حسنة ويسحبه إلى المدينة، ويضع سعد بن أبي وقّاص موضع المتهم فيحقق معه محمد بن مسلمة؟.

كانت لعمر في سياسة التعيينات جرأتان وسابقتان وقوتان:

جرأته في تكليف رجال قريش السابقين ورجال مكة شديدي المِراس، وبعضهم ممن أسلم قبيل الفتح قليلاً أو بعده ليعودوا من قادة في معسكر قريش إلى قادة في دولة الإسلام.

وجرأته الثانية في المحاسبة والمكافأة واستبدال الولاة والعمال بسهولةٍ ويسر. ويسرد أكثر من راوٍ بأن أبا بكر سنّ أول محاولات الإفادة من خبرة قريش ولكنه لم ينزع نزعة عمر في شدة المحاسبة والرقابة والإقالة، وإن كان شديداً على أهل الردة وحازماً.

 ويتمتع عامل البريد باستقلال إداري ولا يرتبط إلاّ بالخليفة، وكانت قرارات عمر تشمل العاملين في إدارة الولاية من الحاشية ليس صعوداً إلى الوالي بل بدأً منه وبه. إن الولاة الذين أطيح بهم هم من ذروة قريش أو من قادة الفتوحات ومن مصّروا الأمصار ووسعوا دار الإسلام. وعمر يعلن بعد عزل الوالي عن سبب عزلِه حتى لا تُنسج عنه الروايات، وكان يقول في عزل سعد بن أبي وقاص إنه لم يعزله عن سخطةٍ.

وكان يكرر أن من الخير له أن يعزل كل يوم والياً من أن يبقي ظالماً ساعة نهار. وبالغ عمر في تطبيق هذا المبدأ، فعزل ولاة لأسباب طفيفة كأن لا يخرج لزيارة مريض وإسعاف ضعيف، أو يحتجب الوالي في مكتبه، وكان أكثر ما يغضبه خبرٌ ينم عن نيّة لنظام الحجابة، فيتحسس من وضع الأبواب الكبيرة في بيوت الولاة والأمراء ويُعَدُّ ذلك تأسيساً لنظام القِلاع والقصور الامبرطورية. وقد أرسل مبعوثه الشخصي محمد بن مسلمة الأنصاري، ومعه قادحة النار لحرق الأبواب التي قيل لعمر إن واليه ســعد بن أبي وقّاص قد أقامها على بيتٍ بناه بعد فتح فارس، وسُــمي بقـصر سَـعَدْ وجرى بين المبعوث الشـخصي وسعد حوار. وعزل عامله على ميسان (العمارة) النعمان بن عدي. يقول علي محمد بن الصلابي في كتابه عمر بن الخطاب: إن عمر عيّن النعمان بن عدي أميراً على ميسان، وهي مدينة العمارة العراقية. فذهب إليها وامتنعت زوجته أن ترافقه، فأراد أن يبعث في نفسها الرغبة في صحبته مما يعرف عن غيرة النساء، فكتب إليها أبياتاً من فضل القول لا تمثل حقيقةً في كثيرٍ وقليلٍ

فمن مُبلغ الحسناء أن حليلها                     بميسان يُسقى في زجاجٍ وحنتمِ

إذا شئتُ غنّتني  دهاقينُ قريةٍ            وصناجـةٌ تحدو على كل ميَسْمِ

لعَّـل أمير المؤمنين يسـؤوُهُ                    تنادُمنـا في الجوسـق المتهدمِ

  فلما سمعها عمر عزله.

الاستبطان العمري وتوزيع المسؤوليات:

وُهبَ عمر القدرة على معرفة الرجال وقراءة نفسياتهم،بما كان يسمى آنذاك بالاستبطان. وشيءٌ من الهارمون الاجتماعي والتجانس في الحركة والأداء يربط أهل الإدارة ببعضهم وبعمر، ولا ينفي ذلك أنّ رجلاً فيهم كان لا يرتاح للآخر، وأن بين هذا وذاك ما ينغّص تلك العلاقة، فإذا اختلف اثنان أو فريقان استحال الخلاف بحضور عمر إلى وفاق. وفي عمر روح جامعة وهبَهَا الله لناسٍ معدودين وإلآّ كيف اتفق رجاله مع بعضهم فتفرقوا في غيابه؟.

أمامي قائمة برجال الإدارة والقضاء وضع عمر كل واحدٍ منهم في موضعه الدقيق وصُولاً إلى تحقيق التجانس بمبدأ التوازن. 

إن مبدأ التجانس بالتوازن مأخوذٌ به في عصرنا هذا، فالاتحاد لا يعني اتحادَ المتجانسين وفقَ أحادية الجنس والعُنصر والدين والمذهب والطبقة ومثل هذه الأحادية نادرة الوجود في معظم المجتمعات البشرية  والطريق إلى تجانس المختلفين هو في تشكيل إداري متوازن بالقدر والألوان.

ولهذا اختار عمر عبد الله بن مسعود لقضاء الكوفة وبيت المال وعمار بن ياسر لصلاةِ الكوفة وسلمان بن ربيعة لقضاء البصرة  وقيس بن أبي العاص القريشي لقضاء مصر ونافع الخزاعي لولاية مكة ويُعلى بن أمية لولاية صنعاء وسفيان بن عبد الله الثقفي لولاية الطائف وأبو موسى الأشعري اليمني لولاية البصرةِ وأبقى زيد بن ثابت قاضياً على المدينة.

أمّا رؤساء أركان الجيوش وقادة الفيالق والألوية فهم طراز آخر لم يأخذ فيه بمبدأ التوازن ولما عُرفت قريش بقدرتها العسكرية الإدارية كان نصيبها كبيراً وإن لم يكن غالباً.

فكان من قادته خالد بن الوليد قبل عزله وعبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان والنعمان بن المُقرن والمثنى بن حارثة وشرحبيل بن حسنة. ولآن هؤلاء عسكريون أقحاح وهو يدرك أن علاقة العسكري بقوانين الفكر والفقه وعلوم التفسير والحديث هي في مرتبة أدنى مما اعتنى به فقهاءٌ ودعاةٌ دأب عمر على إرسالهم مع الجيوش فتشكلت ما يسمى الآن مؤسسة التوجيه المعنوي.

وكان يستبطن أصحابه فإذا اكتشف في أحدهم جانباً خاصاً به ذخره لمهمة ستأتي وكان قد عرف في بعضهم قوة الحضور الشخصي وقوة الحجة في الحوار آخذاً بعين الاعتبار أن لا يكون الموفودون إلى محاورة الملوك والقادة الأجانب من ذوي الأصول المتواضعة ،فكأنه يعالج النوع بنوعه ـ النظير الطبقي بنظيره الاجتماعي ممن يسمون عند العرب بأهل الأحساب فشكّل وفده لمناظرة ملك الفرس من النعمان بن المقرن وبسر بن أبي رُهم الجهني وحنظلة بن الربيع التميمي والفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة.

الاستفادة من الخبراء

كتب عمر إلى أمراء الجيش في العراق أن يستفيدوا من خبرة العسكريين القُدماء في الجيش الساساني وإن كانوا على دين المجوسية لأنهم متدربون وخبراء في الشأن العسكري والاجتماعي، وكان بعض هؤلاء العسكريين، إن لم يكن معظمهم، مخلصين في نصائحهم، فساعدت خبرتهم قادة الجيش الإسلامي على رسم الخطط العسكرية في ضوء الخرائط والمعلومات والأساليب الفنية التي يختزنها العسكريون الفُرس.

إنّ رغبة عمر في الاحتفاظ بالخبراء الفرس قد تدعم ظننا أنه لم يكن في أعماقه راغباً في قتل الهُرمزان وقد يكون فكّر في الاستفادة من خبرته الكبيرة في شؤون فارس فقبل إسلامه، وهو أدرى أن النطق بالشهادتين يجعل المرء مسلماً ولا يجعله في الحال مؤمناً.

لنعتمد في هذا الاستنتاج على أن من يأمر بالاستفادة من العسكريين الصغار بسبب خبرتهم فما الذي يمنعه من أن يستفيد من خبرة الكبار؟.

في هذا السياق نضع رغبة عمر في الاستفادة من قادة عسكريين شاركوا في تزعم حركة الردّة في خلافة أبي بكر، ولم يُوافق الخليفة آنذاك رغم إعلان توبتهم على إرسالهم في الجهاد أو تعيينهم بمراتب عليا. فرأى عمر غير ذلك وأرسلهم إلى الثغور حيث كشفوا عن مهارات قيادية عالية ساعدت في فتح بلاد فارس، ومن هؤلاء طليحة الأسدي وعمرو بن معدي يكرب.

إلزام الوالي بالكشف عن أمواله:

تنفرد الأنظمة الدستورية الحديثة بالزام رئيس الوزراء المنتخب والوزير عند تعيينه، وعلى رؤساء البنوك المركزية والمحافظين وشاغلي الدرجات الخاصة الكشف عن حساباتهم قبل توليهم المسؤولية لقياس نمو ثروته بعد التولية وقياس أمانته بها.

وكان عمر في مطلع التاريخ الهجري، قد سبق الدستوريين المعاصرين بإخضاع الولاة والقادة والأمراء بالإعلان عن حيازتهم من الأموال السائلة والأموال الجامدة. وعمر يراقب نمو هذه الأموال.فيستدعي من يرتفع عنده الرقم على المعدل المعقول، ويشاطره نصف أمواله. أو أن يرسل مندوبه الشخصي، مراقب الحسابات العام محمد بن سلمة الأنصاري، إلى مراكز الولايات فيعقد مع الوالي جلسة للتحقيق في أمانته. وينزع نصف ماله إذا كان النمو غير طبيعي.

وكان ممن شمله التحقيق وقرار المناصفة أبو هريرة وعمرو بن العاص وآخرون.

يمنع دخول الولاة والأمراء ليلاً

وكما قيّد عمر حركة الصحابة الأوائل ومنعهم من السفر، منع دخول العمال والأمراء والقادة إلى المدينة ليلاً قافلين من الأمصار، واوجب عليهم وعلى رواحلهم الناقلة أن تدخل نهاراً حتى يتسنى لعامة أهل المدينة أن يروا ما تحمله وتنقله رواحلهم من متاع وأموال، فإذا عثروا على ما يزيد عن المعقول أحالوا القادم إلى المساءلة وقد تصادر الزيادات أو يشاطرها الخليفة في نصفها إلى بيت المال.

ولما لم تكن البنوك والحسابات السرية معروفة، وعيون الخليفة تراقب حركة الوالي في سكنه ولباسه وخيوله وهو في الخارج، فليس لمن يجور على بيت المال أو يكسب بطرق غير شرعية إلا أن يحمل موجوداته إلى المدينة،فيلقي عمر القبض عليهم وهم في الجرم المشهود.

وتسمى هذه الحالة في أيامنا بالرقابة الشعبية على السلطة ولم يؤخذ بهذا الأسلوب في خلافة عثمان.

يحول الوالي إلى راعي غنم:

كان عمر يعالج الولاة بإدخالهم في ميدان العمل، مثلما فعل الصينيون مع آخر إمبراطور قبل نجاح ثورة ماوتسي يونغ، عندما عينوه بستانياً في حديقة عامة. فقد بلغه أن عياض بن غانم واليه على إحدى مدن الشام قد اتخذ لنفسه زمرة من الأصدقاء يسامرونه ويسهرون عنده، وقيل إن هذا الوالي قد أخذه ترف القصور وجعل لنفسه ولزمرته حمامات خاصة، فاستدعاه إلى المدينة وتركه ينتظر ثلاثة أيام ثم أذن له بالدخول، وكان قد أحضر له جبّة صوف مما يرتديه الرعاة وعصا وثلاثمائة شاة من أموال الصدقة، وطلب إليه أن يرعى بها في البراري وليسمنها، وتركه هكذا ثلاثة شهور ثم استدعاه وأعاده إلى عمله.

جرى ذلك وعياض ينفذ أمر عمر صامتاً، ولعله فهم أن العناية بأغنام المسلمين هي أكثر أجراً وأسلم له من رعاية زمرة من المترفين. 

نظرية منع التراكم

عمر مستعجل فالأحداث أسرعت في زمنه، وأسرع الزمن، وتراكضت الخيول، وعابرات الجيوش تطوي المسافات والمعارك الكبرى تحسم بأيام، والقادسية التي لم يكن لها نظير لم تدم أكثر من ثلاثة أيام.

فكيف لا يستعجل الرجل وهو أروح القدمين ومن طبيعة الأروح أن يُغذِّ السير بخطوات أسرع وأقوى من رجل بقدمين عاديتين.

وكان على مبدأ (تنظيف يومه من أزماته) فلا يدع لأزمة أو ثروة أو ظلم فرصة للتراكم. فيطفئ قدحة الفتنة ونفوذ المتنفذ وبارقة الظالم. فلا تبيت شكوى من فساد ليلتها تحت مخدته ولايؤجل مخالفة يأتي بها البريد، صغر المشتكى عليه أم كبر، صغرت الشكوى أم كبرت. وهو يعالج الهفوة بالدرة، والخطيئة بجلسة قضاء على قارعة الطريق، وإن كان المتهم صحابياً كبيراً. فقضى بسياسة عدم التراكم على الفساد. الذي تراكم بعده ولم يستطع الخليفة من إطفائه. ولم يذكر عنه أنه توسّد حصيرة، وافترش رملته وأخذه النوم، وبجانبه أزمة ساهرة.

وتجتمع عنده السرعة وروح العدل، فكان القضاء عنده سريعاً وعادلاً، ورفع عدل عمر خراج العراق إلى مائة مليون درهم وانزله ظلم الحجاج إلى ثمانية عشرة مليوناً.

إن النظام الذي أقامه عمر بن الخطاب، كما يقول طه حسين في "الفتنة الكبرى"  لم يكن مستلهماً من أمة أخرى. لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد نظام حكم مطلقاً ولانظاماً ديمقراطياً على نحو ما عرف اليونان ولانظاماً ملكياً أو جمهورياً أو قيصرياً مقيداً على نحو ما عرف الرومان وإنما كان نظاماً عربياً خالصاً، بيَّّن الإسلام له حدوده العامة من جهة وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى.

ولايحتج أحد بشدة عمر، فالرجل بالتأكيد كان شديداً لكنه لم يكن عنيفاً. وكان ليناً ولم يكن ضعيفاً.

عمر والمعارضة السياسية:

تتقلص الروايات وتشح المعلومات الخاصة بنشاط سياسي معارض لعمر بن الخطاب في ولايته، لكن ذلك لا ينفي وجودها، وقد تكون صامتة أو أن ردّ الفعل عليها كان صامتاً. فلم يكن لتلك المعارضة شعراء ناطقون بلسانها حتى تسمع أصواتهم، ولم يكن لعمر جهاز قمع مزود بسلاسل الحديد حتى يسمع صريرها، ولم يتأسس سجن سياسي بعد، ولم تتشكل أجهزة الشرطة التقليدية، لكنه كان يمتلك آلية استخبارية تعرف ماذا في حمامات الأمراء والولاة، وهذه أول دولة في التاريخ توجه نشاطها الأمني نحو إدارتها الرسمية ومقاماتها العليا، وليس لها عيون على الناس ولم نسمع عن جلسات تحقيق ومحاكمة، أبطالها من عامة الناس بل كانت مثل هذه الجلسات تعقد لمحاكمة قادة من طراز خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة الدوسي.

لابد أن زعماء قريش وأصحاب المصالح الذين رأوا عطاء العبيد السابقين في الإسلام أكثر من عطائهم وجدوا فيه إخلالا في القانون الاجتماعي الذي نشأوا عليه.

وكانت بعض فروع قريش لاسيما الأمويين غير مرتاحة لسياسة عمر المالية والإدارية، ولم نقرأ في المصادر أن للإمام علي بن أبي طالب الذي وضعه الموروث المذهبي غريماً وخصماً في جدول الصراع مع عمر، رسالة احتجاج ضد تلك السياسة.

يقول هاشم معروف الحسني وهو مؤرخ شيعي معاصر في كتابه سيرة الأئمة الاثني عشر:

" إن أحداً من المؤرخين لم ينقل عن الإمام علي أنه وقف موقف المعارض لخلافة بن الخطاب وبدا منه ما يسيء إلى صلاته به، بل رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس، ولا ينطق إلا بلسان البررة الأطهار بمنحه النصيحة ويزوده برأيه، كلما أشكل عليه أمر من الأمور ". وكانت قريش والمتنفذون منها هم الذين ينادونه فيما بينهم بابن حنتمة أو الأعيسر ويعيبون عليه لبس القطوانية وهي عباءة يصنعها الكوفيون، ولم ينقل المؤرخون عن الإمام علي أنه تهاوش الكلام مع عمر، أو تساجل معه كما يتساجل المعارضون.

منا شـير عمرية ضد أمراء الدولة:

لم يكتف عمر باستخدام مبدأ الكفاءة والاستفادة من أصحاب الخبرة وإن لم يكونوا من المهاجرين الأولين بإصدار مراسيم التعيين وترك حبالهم على غواربهم.

ففي مراسلاته إليهم وهم قادة في الثغور أو ولاة في الأمصار يظهر عمر صرامة إذا ما وجد بعضهم ميلاً عن نهجه السياسي.

فإذا كان القائد من طراز عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ردواً عليه بما يحفظ لهم ارستقراطيتهم ودينهم.

فيكتب إليه عمرو: أما بعد، فأما ما ظهر لي من مال، فإنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار، كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصبنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها، ووالله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك، وقد ائتمنتني، فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك. وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير منّا، فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين باباً، ولا فتحت لك قفلاً.

فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شيء ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال، ولن تعدموا عذراً، وإنما تأكلون النار، وتتعجلون العار، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة، فسلم إليه شطر مالك.

فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاماً ودعاه فلم يأكل، وقال: هذه تقدمة الشر، ولو جئتني بطعام الضيف لأكلت، فنحّ عني طعامك، وأحضر لي مالك، فأحضره، فأخذ شطره. فلما رأى عمرو كثرة ما اخذ منه، قال: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لاتجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج. فقال محمد: أيها عنك ياعمرو!. فعمر والله خير منك، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار، ولولا الإسلام لألفيت معتلقاً شاة، يسرك غزرها، ويسوءك بكؤها. قال: صدقت فاكتم علي، قال: أفعل.

مظاهرة على بابه!

يمكن أن تكون أول مظاهرة سياسية في تاريخ العرب وبمعناها الحديث قد اجتمعت بباب عمر قادمة من أحياء العرب، احتجاجاً على شدته، لكن المظاهرة انقسمت إزاء هذا الشعار، فرأى بعضهم في هذه الشدة حزماً يثير الإعجاب، وأصل خروج المظاهرة العفوية يرتبط برد فعل شعبي ضد موقف عمر من جبلة بن الأيهم، وهو من ملوك بني غسان في الشام أسلم بعد أن رأى مصير هرقل فتوجه إلى المدينة مع (500) من أهل بيته، واعد له عمر استقبالاً شعبياً كان الأول في تاريخ المدينة والأول في تاريخ عمر خروجاً على عادته وتساهلاً مع ما تعارفت عليه نفسه وهو المعروف بكراهة المظاهرة والمهرجانات ورؤية الملوك على خيول مطهمة معقودة الأذناب، وتاج بن الأيهم يأخذ بأبصار الناس فتنبهر المدينة وعمر صامد حابس لمشاعره، خاضع لأول مرة لرسوم الاستقبال الملكي، مقدراً أن ضيفه مازال طري الانتساب للإسلام، تليد الانتساب إلى طقوس الملكية.

ولاشك أن مقبض الدرة قد ترطب بعرق يده. وقد يكون تذكر لحظتها مشهد أمراء الشام يزيد بن أبي سفيان وخالد بن الوليد على خيولهم فحصبهم بالحجارة، وهم بلاشك أعلى مقاماً عنده من جبلة. كان عمر يراقب هذا الملك كيف يخرج ويتبختر؟. ويتحدث من زاوية الفم أو بأطراف الأنف، فدعاه إلى زيارة الكعبة وأظن أن عمر أعد سيناريو الزيارة مسبقاً، وإذ هما يطوفان بالبيت الحرام وطيء أزار الملك رجل من بني فزارة، فضرب وهو يقيل عثرته، وجهَ الفِزاري بكفه فشكا الرجل إلى عمر، فعقد كعادته جلسة محاكمة للملك الزائر الداخل في الإسلام حديثاً!.

قال عمر لجبلة: عليك أن ترضي الرجل أو أن أقيده منك، فأنكر جبلة ماسمع وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك وهنا كان على عمر أن يلقن ضيفه الدرس الإنساني الأول في نظرية السواء الإسلامي.. وأنت لاتفضله بشيء إلا بالتقوى والعافية.

قال جبلة.. لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.

قال عمر: دع عنك هذا، فإنك أم لم ترض الرجل عقدته منك. قال جبلة: إذن سأعود نصرانياًَ!.

فطلب جبلة أن ينتظره هذه الليلة، وتقول الرواية انه خرج في جنح الظلام متسللا ووصل بلاد الروم حيث استقبله هرقل وأقطعه ربوعاً ملكية شاسعة.

ولما علم الناس بأن الملك الغساني فرَّ هارباً مرتداً عن الإسلام حمل بعضهم المسؤولية على شدة عمر معه، فاصطدم المتظاهرون أمام بيت الخليفة، وكادت أن تحصل فتنة.

الطبـاق العمري

حركته تشبه حركة الناس العاديين، ولهذا رأى الناس فيه صورةً منهم، ولم يشعر أحد أنه محكوم بحاكم، فقلص المسافة بين الحاكم والمحكوم وهذه سمة تلقّاها الإمام علي مثلما تلقاها عُمر عن النبي، تجعلُ الحاكم محكوماً. وهو محكوم بالنصوص، فعاشَ سنوات حكمه العشر وكأنه يقود حركة معارضة. لاحركة سلطة فحسب، وعرض مقطعاً كما عرض الإمام علي في تاريخ السياسة العالمية يستحيل فيها رئيس الدولة، زعيماً للمعارضة في آن. فيراقب سير الإدارة بعين المعارض ويبعث برسائله إلى الولاة وكأنها مناشير المعارضة السرية.

وعمر لا يعد نفسه من الأمراء وأهل السلطان وهو أمير المؤمنين، وأغلب الظن أن إضافة الأمير إلى المؤمنين أخضعت ولو على مستوى الإيحاء النفسي هذا الأمير إلى المؤمنين وفقاً لمنطوق المضاف إليه الذي يعد المالك والمضاف مملوكاً.

لم يصطنع لنفسه طقوساً خاصة، ولاعالماً يتعرف الناس عليه بهِ، لكنك إذا تابعت تاريخه، وحدقت في حركته اليومية، فستشكل أمامك صورة عالمٍ خاص، واضح الملامح والسمات، يقوم على العفوية والبساطة وعدم التصنع والسهولة، فينعكس هذا على طقوس العبادات عنده لا تَكلف فيها ولا اصطناع.

كان يمنع جلبة المظاهر الدينية، ويقاوم السابقة قبل أن تتفشى، ويأخذ على بعضهم الغُلو في العبادات، «فمن أدركته الصلاة فليصلِ وإلاّ فليمضِ إلى سبيله"

ويمنع أن يضفي التقديس على غير المُقدس، والمقدس عنده قرآن وسنة ويبقى من هو خارجها خُلواً من القداسةِ. ومع بساطته كان رجل الإستراتيجية.

ولعمر كاريزما كما نقول في أيامنا هذه، وأجمل ما فيه عندي، أن أراه يُسرع في أمَرْ من هامش الأمور فيندفع لحظة ثم ينسحب قبل مرور اللحظة التالية، فيتأثم وهو غير آثم، وتتحول حركة خاطفة من درتهِ يعلو بها كتف رجلٍ أو امرأة إلى حركةٍ ضد نفسه، فيطالب المُخفَقين خطأً أن يخفقوه، وهو ممن يمارس النقد الذاتي على نفسهِ بمرارة... ثكلتكَ أمك يا ابن الخطاب أأفقه منك امرأة، ثكلتك أمك يا ابن الخطاب إن لم تقلها، وأراه لحظتها يسارع إلى رأس الإمام علي فيقبله ولا أقامني الله في أرضٍ ليس فيها أبو الحسن.

وعمر ليس له باطنٌ وظاهر، وليست له سياستان سرية ومُعلنة، وليست له جملتان واحدة لنفسه وأخرى للناس.

ليس لعمر مثنيات، وقد أتاحت له عشر سنوات من الخلافة المستقرة تنفيذ البرامج الإسلامية واجبة التنفيذ فأطبقت النظرية على الحياة.

إن مناهج الدعاة قد تغري السامع والقارئ بجاذبية الرواية، وجمال الاستشهاد، مما تزهو به النظرية الإسلامية، فتنسب إلى صحابي وخليفة أو تابع وفقيه، وكأنها حسمت بالاستشهاد النظري، إشكالاً لمستشكل، أو اعتراضاً لناقد. لكنك وأنت في المشاهد العمرية، قد تتوقف عن ترتيب الروايات، وصياغة الاستشهادات وأمامك حركة الناس تتحد بحركة القرآن، فتتيسر الاستجابة من طرفيها...استجابة النظرية للحياة، واستجابة الحياة للنظرية.

وكأنك ترى عقيدة السماء تتمشى فوق أديم الأرض، وتمر مع المارة. أو كأنّ الناس عرجوا إلى السماء معلقين على تعاليمها.

في عصره، اختفى الخلاف الأبدي الذي كان بين أهل الأرض وسكنة السماء!. والأرض تسمو والسماء تدنو أو تتدانى، ليولد ما نسميه الطباق العمري. وشخصيته مكشوفة حيَّ على الصلاة.

لايكيد والكيد سلوك باطني، ولا يحبُّ في السرِّ ما لا يحبه في العَلَن. إذا ضاق بموقف أو مشهد، فهو لايكتم ضيقه ولا يصبر على المخالِف.

إن علماء النفس يسمون هذه الشخصية بالانبساطيّة.

منبسط النفس مثل الأرض التي خرج منها وعاد إليها لا التواء فيها ولا زوايا ولا يحجبَ الرؤية حاجز من تضاريس النفس. والعين تمتد حتى الأفق، فإذا ارتفعت أخذت من صفاء السماء في نجدٍ والحجاز صفاء النفس والرُوح.

وأخذ من وضوح الصحراء والسماء وضوح العقيدة وتسهيل الحياة للناسِ. عاش جاهلية واضحة، وأسَلَم في وضح النهار، وهاجر في وضح الشمس، وحكم في وضح الشريعة، وغُدرَ به قبل أن يتوضحَ الصُبحُ وكان غادره من أهل العُتمة.

فتساءل بعد أن استعاد وَعيه: أعن ملأ منكم؟.

فذكروا له اسم الغادر. والحمد لله الذي لم يجعل موته على يد رجلٍ سجد لله ولو سجدة.

وعُمر لا تقتله العرب.

كيف صُيِّر الرجلُ زعيم فرقة ورئيس مذهب وعنواناً لطائفة، وهو الذي كان يُنكر على الناس اختصاصهم بمجالس خشية أن يدعوهم ذلك لأن تكون لهم آراء متفرقة متباينة تنتهي بالتحزب والانقسام.

روى ابن عباس أن عُمر قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً حتى يُقال من صحابةُ فلان؟ من جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس أي تحاشاها الناس.

وأيمَ الله إن هذا سريعٌ في دينكم. سريع في شرفكم. سريع في ذات بينكم.

ولكأني بمن يأتي بعدكم، فيقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً. أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لألفتكم وأطيب لكم في الناس.

أتُراه أصدر فتوى بتحريم العمل السري؟ لعله فعل، ولو أصاخ الناس سمعاً لفتواه لتجنبوا الكثير من كوارث الأحزاب والمنظمات السرية والأسماء المستعارة بالآباء والأبناء زوراً وبهتاناً.

خلا فـة السلم الأهلي 

كانت خلافته نزهة في زورق على بحيرة زرقاء، لا ريح اليمين تزعجها ولا الشمول تضربها، فكانت الحياة والإجراءات والأيام وحركة التاريخ تسيل بهدوء وسلامة وسلاسة. وبصيغة اسم التفضيل، ستأخذ خلافته منّا أجمل المفردات فهي: أسهل خلافة في انتقالها إليه من أبي بكر وحركة سيرها. وهي أسلم خلافة فلم تسفك فيها دماء ولم تواجه احتجاجات، ولعلها الفترة الذهبية التي عزَّ تكرارها في تاريخ الخلافة الإسلامية، كونها جداراً لم يتشقق ونسيجاً لم يتهلهل.

فصارت الخلافة الأولى في التاريخ العربي التي تخلو من التمرد، وانفرد عهد عمر بعدم ظهور معارضة مسلحة أو انشقاق، بينما واجه أبو بكر في أيامه الأولى عدم مبايعة الإمام علي وانشقاق الردة وتمرد القبائل العربية على خلافته.

وفي خلافة عثمان كان الانشقاق اجتماعياً وطبقياً، اتخذ صيغة المعارضة السياسية والفكرية التي انتهت بالهجوم على داره وقتله بوحشية.

أما الإمام علي فقد تكالبت على عهده ثلاثة انشقاقات كبرى، فعالجها مرة بالسيف ومرة بالسلم كانشقاق أصحاب الجمل، وانشقاق معاوية، وانشقاق الخوارج، لقد شنت على الإمام علي حرب استنزاف متعددة الجبهات، لكنها موحّدة العوامل والأسباب.

أما عمر بن الخطاب فقد حصد ثمار السلم الأهلي وغنائم الفتوحات في بلاد كسرى وقيصر ورضى الصحابة، فأتيح له أن يقدم أوضح تشكيل لخارطة الإسلام على الأرض، لكن رأياً يقول: إن المعارضة في زمن عمر كانت مؤجلة، فانفجرت في عهد عثمان.

ونقول: ان ذلك سيكون صحيحاً، لو أن البنية الاجتماعية والشخصية لحركة المعارضة في عهد عثمان هي نفسها التي كانت صامتة في عهد عمر، ولم يظهر في تاريخه المكشوف الزوايا والأبعاد، أن الأقاليم أو الأعراب، والفقراء، وبعض الصحابة وأبنائهم، قد احتجوا على سياسته، إنما صدرت إشارات عن بعض رجال قريش وقادتها بما يعني ضيقهم من شدة عمر وجرأته بمنعهم من السفر ومساواتهم بمن كانوا من عبيدهم ومواليهم، وهذا الاتجاه وجد انفراجاً لأزمته في عهد عثمان. 

مفهوم جديد للدولة ونظام سياسي خاص

إنه بالتأكيد نظام غير مسبوق كما يقول طه حسين، فلا يشبه أنظمة الرومان واليونان، ولا يتصل بشكل الأنظمة المعاصرة.

لم يكونوا يعرفون ما اصطلح عليه اليوم بالنظام الديمقراطي، لكن جوانب كثيرة منه تقوم على ما قامت عليه أساليب الحكم الديمقراطي.

ولم يكن المؤسسون، قد تعرفوا على مشكلات النظام البيروقراطي، عندما عزفوا عن البيروقراطية. وسارت العلاقة بين السلطة والمجتمع على شيء من التواحد من جهة واختزال الوسائل في المخاطبات من جهة.

كان النظام الإسلامي يحمل نزعات اشتراكية واضحة وهو يأخذ باقتصاد السوق، ولا يعرف تحديد الملكيات وبالكثير مما عرف في النظام الرأسمالي لاحقاً بنظام الضرائب على الدخل. ولكن اقتصاديات الأرض مزيج من النص والإبداع والتأثر بالتجارب القديمة للإمبراطوريات المفتوحة.

وطبيعي ألا يعرف عصر أبي بكر التوزع السياسي بين السلطة والمعارضة ولا أن يعرف الناس آلية العمل عندما يكونون معارضين، فكانوا يلجأون إلى آلية السلاح، قبل أن تظهر الجمعيات الباطنية والفرق السرية، وكانت هذه بشكل عام تنتهي بحمل السلاح ضد السلطة تعبيراً عن رفضها الانضواء في النظام السياسي القائم عندئذ، ويمكن أن يسجل للتشيع في أصله الإمامي الأوسع – أن الإمامية اتجهت بعد مقتل الإمام الحسين إلى نبذ العنف الثوري، واعتماد أساليب تربوية وثقافية وإعلامية في نشر أفكار مدرسة أهل البيت.

ولم يتزعم أي إمام بعد الحسين، حركة مسلحة أو يقف وراءها، واستقل الفرع الزيدي بزعامة زيد بن علي بن الحسين بالعمل المسلح والثورات الشعبية المسلحة عند الشيعة.

في العصر الإسلامي الأول يتحول الصحابي الكبير والرجل البسيط والمرأة العادية إلى معارض في مجلس الخليفة ضد قرار أو رأي يصدر عنه، فإذا تطابق رأي المعترض مع النص، أخذ به وتنازل الخليفة عن قراره أو رأيه في ذات اللحظة.

لكن عمر بن الخطاب كان يعترض على قرارات وإجراءات معمول بها في زمن سابق لزمنه، وقد يتوقف عن الأخذ بما صدر عن أبي بكر ذاته.

 

 

ســيا سـته القُرشـــية

السيادة منزوعة الحلاقيم

 
 

عمـر وعثـــمان

هما في المنهج السلفي واحد، وعند منهج القطيعة الشيعي واحد. لكنهما مختلفان في مناهج التحليل العلمي المستقل.

لا أظن عثمان بن عفان مرَّ بأيام الفتوة ولا مرت عليه فترة الصبا، على مافيه من جاه ووسامة، ووجاهة الثراء والانتساب الارستقراطي،وكان وزنه الاجتماعي أرزن من أقرانه، وشخصيته أقرب إلى مسالك الشيوخ، فأضفى عليه ذلك هالة من الوقار في سن مبكرة.

وبالمقارنة مع شخصية عمر ستبدو جلياً حيوية عمر التي رافقته إلى فجر اغتياله. كان عمر واحداً من أبناء البرية مشرباً بتقاليدها، وحياته متصلة بحياة الناس البسطاء. وهم يعيشون على سطح طبقي واحد، وحركته تشبه حركة الناس العاديين، وحركة عثمان تشبه حركة أبناء الأمراء، فرأى الناس في عمر بعد استخلافه صورة منهم، وقد قلص عمر المساحة بينه وبين الناس، ولم يكن سهلاً على عثمان أن يترسم خطى عمر، فيعسّ في الليل ويخفق بالدرة ويلتحف الرمل ويجلس على قارعة الطريق أو يقوم يهنأ بعيره بالقطران أو يعدو على قتبٍ باحثاً عن بعير ند من إبل الصدقة، أو ينفي شاباً وسيماً لأنه وسيم، ولايمر ببال عثمان أن يسأل عن طفل يبكي طارقاً باب أمه لمعرفة أسباب بكائه، ولا كان ممكناً لعثمان حتى مجرد التفكير بمسك ستارة معلقة على نافذة أحد ولاته فيمزقها.

لقد نشأ كل منهما على إحساس طبقي واجتماعي وتربوي، فصار عمر الحاكم الوحيد في التاريخ، الذي ليس له معارضة سياسية أو سجون سياسية. أما جهازه الأمني فكان مخصصاً لمراقبة الأمراء والقادة والولاة ورجال السلطة ولا يخرج عنهم إلى الناس.

أما عثمان، ففي القسم الثاني من خلافته تكاملت أسباب الدولة القائمة على فكرة التعالي كما يقول هشام جعيط في كتابه (الفتنة) الصادر عن دار الطليعة.

ويرى أن عثمان كان في أعماقه مسكوناً بفكرة تعالي الدولة، المرتبطة بفكرة تعالي الله. وأنه لم يكن مجرد ألعوبة بين يدي مروان. لعله التقاط ذكي وسيكون ميسوراً لنا السؤال عما إذا كانت فكرة التعالي إذا ارتبطت بفكرة تعالي الله غائبة عن النبي وأبي بكر وعمر وعلي. وأغلب الظن أن فكرة التعالي هنا ترتبط بطفولة عثمان وارستقراطيته ولاصلة لها بغير ذلك. كان عمر بن الخطاب كاسباً، وكان عثمان تاجراً كبيراً تغني له النساء في تنويمة الأطفال.

وكان تاريخ كل من عمر وعثمان مختلفاً في الجاهلية. إذ لم يذهب عثمان إلى حلبات الملاكمة ولم يشترك في سباقات الخيل، ولم يعرف عنه كثرة المشروب.

وفي التحليل السيكولوجي، كان عثمان بعد إسلامه يعاني من أزمة وحرج اجتماعي، وكان في مأزق قيمي. إذ خرج وحيداً من بني أمية إلى الإسلام في أيامه الأولى، فخذل قومه، وكانت آيات القرآن تصب اللعنة على المشركين والمنافقين، والمسلمون يعرفون أسباب النزول ومن هو الفاسق والمنافق ومدى قرابته من عثمان. وكانت قبيلة عثمان تقود قريش في حروبها ضد الإسلام، وعثمان يمول الجيش الإسلامي بمعدات القتال والانتقال وإن بلغت أرقاماً ليس لغير عثمان بن عفان أن يسدد قيمتها.

إن شعوراً كهذا لم يدخل إلى نفس عمر، فهو من حي متواضع من أحياء قريش، وقبيلته عدي لم يكن لها دور كبير في الحروب ضد الإسلام، وأن عمر نفسه أعطى جهده للدفاع عن معتقدات قبيلته، فلم يسلم في وقت مبكر. ولم يترك أقرباءه يقاتلون الجيش الذي انتسب إليه كما هي حال عثمان. حتى إذا أسلم لم يكن هو من أوائل الخارجين على قبيلته، وقد أسلم قبله ابن عمه زيد وأخته فاطمة. فليس لديه شيء من الإحساس بالذنب والإثم أو من عتاب الضمير فيما يتعلق بمرحلتيه الجاهلية والإسلامية.

وكان من الطبيعي، وعثمان تحت ضغط هذا العامل النفسي، أن يعوض بني قومه عما فاتهم ليرضي نفسه قبل أن يرضيهم، فكان سخاؤه عليهم  يوازي به سخاءه على الجيش الإسلامي. ولدى عثمان مسوغ. فأقرباؤه قد أعلنوا إسلامهم والإسلام يجب ما قبله.

فتيسرت أو لعله هو الذي يسر الوسائل المادية والشرعية استناداً إلى موقعه وصلاحياته لتسيير المال وسواه لمن يعتقد أنه مطلوب ولو نفسياً لرد ماعليه من ديون أدبية أكثر منها مادية. ولم يكن عمر قد مرَّ بذات التجربة.

ومن مخطوء الأحكام والتقويمات التاريخية شيوع القول بضعف عثمان، وكأنه لم يخلع ولاة قريش الأقوياء مثل المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، وسيعد عثمان أكثر جرأة أدبية وقوة إرادة عندما يعين عبد الله بن أبي سرح والياً على مصر ووليد بن عقبة والياً على الكوفة ويعبر مشاهد ورسوماً لعمر فعطل قراره بإمساك قريش والصحابة الكبار عن مغادرة المدينة، والانتشار في البلاد المفتوحة، وفتح أمامهم آفاقاً جديدة.

ومنعت عثمان عن النزول إلى الإحياء والصفق في الأسواق نزعة ارستقراطية بتعبيرنا المعاصر، تقابلها نزعة شعبية لعمر هيأته لسن قوانين في الضمان الاجتماعي ورعاية الأطفال الرضع ومنع الاجتماعات السرية.

كان عمر من طبقة أو من حي بلغة العرب هو دون حي أمية، وكانت له أعرافه وملاعبه وكان عثمان ينحدر من سلالة لها أعراف صارمة وليست لها ملاعب مفتوحة.

الإسلام وقريش:

خرج منها الإسلام إلى العالم وخرج عليها وخرجت عليهِ، وحين قرر النبي الهجرة التحق منها نفر معدود وعاد إليها بعد ثماني سنوات وعديد جيشه الألوف، فخُيّل لبعض أنصاره أن فتح مكة سيكون نهاية قريش فيما كان الفتح بدايتها الجديدة ونَصرها المؤزر (وهي المكسورة) وخيوط حلمها في دولة ليست لأوثان الكعبة بل على أرض الجزيرة بمشاركة خاصة ورقابة صارمة من السماء والحاكمون هُمُ هُمُ.

والخلافة في قريش، وهذا بعض سرِّ مما وراء قرار القائد القرشي حامل المهمة السماوية والمكلّف الإلهي، بإصداره عفواً عاماً عن مقاتليها وزعيمهم، ولم يستثن سوى أحد عشر رجلاً وجدوا طريقهم فيما بعد إلى الحرية وصوت النبي يعلو والفرح يملأ قلبه...لا يُقتلُ قرشيٌ صَبراً بعد اليوم.

ومنذ الهجرة والكتاب المنزل يقدّم المهاجرين في تسلسل الآية قبل الأنصار.

ولم يهجرُ النبي انتسابه القرشي في محتدم الصراع مع قريش، فيسأل شاعره حسان بن ثابت... كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟.

فيقول حسان: أَسلُّكَ كما تَسِّلُ الشعرة من العجين يا رسول الله.

وفي نفس النبي لو كان هذا العجين بلا شعرة. صافياً للإسلام. وقد تحقق ذلك في فتح مكة.

إن قريشاً لاتُحشَرُ في مصنفات القبائل، وهي شعبٌ مترامي الأحياء والبيوت ينفرد بخصائص لم تتوفر لغير شعب قريش في الجزيرة، وتقوم على المهارة في السياسة والاقتصاد. وتحتاج السياسة إلى الدبلوماسية، فإذا أخفقت كانت الحرب وقريش تعرف هذا الفن وذاك.

وهي في اقتصاد الجزيرة مثل وول ستريت في أمريكا والِستي في لندن.

وشخصية القرشي أميلُ إلى الواقعية بفعل السياسة والاقتصاد وأفصح في التعبير عما يسمى بالبراغماتية مع شيء من الوعي الاستراتيجي والقدرة على التكيف والتأقلم مع الواقع.

وهذه من خصائص التُجار، وقد يُفسّر منحى قريش هذا أنها كانت تفتقر إلى الشعراء، وأن أبناءها لم يُهيموا لا في وادي عبقر ولا في وديان عذرا.

فإذا ظهر منهم شاعر كبير كعمر بن أبي ربيعة بعد عقود، كان الرجل زعيم الواقعية في الغزل.

إن الإسلام وُلِدَ في قريش، لكنها لم تكن الحاضنة الأوفى، مثلما كانت الأوس والخزرج وقبائل المدينة، فإذا انتصر الإسلام حصدت، وهي الخاسرة، ثمار الانتصار.

إن قريش منذ فتح مكة وتحوّل زعمائها وقادتها إلى الإسلام صارت المالك الرسمي للمركز الأول في الدولة. لا يقترب من هذا الموقع قرشيٌ غير مُعتقد بحق الأرومة، حتى أقرّ عُمر وهو في منعطف تأسيسي بعد وفاة الرسول وثيقة خطيرة بإعلان سيادة قريش في الدولة الإسلامية والخلافة فيها وليس في غيرها.

أمّا الإمام علي، وهو من زعماء قريش وفرعها الأسلم بني هاشم، فقد استوعب معنى العفو المحمدي عن قريش بعد فتح مكة، لكن قريش لم تستوعب رؤيته على منصة الزعامة.

ومما ساعد قريشاً في استرجاع مكانتها إلى جانب العفو النبوي تلك القاعدة الفريدة في الإسلام الذي يجب ما قبله. أي يدفن ماضي المسلم ليس في حفرة بل في جُبٍ عميق وتدفن معه موبقات الفعل والقول وأدوار وصراعات، فقطع النبي على مجتمعه الجديد أية محاولة لتذكير بعضهم بتاريخ بعض.

أما علاقة عمر الخليفة بقريش فقد اتجهت نحو منحىً آخر، فبعد قرار منع السفر الذي أحال بين رجالها والانتشار في البلاد المفتوحة حُلماً في بناء إقطاعيات ومراكز تجارية، مما يضعف قوة المراكز في دولة مترامية الأصقاع وفي آليات اتصال بدائية، توترت العلاقة بين عمر وقريش، فوقف في منفذ حدودي هو شِعب الحرة قائلاً: إنه سيأخذ قريشاً من حلاقيهما.

وكان رد قريش عليه بالفخر في انتسابه لحيٍ متواضع منها وعدم مشاركة قبيلته عدي بدور كبيرٍ في الحروب، وهي تعبّر عن نيةٍ غير صافية عندما تكنّيه بابن حنتمة بأحاديثها الخاصة.

ذكرنا أن عمرو بن العاص بعد فتحه مصر قد تعرض لمساءلة ماليّة، وكان مندوب عمر إليه محمد بن مَسلمة، فاستكثر ابن العاص ذلك، فغمز عمر قائلاً: كنت أراه وأباه وعلى كل واحدٍ منهما عباءة قطوانية لا تستر ركبتيهما، وكان العاص بن وائل (والده)على مزرارة الديباج.

وكان آخرون يكررون عليه كلاماً مشابهاً: فقد كنت وضيعاً فرفعك الله، وراعياً فحملك على رقابنا.

إن انتقادات قريش لعمر لم ترتفع نبرتها بعد إعلان إسلامه، وإنما بعد إعلان خلافته.

أمّا موقفهما من الإمام علي فقبل استلامه الخلافةِ وبعدها. لاسيما وقد مال نحو أحياء وقبائل لم يكن لها نفوذ قريش.

كان عُمر يستخدم طريقتين لم يشأ الإمام علي السير فيهما. رغم أنه لم يعترض عليهما، ينقل طه حسين في (الفتنة الكبرى) حواراً بين الإمام علي وعثمان يحتج فيه الإمام على تقريب الأخير أقرباءه في الإمارة والولايات، فيقول عثمان لعلي: إن عمر ولّى المغيرة بن شعبه على الكوفة والبصرة، وولّى معاوية على دمشق، فقال له الإمام علي: إن عمر كان يراقب ولاته ويخيفهم وإن ولاتك يستبدون بالأمر من دونِك.

وعندما قيلَ: إن الإمام علي عيَّن ثلاثاً من أبناء عمه ولاةً قال طه حسين: إن سيرة علي مع ولاتهِ من بني عمه هي سيرة عمرُ، فكان شديداً عليهم، مراقباً لهم، لا يتحرج عن عزلهم إن قصرّوا. على حين لم يعزل عثمان والياً من بني أمية وآل أبي معيط إلاّ حين أكرهته الأمصار على ذلك.

كان هدف عمر تطويع  قريش بإشراكها في إدارة السلطة والإفادة من مهاراتها في السياسة والاقتصاد والحرب والإدارة، فأخذ منها ما يستفاد منه في بناء الدولة الجديدة في الوقت الذي كان فيه زعماء قريش تحت إمرته وطوّع يديه.

وإن كان التذمر القرشي واضحاً في رؤيةِ من كانوا في عداد العبيد، أصحاب قرار وأمراء وولاةٍ وقضاة ومندوبين عن الخليفة مُخولين بنزع عمامة خالد بن الوليد وربط يديه بها من الخلف كما فعل بلال بأمر من عمر الذي كان يقدّم اسم بلال أو سلمان الفارسي على أبي سفيان عند المقابلات.

لم ينهج علي نهج عمر في الاستفادة من قريش، ولا كانت قريش لينةً طائعةً معه، كما كانت مع عمر ولا هي ستخضع لقرارٍ يصدر من الخليفة علي بن أبي طالب بعزل أحد رجالها عن ولاية أو إمارة وليس لأحدٍ منها أن يستسلم لعمار بن ياسر في ولاية الإمام علي، كما استسلم زعماء قريش لمحمد بن مسلمة الأنصاري، عندما كان يشاطر بعض أموالهم لصالح بيت المال.

إن مرونة عمر مع قريش أوسع من مرونة الإمام علي معها، وشدة عمر عليها أكثر من شدة الإمام، ولم يكن الإمام علي يوافق على مرونة واسعة كهذه، ولم تكن قريش ستقبل منه شدة كتلك عليهم.

ومُختصر القول: إن الإمام علي ما كان يرضيه رؤية المتنفذين من قريش نافذين في الإسلام ولا كانت قريش قد استكانت لإمامته منذ الأيام الأولى، فلم يتهيأ للإمام علي الاستعانة بهم فيستخدم المرونة أو الشدة، وليس أمام الإمام قبل انشقاق قريش عليه، متسعٌ شرعي وقد أعلنوا إسلامهم وتقبله النبي (ص) بعد فتح مكة. والإمام علي مُريد قبل أن يكون وبعد أن يكون حاكماً أو ثائراً.

حلاقيم قريش

عُمر منها لأنه قرشي، من القائلين بدور أساسي لها في إدارة الدولة الجديدة، وهو ليس منها في النزوع القرشي نحو السيادة والاستحواذ مما يتعارض مع مبدأ العدالة، حينها سيكون مع العدالة على قريش. فرضيت على سياسة عمر حيناً وغضبت عليه أحياناً.

إنّ عُمر الذي وَضَعَ موضعَ التطبيق شعارَ الخلافة في قريش، فجال على بيوت الصحابة، وخاض أخطر معركة في تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي (ص)، ليأخذ البيعة للقرشي أبي بكر، ويُفِهمَ الأنصار أن الخلافة ستبقى في قريش، هو الذي قال: (سآخذ قريش من حلاقيمها).

وإذا كان يُعزز من نفوذ قريش، أو على الأقل لا يُهمل رجالهَا من الذين تأخر إسلامهم، فإنه كان  يُحذر من فتيان قريش ذوي الأرومة فيها، وهو الذي حجرَ عليها وعليهم، ومنعهم من مغادرة المدينة في أول قرار يصدر في تاريخ العرب بمنع السفر.

غير أن عمر لم يكن على وفاق تام مع هذه الفئة وممثلها الأقوى الفرع الأموي وسياسة عمر إزاء قريش أن يُرخي ويَشدُ،يُعطي ويُراقب حتى إذا امتلأت بالثروة أقسَمَ:" لئن عشتُ لهذه الليلة من قابلٍ، لألحقنّ أخرى الناسَ بأولاهم، حتى يكونوا بالعطاء سواء".

وفي رواية أخرى يقول:

إن رسول الله قدَرَ فوضع الفضولَ في مواضعها، وتبلغَ بالتزجية، وإني قدرت فو الله لأضعنَّ الفضول مواضعها ولا تبلغنَّ بالتزجية.

أي أن يأخذ الأموال الزائدة ويتبلغ بالتزجية كنايةً عن عيش الكفاف.

وقد خَبُرَ عُمر حياة قريش ورجالها، وعَرَفَ ما يستبطن رجالها فاستبطنهم، وتحدث فيهم حديث عالم النفس، ورسم شخصياتهم بأسلوب الروائي المعاصر،  وكان أميناَ على علمهِ وخبرتهِ، فيعطي الرجلَ منهم في السلب والإيجاب، فعنيت فئة بسلبه وأخذت أخرى بالإيجاب. ولم يمت عمر حتى ملّته قريش كما يقول الشُعبي.

وعمر كما يقول الوردي يتهم أشراف قريش بأنهم لا يخلصون في الجهاد للإسلام ولايعرضون أنفسهم للموت في سبيله.

يقال: إن خالداً بن الوليد رأى عكرمة بن أبي جهل (وهو ابن عمه) مصروعاً في إحدى معارك الشام فوضع رأسه على فخذه، وأخذ ينظر إليه ويقول:" زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد ".

يقول الطبري: إن قريشاً ملت عمر بن الخطاب، فهو قد حصرها في المدينة ومنع عليها التجول في الأمصار، وقال بصريح العبارة: ألا إن قريشاً أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده. ألاّ فأما وابن الخطاب حي، فلا، أني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش. وحجزها أن يتهافتوا في النار.

ومن الغرائب التي قام بها عمر، والكلام للوردي، أنه عيَّن عمار بن ياسر والياً على الكوفة، وعيَّن سلمان الفارسي والياً على المدائن، ولم يكن ذلك هيناً على قريش.

يقول طه حسين:

كان زعماء قريش وسادتهم يحسون أنهم الطلقاء، وأنهم أقل درجةً من الذين سبقوا إلى الإسلام وأبلوا فيه بلاءً حسناً، فكان ذلك يغيظهم ويحفظهم ويشعرهم بشيء يشبه ما نسميه عقدة النقص أو مركب النقص.

ثم كانوا يعرفون رأي عمر خاصة فيهم، فكان ذلك يغيظهم من عمر، ويدعوهم إلى أن يحسنوا البلاء في الجهاد، ليظهروا لعمر أن رأيه فيهم جائر، عن القصد، وليظهروا ذلك للناس، وليظهروا ذلك لأنفسهم قبل أن يظهروه للناس.

وهذا هو تأويل ما روي من أن خالد بن الوليد أتى بعكرمة بن أبي جهل، وقد صرع في يوم من أيام الشام، فوضع رأسه على فخذه وجعل ينظر عليه، ويقول:

زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد! وابن حنتمة عمر.

كان عمر إذن يسوس قريشاً هذه السياسة العنيفة على علم بدخائل نفوسها وبعد همها وحرصها على الاستمساك بما بلغت والوصول إلى ما تبلغ، حتى ولو خاضت إليه الغمرات خوضاً.

وقد روي أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكّة كانت به، فيُقبل عبد الرحمن ذات يوم على عمر ومعه فتى من بنيه قد لبس قميصاً من حرير,فينظر إليه عمر، ثم يقول: ما هذا؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفله.

قال عبد الرحمن: ألم تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قد رخص لي في لبس الحرير؟.

قال عمر: بلى! لشكوى شكوتها، فأما لبنيك فلا.

وعلى هذا النحو، كان يشفق على المهاجرين أن يتوسعوا فيما رخص لهم فيه النبي (ص)، ويشفق على غير المهاجرين من قريش أن يتوسعوا حتى فيما لم يرخص فيه النبي (ص). وقد قام عمر دون معاوية يأبى عليه غزو البحر إشفاقاً على المسلمين من هوله.

وأكبر الظن أنه كان يرى غزو البحر هذا الذي كان معاوية يلح فيه مغامرة من هذه المغامرات، التي لا تترد قريش في ركوبها، وكان يرى أن الحق عليه للمسلمين أن يجنبهم مغامرات فتيان قريش.

نستنتج من لائحة عرَضَها طه حسين لعمّال عُمر في الأمصار أنه أعطى لقريش ثلاثة عُمّال من بين (12) عاملاً، ووزّع المسؤوليات الأخرى على عمّال، واحدةٌ لخزاعة، وثلاثة لثقيف، وواحدة لليمن، وواحدة لبني سَهْم، وواحدة للأنصار وواحدة لكنانة.

لكن أياً من هؤلاء العُمّال عندما يسمى، فسنكون أمام الأسماء ذات الأدوار الكبيرة في معسكر قريش سابقاً ومعسكر الإسلام لاحقاً ممن نصفهم اليوم بالتكنوقراط كعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأبي موسى الأشعري..

وقد أقرهم عثمان على أعمالهم لمدة عام بوصية من عُمر، فقد أشفق عُمر كما يقول طه حسين أن يتعجل الإمام بَعَده في الاستمتاع بالسُلطان، فيعزل ويولّي ويقطع بذلك ما استأنف العمال من أعمالهم، ويضطرب لذلك أمر الإسلام والمسلمين في الأمصار والثغور.

وفي استقرائنا للأسباب المعتمدة في سياسة العزل والتعيينات لم نعثر على حالة واحدة كان سبب العزل فيها سياسياً، ولا عثرنا في أسباب التعيين على دافع سياسي أو شخصي وكانت مسافته واحدة مع رجال الإدارة عند ترشيحهم للتعيين وعند عزلهم لسببٍ ما.

وفي سياسة التعيينات تبرز ثقة الرجل بنفسه، وهو يحيطها بقادة عسكريين من الطراز الأول، ودهاة يصعب على غير عمر ترويضهم!.

ويردّ علي الوردي على من ينكر على عثمان سياسة التعيينات، لأن عمر هو الذي عيَّن معاوية، فيقول: إن معاوية مع عمر هو غيره مع عثمان " أوشك الوردي أن يرى معاوية في زمن عمر محكوماً ومع عثمان حاكماًً

عمر وخالد بن الوليد

لشيوع الرواية بعزل عمر بن الخطاب خالداً بن الوليد مرتين، كنا نؤثر عبورها وقد اشبعت نقاشاً ونقداً ودفاعاً.

فالمدرسة السلفية تنفي أو على الأقل لا تقترب من قصة زواجه من زوجة قتيله مالك بن نويرة في حروب الردة. وقد تحسبها من فعل أعداء الإسلام، وتحصر الإشكال بين الاثنين بما نصح به عمر بن الخطاب أبا بكر الصديق بتقليص صلاحيات الولاة والأمراء ومنهم خالد بن الوليد، وأن لايعطي شاةً مالم يرجع إلى الخليفة. فرفض خالد بن الوليد تحديد صلاحيات.

ولاتتعرض الكتب السلفية لرواية تقول: إن عمر بن الخطاب أبلغ بواسطة بريده الخاص أن خالد بن الوليد يتدلك بالخمرة، فكتب عمر: "أن الله قد حرم ظاهر الخمرة وباطنها ومسّها، فلا تمسوها أجسادكم".

فأجابه خالد "إنا قد فتناها فعادت غسولاً، غير خمر".

ولم يعجب عمر هذا الجواب، فرد عليه مغضباً، كما يقول محمد حسين هيكل: "إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه ". وفي قصة تبرعه للأشعث بن قيس بعشرة الآف درهم اعترض عمر أن هذا المال يجب أن يحبس على ضَعَفةَ المهاجرين وليس أعطيات لذوي البأس والشرف واللسان. فيما كان عمر يفرض عليه أن لايعطي شاةً أو بعيراً إلا بأذنه. فكان جواب خالد أما أن تدعني وعملي وإلا وشأنك وعملي.

وسمح عمر لبلال أن يأخذ عمامة خالد ويشد بها يديه من الخلف.

ولا نظن أن عمر بن الخطاب قد فعل ذلك مع عامة المسلمين، ومازلنا نتذكر غضبه على أبي موسى الأشعري لأنه شهر بشارب الخمر الذي شكا الأشعري عنده، وكان والياً على البصرة. فطلب إلى الوالي الاعتذار منه وقبول شهادته إن تاب وعوضه بمال عما لحقه من إهانة. فكيف يهان خالد بن الوليد بسلسلة من الاتهامات تتدرج في لائحة الاتهام على الصورة التالية: تهمة قتل مالك بن نويرة، ولم يكن من أهل الردة.

زواجه من أرملة مالك.

استحمامه بالخمرة.

تبرعه بعشرة الآف درهم للأشعث بن قيس.

فإذا أضفنا إليها لائحة أخرى من هذا الغرار يستعرضها خليل عبد الكريم في كتابه إياه واتهامه بقتل النساء وحرق البيوت في غزواته، فسيكون خالد بن الوليد نموذجاً لضابط إفريقي أو من أمريكا اللاتينية وما إلى ذلك ممن لا يلتزمون بأخلاقيات العسكر.

وفي اعتقادنا أن الكثير من هذه الروايات مردود لتعارضه مع طبيعة الحياة في تلك المرحلة المبكرة من بدء التطبيقات التجريبية للإسلام وتحت إشراف عمر شخصياً. ولعلي أنفي بعضها على الأقل، لاسيما رواية استحمامه بالخمرة والحوار بين عمر وخالد حولها، وكأن خالد ناشيء لم يعرف موقف الإسلام من الخمرة، أو كأن صاحب الرواية يصوّره على صورة أباطرة الشام في وقت لم يكن لهؤلاء الأباطرة حمامات من هذا القبيل. وانفي عن خالد أن يقتل امرأة ضعيفة. أما ما حدث في قتل مالك فالقاعدة الفقهية تقول: إن السلب للقاتل. لكن عمر لم يقتنع بهذه المسوغات.

أما من قتل خطأ في غزوات خالد، فالمعروف عسكرياً حتى في المناورات، سقوط عدد من القتلى بالنيران الصديقة.

ولا يأسف القائد العسكري على قتلى يقعون من قبل جيشه، وفقاً لقاعدة النيران الصديقة.

إن رجلاً عسكرياً بحجم خالد بن الوليد يتقبل إمارة من يصدر الخليفة قراراً بتأميره حتى لو كان طفلاً فيطيعه، هو طراز محترف من الذين وهبوا عبقريةً عسكرية تهون أمامها أخطاء القادة.

يروى عن خالد بن الوليد بعد أن عزله عمر بن الخطاب، وكان أميراً على قنسرين في بلاد الشام:

لقد استعملني على الشام حتى إذا كانت بثينة وعسلاً عزلني.

فقام إليه رجل فقال:

أجد أنها الفتنة

فقال خالد: أما وابن الخطاب حي فلا.

والبثينة هي الحنطة. وعلى لونها سميت النساء بهذا الاسم.

المغيرة وأم جميْل:

نعتمد على مصْدر من مؤسسي المدرسة المصرية المعروفة بمرجعيتها العادلة ومنهجها العلمي وتساميها عن شطحات الفِرق وغلّ الرواة، فيقول محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر بطبعته العاشرة: "إن أم جميل كانت إحدى نساء بني هلال وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف فغشيت المغيرة بنِ شُعبه، وهو على ولاية البصرة فأطعنه فيها قوم عند عمر فعزله عن ولايته.ِ والطبري يسوقُ قصة أم جميل هذه، وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف ويقول: وكان بعضُ النساء يفعلنَ ذلك في زمانها، أي في عهد عُمر.

فأُستدعي المغيرة لمحكمةٍ عُليا برئاسة عُمر، فشهد ثلاثة ضد المتهم، وارتبك الرابع وتلجلج حتى قيل في ذلك كلام خطير أن الشاهد رأى في وجه عُمر ملامح من عدم الرضا ومن الحرج إذا ما ثبت ذلك على بن شعبة وأقيم عليه الحد، فصدر القرار ببراءةِ المتهم وما يترتب على كذبِ الشهود من حد، لكن عُمر لم يوافق على إعادة المغيرة إلى ولاية البصرة وأبقاه في المدينة.

يقول علي الوردي في عدالةٍ كهذه، وهي وجهة نظر لمفكرٍ خالص النية لوجهِ العلمانية "إن الذي يريد أن يعدل بين الناس يجب عليه أن يراعي مشاعرهم قبل أن يراعي نص القانون، فالنص القانوني قد يستخدمه العادل والظالم معاً".

عمر ومحكمة نورنبرغ لأبي سفيان:

خرجت محكمة نورنبرغ التي شكلها الحلفاء ضد مجرمي الحرب النازيين بعد سقوط برلين، تنفيذاَ لتصريح أصدرته أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي ضد مرتبكي الحروب العدوانية،من كونها خاصة بالظرف الذي ظهرت فيه إلى سابقة دولية. وقد أوشك عمر بن الخطاب أن يعقد محكمة على هذا الغرار، لو ترك له الخيار عند فتح مكة، لمحاكمة مجرمي الحرب من قريش، وفي المقدمة منهم أبو سفيان بن حرب.

لكن شفاعة العباس بن عبد المطلب أو دوره حال دون ذلك.

كان العباس يخشى أن يدخل الرسول مكة عنوة قبل أن يستأمنوه حتى لا تهلك قريش آخر الدهر. فخرج على بغلة رسول الله البيضاء. وطلب إلى الإمام علي أن يبعث بعض الصحابة أو المارة فيخبر أهل مكة بمكان رسول الله ليأتوا إليه ويستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة.

وإذ كان يسير عليها ويلتمس ما خرج له، فإذ سمع صوتاً لأبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: مارأيت كاليوم قط نيراناً ولاعسكراً.

فعرف العباس صوته، وقال: ويحك يا أبا سفيان. هذا رسول الله في الناس، قال: فما الحيلة؟.

قال العباس: لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله، فأستأمنه لك. فركب أبو سفيان خلف العباس، وكلما مروا بنار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟. فإذا رأوا بغلة رسول الله قالوا: عمّ رسول الله على بغلته. حتى مروا بنار عمر بن الخطاب (والنار تعني الحاجز العسكري). فقال من هذا؟. وقام، فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة، قال عمر: أبو سفيان عدو الله. الحمد الله الذي أمكن الله منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله، وركضت البغلة فسبقته. فدخل العباس على الرسول. ودخل عمر، فقال: يا رسول الله. هذا أبو سفيان. فلأضرب عنقه. فاعترض العباس قائلاً: يا رسول الله إني أجرته فجلس إلى جانب الرسول.  وأقسم أن لا يناجيه رجل دونه. وكان عمر يكثر في شأن أبي سفيان ويفصل القول، وكأنه مدع عام. يتلو حيثيات الجريمة. فأوقفه العباس وغمزه قائلاً: أما والله أن لو كان من رجال عدي بن كعب ما قلت هذا. ولكنك عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً يا عباس. والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام أبي لو أسلم.

فأمر النبي (ص) بإرسال أبي سفيان مع العباس، وبات عنده. ولم يكن أبو سفيان قد أسلم حتى صباح اليوم التالي.

أقول: لو جرى تثقيف الناس بتاريخهم لعلم خلق مهموم بربط عمر حتى هذه اللحظة بتاريخ الأمويين أن الرجل وحده عند فتح مكة كان مهموماً بإنزال القصاص بأبي سفيان وجماعته. لكن لرسول الله رؤية إلهية. 

عمر والسلفية:

السلفية مدرسة أخلاقية أكثر منها علمية. وتاريخية أكثر منها سياسية. ومحافظة أكثر منها متحركة. ومن يتعامل مع جانبها الأخلاقي سيكتشف فيها دعوة للسلم الأهلي، لكن في بطون التاريخ. فهي تميل إلى التسوية بين الفرقاء وتدعو إلى نظرية وحدة الصحابة وعدالتهم ولا تتساهل مع اختلاف الناس على رأي يميل لهذا عن ذاك.

في السياسة الإسلامية كانت السلفية منهجاً وفكراً ورجالاً هي الفضلى عند أهل السلطة، مادام السلفيون لا يتحرشون بأمن الدولة، خوف الفتنة. وفي الحق أنهم يحرصون على أن لا تضيع الدولة، وليس على السلطان ذاته. فكيف هي مع السلطان الظالم مادامت لا تقرُّ بظلمه؟.

وجوابها أن ظلم السلطان لا يلغي إسلام الدولة، فالسلطان قد يكون ظالماً، وقد يكون بعيداً عن التزاماته الشرعية، لكن المجتمع إسلامي. والحياة إسلامية، والقضاء إسلامي والدولة إسلامية.

 إن أحكامهم منعكسات لقناعات إيمانية. وهم حسنو الظن برجال صدر الإسلام وإن اختلف بعضهم عن بعض. وقاتل بعضهم بعضاً. وليس صحيحاً أن السلفيين أعداء للإمام علي وكارهون لأهل البيت، إلا من كان منهم ناصبياً سفياني الهوى، وليس منهم من يفضل معاوية على الإمام علي، وهم ملتزمون بقاعدة التراتب الرباعي. ومن خرج عن هذا التراتب خرج منهم. وقد لا يرضيهم في كاتب السطور أنه ممن لا يأخذ بنظرية التراتب الزمني للخلفاء.

أما منتقدو المنهج السلفي، فهم ليسوا فقط الآخذين بالمنهج العلمي الحديث، في دراسة التاريخ. بل هم أولاً المنتمون إلى المدارس الثورية في الفرق الإسلامية، ومنهم مفكرو التشيع.

لقد واجهت السلفية أربعة اتجاهات نقدية صارمة في البلاد العربية. كالمنهج العلمي الليبرالي لمدرسة طه حسين. والمنهج الماركسي الذي سار عليه اليسار العربي كحسين مروة وهادي العلوي وأحمد عباس صالح وصادق العظم وآخرين. ثم منهج العلمانية النزقة التي ظهرت مؤخراً بتحريضها على المقدس. واستخفافها بالدين والروح والغيب، ثم مدرسة التشيع وهي الأقدم في التاريخ.

ولو أريد لي أن أفصح عن ميل لمنهج أرجحه فليس سوى منهج طه حسين والمدرسة المصرية. وواقع الحال أن الحركات الدينية والسياسية في أيامنا هذه لم تخرج عن الفهم السلفي للتاريخ الخاص بها، فإذا كان السلفيون السنة يرون في الصحابة سلفهم الصالح، فالأئمة الاثنا عشر عند أهل التشيع هم السلف الصالح المقدس المعصوم. كما للاسماعيليين والزيديين سلفهم الصالح. وللماركسيين سلفهم اللينيني الماركسي الصالح ويحاول أصحاب المشروع القومي العربي أن يتفقوا على سلف صالح لهم.

ولو اعتنى هؤلاء القوم بميراثهم العربي الإسلامي الذي أغفلوه، لاكتشفوا في عمر بن الخطاب ما توصل إليه أبو عمرو الجاحظ في كتاب (العثمانية) وقد بدا له الرجل متعرباً. والمتعرب في لغة عصر الجاحظ هو محب العرب، والنافح عنهم كيد أعدائهم. ومانع السبي عن نسائهم. وراسم خارطتهم القومية الأولى. والمتعربون غير المستعربين، ولو كان دعاتنا متعربين لجعلوا عمر بن الخطاب سلفهم الصالح.

 

 

 

مستطـرف الرعية

هموم العقيدة والكينونة البشرية

 
 

احترام الكرامة الإنسانية

كان لعمر والٍ على الحيرة يكثر من الهزل، وقد حدث مرة، أن دعا رجلاً، فأمال عليه بالطعام والشراب، مادعا به، فمسح بلحيته، فركب الرجل من العراق إلى المدينة ليشكو عمر قائلا: لقد خدمت كسرى وقيصر فما أتى إليّ ما أتى في مُلكك. قال: وماذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلان فأملنا عليه بالطعام والشراب مادعا به، فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي. فأرسل إليه عمر، فقال: هيه؟ أمال عليك بالطعام والشراب مادعوت به ثم مسحت بلحيته؟.

والله لولا، أن تكون سُنَّةً ماتركت في لحيتك طاقة إلاّ نتفتها. ولكن اذهب فو الله لا تلي عملاً أبداً.

وأبلغ عمر أن قائداً عسكرياً كان يجمع رجاله ويطلب إليهم أن يخبروه بكل ذنب أذنبوه، وهم يعترفون بذنوبهم طاعة له، فقال عمر: ماله لا أم له يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً. 

وكتب عمر لرجل كتاباً بتعيينه والياً. فدخل الرجل عليه، فرأى بعض أولاد عمر في حجر أبيهم يُقبلّهم، فقال الوالي المرشح مستغرباً: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما قبلّت ولداً لي قط!. فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لاتعمل لي عملاً، وردّه، ولم يستعمله.. أي ألغى قرار تعيينه!.

وعزل قائداً عسكرياً أمر أحد جنوده أثناء فتح فارس بالنزول إلى النهر في يوم شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فتوفي  الرجل بعد دخوله الماء، وكان عمر يتجول في سوق المدينة حينما بلغه الخبر، فاستدعى أمير الجيش، ووبَّخه قبل عزله.

إعفاء المعيل من خدمة العلم:

أعفى عمر بن الخطاب المعيل الوحيد لأبيه من الذهاب إلى الجهاد إلا بموافقة أبيه، وكان قانون التجنيد الإلزامي العراقي قد أخذ بهذا المبدأ بإطلاق، واستمر العمل به إلى أن استلم السلطة الرئيس صدام حسين فعطّل هذا الاستثناء العُمري الخلاّب، ومازال العمل مستمراً به في نظام التجنيد الإلزامي السوري حالياً.

وملخص الرواية أن شاباً اشترك في فتوح الشام تاركاً والده كهلاً عاجزاً، فالتقى مع عمر بن الخطاب وقرأ له أبياتاً كتبها إلى ابنه خراش.

ألا من مبلـغ عنّي خراشـاً   وقـد يأتيـك بالنبـأ البعيد

ألا فاعلم خراش بأن خير الـ  مهاجـر بـعد هجرته زهيد

رأيتـك وابتغـاء البرِّدونـي                   كمخضوب اللبـان ولا يعيد

فتأثر عمر وكتب بعودة خراش إلى أبيه وأمر بأن لا يغزو من كان له أب شيخ الا بعد أن يأذن له.

أبو العيال يخاطبُ الذاهبين إلى الثغور:

" ولكم عليَّ ألاّ ألقيكم في المهالك ولا أجمركم " أي أبقيكم مدةً طويلة " في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث، فأنا أبو العيال. حتى ترجعوا إليهم "

ولأنه أبو العيال أصدر قراراً بنفي نصر بن الحجاج فاتن النساء، حرصاً على نساء المجاهدين. وهو يقول:

" لو سَلمني الله لأدفعنّ عن كل أرملةٍ بحيث لا تحتاج لأحدٍ بعدي."

والأرملة كما هو المعروف عندنا، هي من فقدت زوجها، وكانت المرأةُ في العصور التي صُنعت فيه اللغة العربية تلتصق بالرمال عَوزَاً وفقراً لفقدِ مُعيلها فيعلوها الرمل... و تترمل!

يجوع ما جاع الناس

اشفق عليهم بسّري وعلانيتي مااستمرأوا الترف وما رددوا اسم عمر، وهم سلاطين الحاضر، الذين يتدللون على الزمان كما اشتهت شهواتها قبُّ البطون وحام على قول القائل، فإذا حاربوا فقراء شعبهم شهروا، عليهم سيفاً ينسبون لعمر، وادعوا شهادة لا يحفظونها حباً لعمر ضد الخارجين عليه! وعمر ألصق بمن وقع عليهم سيفه المسروق، واسمه المنتحل، وإلاّ فما الذي يجمع المترفين بجانب من شخصية عمر، وهم يرفعون لافتة شد الحزام على البطون في سنوات الحصار والجوع وعمر يجوع ماجاع الناس ولا يشبع بشبعهم.

حدث بعدما اشتدت المجاعة أن جيء عمر بخبز مفتون بسمن، فدعا رجلاً بدوياً فأكل معه فجعل البدوي يتبع باللقمة الودك إلى جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك؟ وأجابه الرجل: أجل! ما أكلت سمناً ولا زيتاً ولا رأيت آكلاً له منذ كذا وكذا إلى اليوم. فحلف عمر لا يذوق لحماً ولا سمناً حتى يحيا الناس، وظل على هذا العهد حتى أذن الله فعاد المطر وزال عن الناس الجدب.

وقد كان جاداً في هذا العهد كل الجدّ. قدمت عُكّة من سمن ووطبٌ من لبن، فاشتراها غلام له بأربعين درهماً، وذهب إليه الغلام فقال له: قد أبر الله يمينك وعظم أجرك. قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن فابتعتهما بأربعين. قال عمر: أغليت فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافاً. وأطرق هنيهة ثم قال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.

قال عمر لرسوله الذي بعثه يلتقي عير الشام:" أما ما لقيت من الطعام فمل به إلى أهل البادية. فأما الظروف فاجعلها لُحفاً يلبسونها، أما الإبل فأنحرها لهم يأكلون من لحومها ويحملون من ودكها ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا. وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتى يأتي أمر الله بالفرج".

لم يبعث عمر جباته عام الرمادة ليقبضوا الزكاة، بل أخّرهم إلى أن ارتفع الجدب. فلما أطمأن الناس إلى العيش وكثرت عندهم مادته أمر الجباة أن يسيروا إليهم وأن يأخذوا من كل قادر حصتين: حصة عن عام الرمادة، وأخرى عن العام الذي بعده، وأن يقسموا إحدى الحصتين على المعوزين، ويقدموا عليه بالثانية. بذلك زاد في تخفيف الفقر عن الفقراء، ثم لم يرهق غيرهم ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به.

عزل المصابين بأمراض معدية

رأى عمر امرأة مجذومة تطوف بالكعبة فقال لها: يا أمة لو تقعدين في بيتك لا تؤذين الناس فقعدت فمرّ بها رجل بعد ذلك فقال: إن الذي قد نهاك قد مات فأخرجي فقالت: والله ما كنت لا طيعه حياً وأعصيه ميتاً.

أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر عاتكة بنت زيد طنفسة فرآها عمر عندها فقال: أنى لك هذه؟.

فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر فضرب بها رأسها حتى نفض رأسها وطلب الأشعري وأوتي به وقد أتعب وهو يقول: لاتعجل عليّ يا أمير المؤمنين.

فقال عمر: ما يحملك أن تهدي لنسائي ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: خذها فلا حاجة لنا فيها.

يحفظ عروبة المسيحي حتى لا ينفّره من الإسلام:

يقول محمد حسين هيكل في الجزء الأول من كتابه "الفاروق عمر" وإنما أصر نصارى بني تغلب على ألا يؤدوا الجزية إن كان في قومهم عزّ وامتناع يرون في أداء الجزية آية خضوع ومذلة لا تليق بهم ولا تتفق وما عرف الناس لهم من إكرام وكرامة. وكرامتهم وقوتهم هما اللتان جعلتا الوليد بن عقبة يريدهم على الإسلام ليكون لهم به قوة ومنعة. ولقد كان تشدد عمر معهم في أمر الجزية بادئ الرأي ثم قبول صدقتهم مضاعفة بعد مشورة الإمام علي بن أبي طالب، سياسة منه يحمد عليها، مع مخالفتها لموقف أبي بكر من أهل الردة، ومخالفتها لموقفه هو من أعدائه الأقوياء في فارس والروم. فبنو تغلب عرب، وكان عمر حريصاً على عزة العرب. ولئن أقام على نصرانيته منهم من أقام ليرجعن هؤلاء جميعاً إلى الإسلام ولو بعد حين. والرفق في هذا الموقف أبلغ. وقد دلت الأيام على حسن فراسة عمر وبعد نظره إذ نصرت تغلب المسلمين من بعد نصراً عزيزاً، وأيدتهم على أعدائهم في مواقف كثيرة.

لم يكتف عمر بقبول الصدقة من هؤلاء النصارى! بل رأى أن ما بينهم وبين الوليد بن عقبة من خلاف قد يدفعهم إلى إخراجه فيضعف صبره فيسطو عليهم. لذلك عزله عنهم وأمر عليهم فرات بن حيان كيما يطمئن إلى استتباب الأمن واستقرار الطمأنينة في ربوعهم. تم ذلك كله في السنة السابعة عشرة من الهجرة فتم استقرار السلطان للمسلمين بالشام من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.

عهد عمر إلى النصارى في بيت المقدس

" بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية ومن أحّب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم أن يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية". وختم عمر الكتاب بتوقيعه.

سفط نهاوند

عثر المسلمون في غنائم نهاوند على سفطين(*) مملوءين جوهراً نفيساً من ذخائر كسرى فأرسلهما حذيفة بن اليمان أمير الجيش إلى عمر مع السائب بن الأقرع، فلمّا أوصلهما له، قال:" ضعها في بيت المال، والحق بجندك".

فركب راحلته ورجع، فأرسل عمر وراءه رسولاً يخّب السير في أثره حتى لحقه بالكوفة فأرجعه.

فلما رآه عمر قال: مالي وللسّائب، ماهو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها، فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً؟ يتوعدوني بالكيّ إن لم أقسمها، فخذهما عنّي، وبعهما في أرزاق المسلمين. فبيعا بسوق الكوفة.

وبعد معركة نهاوند تسارع زعماء الفرس من همدان، وطبرستان، وأصبهان، وطلبوا الصّلح، وتمّ لهم ذلك على التوالي.

خضيراء الوالي

حذر النبي (ص) في واحدة من أبلغ صور الكلام العربي الرجال من الاطمئنان للمرأة الجميلة في منبت سيء قائلاً: إياكم وخضراء الدمن، وشاعت كلمة الخضراء في الدلالة على المرأة الجميلة الزاهية الجذابة المغرية التي تعيش في حمأة العفن، مثلها مثل العشب الأخضر الزاهي الذي ينبت عادة فوق المزابل والدمن فتنجذب الإبل إليه فإذا اقتربت من أنوفها عافتها الإبل لزفرة فيها.

أما الخضيراء عند عمر فهي الزوجة أو المرأة المدللة أو التي لها على زوجها تأثير وغنج. لقد بلغه أن زوجة مجاشع بن مسعود كانت تجدد بيتها أكثر من مرة فعّد ذلك من السرف والتبذير وربما دلَّ ذلك عند عمر على أن لمجاشع فضلاً من المال، فكتب إليه:

" بلغني أن الخضيراء تُحدّث بيوتها فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها ". أي تزيل الديكورات والإضافات التي أحدثتها الخضيراء.

فأتاه الكتاب وهو في مجلس فانطلق بالكتاب إلى داره ومعه بعض مجالسيه فهدموا ما جددته الخضيراء.

يمنع زوجاته من السياسة:

وكان عمر يمنع أزواجه من التدخل في شؤون الدولة. فعندما كتب على بعض عماله فكلمته امرأته فيه قائلة: يا أمير المؤمنين فيم وجدت عليه، أي ما الذي أغضبك منه؟.

قال: يا عدوة الله، وفيم أنت وهذا إنما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين. وفي رواية: فأقبلي على مغزلك ولا تعرضي فيما ليس من شأنك. ولعلي أقرب إلى تصديق الرواية الثانية، حيث يحدد عمر مهمة المرأة في ذلك الوقت أما أن تكون لعبة فهو مما لا يتوافق والذائقة العمرية. لكن الراوي أراد ألا يغال في عزل المرأة لأغراض الفراش، فيما عمر أعطاها المغزل ويعني به الوظيفة الإنسانية وليس التحديد. وهو القائل: والله لئن سلمني الله لادعّن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي أبداً.

ويستمع إلى امرأةٍ برزت على ظهر الطريق، وهو خارج من المسجد، فسلم عليها فردت عليه السلام، وقالت: ياعمر. عهدتك وأنت تسمى عميراً بسوق عكاظ تذعر الصبيان بعصاك فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر. ولم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين. فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد.

فقال جارود العبدي وكان مرافقاً لعمر: أكثرت  يا امرأة على  أمير المؤمنين.

فقال عمر: دعها. أما تعرف هذه؟ هذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها فوق سبع سنوات. وعمر أحق أن يسمع لها وكان يشير إلى آية كريمة نزلت فيها:

 )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها(.

يمنع التشهير بشارب الخمرة

قضى أبو موسى الأشعري والي البصرة على رجل شرب الخمرة بضربه وتسويد وجهه والتطواف به في المدينة، ونهي الناس أن يجالسوه. فأوشك الرجل أن يهم بقتل الأشعري، لكنه رأى من الحكمة أن يتوجه إلى المدينة ليشكوه عند عمر، فقال عمر للمشتكي:

إن كنت ممن شرب الخمر فلقد شرب الناس الخمرة في الجاهلية، وأمر له بكسوة ومائتي درهم. وكتب لأبي موسى الأشعري بأن يأمر الناس ان يجالسوه ويخالطوه، حتى قبل التوبة فإذا تاب فاقبل شهادته.

وكانت الخمرة قد شاعت في المجتمع أثناء الفتوحات. وهي مشكلة جعلت عمر في أول قضاء شرعي لحد الشارب، أن يعقد مجلساً يستفتي به الصحابة حيث لم تُحَدّ شارب الخمرة لا في زمن الرسول ولا في ولاية أبي بكر، فاقترح الإمام علي حده بثمانين جلدة، وهذا هو حد القذف. إذ اعتبر الإمام كل شارب خمرة خارجاً عن إرادته فاقداً للسيطرة على عقله ولسانه فيأخذ بالشك والقدح والقذف.

إن القضاء عند عمر يفرق بين الحد القانوني للعقوبة، وبين التشهير باعتباره مساساً مباشراً بكرامة الإنسان.

ينفي الوسيم البطران!

سمع عمر، وهو في العَسِّ، امرأة تتغنى ببيت من الشعر، عن فتى يدعى النصر بن حجاج، ولو أن الله أعطاها رجلاً على تمامه!.

وفي اليوم التالي استفسر عمر عن هذا الاسم، وأمر باستدعائه فشخص الفتى أمامه وهو على جانب من الوسامة، فسأله عن عمله، ولما أيقن أن الفتى بطران، يعتاش من العطاء، ويتجول في حارات المدينة. وكانت أوصافه أقرب إلى وسامة المغني الأمريكي الشهير " إلفس برسلي"، قضى عمر بحلاقة شعره المتهدل. فإذا به أكثر وسامة !.  فقرر نفيه إلى البصرة، ليكون قريباً من ثغور المجاهدين، بعيداً عن نسائهم اللائي قد يُفتنَّ به، ولم يوافق عمر على توسلاته بالعودة إلى المدينة قائلاً:

 أما وأنا حي... فلا!.

ولا ندري إذا ما أعاده عثمان بن عفان في خلافته، مع من أعيدوا من المطرودين إلى المدينة؟.

إن قصص عمر وحركته واجتهاده، تكسر القول بوحدة الصحابة، وتمنحه فرادة هي مزيج من صلابة المعتقد، وانفتاح الحياة، وطول التجربة، والشجاعة في الرأي،.. والإلهام الخاص، والحرص على مصالح الناس.. وامتلاك المزاج الجميل. 

ينزع ثياب الحيطان

في زيارته إلى الشام دخل عمر إلى بيت أحد ولاتِهِ هناك يزيد بن أبي سفيان، فرأى قماشاً يتدلى على الحائط، فاستغرب أن تلبس الحيطان ثياباً زاهية من مصنوعات حلب أو دمشق، فاتجه إليها قبل أن يأخذ مكانه في الجلوس وشرّعَ يُقطع أوصالها

قائلاً: "ويحك أتلبس الحيطان ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحرِ والبرد".

يفضل لغة الصحافة:

وأنت تصغي لرواية عن عمر تطوي القرون والتواريخ، فتراه على شاشة التلفزيون قاضياً يتحدث في الحقوق الدستورية للمتهم، وداعية اشتراكياً مهموماً بالمسحوقين، وتراه قائداً عسكرياً يشرح على خارطة الحائط حركة الفيالق ويؤشر على منافذ التسلل خطوط الرجعة. أمّا أن يفرق هذا الرجل بين مفهوم الأديب ووظيفته والصحفي ووظيفته بما يلتبس الأمر علينا في عصر الثورة الإعلامية والانترنت، فهو الصدمة لي شخصياً كوني أمتهن الصحافة.

تقول الرواية:

إن رجلاً يدعى صحّار العبدي بُعِثَ إلى عمر عندما فتح المسلمون أرض مكران في بلاد فارس، فوصله مع أصحاب الغنائم. وكان من عادته أن يسأل القادم من الأرض المفتوحة عن أهل تلك البلاد وعاداتهم وطبيعة الأرض، وكيف يعيش العرب خارج الجزيرة. فانطلق العبدي قائلاً:أرضٌ سهلها جبل. وماؤها وشل. وثمرها دقل(*).  وعدوها بطل. وخيرها قليل وشرّها طويل. والكثير فيها قليل. والقليل بها ضائع وما وراءها شرٌ منها.

فقال عمر: أسجَّاع أنت أم مخبر؟. أجابه: بل مخبر!.

والسجاع هو الخطيب الذي يتحدث ساعة قبل أن يصل إلى البضاعة، فيأخذه السجع وينسيه التحليل العلمي، أو الوصف الطبيعي للأشياء وهذا فعل الصحفي الذي عرفه عمر آنذاك ومن نسميه اليوم بالمندوب المحلي والمخبر في الجريدة.

لقد أستكثر عمر على المتحدث خروجه من الواقع إلى البلاغة. وطالبه بأن تكون لغته مثل محرر الأخبار المحلية في وكالة الأنباء العراقية سابقاً.

فكتب عمر إلى أمير الجيش أن لا يجوز مكران وأن يقصر إلى مادون النهر.

جرائم الجنس في عهده..

أحصينا لدى محمد الصلابي  في كتابهِ العمري الجامع المانعَ خمساً وعشرين جنحةً وجناية من هذه التي تنشرها الصحافة العربية عن سجلات الشرطة اليومية في أيامنا هذه وهي تعكس جانباً من حركة الجريمة اليومية في عهد عمر خلواً من جريمةٍ سياسية لأن تعاليم الخليفة لم تتحدث عن حظر النشاط السياسي أو مراقبة الناشطين، فَلم يُسجن أو يعاقب شخصٌ يحتفظ برأي مخالف لرأي الحكومة، ولم تُراقب حركة أبي لؤلؤة مما سهّل له فعلَ الاغتيال المشين على تلك الصورة السهلة.

ومن بين (25) حادثة مسجلة احتلّ الجنس المرتبة الأولى واستقلّ بإحدى عشرَ قضية يشكلُّ الزنا محورها الأساسي أو أن تتصل بقضية زواج غير شرعي، وتشير الحالات المدونة إلى مفارقات جريئة لا يملك القارىء المعاصر إلاّ أن يقدرَ الأمانة العلمية والصحفية للمؤرخين العرب، الذين لم يغفلوا تدوينَ أخبار الزنا ولو كان المتهم بها صحابياً كالمغيرة بن شعبة.

إن أخبار الجنس في عصر الصحابة في الكتب الإسلامية لا تُوردُ إلاّ إذا كان المتهم قد أخذ حكم البراءة فيما تُسِرفُ مناهجُ البحث الأخرى في استعراض تفاصيل الجرائم الجنسية بما يُخرجها من التاريخ إلى التشهير السياسي.

من طرائف هذا السجل أن امرأةً قد تسرّت بغلامها أي عاشرته المعاشرة الزوجية فلما سُئلت قالت، أليس الله يقول ما ملكَت أيمانكم فهذا مُلك يميني.

ورُفع الأمر إلى عُمر فقال لها: لا يحلُّ لكِ ملكُ يمينك.

وفي رواية أخرى: وفرّق بينهما وجلَدَها مئةَ جلدة تعزيراً لا حدّاً  واسقط عنها الحد لجهلها بالتحريم.

ومعروف شرعاً أن الرجل وَحدَه له حق التسري والمعاشرة الزوجية مع ما ملكت يَمينُهُ من النساء.

والذي يبدو أن هذه المرأة أرادت أن تتساوى في هذا الحق مع الرجلِ. ولا أظنها جاهلةً مادامت أشارت إلى النص.

وأوتي عمر بمجنونةٍ قد زنت فاستشار الناس فأمر بها أن ترجم لكن القدر أنقذها عندما مرّ بها الإمام علي بن أبي طالب، فقال: ارجعوا بها وقالَ لعمر أما علمت أن القلم قد رُفع، فذكر الحديث وفي أخره قال عمر بلى، فقال الإمام علي ما بال هذه تُرجم. فأرسلها وجعل عمر يُكبّر، لكنّه أي عمر صَلَبَ رجلاً غير مسلم اغتصب مسلمةً واستكرهها على الزنى.

وكان عمر لا يُعاقب المُستكرهات على الزنى. وقد أُتي بنساء من إماء الإمارة استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء. 

وتدخل الإمام علي مرةً أخرى فأنقذ متهمةً بالزنى كانت استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكنه من نفسها ففعلت، ورُفع أمرها إلى عمر فقال لعلي: ما ترى فيها يا أبا الحسن.

قال الإمام: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً  وتركها.

وكما يتزوجُ الرجلُ أكثر من واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ، تزوجت امرأة رجلاً على زوجها وقد تكتمت على زواجها فرجمها عُمر ولم يَرجِمُ الزوج لعدم عِلمِهِ بزواجها.

الجنس والمشاهير:

كما تطارد عدسات المصورين حتى الموت زوايا الحياة الخاصة بالمشاهير لتنشر أخبارهم الشخصية مكبّرةً بمانشيت عريض في صحف التابلويد الفاضحة. كانت عيون الرواةِ تُحصي على مشاهير الصحابة ومجتمع المدينة عثراتِ القدم وشطحات اللسان ولو حدَثَ ما هو أفضحُ لغيرهم تُسِترَ بالإهمال وعدم الاكتراث.

وبأسباب تتصل بثراء الفتوحات واتساع المجتمع وتلون أطيافه، أُثقل هذا العصر بقصص الجنس والمشاهير مما التقطه مؤرخون محترفون ثقاة كالطبري والبلاذري وابن الأثير ولو كان الملقوط صحابياً أو قائداً عسكرياً بحجم خالد بن الوليد  والمغيرة بن شُعْبَه.

فماذا كان موقف عمر من قصص الجنس في عهده؟

تبدو لي أن سياسته تشبه السياسة البريطانية والأوربية بشكلٍ عام حالياً باعتبار الحديث في أسرار الحياة الشخصية مُباحاً عندهم إذا كان صاحب القِصة ممن يعملُ في الخدمة العامة كالرؤساء والأمراء والوزراء ورجال الأعمال. ويُحرّمُ الحديث في هذه القصص إذا شملت ناساً بُسطاءْ من عامة المجتمع.

وبهذا يمكن أن نخلص إلى حل الإشكال بين موقفين لعمر: أحدهما ينحو منحى الإشهار وإقامة المحاكمة وتنفيذ الحكم. وآخر هو الإستار وقد عزل والياً على مدينةٍ صغيرةٍ حين بلغه أنه كان يَجمعُ الجندَ ويطلب إليهم الكشف عن أسرارهم الخاصة وما يفعلونه وراء الكواليس. فقالَ له عمر: أتكشف ما ستره الله؟

وفي حادثةٍ أخرى عرضَ عليه رجل قصة ابنته التي جنحت والموقف منها وبعد أن فصّل له الرجلُ فروعَ القصة فَرَدَعُه قائلاً: أتكشف ما ستره الله: انكحها نكاح  العفيفة.

ولا ينبغي أن يُفهم من كلامنا أن عمر كان يتساهل مع الجريمة الجنسية. إنّه إنما يمنع الإشهار وتداول الخبر الجنسي، لكنه لا يسكت عن جريمةٍ جنسية.

وفي السياق ذاته يورد الفقهاء مسائل الجنس في كتبهم إلى حدّ طغيانها على مسائل الحقوق المدنية والسياسية في المجتمع الإسلامي، مما أنكره الإمام الخميني على فقهاء عصره احتجاجاً على انشغالهم بما اسماه بقضايا الحيض والنفاس.

وتُدرس جرائم الجنس في كتب القضاء الإسلامي وما صدر فيها من أحكام.

أربعة خلفاء وأربع دعاوى:

وجد الخلفاء الراشدون الأربعة أنفسهم أمام إشكال قانوني سياسي إزاء متهمين بالقتل، فماذا عليهم أن يفعلوا إزاءهم، وكان أي منهم يواجه من شركائه الصحابة رأياً مختلفاً.

إن عمر بن الخطاب كان مصراً على معاقبة خالد بن الوليد المتهم بقتل مالك بن نويرة، لكن الخليفة أبو بكر رأى غير ذلك فقبل تبريراً لخالد لم يقبله عمر، ومازالت التهمة ملتصقة بابن الوليد في كتابات جميع المؤرخين عدا أصحاب المنهج السلفي، لكن عمر يواجه إشكالاً مماثلاً مع الهرمزان القائد الفارسي الذي غدر بعد إعطائه الأمان، ثم ألقي القبض عليه وهو متهم بقتل اثنين من الصحابة فعرض إسلامه الهش فقبل به عمر.

أما عثمان فهو الآخر يواجه في اليوم الأول لاستخلافه مشكلة عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان ورجلاً مسيحياً وابنة أبي لؤلؤة. وكان رأي بعض الصحابة ومنهم علي بن أبي طالب أن يقتل عبيد الله بهم. فعفا عثمان ودفع الدّيات من جيبه وكانت تلك بداية مشكلة مع عبيد الله ضد الإمام علي الذي كان يصر على معاقبته كإصرار عمر على معاقبة ابن الوليد، وترسم المقادير وضعاً مماثلاً لوضع عثمان عندما استخلف الإمام علي بعد مقتل عثمان فطالبه الصحابة بقتل قاتله، والمتهم هذه المرة هو محمد بن أبي بكر، فالتبست الأمور واشتبكت الآراء قبل اشتباك السيوف في معركة الجمل وماتلاها من انشقاق معاوية على مركز الخلافة.

العفو عن الهرمزان:

لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة، ومعه رجال من المسلمين، منهم الأحنف بن قيس، وأنس بن مالك، فأدخلوه المدينة في هيئته وتاجه وكسوته، فوجدوا عمر نائماً في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: ها هو ذا، قال: أين حرسه؟ قالوا: لا حاجب له ولا حارس. قال: فينبغي أن يكون هذا نبياً، قالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء. واستيقظ عمر، فقال: الهرمزان؟ فقالوا: نعم، قال: لا أكلمه أو  لا يبقى عليه من حليته شيء، فرموا ما عليه، وألبسوه ثوبا صفيقاً، فلما كلمه عمر، أمر أبا طلحة أن ينتضى سيفه ويقوم على رأسه، ففعل. ثم قال له: ما عذرك في نقض الصلح ونكث العهد؟ - وقد كان الهرمزان صالح أولاً – ثم نقض وغدر – فقال: أخبرك، قال: قل، قال: وأنا شديد العطش! فاسقني ثم أخبرك. فأحضر له ماء، فلما تناوله جعلت يده ترعد، قال: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أمد عنقي وأنا أشرب فيقتلني سيفك. قال: لا بأس عليك حتى تشرب، فألقى الإناء عن يده، فقال: ما بالك؟ أعيدوا عليه الماء. ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش، قال: إنك قد أمنتني، قال: كذبت! قال: لم أكذب، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قال: ويحك يا أنس! أنا أومن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتيني بالمخرج أو لاعاقبنك، قال: أنت يا أمير المؤمنين قلت: لابأس عليك حتى تشرب. وقال له ناس من المسلمين ذلك فأقبل على الهرمزان وقال خدعتني والله لا أخدع إلا لمسلم فأسلم فعرض له على ألفين أي خصص له راتباً وأنزله المدينة. 

  

 

ســياســته العـلـــويــة

التأسيس المشترك والإدارة الجماعية .

وأهل البيت على الراس



 

علي المؤسس لا المستشار:

بنوايا بيضاء ورغبة مخلصة لتوشيج النسيج الإسلامي يكتب محمد الحاجي مؤلفه علي بن أبي طالب مستشار أمين للخلفاء الراشدين. وبذات النية والهدف والاتجاه يكتب الدكتور الفقيه محمد سعيد رمضان البوطي عن التعاون المتميز الصافي بين عمر وعلي، فيقول: " إن الإمام علي هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات وما اقترح علي على عمر رأياً إلا واتجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة ".

ويستعرض الدكتور علي محمد الصلابي في مفصله عن عمر بن الخطاب جوانب من هذه الاستشارات الكبيرة منها والصغيرة.

وفي تذوق لغوي وذائقة تاريخية وسياسية لا أجد في مصطلح المستشار إلا ماتعافه نفسي، أما أن يكون أولاً فليس ذاك عندي سوى أن جعلنا من الإمام علي واحداً من عشرات المستشارين. وهو ما تستنكره سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري ومروج المسعودي. فالمريد الراضع حليب القرآن في يوم مولده والمولود في رحاب الكعبة والفتى والسيف والجذر والصهر والإمامة وبيت النبوة في بيته ليس موظفاً تحت الطلب يحتاج إليه في يوم وينسى شهراً أو شهوراً.

لم يكن مركز إدارة الصراع العالمي الذي تأسس في المسجد النبوي، والمدينة عاصمة العالم الجديد، دائرة حكومية فيها رئيس ووزراء تنفيذيون وجملة مستشارين ممن لم يلصق بهم اللقب إلا لعجز في القدرة على القيادة أو لبطالة.

لا نشك أن مصطلح المستشار المستخدم في الكتابات المتأخرة عند التوفيقيين أو في المدرسة السلفية إنما يراد به الردّ على فريق من المسلمين  القائلين باعتكاف الإمام علي في حجرة واصّرارهم على أخذ الإمام علي إليها ليعلن القطيعة الكاملة ليس فقط بين علي وعمر وعلي ودار الخلافة، بل بين علي ومركز إدارة الصراع الجديد وإخراجه من دائرة الصراع، فيقول العلامة السيد كاظم القزويني في كتابه (الإمام علي من المهد إلى اللحد) إن الإمام علي كان جليس البيت منذ وفاة النبي إلى ظهور اسمه في هيئة الشورى، الذي أوصى به عمر قبيل وفاته عام 23 للهجرة.

وليس هذا من المقطوع به عند جميع فقهاء التشيع، فالعلامة المؤرخ هاشم معروف الحسني في كتابه (سيرة الأئمة الاثني عشر) يقول غير هذا ويرى أن أية معارضة لم تصدر من الإمام علي على خلافة عمر لا في القول ولا في الفعل، وهو ذاته ماقال به المرجع الشيعي الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه (أصل الشيعة وأصولها).

ومرجع ماذهب إليه القائلون بمصطلح المستشار أن آلية إصدار القرار في ولاية عمر تعتمد على مبدأ الشورى الذي توسع به الخليفة الثاني بالمقارنة مع ولاية أبي بكر وولاية عثمان بن عفان. فلم يوسع أبو بكر فيها حرصاً على أن لايخرج عما سار عليه النبي (ص) قبله.

ولكون عثمان قد أحيط بمستشارين من المسلمين الجدد القادمين من الفرع الأموي فلم يعد قدماء الصحابة يجدون في مجلسه ماكان متوفراً ومتاحاً لهم في شورى عمر. وقد يكون مصطلح المستشار اشتقاقاً لغوياً غير سليم عن مصدر الشورى إذ لا يُدعى عضو الشورى مستشاراً ولم تستخدم حتى الآن صيغة اسم الفاعل لهذا المصدر.

وفي الشورى مشاورة ومناقشة في مجلس يتساوى فيه الأعضاء في المكانة النوعية كمنتخبين والكمية كأعداد في التصويت، وإن كانت آلية عمر في الشورى تميل إلى الترجيح وليس إلى التصويت.

وبسبب ثقل الإمام علي واتساع خبرته وعمق صلته بالإسلام وتفرغه الأكاديمي لدراسة القرآن والحديث الشريف في فترة اعتكافه بعد مبايعة أبي بكر، والتي استمرت ستة أشهر فقط، فيما أحالها فريق من المسلمين إلى قطيعة مازالت قائمة حتى يومنا هذا، كان رأي الإمام مرجّحاً والمقترح الذي يشير به إلى عمر كما يقول البوطي مقبولاً عند عمر عن قناعة.

كان الشريف الرضي فقيهاً وشاعراً معاصراً لأبي العلاء المعري ومن أحفاد الإمام موسى الكاظم يجيز العمل مع السلطان، ولا يرى في الدولة العباسية دولة غصبية أو مغتصبة، خلافاً للسائد الشيعي.

ويشترك معه شقيقه الشريف المرتضى في هذا الرأي، وكانت لهما صلة طيبة مع دار الخلافة أعادت إلى الأذهان الأيام العمرية – العلوية.

لكن الشريف الرضي لم يستسغ في أعماقه أن يكون أقل من الخليفة شأناً ومكانة مع أنه لم يكن الإمام ولا الفقيه الأول فخاطب الخليفة ذات يوم بقصيدة تبدو لي الآن وكأنها تنقّط على معجمات الحروف في مصطلح الاستشارة والمستشار.

عطفاً أمير المؤمنين فإننا          في دوحة العلياء لا نتفّرق

وكلاهما الرضي والخليفة في المعالي معرّق. لكن الرضي حرّ مطلق من مسؤولية الخلافة والخليفة مطوقاً.

ولا يكون المقبول في علاقة الإمام الأول علي بن أبي طالب بعمر بن الخطاب بأقل من مقبول علاقة الشريف بالخليفة.

في يوم السقيفة:

عمر منع الفراغ وعلي منع الانشقاق

هل أوصى النبي (ص) للإمام علي من بعده في غدير خم، وهو حديث توثقه المراجع الإسلامية الأولى عند الفريقين، ويختلفون فيه على حدود الولاية وكيفية التعامل مع خبر الولاية في كتاب عن عمر والتشيع وما بين الاثنين خلاف على النص هو الأصل في ظهور التشيع عند بعض المؤرخين؟.

وما الموقف في قول عمر في النبي (ص) حينما حضرته الوفاة وطلب أن تدون له وصية (انه ليهجر)؟.

وما الموقف من السقيفة؟.

أما إيراد الروايات فلا يزيد الحديث معلومة جديدة على المتداول في أروقة السجال منذ وفاة النبي (ص) حتى اليوم.

وإذا كان مؤرخو الإسلام وفقهاء وأئمة المذاهب لم يتوصلوا إلى اتفاق مشترك فهل سينتهي السجال بما يقوله كاتب لم يخرج من ضلع الحوزة ولا دخل الدرس في مشيخة الإسلام ولا وضع نفسه في مشتجر الخلاف؟.

السبيل الأسلم أن نتعامل مع تلك التساؤلات والأحداث والسجالات بطريقة الإمام علي، الذي تتحدث الروايات عن اعتراضه واحتجاجه وعدم ذهابه إلى بيعة أبي بكر فدخل في القطيعة فعلاً ستة شهور قرر في نهاية الأمر أن لا يكون أوائل بناة مشروع الدولة الإسلامية سبباً في تقويضها وهي مهددة بارتداد قبائل العرب، حتى لم يبق مع مركز الخلافة سوى الأوس والخزرج وقريش وثقيف، فأنهى الإمام شهور القطيعة وقرر البدء بمرحلة المشاركة في العملية السياسية قائداً بارزاً واسماً لامعاً في تاريخ التأسيس الإسلامي الأول.

وفي فترة احتجابه سيطر الإمام علي على مستوى لدرجة الاحتجاج لا يتحول فيه الخلاف إلى معارضة والمعارضة إلى حركة مسلّحة خلافاً للمألوف العربي الطويل وتقاليد المعارضة والاحتجاج، التي كانت لا تضع حواجز بين الرأي والخلاف والخلاف والتعبير المسلح عنه، فلم يكن ثمة برلمان تتحادث داخله المعارضة، ولا صالة يجتمع إليها السلطة والمعارضة، والقاعدة العربية المعمول بها في تاريخ العرب والمسلمين أن الاعتراض السياسي ينتهي في أقصر زمن بالاحتكام إلى السيف. وقومي تميم والفلاة ورائيا.

خرج الإمام علي على تقليد سائد في اللجوء إلى قوة السلاح أو حتى إلى حجج اللسان، فأحال شهور القطيعة الستة إلى معتكف علمي لدراسة القرآن ومراجعة الأحاديث النبوية وترتيب الأوراق والأولويات وأوراقه الشخصية وتنشيط الذاكرة وتسجيل شهادته في أسباب النزول، فأسست في شهور القطيعة الستة لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين ظاهرة السياسي المثقف والخليفة الفقيه ومن يسمى الآن آية الله أو المرجع الدستوري في الدولة. فجددت تلك المرحلة عشرين عاماً من التلمذة الروحية لمريد النبي (ص) والتربية العائلية لربيب ابن عمه والمشاركة اليومية في حياة داخل مسكن واحد فكبر مقامه الكبير في نفوس المسلمين وأضيفت لنفوذه الروحي أسباب الورع والزهد والبعد عن النَفَس في الرياسة وتعالٍ عن الخلاف، ولم يكن لرجل بدور الإمام في بناء الإسلام إن يبتعد في القطيعة إلى أكثر مما انتهى إليه قراره. وكان من الطبيعي أن يكون أصحاب الإمام وهم من رجال الصحبة الأوائل قد بايعوا معه ومعهم الهاشميون الذين لم يباعوا بعد، ولم يقاطع أي من أصحاب الإمام وبني هاشم مركز الخلافة، واندمجوا في الدولة الجديدة ولاةً وقادةً وأمراء مابين البصرة والكوفة والمدائن.

كانت سابقة للإمام علي قد تبدو فريدة في التقاليد السياسية للخلاف في الدولة الإسلامية، حيث لم يلجأ إلى الثورة ولا إلى شيء من التنظيم السياسي لحزب معارض فاعتمدت الشيعة الأمامية بعد مقتل الإمام الحسين ذلك نظرية عمل مقابل فريق شيعي آخر تزعمه الإمام زيد بن علي بن الحسين، وكان تواصلاً للطريقة العربية في ربط المعارضة بالثورة التي عبّر عنها الإمام الحسين في معركة الطف بكربلاء.

لابد أن اتجاهات داخل الفرع الأمامي كانت في وضع حرج بين إعلان المصالحة والمشاركة حيث تصالح الإمام علي وبين فكرة الخروج على الخلافة إلى الثورة المسلحة في النظرية الزيدية، فتكون قد خرجت على شروطها، ولم تحتمل تلك الاتجاهات رؤية الإمام علي في المسجد النبوي إلى جانب أبي بكر وعمر وأبي ذر وسلمان وعمار بن ياسر ومعهم صحابة قادمون من المعسكر السفياني، الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة، استفادت تلك الاتجاهات من انقطاع الإمام علي في الشهور الستة الأولى عن مركز الخلافة لصياغة نظرية القطيعة المستمرة ورفض المروي عن تصالح الإمام مع مركز الخلافة واستبعادها أن تكون علاقة الإمام حسنة مع عمر بن الخطاب الذي يحّمله ميراث التشيع الرسمي مسؤولية عدم الأخذ بحديث الغدير ومنع النبي (ص) من تدوين وصيته وأخذه بيعة أهل السقيفة لأبي بكر ومهاجمة بيت الإمام علي وكسر ضلع الزهراء وإسقاط جنينها.

حدث ذلك في يوم واحد، وهو اليوم العمري عند فريق الأغلبية من أهل التشيع المكرر كل يوم والموجود في التاريخ والمنقوش في الذاكرة والموروث للأجيال. هو ليس يوماً في التاريخ، إنما اليوم الذي ألغى التاريخ، فخرجت حركة ذلك اليوم عن كونها فعلاً سياسياً وخطة قرشية إلى البعد المعياري المقدس الذي تجرب على ضوء القبول به ورفضه نوايا الأتباع واختبار الحقائق، ودخل مصطلح السقيفة أو يوم السقيفة وأهل السقيفة في المعجم السياسي للتشيع بما يفقد المكان دلالته المكانية إلى دلالته المعيارية، ويكتسب ميكافيلية مبكرة معجونة بالكيد والإصرار على التآمر والاتفاق على استلاب الحق وانتهاك المقدس النبوي. ولهذا كان السؤال الأكثر إحراجاً عند السائل يصوّب نحو كاتب السطور من موقفٍ عند السقيفة ستتبناه هذه السطور، وكيف سيكون الموقف الشرعي إزاءه وإزائي؟. 

أما جوابي فليس معقداً وليس فيه من الإحراج ما يجعل الخروج منه صعباً.

وسيكون التعامل مع مصطلح السقيفة بطريقة سياسية واقعية، والسقيفة مكان غاب عنه المقدس، وهي فعل بشري خالص، لكنها يوم التأسيس الثاني للدولة الإسلامية بعد اليوم الذي أعلن فيه النبي (ص) نزول الوحي وليس مهماً، أمام مشروع دولة ناهضة وكبرى، من سيكون الرجل الأول في السلطة سواء كانت البيعة لسعد بن عبادة أم لعلي بن أبي طالب أم لأبي بكر مادام مؤتمر السقيفة سياسياً لم يأت به قرآن ولاحديث نبوي ولاسنة ولاسابقة.

وأظنه موقفاً مشتركاً للمؤرخين والكتاب والعاملين في السياسة العربية، الذين هم خارج ميدان الخلاف الفقهي في موضوع الولاية نصاً كانت أم انتخاباً. وعندهم أن السقيفة يوم تقرر فيه مواصلة العمل في مشروع الدولة فلم يؤد الخلاف إلى انشقاق مسلح وانقسام بين أتباع وأتباع وظهور إمامين أو خليفتين .

والسؤال الذي يوّجه من كاتب السطور إلى سائليه، لو أن الإمام علي بن أبي طالب ذهب إلى اتخاذ قرار بإعلان خلافته وحوله صحابة مؤيدون وأتباع، وحدث الانشقاق المسلح، هل كان ليوم السقيفة أن يواصل بين مرحلتين رحل النبي فيها عن الأولى وبدأت الثانية متصلة بالأولى، دون فراغ في السلطة والإدارة؟.

أقول.. إذا كانت براعة عمر بن الخطاب، التي سأتحدث عنها في صفحات لاحقة قد سجلت ليوم السقيفة أن يملأ الفراغ، فالذي منع الانشقاق وحال دون الانقسام هو الإمام علي بن أبي طالب الذي أكتفى بالاحتجاج العلمي والعيش مع البحث العلمي في القرآن وإلى جانبه زوجته بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أكل الحزن جسدها النحيل فلم تقاوِم سوى تلك الشهور لتبقى حيةً، وقد فارق والدها الحياة.

إن الإمام علي رافض الانشقاق، ولم يكن من روافض خلافة الشيخين.

الفقه المشترك

 يقول محمد حسين هيكل: جاءوا إلى عمر يوماً بامرأة، وأقرت، فأمر برجمها. فقال علي بن أبي طالب: لعل بها عذراً؟.

ثم قال لها: ماحملك على ما فعلت؟ قالت: كان لي خليط، وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا. فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد، فسقاني. فقال علي: الله اكبر!. (فمن اضطّر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم). وفي السنن للبيهقي عن أبي عبد الرحمن السلمى أن عمر أتي بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستسقت فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها فقال علي: هذه مضطرة أرى أن تخلى سبيلها، ففعل.

وروى أن غلمانا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم. فلما ولّى رده ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، لقطعت أيديهم.

ثم قال: يامزني، بكم أريدت منك ناقتك؟. قال: بأربعمائة. قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة، وأعفِ الغلمان السارقين من الحد، لأن حاطباً اضطرهم إلى السرقة لجوعهم وحاجتهم إلى سد رمقهم.

ومن صميم الفقه الذي واجه به عمر التطور الجديد في الحياة العربية اجتهاده في تفصيل ما لم يرد عنه نص صريح في كتاب الله، فقد وضع القرآن نظاماً للتوريث لم يكن معروفاً قبل الإسلام، وفرض لكل ذي حق من الورثة حقه. على أن من التفاصيل مالم يكن عليه نص في هذا النظام. وقد رفعت لعمر مسائل أخرى لم يكن عليها نص في كتاب ولا سنة، فلم يكن بد لحلها من اجتهاد الرأي.

من ذلك المسألة المعروفة بالمسألة العمرية، أو المسألة الحجرية، فقد قسمت تركة فأصاب أخو المورث لأمه فرضه، ولم يبق لأخي المورث الشقيق ما يرثه. فلما رفع الأمر إلى عمر أفتى بأن الأخ الشقيق أخ لأم وأخ لأب معاً، فليس من الإنصاف أن يحرم لأنه شقيق، ولذلك قال: هبوا أباه كان حجراً، وفي رواية كان حماراً، وورثه من التركة على أنه أخ لأم يشترك مع غيره من الإخوة لأم.

وقد واجه عمر الشيء الكثير من مشاكل الميراث بعد طاعون عمواس بالشام، فقد هلك ألوف بهذا الطاعون، وتداخلت مواريثهم تداخلا كان يشغل دور القضاء في أية أمة. وكان مما صنعه أن قسم المواريث فورث بعض وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم. وتستطيع أن تتصور الدقة في هذا الأمر، وما يمكن أن يثور بسببه من نزاع. وليس من غرضي أن أفصل شيئاً من ذلك، وإنما أشير إليه تنويهاً باجتهاد عمر في مشكلة عويصة حلها في أسابيع حلا رضيه المسلمون جميعاً مع تعلقه بمنافعهم الخاصة، وهذا دليل بالغ وحجة على أن الناس يطمئنون إلى اجتهاد الرأي ما قام على أساس عادل نزيه.

أنتقل الآن إلى مسألة كان اجتهاد عمر فيها متأثراً بسياسته العامة لأمور الإمبراطورية الناشئة، وبحرصه على مواجهة أطوارها الجديدة،وكان له أثره في ازدياد رقعتها فسحة وسعة، ذلك اجتهاده في شأن الأرض التي فتحت عنوة بالعراق والشام.

وقد رأيت المسلمين في العراق والشام انتصروا بالقادسية، وفتحوا المدائن وجلولاء وحمص وحلب وغيرها من المدن وغنموا منها، فكان ما غنموه يفرز خمُسه ويرسل إلى أمير المؤمنين، وتقسم أربعة أخماسه بين الجند المنتصرين، وذلك عملاً بقوله تعالى: " واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل "(*). فلما فتحوا أرض السواد بالعراق أرادوا قسمتها على هذا النحو، يكون خمسها لبيت المال، ويقسم سائرها بين الجند الذين اشتركوا في فتحها. وخالفهم عمر عن رأيهم في قسمة الأرض، وقال: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قسمت وورثت عن الآباء وحيزت! ما هذا برأي. قال عبد الرحمن بن عوف: ما الأرض والعلوج إلا ما أفاء الله عليهم! أي على الفاتحين ورد عليه عمر: ما هو إلا كما تقول، ولست أرى ذلك، والله ما يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلاّ على المسلمين. فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها فماذا تسدّ به الثغور ويكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق!.

لم يسترح الفاتحون إلى قول عمر، فأكثروا عليه، وقالوا: أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا! أما عمر فأصر على رأيه، ولم يزد على أن قال: هذا رأيي، فلما رأوا إصراره عليه قالوا: فاستشر. فجمع المهاجرين الأولين فاختلفوا: بقى عبد الرحمن بن عوف على رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، ورأى عثمان وعلى وطلحة رأى عمر. وأرسل عمر إلى عشرة من كبراء الأنصار وأشرافهم، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج وقال لهم:" إني لم أزعجكم إلا لتشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تعبوا هذا الذي هو هواي، فلكم من الله كتاب ينطق بالحق. فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق!" قالوا:" قل نسمع ياأمير المؤمنين؟" قال عمر:" قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً! لئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت. لكني رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه. وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئاً للمسلمين: المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور، لا بد لها من رجال يلزمونها!

أرأيتم هذه المدن العظام، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، ولابد من إدرار العطاء عليهم! فمن أين يعطي هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟!"  

الإمام علي يقترح على عمر: التاريخ الهجري

وعقد عمر اجتماعاً للمهاجرين والأنصار. فقال: متى نكتب التاريخ؟. فقال له علي بن أبي طالب: منذ خرج النبي (ص) من أرض الشرك، يعني من يوم هاجر، فكتب ذلك عمر بن الخطاب. وبدأ العمل بالتاريخ الهجري، منذ ذلك الحين.

الإمام علي يؤيد مخصصات لعمر!

أبى عمر أن يأخذ نفقة من بيت المال مقابل عمله كخليفة، حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، ولم تعد له تجارة تكفيه وقد انشغل عنها بأمور الرعية، فعقد مجلساً للشورى، فأشار عثمان بن عفان إليه، أن.. كُل وأطعِم.

فسأل عمر الإمام علي ما تقول أنت في ذلك؟.

قال الإمام: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بيَّنَ عمر حظه من بيت المال. فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيّم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف.

علي ينصح بذهاب عمر إلى فلسطين

تناول عمر كتاباً من قائد الجيش الإسلامي في فلسطين يدعوه فيه للحضور هناك فقرأه على المسلمين في المسجد واستشارهم فيه. ورأى عثمان بن عفان أن لا يبرح عمر المدينة قائلاً له: إنك إن أقمت وإن لم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستعد فلم يلبثوا إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية. وخالف علي بن أبي طالب رأي عثمان وأشار إلى عمر بالسير إلى إيلياء فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من القتال وطول المقام فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح ولست أأمن أن ييئسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم لا سيما وبيت المقدس معظم عندهم واليه يحجون. وآثر عمر رأي علي وأخذ به فاستخلفه على المدينة وأمر الناس بالتأهب للسير معه.

ودخل إلى بيت المقدس في قصة معروفة.

الإمام علي لا ينصح عمر بالذهاب الى بلاد فارس:

في العامين الأخيرين من خلافة عمر بن الخطاب، استكملت فئات اجتماعية في الكوفة، أسباب الرفاه، فضربهم البطر، فضعفت روح الاندفاع، وتراخت النفوس، فانضاف ذلك إلى ماعرف عند القبائل العربية التي تشكل منها المجتمع الكوفي، من ميل إلى الخصومة والمشاكسة، فتنافسوا مع بعضهم البعض، ولم يكن والي الكوفة سعد بن أبي وقاص إدارياً حازماً، مثلما كان قائداً عسكرياً فريداً. وقد استبطن عمر هذا الجانب في سعد. فاستدعاه إلى المدينة، وكان طبيعياً لجهاز الاستطلاع الفارسي المتغلغل في المدن المفتوحة، أن ينقل صورة ما عن اضطراب الكوفة التي هي مركز النشاط، وقاعدة الفتح الأولى، مما بث في قادة الجيش الفارسي قوة ارتدادية وتشكيل بؤر ثورية لطرد العرب من بلادهم فتقدمت قوات منهم لاستعادة بعض المدن من سلطة العرب، وكان القائد الفارسي الغيرزان يدير حرباً نفسية.

ويتقدم نحو مدينة همدان الإستراتيجية، حتى خيل لأهل الكوفة المنشغلين بصراعاتهم، أن الغيرزان على أبوابهم، فأبلغ مركز الخلافة في المدينة بهذه التطورات. وكان المبعوث الشخصي لعمر، محمد بن سلمة قد اخفق هذه المرة في معالجة الإشكالات بين أهل الكوفة وسعد بن أبي وقاص، فاستدعى عمر أهل المدينة إلى الصلاة في المسجد النبوي وارتقى المنبر، ونقل لهم أخبار الوضع العسكري على الثغور، وما قيل عن كثرة العدو واستعداداته، وأن الكوفة أصبحت مهددة بالسقوط!. وهذا أسلوب محمدي التزم به الخلفاء الراشدون، ويقضي بمكاشفة الناس بأسرار الواقع العسكري والسياسي، مثلما هو، على طريقة الدول الديمقراطية الحديثة، وعليه سار الإمام علي في حربه مع معاوية، ولم يلتزم الأخير به، إذ اعتبر ذلك اختراقاً يبيح "للعدو " الوقوع على معلومات عسكرية لا يجب الاطلاع عليها. واعتبر ذلك من أسباب نجاح سياسة معاوية كما أعلن ذلك مرة.

أقول: إن عمر بعد أن عقد المؤتمر الخاص وصولا إلى المشترك، عرض على المؤتمرين استعداده للتوجه شخصيا إلى العراق. وأشار بعض الحاضرين بأن يسير الخليفة بالجيوش إلى العراق، ويدعو قواته باليمن والشام لمواجهة الحركة الارتدادية والتي كان مركزها في نهاوند. وأشار عليه آخرون بأن يقيم في المدينة ويرسل الجيوش من تلك الأمصار لوقف الغزو الفارسي المتوقع.

أما الإمام علي فقد رفض فكرة ذهاب عمر إلى الثغور، ورفض فكرة استدعاء الجند من اليمن والشام، وعرض مقطعاً يوجز مالدى الإمام علي من فكر استراتيجي في جانب، وحرصه على سلامة عمر بن الخطاب في جانب آخر قائلاً:

" يا أمير المؤمنين، إنك إن أشخصت – أي استدعيت – أهل الشأم شأمهم صارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن أشخصت من هذه الأرض، انقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم اليك مما بين يديك من العورات – والعيالات، وإنما مكانك من العرب مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن تفرق ما فيه وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. وان الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلبهم فتألبوا عليك، أما ما ذكرت من عدد القوم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالنصر، فاقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة فهم إعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم".

اقتنع عمر برأي الإمام، وسرَّ به، وطلب إلى مؤتمر المسجد النبوي أن يرشح أميراً للجيش الذي سيتوجه إلى قتال الفيرزان وقواته، واقترح أن يكون الأمير المرشح عراقياً. فوقع الاختيار على النعمان بن المقرن.

فصاح الحاضرون.. هو.. لها. فوضع الأمير العراقي خطة عسكرية للهجوم، بدأت باستطلاع سري تسلسل خلاله عمرو بن معدي يكرب إلى مقربة من قلب القوات الفارسية في نهاوند فعاد ومعه خارطة ومعلومات خاصة سرعان ما أخذ بها النعمان والتحم الجيشان وسالت الدماء فزلق جواده واستثمر الفرس كبوة الجواد فأصابه سهم في خاصرته وكان إلى جانبه شقيقه نعيم بن مقرن، فسجاه بثوبه، وأخذ اللواء من يده ودفعه إلى الحذيفة بن اليمان، وسار باللواء إلى حيث كان النعمان وانتهت المعركة بنصر كبير وتحرير نهاوند التي أصبحت في وسط العراق العربي، وهي التي يرد ذكرها في الأخبار اليومية باعتبارها موقعاً مناسباً  لرمي الجثث المقطوعة الرؤوس لعراقيين من عامة الناس.

وكان الحذيفة بن اليمان، من أصحاب الإمام علي وأشد الموالين له، وهو قائد جيش عمر الذي منع الغزو الفارسي وطرد الفرس من قلب العراق في أخطر مواجهات الفتوح وفي نهاوند تلتقى الإرادتان والعبقريتان وتنجح العرب.

لكن منطق السياسة الطائفية ومناهج القطيعة تقضي بأن تقدم جماعة تحمل اسم، جيش الفاروق عمر، لذبح المارة المسلمين وهم في طريقهم إلى منطقة قد تبعد قليلا عن مكان قوات تحمل اسم أهل البيت والموالين للإمام علي فتداهم بيوت المدائن وتختار عشواء وتقتل عشواء لتضع الجثث المكبلة الأيادي والمعصوبة الرؤوس في موقع نهاوند ذاته!.

عمر يبسط رداءه للإمام علي

إن السيد شرف الدين صاحب "المراجعات" لا ينكر العلاقة الطيبة التي كانت قائمة بين عمر والإمام علي، فيؤيد الرواية التي تتحدث عن بسط عمر رداءه للإمام قائلاً: وسأل علي عمر أيام خلافته، فقال له: أرأيت لو جاءك قوم من بني إسرائيل، فقال لك أحدهم: أنا ابن عم موسى أكانت له عندك إثرة على أصحابه، قال: نعم، قال، فأنا والله أخو رسول الله وابن عمه، فنزع عمر رداءه فبسطه، وقال: والله لا يكون لك مجلس غيره حتى نتفرق، فلم يزل جالساً عليه، وعمر بين يديه حتى تفرقوا بخوعا لأخي رسول الله وابن عمه!.

عمر يُقبِّل رأس الإمام علي:

شكا رجل عليا إلى عمر فلما جلس عمر لينظر في الدعوى، قال عمر لعلي: ساو خصمك يا أبا الحسن! فتغير وجه علي، وقضى عمر في الدعوى، ثم قال لعلي: أغضبت يا أبا الحسن! لأني سويت بينك وبين خصمك؟ فقال علي: بل لأنك لم تسو بيني وبين خصمي يا أمير المؤمنين! إذ كرمتني، فناديتني يا أبا الحسن! بكنيتي، ولم تناد خصمي بكنيته، فقبّل عمر رأس علي وقال: لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن.

عمر للإمام الحسين: انتم على الراس:

عن الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه عمر بن الخطاب وقد جمع فيه كل جميل في عمر. وكل جليل لعمر.

جاء فيما رواه الحسين بن علي: أن عمر قال لي ذات يوم: أي بني! لو جعلت تأتينا، وتغشانا؟ فجئت يوماً وهو خال "بمعاوية، وابن عمر بالباب لم يؤذن له، فرجعت، فلقيني بعد، فقال: يا بني لم أرك أتيتنا؟ قلت: جئت، وأنت خال" بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع، فرجعت. فقال: أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمرو، إنما أنت من رؤوسنا ما ترى! الله، ثم أنتم، ووضع يده على رأسه.

وروى ابن سعد عن جعفر بن محمد الباقر عن أبيه علي بن الحسين، قال قدم على عمر حلل من اليمن، فكسا الناس، فراحوا في الحلل، وهو بين القبر والمنبر جال، والناس يأتونه، فيسلمون عليه ويدعون له، فخرج الحسن، والحسين من بيت أمهما فاطمة يتخطيان الناس، ليس عليهما من تلك الحلل شيء، وعمر مقطب بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم! قالوا: يا أمير المؤمنين! كسوت رعيتك، فأحسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطيان الناس، وليس عليهما من شيء، كبرت عنهما، وصغرا عنها، ثم كتب إلى واليه في اليمن أن ابعث بحلتين لحسن، وحسين، وعجل. فبعث إليه بحلتين، فكساهما.

وعن أبي جعفر: أنه لما أراد أن يفرض للناس بعدما فتح الله عليه، جمع ناساً من أصحاب النبي (ص) فقال عبد الرحمن بن عوف: أبدأ بنفسك، فقال: لا والله ! بالأقرب من رسول الله (ص)، ومن بني هاشم رهط رسول الله (ص)، وفرض للعباس، ثم لعلي، حتى والى بين خمس قبائل، حتى انتهى الى بني عدي بن كعب، فكتب من شهد بدراً من بني أمية بن عبد شمس، ثم الأقرب، فالأقرب، ففرض الأعطيات لهم، وفرض للحسن والحسين لمكانهما من رسول الله (ص).

يقول العلامة شبلي النعماني في كتاب " الفاروق" حول عنوان " رعاية الحقوق والآداب بين الآل والأصحاب ": إن عمر – رضي الله عنه – لم يكن يبت برأي في مهمات الأمور قبل أن يستشير علياً الذي كان يشير عليه بغاية من النصح، ودافع من الإخلاص، ولما سافر إلى بيت المقدس، استخلفه في جميع شؤون الخلافة على المدينة، وقد تمثل مدى الانسجام، والتضامن بينهما حينما زوجه علي من السيدة أم كلثوم، التي كانت بنت فاطمة وسمى أحد أولاده عمر، كما سمى أحدهم أبا بكر، وسمى الثالث عثمان ولا يسمي الإنسان أبناءه إلا بأحب الأسماء، وبمن يرى فيهم القدوة المثالية.

وكان عمر يستشيره في الأمور الكبيرة منها، والصغيرة، وقد استشاره حين فتح المسلمون بيت المقدس، وحين فتحت المدائن، وعندما أراد عمر التوجه إلى نهاوند، وقتال الفرس، وحين أراد أن يخرج لقتال الروم، وفي موضوع التقويم الهجري وغير ذلك من الأمور، وكان علي طيلة حياة عمر ناصحاً لعمر خائفاً عليه، وكان عمر يحب علياً، وكانت بينهما مودة، ومحبة، وثقة متبادلة، ومع ذلك يأبى أناس إلا أن يزوروا التاريخ، ويقصوا بعض الـروايات، التي تناسب أمزجتهم، ومشاربهم، ليصوروا لنا فترة الخلفاء الراشدين عبارة عن: أن كل واحد منهم كان يتربص بالآخر الدوائر، لينقض عليه.

عطاء أهل البيت في عهده

إن الانتقادات التي رميت بها سياسة العطاء في ولاية عمر بن الخطاب لاتزال متواصلة، لكونها جرت على تصنيف المشمولين إلى مراتب تأخذ بنظر الاعتبار القرب والقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، والقِدم في الإسلام على رأس الشروط الأولى، وهو يعتقد أن من غير العدل مساواة من قاتل رسول الله ومن قاتل معه، وليس من العدل عنده أن تكون مخصصات العطاء واحدة لزوجة النبي أو لعمه أو لابن عمه، ولأحفاده مع عامة الناس لشعور عمر بأن هذه المساواة ستغبن أهمية البيت النبوي، وهو لا يأخذ من حصة الناس، فيعطيها للعائلة المحمدية، ولقدماء المسلمين. وإنما يزيد حصتهم بعد أن يوزع الحصص وينال كل واحد منهم نصيبه، وكان لهذا المبدأ دور في ظهور الثراء عند شريحة من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم.

كعمه العباس بن عبد المطلب، وابنه، وأم المؤمنين عائشة، وكثير من الصحابة الأوائل سواء كانوا من أشراف قريش كعبد بن الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، أم من عبيدهم ومواليهم السابقين، كبلال الحبشي، والخبّاب بن الأرت، وصهيب الرومي..

بمعنى أن حصة الإمام الحسن والإمام الحسين كانت أكثر من حصة أبناء الصحابة الآخرين. لكن تعفف الإمام علي وفرضه الزهد والكفاف على نفسه وعائلته جعلت تلك الأموال توزع على فقراء المسلمين، لأن الإمام علي كان يأخذ بآية تحريم الكنز، وقد اختلف الفقهاء والمفسرون، ما إذا كانت منسوخة بآية الزكاة. فلا يحفظ في بيته مال سائل، ولا جامد، ولم يتمتع عياله برفاه الفتوحات، وعلى هذا جرى أصحابه كأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ولم يجرِ عليه صحابة آخرون، منهم عمه العباس وعائلته مادام ما يكسبه حلالاً طيباً.

ولمّا وليّ الإمام علي، عاد إلى التسوية في العطاء، وألغى مبدأ التفضيل، فشمل ذلك قدماء الصحابة، وأهل البيت الذين كانت حصتهم أكبر في عهد عمر من أموال العطاء.

وكان هادي العلوي نشر رسالة فقهية ناقش فيها آية الكنز، واعتبر القول بأنها من المنسوخ، بداية تحول خطير في الميل، عن الزهد الإسلامي، لصالح الطبقة الارستقراطية الجديدة، فاصطدم رأيه بعموم السياسيين الإسلاميين الشيعة، إذ لا يعتبر الأثرياء وكانزو الأموال من الفقهاء والتجار موالين للإمام علي، على قاعدة تحريم الكنز.

وبالعودة إلى سياسة عمر في العطاء، فقد تمنى لو عاش إلى " قابل " أي إلى العام التالي، ليأخذ الفضول ممن اغتنوا بالأموال، ويعيد توزيعها على مبدأ التسوية.

وعند هذا يعود العليّان للالتقاء مرة أخرى، لكن الخنجر المسموم كان قد أخذ مكانه في أمعاء عمر، وأحال بينه وبين ذلك اللقاء المنتظر على سياسة العطاء.

أما موقفي الشخصي، فمازلت على حماسة المقالات التي كتبتها في الستينات والسبعينات إعجاباً بسياسة عدم المساواة في العطاء، لأنها تأخذ بحق القِدم. وامتياز العائلة النبوية... ولا أساوي من قاتل رسول الله(ص)، ومن قاتل معه.

عمر والعلويون ضد الاجتثاث !.

أظهر أبو بكر في معالجة حركة الارتداد في الأيام الأولى من خلافته بعد وفاة الرسول (ص) حزماً يتعاشق بالعنف مما لم يكن متوقعا من شيخ مسالم طالما عرض نفسه وسيطاً لدرئ الأذى عن أسرى قريش والمتهمين بقضايا وجنح فيستحيل عند خلافته قائداً ثورياً صارماً لا يلين.

وبلغة الصحافة اليومية استحال أبو بكر من جناح الحمائم إلى جناح الصقور، ولم يتساهل مع المرتدين حتى بعد أن عادوا إلى الإسلام من جديد وأعلنوا توبتهم، وأرسلوا بوفود الصلح إليه، لكنه لم يترك لهم شرطاً فأملى شروطه كاملةً: فلا يولي أي زعيم في القبائل المرتدة، وإن أعلن توبته وعودته إلى السلطة المركزية.

ولا يتسلم مسؤولية إدارية ولا يرسل أياً منهم إلى الجهاد. ومن يراجع لائحة أبي بكر، التي أصدرها في حروب الردة يجد فيها سابقة واضحة الفقرات لقوانين الاجتثاث السائدة في أيامنا هذه.

أما عمر المعروف بشدته، والذي وصفه النبي (ص) بأنه يشبه النبي نوح في القسوة على قومه، فقد تحول إلى صفوف الحمائم عندما أملى أبو بكر بحضور عمر على وفد الصلح في حروب الردة خيارين. أما الحرب المجلية وإما السلم المخزية.

قالوا: هذه المجلية فقد عرفناها فما المخزية؟.

قال أبو بكر: ننزع عنكم الخلفة والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم، وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون قتلانا، أي تدفعون الدية، وتُترَكون أقواما يتبعون أذناب الإبل.

نهض عمر فوافقه على شروط واعترض على أخذ الديات منهم على قتل المسلمين بعذر شرعي مقبول، وإن كنت أميل إلى وجود عامل آخر دفع عمر إلى الاعتراض لرؤيته زعماء القبائل في ذلك الوضع الذليل، فأراد أن يخفف عنهم ماداموا قد عادوا إلى الإسلام مرة أخرى. قائلاً حول رفض الدية: إن قتلانا قاتلت على أمر الله وأجورها على الله وليس لها ديّات، فتتابع القوم على ما قال عمر. وتعجب مع عجب طه حسين أن يستثني أبا بكر من زعماء الردة، الأشعث بن قيس الكندي ذلك الذي أسلم أيام النبي (ص) ثم ارتد بعد وفاته. وألب قومه حتى ورطهم في الحرب، وأسرع إلى المدينة تائباً، فلم يعصم دمه من أبي بكر فحسب. ولكنه أصهر إليه وتزوج اخته أم فروة ثم همل في أيام عمر، وظهر في أيام عثمان. وانتهى به المطاف إلى الإمام علي لكنه كما يقول طه حسين لم يخلص له نفسه وقلبه ولم يكن ناصحاً له!.

ولم يستطع أن يثني صاحبه وشيخه عن قراره باجتثاث المرتدين إلى يوم وفاة أبي بكر وإعلان خلافة عمر، وقد انشغل في أسبوعه الأول بمراجعة قرارات أبي بكر مع أهل الردة فقرر عمر ما يلي:

إطلاق سراح الأسرى من القبائل العربية وتحريرهم ووضع سابقة لعدم جواز سبي المرأة العربية فحرر السبايا وأعادهن إلى قبائلهن.

رأى من المفيد للدولة أن يستخدم ذوي الكفاءات العسكرية العالية لزعماء الردة بإرسالهم إلى الثغور والاستفادة من تجاربهم في وضع الخطط العسكرية على أن لا يولي أي تائب من المرتدين في مناصب قيادية عليا. فاستدعى طلحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي يكرب الزيدي وأرسلهما بمهمة عسكرية إلى العراق وفارس. وقد أبلى كل منهما بلاء حسنا وساهموا في إنجاح الخطط العسكرية كما استعان بهم في وفد التفاوض الذي شكله إلى كسرى انيشيروان.

وسياسة عمر كان لها أمثلة في الدعوات العلوية، فإذ تعرض العلويون لسياسة الاستئصال والاجتثاث في الأوان الأموي، فاستثمرت ذلك الحركة العباسية للتشهير بالأمويين، وليس حباً أو احتراماً لحياة العلويين. باشرت الدولة العباسية بسياسة استئصال واجتثاث جذري لكل أموي زعما منها أنها تثأر للعلويين والهاشميين وكان القائد العباسي داود بن علي أكثر أقرانه حماسة لسياسة الاستئصال. وبعض الشعراء يشجعون عليها ويطالبون بالمزيد فتبنى الزعيم العلوي الثائر عبد الله بن الحسن المعارضة العلنية ضد سياسة اجتثاث واستئصال الأمويين فقال لداود بن علي: " يا ابن أخي إذا قتلت هؤلاء كلهم فمن تباهى بملك الله ".

وكان هذا العلوي يظن أن إثارة هذا الجانب ستكون كافية لمنع سفك دماء الأمويين، لكن داود بن علي العباسي واصل حملة الاجتثاث والاستئصال حتى النهاية. فيما واصل عبد الله بن  الحسن العلوي احتجاجاته ضد الاستئصال الدموي لبني أمية.

لقد اجتمع رأي عمر والعلويين فيما بعد على رفض سياسة الاجتثاث وان كان المطلوب اجتثاثه تائباً من أهل الردة أم أمويا متهماً بقتل العلويين.

فيتصدى ضحاياه بعد حين لمنع وقوع الاستئصال عليه رحمة إلهية وكرماً علوياً.

تقول سميرة الليثي في كتابها "جهاد الشيعة " إن عبد الله بن الحسن العلوي أبدى سخطه على السياسة التي انتهجها الوالي العباسي داود بن علي في التنكيل بأنصار بني أمية حيث أسرف في سفك دمائهم.

وعند فتح مكة وضع النبي (ص) لائحة بأحد عشر مطلوباً. كان منهم عبد الله بن أبي ربيعة. والحرث بن هشام، ولم يشملا بالعفو العام فلجأ المطلوبان إلى بيت شقيقة الإمام، علي، وتكنّى أم هاني بنت أبي طالب، فعثر عليهما الإمام علي، وكان مدججاً بالحديد، فلم تتعرف عليه اخته التي وقفت بين علي وبينهما وحالت دون قتلهما حتى بعد أن اكتشفت هوية شقيقها. وقيل في رواية أغلقت عليهما الباب وذهبت إلى النبي (ص) وشكت إليه. أسوة بمثاله الجاذب عمر بن الخطاب وبجده المجاهد عبد الله بن الحسن.

لقد نجح عمر في منع الاجتثاث، وأخفق عبد الله بن الحسن وحفيده لأن الأخيرين لم يمتلكا السلطة. ولم يملك أي منهما بعضاً من قوة عمر وإن سارا على سيرته.

والحمد لله أن العلوي كاتب السطور والذي طارده نظـام البعث في العراق ربع قرن لاستئصاله وقف بعد سقوط نظام الحزب في 9/4/2003 على منصات التلفزيون وأمام الميكروفونات ناصحاً أصدقاءه في السلطة الجديدة بعدم المضي في سياسة الاستئصال وكان من أبرز معارضي قانون الاجتثاث.

الإمام علي يرثي عمر

يروى عن أبي طلحة كما يقول المؤرخ المصري محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر أنه قال: ما من أهل بيت من العرب حاضر ولابد إلا وقد دخل عليهم بقتل عمر نقص في دينهم وفي دنياهم. وروي عن الحسن انه قال: أي أهل بيت لم يجدوا(*) فقد عمر فهم أهل بيت سوء.

وكان الضعفاء والبؤساء أقوى شعوراً لوقع الكارثة التي نزلت بهم وكان لهم حصناً حصيناً ويستغرب هيكل أن لا يورد المؤرخون من رثاء أصحاب الرأي يومئذ لعمر مثلما أوردوا لأبي بكر من رثاء يوم قبض. وقد دخل الإمام علي بن أبي طالب على عمر إثر وفاته فألفاه مسجى بثوب في ناحية من غرفته فرفع الثوب عن وجهه. يرحمك الله أبا حفص ما أحد أحب إليّ بعد النبي (ص) أن التقى الله بصحيفته منك. والأكثر تواتراً أن علياً وقف على عمر بعد أن غسل وكفن وحمل إلى سريره فأثنى عليه وقال والله ما على الأرض رجل أحب إليّ من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بالثوب. فلما صليّ على عمر جاء عبد الله بن سلام، فقال: لئن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه لاتسبقوني بالثناء عليه.

أحد عشر عاماً و 18 الف صلاة

مازال البحث جارياً ورغبتنا متواصلة في العثور على أحد عشر عاماً في مطلع التاريخ الهجري، فقدت أو بالأحرى أم محتوياتها مفقودة. وتتصل بحياة الإمام علي وأين أمضى تلك السنوات عند ما كان عمر خليفة. المعروف فقط لدينا عنوان مسكن الإمام في حي بالمدينة يلتف حول مسجد بناه الرسول والصحابة في الأيام اللأولى للهجرة النبوية، وعلى بعد أذرع كان بيت لعائشة، وثالث لعمر، ورابع للعباس بن عبد المطلب، والخامس لعثمان بن عفان، والسادس لسعد بن أبي وقاص، والسابع لطلحة بن عبد الله والثامن لزبير بن العوام، والتاسع لسعد بن عبادة والعاشر لعبد الرحمن بن عوف حتى لنصل بترقيم الحي إلى أقل من نصف ألف، حيث تنداح مساكن الصحابة وأهل المدينة. نعرف أيضاً أنهم مسلمون، والمسلمون مرتبطون بمواقيت الصلاة الخمسة، وليس لهم إلا مسجد واحد، يقيمون فيه الصلاة. نعرف أن العرب تلتقي في مجالي الضيافة، وتتسامر على ضوء القمر، وتتزاوج وقد تمر المرأة الواحدة على أربعة رجال، إذا ما ترملت، أو طلقت، فينشأ في البيت الواحد ثلاثة أبناء من أباء مختلفين إذا وضعنا جدولاً حسابيا لنحصي أعداد الأصوات التي أقيمت في المسجد النبوي، حيث سكان أهل المدينة القدماء والجدد يتوجهون للصلاة فيه منذ افتتاحه في العام الأول للهجرة حتى اغتيال عمر، فسيربو الرقم على (41) ألف مرة، منها (18) ألف مرة التقى فيها المسلمون للصلوات في عهد عمر، وسيكون سكان الحي الذي يتوسطه المسجد، قد التقوا هناك (41) ألف لقاء نستقطع منها أيام الغياب، التي يكون فيها بعض هؤلاء السكان مسافرين إلى مكان آخر، وهم قلما يسافرون. وقد جرت العادة أن يجلس المصلون مع إمامهم في حلقات بعد كل صلاة، يتساءلون عن أمور دينهم ودنياهم، فإذا امتدت الجلسة نصف ساعة بعد كل صلاة، فسيكون مواطنو المدينة قد التقوا في عهد عمر عند المسجد (9000) ساعة، عدا ساعات الغياب. فهل كان من بين هؤلاء المصلين رجل يدعى علياً، وأخر يسمى عمر، وثالث يدعى عثمان، أم تراهم كانوا يصلون في بيوتهم؟!، وإذا ما حضروا والتقوا تسعة آلاف ساعة، هل كان الواحد منهم يجلس وظهره على الآخر، ألم يتحدثوا في أمر هذه الدولة الجديدة وشؤونها، ويتشاوروا في أزمتها؟. أو يتحدثون عن عرسهم الجديد. المطلوب أن يتفرغ جيل من الدعاة والباحثين، للبحث عن هذه السنوات المفقودة في حياة الإمام علي، والتي حجبها الفريقان إلا قليلاً لكي لا يرى أتباع علي المعاصرون، أن إمامهم كان إلى جنب عمر، إذناً لفم، ولكي لا يعترف الفريق الآخر أن عمر كان على هذه الصلة بعلي. نشعر بالحاجة إلى مزيد من الأسئلة الساذجة، لنقفو أثر الإمام، خارجاتً من بيته ليسأل عن صغرى بناته أم كلثوم، التي طلبها عمر، فاستجاب علي ليولد لهما زيد حفيداً مشتركاً. ألم يحدث أن زار الأمام علي ابنته، وداعب حفيده، وقد رأى بأم عينيه، كيف كان جد أولاده يلاطف الحسن والحسين فيركبان ظهره وهو يصلي، أم أن الإمام قاطع ابنته، لأنها تزوجت من عمر دون رغبته!. فتكون أم كلثوم مارقة، وهو ما لم يحدث لبنات العرب حتى ونحن في عصر المشاعية الجنسية؟.

أم لأن الزواج لم يحصل كما يقول بعض مؤرخي الشيعة؟.

إن العثور على المحاضر الشفوية لـ 10% فقط، من 18 ألف جلسة و9000 ساعة، سيجهز المؤرخين والدعاة بمادة تزيد على ما كتبه الطبري والبلاذري أضعافاً!. فكيف اختفت إحدى عشر سنة، و18 ألف صلاة، و9000 ساعة، ومن وضع الحجر على سكان المدينة، فمنعهم من التجوال، ومكثوا في بيوتهم لا يرى الواحد منهم الآخر، ولا يزاوجه و لا يضاحكه أم أنهم كانوا حيين، مثل أحياء فلسطين وإسرائيل، يترامى فيها الأطفال، بالحجارة على جمال السلطة، أو أن تكون سلطة المدينة في وضع البحث عن المارقين والمنشقين عن دين الله؟. لابد من أنَّ واحداً من هذه المشاهد، كان قائماً. والذي يبدو أن الصراع السياسي والطائفي قد فضل مشهد الأحياء الفلسطينية على المشهد النبوي في مسجده. وهذا اجتهاد الفعل أما برهان النقل، فلم يذكر المؤرخون أن الإمام علي كان لا يحضر إلى الصلاة في المسجد احتجاجاً مثلاً على الخليفة. وإنما ذكروا أن سعد بن عبادة مرشح الخزرج وصاحب السقيفة، هو الذي قاطع الصلاة في المسجد أيام أبي بكر وفي السنة الأولى من خلافة عمر.

 

عـمــر والـعــراقـيـون

حرر مصر فأوفى له المصريون

وحرر أرض السواد فكبا أهلها!


 

العراق العمري:

تاريخياً وبإجماع لم يخرج عليه مؤرخ، أن عمر بن الخطاب هو ناشر الإسلام العراقي ومؤسس العراق العربي الأول.

ولو كان عمر من أباطرة الأمم والشعوب، التي مرت على العراق فأقامت أو رحلت، لكان "العمريون"هو الاسم الذي يتسمى به سكان الرافدين، بدلاً من لقبهم الوطني حالياً، مثلما سُمي أهل  تلك البلاد بالسومريين والآشوريين والبابليين ثم العثمانيين.

وتاريخ العراق العمري يبدأ في العام الثاني عشر للهجرة بقرار بناء مدينة البصرة، ثم الكوفة من بعدها، لتشكل هاتان المدينتان الجذر المزروع لحضارة عربية إسلامية، ستنشأ وتربو وتهيّء لأبي جعفر المنصور بناء المدينة الثالثة التي استعصم فيها، فصارت بغداد مركز تلك الحضارة، والبصرة والكوفة جناحيها اللذين طارت بهما من الصين إلى أبواب فرنسا.

إن عمر من هذا الجانب مؤسس حضارة رافدية مثلما كان سرجون الأول وحمورابي ونبوخذ نصر.

ولعله أضاف إلى سكان بلاد الحضارات الرافدية، حضارةً أخرى إلى جانب السومرية والبابلية والآكادية والآشورية.

وسيكون الاهتمام بعمر والاقتراب منه من باب الاهتمام بالتاريخ العراقي وتكريم مؤسسيه الأوائل.

وسيكون حُب عمر بن الخطاب من حُب العراق والاعتزاز به من باب اعتزاز الشعوب برجال استقلالها وإنماء شخصيتها الحضارية التي كانت نهب الناهبين، والعراق آنذاك في منطقة فراغ، إذ لم يغط الاحتلال الفارسي للعراق الكتلة السكانية والجغرافية وإنما عاش محصوراً في قطع صغيرة، وانتشر بأسلوب الأرخبيل على جزر لم تشكل أكثر من ربع مساحته الجغرافية، بينما أنساح العراق العمري على جغرافية العراق من بصرتها إلى موصلها.

إن عمر بن الخطاب بدوره هذا، إنما مَنَح دوراً للعراقيين ولبقاع مغمورة كالبصرة ومهجورة كالكوفة وغير معروفة كبغداد أن تكون جاذباً لاستقطاب القبائل العربية الكبرى، فاستقرت المضرية في البصرة واليمانية في الكوفةِ وبهما أخذ العراق شكله العربي الأول.

وخلال وقت لا يحسب بجداول الزمن، صارت الكوفة مركز القيادة لحركة الفتوحات، وأصبحت مصائر دول عريقة وشعوب آسيويةٍ تمتد من جنوب العراق ومن بحر قزوين حتى مشارف الصين، مرهونةً بالقرار الذي سيصدر من الكوفة.

والعربي في العراق لابدَّ أن يكون خارجاً إلى مدينته الحالية من الكوفة، ولو كان جنوبياً، إذا لم تتحرك الجيوش العربية صاعدةً من البصرة، بل نازلةً من الكوفة إلى مدن الفرات الجنوبية، أو عابرةً إلى دجلة  ومنها إلى بحر القزوين، بعد أن تكون قد التفتت إلى الشمال لتتربع الموصل على جذرها العربي القادم من الكوفة.

و بفضلِ عمر مؤسس البصرة وممُصر الكوفة، تعرفت العرب على مدارس النحو واللغة وعلوم الكلام والفلسفة.

إن دور عمر في العراق مثل دوره في مصر، والعراق العمري صنو مصر العمرية التي أضافت إلى حضارتها حضارةً جديدة ومدناً جديدة.

الفرق أن المصريين كانوا مع عمر أنقى ومع تاريخه أوفى.

افتخر المصريون ببطلهم الجديد،فأنصفوه وحملوه أسلوباً للإدارة، وأنموذجاً للزهد والتسامي، وروحاً للعدالة الإلهية. فيما كبا أهل العراق كبوتهم، فلم يكتب فيه مثقف ينتسب إلى ثقافة التسنن. أو آخر منسوب على التشييع سوى علي الوردي وآخرين خارج المحيط الديني.

إن مؤسس العراق العربي أهملهُ العروبيون، فلم يصدر كتاب مستقل  فيه عن مؤرخين "فطاحل"، وأُدباء "فُحول"، أمثال الشيخ محمد بهجت الأثري والدكتور عبد العزيز الدُوري، وأستاذ التاريخ العربي ناجي معروف، كما لم تصدر المؤسسة الدينية ومركزها الأعظمية أو الموصل كتاباً  يُعرِّف العراقيين بمؤسس حضارتهم الإسلامية وممّصر بصرتهم وكوفتهم.

بيد أن المصريين أخلصوا الودّ لمؤسس حضارتهم العربية. فكتب العقاد عبقرياته منشورةً في غرف الدرس وعلى أرصفة المدن العربية. وكتب طه حسين "الشيخان"  و"الفتنة الكبرى" بجزئيها مُنصفاً مستلهماً روح الإسلام ومنهج البحث العلمي الحديث.

وكتبت بنت الشاطىء والمستشار عبد الحليم الجندي وأبو زُهرة وعبد الرحمن الشرقاوي في الإمام علي وفي تلك الفترة الإسلامية المثيرة، فتشكلت المدرسة المصرية مرجعاً سنوليه الاهتمام في صفحات قادمة.

أمّا العراق فَخُلوٌ من هذا المنهج، وتلك المدرسة، رغم كونه ميدان الصراع الطائفي القديم والحاضر، وإذ يعزو المُطلعون على أسبابه إلى جهل الناس بتاريخهم الإسلامي، فَلم يسأل أحدٌ إلى من تُعزى أسباب هذا الجهل.

إنهم يكتبون من فوق، ناشرين طُعونهم على العامة، وكأنهم يتوقعون أن يولد العراقي وهو يرضع العلم، ويحتسي أكواب الثقافة من مشارب لا يمتلكها أساساً.

إن المجتمع بمؤسساته الدينية والدولة بمؤسساتها الثقافية هي التي تتحمل المسؤولية عن جهل الناس بتاريخهم، ولم تلتفت الحوزات العلمية الشيعية والمدارس الدينية السُنية إلى التعريف بثروة من التراث الإسلامي المقيم في معماريات الأئمة والشيوخ والأولياء، فيراها الناس شاخصة، ولا يعرفون شيئاً عن أسرار المقيمين في ثراها سوى ما يقدمه السدنة من أوراد وإذكار..!.

إن وزارات الثقافة العراقية كان يمكن لها أن تنهض بمهمة تُجنّب العراقيين شيئاً من هذا الصراع، لو عُنيت بإصدار سلسلة كتب للتعريف بمن تنتسب إليهم تلك المعماريات، لكن وزارة الثقافة أصدرت مرةً كتاباً عن ألعاب الصبيان في سامراء متجاهلةً معمارية سامراء العباسية،  تلف أحزانها ملتويةً إلى السماء، وتهمل شاخصة الإسلام العَلوي في معمارية الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، التي تعرف عليها الناس مقطوعة الأسماء وممزقة الأحشاء!.

ومن المفارقات أن حكومات العراق ذات الطابع السُني، في قرارها، وفي أغلبيتها خلال الثمانين عاماً الماضية، لم تلتفت إلى هذا الجانب فتنشر كتاباً مستقلاً بأبي حنيفة المقيم في الأعظمية، وبمعماريته الفقهية، ولا توقفت يوماً في باب الشيخ ودخلت مسجد الشيخ الحسني عبد القادر الكيلاني، فلم يُعرف عنه سوى أنه (أبو قبقاب).

إن علماء السنة وشيوخها ومثقفيها لم يُنصفوا إمامهم الأعظم، ولم ينشروا علم العلماء المدفون في مساجد الشيخ معروف الكرخي والشيخ جنيد والشيخ السهروردي وآخرين.

 ومثلهم في التقصير والإغفال كان فقهاء التشيع، وحوزاتهم العلمية  التي لم تنشر بعد ألف عام على تأسيسها كتاباً عن الإمام علي بن أبي طالب يطلع عليه جيل عن جيل، ولا كتاباً مستقلاً عن الإمام الحُسين، لكن بعض أتباعهم من الدرجات الوسطى ربما اهتموا اهتماماً خاصاً بفاجعة كربلاء فكتبوا عن الفاجعة دون الكتابة عن الحسين.

وباستثناء كتابات في التاريخ العام للعتبات المقدسة، ومدن التشييع العراقي وكتب الرجال، وقد صدرت من خارج الحوزات العلمية، فلم يتوفر لشيعة العراق كتاب يُعرفهم بأئمتهم على الطريقة، التي كتب فيها العقاد وطه حسين والشرقاوي وأبو زهرة.

 ومن الغريب أن الذين أعتنوا بهذا الجانب من التاريخ الإسلامي، هم من خارج الإطار الديني، ومن المحسوبين على العلمانية، وربما اتهموا بالزندقة والإلحاد، كالدكتور علي الوردي وهادي العلوي وفيصل السامر.

أما التاريخ العام فقد حظي باهتمام فريق من علماء التاريخ كالدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور مصطفى جواد والدكتور جواد علي والأستاذ ناجي معروف، ممن ابتعدوا عن تاريخ سير الأئمة والفقهاء الذين تدور حولهم اهتماماتنا.

الكوفة جمجمة العرب

 ولأنها مركز القوة العربية الأول وفاتحة فارس فقد أحبَّها عُمَر وفضّلها على المدن التي أقامها، كالبصرة في العراق، والفسطاس في مصر، ولم يُعرف لِعُمر عشقُ الشام بما نعرفه عنه من عشق الكوفة، فأطلق عليها أجمل اسمين تحمِلهما مدينة: رأس الإسلام مرةً وجمجمة العرب مرةً أخرى.

فهي العروبة والإسلام  وليست الشقاق والنفاق كما تزعمون.

أما البصرة فكانت في مركز هامشي لم يتوجه إليها سوى قبائل غير متمرسة في القتال كما يقول هشام جعيط في كتاب الفتنة وكان مركزها هامشياً ولَعلها قامت في بعض الأحيان بدور مساعد للكوفة.

وإن كان ذلك لا يعني أنّه فضّل أهلها على أهل البصرة، وإنما كان الاهتمام بسبب دورها أمّا العطاءُ فكان واحداً لأهل البصرة وأهل الكوفة ولعطاء غيرهم من المقاتلين.

ومع ذلك فقد نَفِسَ أهل البصرة كما يقول محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق على أهل الكوفة موقع بلَدِهم وما تدر عليهم من الخير.

وكان وفدٌ من البصرة قدم إلى المدينة وشكا من سوء أحوالهم المناخية فقال الأحنف بن قيس لِعُمر:

يا أمير المؤمنين إن مفتاح الخير بيد الله وإن إخواننا من أهل الأنصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة وإنا نزلنا سبخةً ملتفة لا يجف نداها ولا ينبُت مَرْعَاها فليس لنا زرعٌ ولا قرع، ويخرج الرجل الضعيف يستعذبُ الماء في فرسخين وتخرج المرأة لذلك فَتُربقُ ولَدْهَا كما يُربقُ العنز "أي يربط بالحبل" يخاف بادرة العدو، وأكلِ السبع، فان لا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقومٍ هلكوا.

اتخذ عمر ساعتها قرارين، أن يزيد عطاءَهم وأمر عامله على الكوفة أبا موسى الأشعري ليجري لهم نهراً على بُعد ثلاثة فراسِخ إلى شمال البصرة حيثُ الماءُ هناك أعذب لم يتلوث بمياه البحر بَعْد.

وكانت قبائل البصرة تتنافس مع قبائل الكوفة، ونافست المدينتان على أمجادها ودخلت القبائل في هذا التنافس فدَخَلَ معها شعرُ التفاخر، وهو أول تفاخرٍ للمكان بعد الفخر بالقبيلة.

فهل كانت تلك بداية لاختلاف أهل البصرة وأهل الكوفة في علم النحو، فيكون لكل منهم مدرسة خاصة وأن يختلفا في الذائقة البلاغية، فيكون لمدرسة الكوفة ذوق أقرب إلى طبيعة البداوة ونقاء الصحراء وسهولة المقاصد والأفكار، فيما جنحت البصرة نحو التعقيد مُستعينةً بعلم المنطق والرياضيات في كتابة النحو والبلاغة؟.

ولم يكن ذلك كافياً لسترِ الكوفة وحمايتها عن الطعون على مرِّ القرون العربيّة.

وأهل الكوفة ما يزالون يوصمون بالتمرد والاحتجاج ومناكدة الولاة وإثارة القلاقِل وأضيفت إليهم طعون بعد مقتلِ الإمام الحسين في معركة الطف وخذلانه بعد تأييدهم، فَضُرِبَ المثل في الكوفة حتى سُميت حمص بالكوفة الصغرى لكثرة احتجاجها على الولاة.

وفي ظننا أن ما يجمع الكوفة وحمص ظرفٌ واحد: كونهما على أطراف البادية وارتياح القبائل العربية للسكن فيهما وخضوعهما لذات المؤثرات.

الكوفة ناشئة ولم تكن سوى أرضٍ معروفة برملتها الحمراء غير المأهولة، فأخذت اسمها من رملتها التي تسمى عند العرب بالكوفة لحمرتها. وإنما كان ظاهرها عامراً ويُدعى بالحيرة مملكة المناذرة الشهيرة،ِ والمعروفة بالعصر الجاهلي باسم الغَري قبل أن تأخذ لقبها الحالي وتسمى بالنجف، والنجف هي ما ارتفع من المكان ولهذا يُسمي المصريون ثريات الضوء بالنجفة لأنها مرتفعة ومتألقة.

وكانت الحيرة معروفةً بدياراتها المسيحية المدهونة بالطلاء الأبيض فكأنها تبدو من بعيد نجوماً متألقة، فكيف وصل المصريون إلى هذه النتيجة ولم يصل إليها العراقيون؟. 

هذا شيء عن كوفة الفرات، فعن أي كوفةٍ تتحدثون؟.

كوفة الإسلام في عنفوانه العُمري وصراعه مع الخارج الأجنبي الناكر للإسلام، أم كوفة الإسلام في مثاله العَلوي تصارع المنشق عن الخلافة لتستعيد وحدة الدولة العربية المسلمة كما رسمها عمر بن الخطاب؟.

سنحتكم في الجواب إلى الكوفة ذاتها، وإلى مناهجها الأولى، فهي في عهدها الأول بنت لعمر ولفقهه وتاريخه، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت هو فقيه الكوفة وعند هذا الرجل يلتقي العُمران والعَليان في الدرس الفقهي الواحد، وليس على حلبةِ الملاكمة كما يشطح الجاهلون والسُذَّجِ والمُخدرون بالمال الأموي والترياق الصفوي.

الكوفة جمجمة عمر ورأس علي، توأم الخط المحمدي،  الذي سارت عليه قاطرة العرب. لكن فيها من جانبٍ آخر صراعاً شفيفاً ليس بين عمر وعلي، بل صراع مدارس وثقافة وتربية ورأي يُمسك مالك بن أنَسْ بفقه المدينة المحافظ ويمسك أبو حنيفة بفقه الكوفة المنفتح أو الراديكالي كما يُسمى في أيامنا.

ونترك المستشار عبد الحليم الجندي في كتابه عن أبي حنيفة الصادر عن دار المعارف في القاهرة يَسوحُ بين المدينتين سياحة العالم العارف بدقائِقها.

كان للمدينة من السلطان الروحي ما عبر عنه مالك لليث بن سعد بقوله: "إن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن".

وكانت حضارتها بسيطة غير معقدة ولا مشوبة بتخليط، المشاكل فيها قلائل، والوقائع تتشابه وتتشاكل. فإذا عرضت مسألة، فإن أشباهاً في السوابق حِكماً في النصوص: يسيطر على أهلها اعتقادهم أنهم لن يصنعوا خيراً مما صنع آباؤهم، لأنهم تابعون وآباؤهم متبوعون، ومن عقيدة التابع أنه ليس كالمتبوع، وأنه لن يكون جيل التابعين ولا أي جيل بعده أو قبله كجيل الصحابة رضوان الله عليهم.

أما الكوفة ففي ذلك الإقليم من أقصى الجزيرة حيث لم تكنُ مادة الفقه والأحاديث والسنن هي الهواء الذي يتنفس الناس فيه في كل مكان كالمدينة، فإذا أقبل بنوها على العلم أقبلوا من تسامح المحيط الواسع الذي ينادي بالاجتهاد بالرأي، حيث الناس من كل الأجناس، يقبلون على الدين الجديد تؤنسهم مدينة كبيرة وتكتنفهم معاملات وتجارات ونوازع شتى وفنون حضارة تحتاج في كل وقت إلى الرأي الجديد، لا تغنى عنه النصوص القليلة المتداولة. جاءوا يدلون بدلوهم في الدلاء، يتحرون ويتقرون لم تكد تهدأ رحلتهم بعد، ولم تكن لتهدأ إلا بعد أن تستنفدها شتى ضروب النشاط المادي والفكري أو يعتورها الكلال والهرم.

لقد تلازم الاجتهاد والجهاد في تاريخ الإسلام، وتحالف الركود الفكري والركود العسكري من ألف عام:

قامت مدرسة الكوفة تقول بالخلق والابتكار، واستعصم أبو حنيفة فيها مستمسكاً بالرأي وبالتشدد في قبول الأحاديث ورواتها وعارض فقهاء المدينة وأشياعهم.

ثم تطاول الخلاف الفقهي فتحول إلى خصام، وأعلنت حرب المذاهب بين كلمات قارصة كقول القائل: " وضع أبو حنيفة أشياء في العلم، مضغ الماء أحسن منها." ومستشنعات من الألفاظ سنرى أمثالاً منها بعد: وغدا فقه العراق هِمَّ الحجاز المقيم المعقد..."

لكن سياسة عثمان أولَت البصرة اهتماماً جعلَها المركز الأساسي لإرسال الجيوش التي زحفت إلى كرمان وسجستان وخراسان سنة 31 للهجرة وعُني عثمان بالبصرة وأهلها عناية عمر بالكوفة وأهلها.

إن الإمام علياً عندما فكّر في جعل الكوفة عاصمةً للخلافة فكأنه يستلمها من عُمر بعد معركة الجمل بين البصرة العثمانية والكوفة العمرية وكان الإمام علي يسعى لأن تستعيد الكوفة مجدها السابق.

وبتعبير المذاهب والفرق كانت الكوفة من شيعة عمر وعلي وعمار بن ياسر.

والبصرة من شيعة عثمان وعائشة والزُبير وطلحة بن عبيد الله، والفريقان هما، من أتباع محمد (ص).

إن المؤرخين يتداولون بظلم معلوماتٍ وأحكاماً عن أهل الكوفة كمثال للشخصية العربية المعروفة عندهم بالشقاق والنفاق وقطع الأعناق والأرزاق، فيما أخذت الكوفة قطعَ الأعناق والشقاق مرةً من قبائل الردة التي استوطنتها، ومرةً من انشقاق البصرة على خليفتها الشرعي، وبقيت الكوفة عربيةً خالصة ولم يكن للعراقيين الأصليين عليها شيءٌ من عناصر النفوذ والقوة وشعبها متسلح بتقاليده اللقاحية الصارمة وعقيدته الإسلامية النافذة. فتعرب بها من تعرّب من لم يكن عربياً ولم تتعرق الكوفة إلاّ في القرن الثاني للهجرة.

أي أن العراقيين لم يقتلوا الإمام الحسين،لأن أهل الكوفة لم يكونوا عراقيين آنذاك.

واستمرت مدينة أُحادية الجنس قبل أن تتحول في القرن الثاني إلى مدينة عالمية متعددة الثقافات والأعراق.

إن الكوفة في فجرها الأول هي على ما رأيتم.

والكوفة في فجرها الثاني هي مدينة الثقافة والعلوم والشعر واللغة مهمومة بهموم النُعمان بن ثابت ومدرسته وبنحو الكسائي ومدرسته.

أهل الكوفة ليسوا عراقيين !

مازلت مُتردداً في أي منهما سيكون نَسَباً تنتسبُ إليه الكوفة، وهل يَصِحُّ القول: إنها عراقية وأهلها عراقيون، وليس فيها من العراق إلاّ أرضها وموقعها على الخريطة.

أهل الكوفة هم أهلَ الأيام من المحاربين الأوائل في مأثرة الفتح وعناصر من المشاركين السابقين في حروبِ الردة، الذين تابوا وشاركوا في فتح بلاد فارس فاستوطنت الكوفة، ولم تكن من قبل مأهولة قبل صعود قبائل عربية من اليمن ومُضر ومذحج وكندة وتميم وأسد، فتشكل منها المركز العسكري العربي الكبير في العالم الساساني السابق  ومركز القوة العربية، وكان أهل الكوفة هم الذين سيطروا أساساً على وسط إيران وشماله، من ميديا وقوقس وجرجان إلى طبرستان وأذربيجان.

ولأن مُجتمعها من تلك الأصول القبليّة العريقة المعروفة بثقافتها اللقاحية أي رفضها للسيطرة المركزية والخضوع لقوةٍ فوقها وتمردها على الآخر المُتسلط، فقد طُعِنَت الكوفة بالانشقاق والنفاقِ، كونها عراقية، ولم تكن بَعْد قد تأثرت بمناخ العراق.

نخلة العراق أم زيتون الشام:

بعد استطراد تاريخي وسياسي أشغلنا قليلاً عن فاكهة الشام وعلاقة العرب بالزيتونة، التي يلتقونها حديثاً، أقولُ:

إن العرب فضلت رُطبَةَ التمر على التينِ فهل تُفضِل عليها مرارة الزيتون؟.

ألا ترى أن العرب حتى الآن لا يستسيغون الزيتون مثلما يتلفتون في موائدهم بحثاً عن الرُطَبِ المفقود.

أقولُ: إن الشجرة العربية المفضلة هي النخلة بلا منازع وليست الزيتونة وسنحتكم إلى أحاديث نبويّة وشواهد من شعر العرب لتصبحَ النخلة منجماً لغوياًُ تخرج منه المصطلحات إلى يومنا هذا، فتستقل بما لم تستقل شجرةٌ أخرى باسمٍ خاص لأغصانها وهو السَعفُ، وجعلوا من سُعفتها أداة لإغاثة المستغيث وجبر المكسور فقالوا: أسعفْهُ، أي قدّم إليه السَعفة فأغاثه ونجّاه من الغرق أو طبّبه بها ومنها عرفنا الإسعاف الطبي. فهل رأيتم أثراً للزيتونة في لغة العرب؟.

كان عَصُر عمر امتحاناً لقبائل الجزيرة  واليمن لاختيار شجرتهم ومدينتهم. فصدقوا للنخلة وانتسبوا للبصرة والكوفة، فكيف استطالت صراعات المذاهب فصارَ العراق لعلي والشام لِعُمر، فريقين متصارعين، وهُما جيش واحد ومدينة واحدة وسلوك محمدي لا ينشطر الواحد فيه شطرين إلاّ بمناشير القطيعة؟.

 

الـمثــالب الجـلـيـلـة

إذا كـان عمـر خاطـئـاً

فالشـــورى خـاطئـة!


 

المجتهدات العمرية:

أحصينا لدى الدكتور على محمد الصلابي أربعا وثلاثين مسألة فقهية اختار عمر العمل بها، وعنه أخذتها المدارس الفقهية الإسلامية كلها، أو بعضها.

ومع ذلك فالمؤرخ الدكتور محمد حسين هيكل لا يرى في عمر ميلاً نظرياً أو أن ما يصدر عنه من اجتهادات جاءت من هذا الجانب وهذا صحيح.

إن الحياة الاجتماعية ومستجدات السياسة اليومية، والتغيرات الكبرى التي أحدثتها الفتوحات والاتساع الجغرافي والسكاني للدولة الناشئة، هي التي أملت على عمر بن الخطاب هذه الاختيارات، ومنها:

كراهة الصلاة في جلود الثعالب(*).

إن جلد الميتة يطهر بالدباغ إذا كانت طاهرة في حال الحياة.

إنه إذا شرط: أنه متى حلّ الحقّ، ولم يوفّ، فالرهن بالدين، فهو مبيع بالدين الذي عليك، فهو شرط فاسد.

إذا وجد الغريم عين ماله عند المفلس، فهو أحق بها.

أن عين الدابة تضمن بربع قيمتها.

أن الشفعة لا تكون إلا في المشاع غير المقسوم.

تجوز المساقاة في جميع الشجر.

لاتلزم الهبة إلا بالقبض.

من وهب لغير ذي رحم، فله الرجوع ما لم يثب عليها، ومن وهب لذي رحم، فليس له الرجوع.

إن مدة تعريف اللقطة سنة.

يجوز أخذ اليسير من اللقطة، والانتفاع به من غير تعريف.

إن اللقطة إذا تجاوزت المدة المعتبرة، فلم يعرف مالكها،صارت كسائر أمواله غنياً كان، أو فقيراً.

اللقيط يقر بيد من وجده، إن كان أميناً.

جواز الرجوع في الوصية، وقال: يغير الرجل ما شاء من وصيته.

إن الأخوات مع البنات عصبة، لهن ما فضل.

إن للجدات وإن كثرت السدس، وهو قول أبي بكر. في أم، وأخت، وجد، للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي للجد. إذا كان زوج، وأبوان، أعطى الزوج النصف، والأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وإذا كانت زوجة، وأبوان، أعطيت الزوجة الربع، والأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وهاتان المسألتان تسميان بالعمريتين، لأن عمر – رضي الله عنه– قضى فيهما بهذا اختيار توريث ذوي الأرحام إذا لم يكن ذوي فرض، ولا عصبة.

يستهدي بالنص لتوليد النصوص

تشكلت في عهده دولة كبرى بأجهزة صغيرة ومؤسسات صغرى وبآليات شبه بدائية، وبمثل عليا سامية أضفت على الدولة طابعها، فحكمت الدولة لا بمنظومة إدارية أو بشبكة أمنية متراصة، بل بمنظومة قيم متعاشقة. وباجتهادات قائمة على شراكة. فكأن حكمه أقرب إلى حكم الجبهة الوطنية في أيامنا، في جانب المشاركة. لكن دولة أخرى لم تتوصل بعد الى التطبيقات العمرية للمثل العليا في الإسلام. وهو ماسميّناه بالطباق العمري. حيث تنعدم الفروق بين النص النظري والمقطع التطبيقي على الأرض، فاستكملت في زمنه أحكام الآليات القرآنية والأحاديث النبوية، فعاد إلى فقهاء الصحابة وعلى رأسهم الإمام علي ليتشاوروا في مراجعة النص، ويستخرجوا أحكاماً تتواءم مع مستجدات الواقع الإسلامي الجديد، فنسب إلى عهده الكثير من التطورات الفقهية والفكرية.

ولهذا فلم تكن نسبة المسائل الفقهية إلى عمر مبالغاً فيها، لأنها في الأساس حصيلة لآلية وضعت لتوسيع المشاركة في التطورات السياسية والعسكرية والفقهية.

 تحريم زواج المتعة

لم أتوقع أن تكون لزواج المتعة الذي حرمه عمر هذه الحساسية لدى بيئتي الشيعية، حتى عندما نددت بهامش سريع بأهل المتعة في كتابي (الشيعة والدولة القومية).

وكنت أحسب أن معيار تحليلها وتحريمها مرهون بالمعايير الاجتماعية، وقد عشت خمسين عاماً في محيطي البغدادي بين الكرادة الشرقية وكرادة مريم، وكلتاهما كانت شيعية، فلم أسمع قارئاً حسينياً أو حديثاً على لسان أب وجد، يدور حول المتعة، وهكذا ينطق بها دون مضاف. وهي ترد مفردةً على غير العبارة الفقهية "زواج المتعة".

ولكنني كنت أسمع أن بعض الرجال الموسرين يذهبون إلى إيران ويستمتعون بالنساء هناك([1]).

وعند خروجي إلى سوريا ولبنان، كثر المسموع عن زواج المتعة، بحكم وجودي كمعارض سياسي سابق قريباً من بيئة إسلامية محضة وكان جوابي على إشكال التحليل والتحريم، أني لست إسلامياً، وأن الحلال فيها والحرام لا أستمده من نص فقهي لحل إشكال كهذا، وإنما من موقف المجتمع إزاءه وهل هو من الفضائل التي يصرح بها أم من الحالات التي إذا حدثت فعلى نطاق المستور؟!.

لا أحب تكرار السؤال المكرر والموجه إلى المتحدثين عن حلالها، وإذا كانوا يوافقون على تزويج أحد نسائهم زواج متعة!. ولا أدخل في مساجلات يثار فيها زواج المسيار عند أهل السنة وأنواع أخرى بدأت تنشأ في حجر موصدة وأمام عيون مفتوحة.

أقول.. لست بهذا الصدد،ولكني أرى في المتعة مشهداً لا يتقبله العرف العام، والذوق العام، والشرف العام، والتقليد العام، إذ لايعقل أن أرى رجلاً مع شقيقتي يتغير ثلاث مرات بالسنة، إذا كان زواج المتعة بشروطه وعدته، وإلاّ فالخارجون على الشروط يمكن لهم أن يروا مئة رجل لشقيقة واحدة في العام الواحد!. فإذا كان ذلك مقبولاً في الشرع، فلست ممن يتقيد بهذا الحلال. وهذه مسألة اجتماعية لا أقترب فيها من نص يحللها أو يحرمها، ولو كان محرّمها من أهل الجاهلية. لما تغير في الأمر شيء ولأتبعته عرب الحاضر، عن طيب خاطر، مادام ذلك نابعاً من طبيعة المجتمع وأخلاقياته التي درج عليها، ولِمَ لا والكثير من محرّمات الجاهلية، بقيت على حالها في الإسلام؟.

وفي رواق علمي خالص، تثار روايات استفهام على جملة إجراءات وقرارات دينية وسياسية واجتماعية مما يروى ويسمع من نقد بعيد عن منابر القطيعة والتشهير، طففناها مسرعين في ثنايا الصفحات مادامت طفيفة.

أما العلامات العريضة، فتستوجب مراجعة  أوفى وأكرم ومنها:

·      هل اغتال عمر،سعد بن عبادة الأنصاري زعيم الخزرج، وأول مرشح في السقيفة؟.

·      هل كان مصيباً باجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب؟.

·      من أين يستمد صلاحياته في الاجتهاد بما لم يكن لغيره؟.

·      هل يمتلك عمر حق إدخال عبارة الصلاة خير من النوم في أذان الصبح؟

·      هل كان الزهد مطلوباً منه في عصر الفتوحات؟.

·      لماذا لا تحتفظ سيرته بالحكم والوصايا؟.

·      مشكلات الدرة التي يخفق بها الناس؟.

·      هل أحرق مكتبة الاسكندرية؟.

في بعض هذه التساؤلات تلتبس المثالب بالمكارم، وقد ينتهي التطواف بها إلى شاطيء الفضائل، وتكون ذاتها.. المثالب الجليلة؟.

مثلما كان الموقف في السقيفة من وجهة نظر سياسية، وكما هي الحال مع تحريم المتعة من وجهة نظر اجتماعية، فلنكتم أنفسنا لآخر المطاف.

غير أن اعتراضات فقهية تتصدر لائحة الاستفهام الأولى ضد اجتهادات عمر بن الخطاب في قضايا خطيرة.

ولأننا نتعامل بالسياسي والاجتماعي، وننأى الخوض فيما نحن لسنا مؤهلين له في مسائل الخلاف الفقهي، فكان طبيعياً أن تندرج اجتهادات عمر معنا، حيث اندرجت في المدرسة المصرية، وعند التنويريين، وهي عندنا من مفاخر العقل الإسلامي، دونما حاجة إلى شيء من التوسل بالمسوغات الفقهية والاستدارات المنطقية لتمييع المجتهدات العمرية وحشدها في مسائل الأتباع والتقليد، وهي مما انفرد بها عمر، فأبدع بالممكن وأعطى الإسلام زخماً ظل الفقهاء يفتقرون إليه.

ومما يتيح حرية البحث في الانتقادات الموجهة إلى عمر بن الخطاب، أنه لا يدخل في العصمة حسب القواعد الإسلامية، وكان على ظننا يتعمد إشهار بشريته فيمنع اعتبار ما يقوله إلاّ رأيه هو وليس رأي الله. ويعلو صوته في انتقاد خطأ وقع فيه، وترتفع نبرته درجة أعلى عند تخصيص من قال بخطئه امرأة كانت أم رجلاً.. صحابياً كبيراً أم عابر سبيل. ولم يكن وهو "يجلد" نفسه، إثر حوار يُخَطّأ فيه، إلاّ متعمداً تحقيقاً لبشريته واحتمالات الخطأ والصواب.

إن الجانب البشري في عمر بن الخطاب يغري الناس في مساءلته واستجوابه دونما حرج، ولا أخفي انبهاري بهذا الجانب، وإباحة سري، في الميل نحوه، والجرأة على الكتابة فيه، إن بشرية عمر تجعل "مثالب القطيعة" جليلة وانتقادات المحايدين قابلة للرأي وضده.

الصلاة خير من النوم

أرى أن أذان الفجر ينطوي على روح طبقية في ذات النبي (ص)، ثائرة على البطرين والمدللين والكسالى والفارغين الذين ينامون حتى الضحى، وكنا نتمنى لو كان صوت المؤذنِ حياً، تحس فيه بحرارة الوجدان، وليس مسجلاً على شريط مخروط.

إن بعض المتحدثين ينسبون إلى عمر بن الخطاب إضافة جملة والصلاة خير من النوم إلى الأذان، فهل لدينا من المعرفة التاريخية والفقهية مايدفعنا إلى تأييد هذا الرأي أو نفيه؟.

إن بعض المؤرخين إذا كانوا من أهل المذاهب، فهم مثل أهل السياسة والعقائد الذين يكتبون التاريخ الحديث على ضوء عقائدهم، وليس على منعكس الأحداث والوقائع. لكن الرواية تعكس شخصية صاحبها وعندي شيء من الثقة بالقدرة على فحص الرواية العمرية على ضوء سايكولوجية الرجل، وما نتعارف عليه بعالمه الخاص في الذائقة والمعرفة، والوجدان والأسلوب، وسيكون اجتهادنا أنها لم تصدر عن عمر، ليس بالدليل النقلي، كما قلنا وإنما بمواءمتها مع روحية عمر وأسلوبه، وهما معروفان لدينا.

المعتقد أنها ترتبط بالسنوات الأولى للبعثة النبوية، والناس لم يعتادوا بعد على الاستفاقة في ذلك الوقت، إلا لألم أو مرض أو هَمّ من هموم العشق، فيسألون النجوم متى تغيب ليروا في الصباح التالي من يحبون رؤيته، فلا بد من حث المسلمين على اليقظة المبكرة، وإفهامهم أن الصلاة أفضل وأجمل من الاستغراق بالنوم.

وننكر أن يكون ذلك حصل في خلافة عمر، ورغبة منه، لأن المدينة تعودت على صلاة الفجر بعد تلك السنوات، وصار مألوفاً أن تبدأ نهارها قبيل ظهور الخط الأبيض في الأفق، فيستمر بعضهم يقظاً، ويعود آخرون إلى افتراش أرضهم.

وفي جانب الأسلوب ننكر أن تكون العبارة لعمر، وهي تشير إلى طلب شفيف، يدل على مرحلة مبكرة تستدعي الرفق الشديد بالمسلمين الناشئين والحذر من أن يغلبهم النوم، فيما الإسلام في عهد عمر قد تجذر وتجذرت طقوسه في نفوس المسلمين،حتى صارت العبادة عادة.

أما آخر ما نزعم به لإنكار صدورها عن عمر، أنها لو لم تصدر في زمن الرسول (ص) واجتهد عمر إضافتها لأسباب موجبة لوردت العبارة بلغة ناهية أو آمرة مشبعة بإحساس القوة التي وصل إليها المسلمون في عصره، وليست من طبيعة عمر تلك الموادعة والليونة، فيترك المكلفين مستغرقين بنومهم، وهو الذي يعالج أسباب صراخ الطفل الذي لم ينم ليلته. وهو صاحب العسس، جَّواب الليل. فكيف يدع المبطرين نائمين والصلاة قائمة؟.فيلامسهم بما هو بديهي. والبديهي أن الصلاة خير من النوم!.

كان عمر على طريقته هذه، سيخرج النائمين والدرة تعلو رؤوسهم، ولو كانوا قادة من وزن سعد بن أبي وقاص أو شعراء من وزن حسان بن ثابت.

أقول لو أن الضرورة دفعت بعمر لإضافة عبارة، الصلاة خير من النوم إلى الأذان، لكان النص كما أتخيله هذه الساعة يملأ مسامعي على الصورة المفترضة معاذ الله.

حيّ على الفلاح – حيّ على الفلاح

    لاخير في نائم، والفجر لاح

استغفر الله لي ولكم.

هل كان الزهد مطلوباً في ثراء الفتوحات ؟

يرى كتّاب علمانيون أن زهد عمر فيه بعض التكلف والاصطناع، وقد يكون غير مبرر في دولة انفتحت على بيت المال، فيها خزائن الماس والذهب وأموال الخراج من أغنى دولتين في الشرق القديم، وطَفر معدل الدخل الفردي إلى أكثر من مئة ضعف، ودخلت أموال إلى المدينة فقيل أن بعض الصحابة كانوا يكسرون أحجار الذهب بالفؤوس.

ويدعمُ القائلين بهذا الرأي أنّ الدولة الإسلامية لم تكن تحرّم الثراء، والشرع يدفع المسلمين إلى التجارة التي ترد في النص القرآني والحديث الشريف في موارد الثناء.

إنّ الإمام علي يجيبُ على سؤال المعترضين من أهل العلمنة والحداثة في حوار مع الربيع بن زياد الحارثي منقولاً عن الأحنف بن قيس أنّ الحارثي جاءَ إلى علي وقال: يا أمير المؤمنين إنّ أخي عاصم بن زياد لبس العباءة وتنسّكَ وهجر أهله فقال له الإمام:

عليَّ به، فجاءه وقد ائتزر بعباءة وارتدى بأخرى، أشعث أغبر، فقال له: ويحك يا عاصم، أما تستحي من أهلك. أما ترحم وِلدك؟.

ألم تسمع قوله تعالى:) ويحّلُ لهم الطيبات(، أترى أن اللَّه أباحها لك ولأمثالك، وهو يكره أن تنَالَ منها، أما سمعت قول رسولَ الله (ص) إنّ لنفسك عليك حقاً ولولدك عليكَ حقاً؟.

فقال له عاصِم:

فما بالك يا أمير المؤمنين في خشونة ملبسكَ وخشونة مطعمك وإني أقتدي بزيك؟.

فقال له الإمام: ويحك إنّ الله فرض على أئمة الحق أن يتصفوا بأوصاف أفقر رَعيتهم، لئلا يزدري الفقير بفقره، وليحمد الله على غناه.

ودخَلَ سويد بن غفلة على الإمام علي في بيت الإمارة بالكوفة، وبين يديه رغيف من شعير وقدح من لبن، والرغيف يابس، فأنكر سُويد عليهِ ذلك فالتفت إليه الإمام قائلاً:

ويحَكَ يا سُويد ما شبع رسول الله (ص) من خبزٍ ثلاثاً تباعاً، حتى لقي الله، ولانُخل له طعام.

وفي رواية ثانية عن سُويد أنّه قال: دخلتُ على عليٍ يوماً، وليس في داره سوى حصيرٍ رثٍ، وهو جالسٌ عليه فقلتُ يا أمير المؤمنين أنت ملك المسلمين والحاكم عليهم وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود، وليس في بيتك سوى هذا الحصير فقال:

إن البيت لا يتأثث في دار النقلة.

وفي النص تتركز الإجابة على مبدأ قد نتعارف عليه بإشعاع النموذج أو جاذبية المثال يتصل بتعفف الحاكم فيتعفف من معه.

وهذا جانب أخلاقي وسياسي كان له دور في انجذاب المجتمع الإسلامي نحو حكامه الزاهدين.

ويتصل المبدأ الثاني بالمألوف الإسلامي الديني، الذي يعافَ متاع الحياة الدنيا، زاهداً بدار النقلة مطمئناً إلى ما ستوفره دار الإقامةِ.

لم يستمر زهدُ الخلفاء بعد أبي بكر وعمر وعلي ويعزو مؤرخون كطه حسين وعلماء اجتماع مثل علي الوردي ومفكرون يساريون كهادي العلوي وحسين مروة إلى عثمان بن عفان مسؤولية الخروج على زهد عمر وعلي إلى حياةٍ أكثرَ رفاهاً وترفاً.

يقول هادي العلوي في كتابه فصول من تاريخ الإسلام السياسي:

إن البناء الذي شرع عمر بن الخطاب في إرسائهِ على صعيد السياسة الداخلية انهار بعد مقتله مباشرةً، وذلك حين توصلت الارستقراطية الإسلامية إلى تعيين عثمان في حين أثبتت السرعة التي نقضَ بها عثمان إجراءات عُمر عدم متانة الأساس الذي قامت عليه، وقد عبّرت سياسة عثمان. عن نقاوةِ موقفهِ (الطبقي) كان انحيازه الحاسم إلى الأرستقراطية قد رافقه وقطَعَ أوهى الصلاتِ، التي ربما كانت تجمع الإسلام الرسمي بالعناصر المستضعفة في المجتمع الجديد.

قد لا أتفق مع هذا التحليل، لعدم اعتمادي أساساً على المنهج الطبقي في تفسير التاريخ، ولِظني أن التطور الاجتماعي الذي أحدثته الفتوحات في زمن عمر واستمر إلى خلافة عثمان كان سينقل الدولة الجديدة إلى مرحلة أخرى لم يكن للجزيرة العربية عهدٌ بها، وكان رأس الدولة  سيتصرف سواءً كان عثمان أم غيره على ضوء العناصر الجديدة والواقع الرأسمالي الجديد لهذه الدولة.

لكن عثمان كان دائماً يدفعُ ثمن التطورات المفاجئة اقتصادية أم سياسية أم إدارية، لأن نصيبه المُقدّرَ قد وضعهُ خليفةً لعمر وأمامه إمام تتطلعُ إليه قلوب المستضعفين من أهل الإسلام الأوّل.

إن عثمان كان في مأزق سيكون مثله أي مُرَشح من الستة الذين تنافسوا على الخلافة في مجلس الشورى.

كان الإمام علي يستحوذ على أحلام ومشاعر عامة فقراء المدينة وأرجاء الدولة الإسلامية، فيما الاتجاهات العامة للدولة لم يكن باستطاعتها أن تخضعَ للاتجاهات الطبقية التي يعزُزها تعفف عمر وزهد علي. ولم يستوعب هذا الخط أن يُقاوِم النقلة، التي أحدثتها الفتوحات في المجتمع والاقتصاد والثقافة وما يترتب على ذلك من تأثير في المزاج والطموح لدى المسلمين.

باعتقادي فإن أول من استجاب لهذه النقلة الاقتصادية والحضارية هو عثمان، الذي لم يجد في مزاجهِ وتربيته منذ الطفولة، وحتى الشيخوخة ما يتناقض ومفهوم الرفاه. وقد نشأ أميراً في محيطه وصاحب ثروة وممولاً للحركة الإسلامية الجديدة التي قادها النبي (ص).

وكان التطور الذي حدث عند عائشة مشابهاً لواقع عثمان، فهي زوجة مؤسس الدولة الإسلامية، وقائدها نبي المسلمين وابنة أول خليفة في الإسلام، والصحابية التي كان الصحابة يتنافسون على رواية حديثها، وقد امتدّ بها العُمْر إلى ما بعد الثمانين، وأصابت حِصَتَها من الغنائم طيلة سبعين عاماً. وسيكون لعائشة دور الأميرة المُعاصِرة، وهي تُطِّلُ على أعرابِ وفقراء متمردين على الخليفة فتُعبر بكلام ينقله الطبري، ويجد فيه الماركسيون مبتَغاهم لوصفها ممثلة الأرستقراطية الإسلامية الجديدة.

تقول عائشة:

إن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمرٌ، ويردد الزبير بن العوام شيئاً من روح حديثها، وقد تحول هذا الصحابي إلى طبقة جديدة مدعوماً بشرف الصُحبة ونبالة النَسَب القريب من النبي (ص) ليقول عمن يُسميهم بغوغاء الأمصار، وقد ظاهرهم الأعراب والعبيد يتزاحمون لهجوم على بيتِ الخليفةِ الثالت فيقتُلُونَهُ.

( إذا لم يُفطَم الناس من أمثالها. لم يبقَ إمام إلاّ قَتَلهُ هذا الضرب).

ليس لعمر حكم ووصايا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

يضفي المنهج الكلاسيكي على عمر بن الخطاب معظم العناصر والسمات التي يشترك فيها من هم في درجة أدنى من الأنبياء حواريين وصحابة أئمة ومريدين وأتباعاً من الرعيل الأول.

ومن هذه السمات أن يكون الحواري والصحابي والإمام في عداد الحكماء، الذين ينقطعون إلى أنفسهم، فيتعلقون بعالم المثل الإلهية، وتتحد مخيلة الصحابي والإمام والحواري والفقيه الأول بالمنشور الروحي، ويستحيل الواحد منهم حكيماً كلقمان أو أفلاطون أو كونفيشيوس.

إن بعض الدارسين والمتحدثين صنفوا عمر بن الخطاب في هذا الطراز المنقطع إلى فكره والمقيم مع مخيلتهِ.

أما تيار القطيعة فلطالما تحدث عن فقر الميراث العمري من الحكم والوصايا، وهي عندي من المثالب الجليلة وسنرى دليل قولنا هذا.

إن عمر ليس معدوداً في الحكماء ولم تتسق ظروف الحكمة مع مزاجه أو طبيعة عملهِ في الجاهلية والإسلام.

فهو أولاً رجل عملي واقعي، يعيش تفاصيل الحياة اليومية، ويجبره الصغير فيها بما يجبره الكبير، فيما الحكيم منقطعِ معتكف، جسده على الأرض وعيناه إلى السماء أو أن تستديرا نحو الكائنات الصغيرة مشغولاً بها لعله يخرجُ من عزلته قواعد للناسِ.

وعمر من أصحاب المشاريع الكبيرة، وهؤلاء أقل الناس كلاماً وأوجزهم نصائح وأبعدهم عن الوصايا، فإذا انقضى عهدهم تركوا للشعراء ولملتقطي الحكمة سجلاً حافلاً غير مُسجل على لسانهم بل هو مطبوعٌ على تجاربهم اليومية.

لم يكن عمر بن الخطاب محسوباً على المفكرين والمبدعين، لكنه كان يمتلك حاسةً مشبعةً بروح العدالة، وروحاً شعرية شفيفة، ولم يضع عمر أمامه فكرةً يكرهها على أن تتحول إلى الحياة بالقوة، وإنما تتحول التجربة عنده إلى فكرة.

إنه أقرب إلى صنف التكنولوجيا وليس من صنف التنظير المثالي.

لم يقرأ عمر بن الخطاب كتاباً في أخطار الهجرة الريفية على الاقتصاد الوطني، عندما قرر إجلاء أبناء القبائل الذين لجأوا إلى المدينة المنورة في عام الرمادة بعد عودة المطر والظهور الأول للعشب والماء في الجزيرة، عند انتهاء الجفاف في ذلك العام.

ولم يكن عمر يبحث في المثيولوجيا ولا في الانثربولوجيا حين منع أبناء الشعوب المفتوحة من الإقامة في المدينة. فهو في ذلك الوقت كان معنياً ببناء مجتمع ناشىء متجانس وبتجربة حديثة العهد، قد تتضرر من اتصالها واحتكاكها بثقافات سابقة وتجارب عريقة لليهودية والمسيحية والمجوسية ولنظريات الحكم الساساني والروماني.

لكن بعض الصحابة كانوا يستقدمون معهم أشخاصاً معدودين كاصطحاب سعد بن وقاص شخصاً يدعى جُفينة، واصطحاب المغيرة بن شعبة لرجل يُدعى فيروز المكنى بأبي لؤلؤة. وهو الذي اغتال عمر بن الخطاب بخنجر مسموم.

إن عمر منع في السنوات الأولى الاحتكاك الأجنبي بمجتمع المدينة حفاظاً على نقائه وسلامةِ دينه ووحدته، وفي ذهن عمر حذر أن لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، وكما يقول أبو يوسف صاحب الخراج، فإن الفاروق خاف من النصارى على المسلمين.

وهكذا أجلى نصارى نجران ويهود خيبر من قلب الجزيرة إلى الشام والعراق وشمل الإجلاء مراكزهم المنظمة ومؤسساتهم وأبقى الأفراد البُسطاء الذين لا يشكلون خطراً .

يذكر أن النبي محمد (ص) قد أبقى اليهود والنصارى في أيامه وأجلاهم عمر في أيامه.

وعمر يعطي للمستجدات الاجتماعية والاقتصادية حقها ودورها، فقد انتزع أرضاً أقطعها النبي (ص) إلى بلال بن الحارث المُزني، وطلب عمر منه أن يحتفظ بجزء يسير ويُوزع باقي الأرض على مستحقيها.

سُّره غير المخفي ومفتاح سيرته وشرط فهمه وتفهمه محصورٌ في قاعدة وشرط عدم الامتثال السريع، فهو لا يركض إذا ركض أقرانه من صبيان بني عدي وراء صوتٍ أو صخبٍ، ولا يستسلم لرأي استسلام المريد، وفي شخصيته حصانة داخلية تحول بينه الاستقبال السريع للمعلومة والفكرة والخبر.

وعلى صعيد التنفيذ فهو لا يقدم على أَمرٍ دون أن يناقشه حتى يقتنع به. على أن يفتح أذنيه للإصغاء قبل أن يفتح صدره للمناقشة والاعتراض.

وكانت روح المعارضة تملأ صدره، وكأنه ليس رئيس هذه الدولة وأميرها فيندد بمخالفات الولاة ويقاضي رجال الصف الأول من الصحابة.

ويخفق رؤوسهم بالدرة، وإن كان المخفوق بمستوى سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وطلحة والزُبير والمغيرة بن شُعبه.

كان إحساسه بالعدالة يلتقط ظلم الولاة وجنوح الأمراء، فيبدو دوره أقرب إلى رئيس المحكمة الدستورية في دولة ديمقراطية.

أجلاء اليهود والنصارى عن جزيرة العرب :

كان قرار عُمر إجلاء المسيحيين واليهود من شبه الجزيرة العربية مفاجئاً، فهم في الأحكام أهل ذمة وحقوقهم على الدولة وواجباتهم مقطوعٌ فيها. وهم في المواطنة عرب، وعمر بن الخطاب مُتعرب، والمتعربون كما يقول الجاحظ في كتاب العثمانية هم من لهم ميل وحب للعرب تاريخاً ولُغةً ومَصالِح.

فعلى أي مُسوغ قام قرار الخليفة؟.

من حق المستشرقين التقاط هذا الإجراء، ووضعه على سطور التشريح والنقد والانتقاد، فكأنه قرار يصدر من خارج عُمر. لو فَصلّنا ثيابه  ومزاجَهُ وعقيدتَهُ فما الذي حَصَلَ؟.

إذا كان الدافع الخشية من الكيد، فقد أُتُهِمَ اليهود على مرِّ العصور وتغيّ‍ر الأمكنة بهذه المثلبة التي أُلصقت بهم بحق أم بغير حق، فما الذي فعله النصارى حتى يخلي الجزيرة منهِم؟

أجابَ فقهاء ومؤرخون على هذه التساؤلات بقواعد الفقهِ وأحكامه مما لسنا ضليعين به، لاسيما والكتاب يبتعد عن ملامسةِ الجوانب الفقهيةِ، ويركز على ما هو سياسي واجتماعي حتى في تناول المسائل الدينية.

وهو رأي. وعمر يرفض أن يكون للهِ دورٌ في رأيه، فيقولُ:

انه رأيي. فإن أصبت فهو لي، وإن أخطأت فهو عليّ.

أمّا ما هو لله فهو منصوصٌ عليهِ.

ولَكَ أن تقول بخطأ في قرار لعُمر، وتعترض مثلما اعترضت امرأة في المسجد النبوي على مسألة تحديد مهور النساء، فذكرته بالآية التي أطلَقَتْ المهور واعتذر وقال حكمته المشهورة: اخطأ عمر وأصابت امرأة.

فهل أخطأ ولماذا لم يعترض عليه أعضاء المحكمة الدستورية في مجلس الشورى المُنعقد خمس جلسات في اليوم بعدَ الصلوات الخمس.؟

ولأننا لسنا من أهل الفقه، فسنقتصر الإجابة على مُقرارات سياسية واجتماعية وما يتعلق بهما، فنقول في دوافع هذا القرار: إن صحوةً دينيةً كانت رياحها تضرب أنحاء الجزيرة قبل الإسلام، الذي لو تأخر ظهوره نصف قرن لكانت الجزيرة العربية حالياً جزيرة مسيحية مع أقليّة يهودية  ومجوسية.

ولأن جوارها، الدولة الرومانية في بلاد الشام، كانت المسيحية مُرشحةًُ لهذا الدور، فقطع ظهور الإسلام عليها فرصة الانتشار العربي. والمنافسة كانت ستكون شرسة في الجزيرة لو تأخر ظهور الإسلام قليلاً. 

أمّا اليهود فهم وبسبب عدم أخذهم بأسلوب التبشير، فلم يكن ثمة خوف من انتشارهم، لكنهم أصحاب مهارات لم يرتقِ إليها سُكان الجزيرة، لاسيما المهارة المالية والإدارية والتنظيمية مما كانت بدايةَ تأسيس الدولة الإسلامية تفتقر إليه وتحتاجه.

وكان ممكناً لو لم يجرِ عليهم ذلك الإجراء وفيض الأموال يزخ عليهم من  بلاد الشام وبلاد فارس ومصر وظهور طبقة رجال الأعمال من الصحابة، وهم تجّار مُتمرسون، وباتساع الأموال والمؤسسات أن ترى مع كلُ رجل أعمال صحابي مدير أعمال يهودي يصرف أعماله، وصاحب المال يدري أو لا يدري، كما هي حال أهل الخليج في أيامنا هذه، فلكل رجل أعمال مدير لأعماله من مسيحيي لبنان الماهرين أو من مسيحيي أوروبا. 

ونَميل إلى سبب آخر ربما فكّر عمر به، والله أعلم، لتفسير قرار إجلاء اليهود والمسيحيين من الجزيرة العربية، حاجة الأمم والدول في سنوات نشوئها الأولى للتجانس الاجتماعي، الذي بدونه قد تقع مكوناتها الناشئة تحت ضغط النموذج الحضاري لديانات متمرسة ومقتدرة على أن تجد لها مكاناً في زحمة انشغال المجتمع الإسلامي بمآثر الفتوحات.

إحراق عمر  مكتبة الاسكندرية

في المتداول التاريخي أن عمر بن الخطاب أمر عمرو بن العاص إحراق مكتبة الاسكندرية، التي أنشئت في عهد البطالسة، وفيها 700 ألف مجلد، فأسعفت آلاف الحمامات بوقود لمدة ستة أشهر.

يرى محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق إن هذه الرواية "إحراق عمر مكتبة الاسكندرية"، نشأت في  بيئات شيعية. قائلاً: " ولعل هذه الأسطورة نجمت في بيئات الشيعة، فذكرها أبو الحسن القفطي في كتابه: "تاريخ الحكماء"، ونقلها عنه أبو الفرج بن العِبرى، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تداولها عنهما من جاء بعدهما من المؤرخين. وقد أحكموا حبكها. وفي وسعك أن تتبيّن هذا الإحكام من طريقة روايتها. فقد ذكروا أن قسيساً من القبط يدعى حنّا([2]) النحوي عزله مجمع الأساقفة لزيغ في عقيدته، كان قد اتصل بعد الفتح بعمرو بن العاص، فلقى عنده حظوة لذكائه وصفاء ذهنه وغزارة علمه. فلما اطمأن إلى إقبال عمرو عليه، قال له يوماً:" لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف. ولست أطلب إليك شيئاً مما تنتفع به، بل شيئاً لا نفع له عندك وهو عندنا نافع ".

وسأله عمرو: ما يعني بقوله، فأجاب:" أعنى بقولي ما في خزائن الروم من كتب الحكمة ". فقال له عمرو:" إن ذلك أمر ليس لي أن أقتطع فيه رأياً دون إذن الخليفة". ثم إنه بعث إلى عمر يسأله رأيه في الأمر، فجاءه الرد من المدينة وفيه ما يأتي:" وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ماجاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيها وأحرقها ". فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو، وأمر بالكتب فوزّعت على حمامات الاسكندرية لتوقد بها، فما زالوا يوقدون به ستة أشهر. هذه خلاصة وجيزة لرواية القفطي، وقد أردفها بقوله:" فاسمع لما جرى وأعجب!"

أنت ترى براعة الحبك في هذه القصة. فحوار بين حنا وعمرو، وكتاب من عمرو إلى الخليفة، ورّد من الخليفة يأمر بإحراق المكتبة، وتفصيلٌ دقيق للطريقة التي نفّذ بها هذا الأمر. كيف يبقى بعد ذلك كله أي ريب في صحة هذه الوقائع؟! وكيف يخالج المؤرخين المسلمين فيها الشك وقد كتبت في القرن السادس الإسلامي حين جمد التفكير والنقد، وأصبح جهد المؤلفين مقصوراً على نقل الروايات التي ذكرها من سبقهم دون تمحيصها لمعرفة صحيحها من باطلها. فليثبت المؤرخون المسلمون هذه القصة العجيبة كما هي، ولينقلها الخلف منهم عن السلف، وليذكرها المؤرخون المسيحيون مؤمنين بصحتها، وليعلّقوا عليها بما يشاءون، فهم لم يكونوا يتصوّرون الإسلام والمسلمين إلا اقترنا في أذهانهم بالتعصب المذموم والقسوة الوحشية. ولتبق هذه الوقائع مقطوعاً بصحتها حتى يلقي عليها النقد العلمي ضياءه الكشاف فيظهر بطلانها، فيزيفّها "جبّن"، ويزيّفها "سدّيو"، ويزيفها "رينان"، ويزيفها "جستاف ليبون"، ويزيفها "بتلر"، ويزيفها غير هؤلاء من المؤرخين، ثم تزيفها دوائر المعارف البريطانية والإسلامية وغيرها ويزيفها تاريخ المؤرخ، ويذكر في تزييفها ونفيها ما قرره علماء المسلمين صراحة من" أن ما يغنم في الحرب من كتب اليهود والمسيحيين الدينية لا يجوز بحال أن يقدم طعاماً للنار، وأن مؤلفات العلماء والمؤرخين والشعراء وعلماء الطبيعة والفلاسفة يحقّ الانتفاع بها لخير المؤمنين". ولا تحسب أن المؤرخين اكتفوا في نفي هذه الأسطورة بالإسناد إلى مثل هذا الاعتبار العام، فقد تناولوها بالتمحيص حتى ثبت لهم أنها لاتثبت له، ثم نفوا حوادثها واحدةً واحدة نفياً علمياً دقيقاً مستنداً إلى أوثق المصادر".

إبطال الرواية

ويبطل محمد حسين هيكل هذه الرواية ونوجز مناقشته في هذه النقاط.

إن الباحثين المستشرقين، ومنهم المستشرق البريطاني ألفرد باتلرسون صاحب كتاب " فتح العرب لمصر" اكتشفوا زيف رواية إحراق المكتبة، ونفوا أن يتحدث حنا  النحوي إلى عمرو بن العاص في أمر المكتبة، لأنه مات قبل دخول المسلمين مصر بـ115عاماً.

وإن مكتبة البطالسة لم تكن قائمة عند فتح العرب مصر. وقد احترقت سنة 48 للميلاد أثناء هجوم قيصر على الاسكندرية. وإحراق المصريين السفن حتى لايصل إليهم، فوصلت النيران إلى المكتبة. وجاءت على محتوياتها. وليس صحيحاً أن المكتبات التي نقلت محتوياتها بعد احتراق مكتبة البطالسة، وأقامت أخرى كانت باقية عند الفتح، فقد أهديت المكتبة إلى كيلوباترا عوضاً عن الخسارة التي لحقتها بضياع مكتبة أبائها ملوك مصر البطالسة.

ويأخذ المستشرقون على المؤرخ عدم حياده إذ تنتهي الرواية بقوله استنكاراً لما فعله عمر فاسمع لما جرى واعجب.

أما الأستاذ عباس محمود العقاد في عبقرية عمر فيتوقف عند هذه الرواية، ويخصها بست صفحات من الكتاب وباهتمام لم يوله لموضوعات أكبر منها أهمية لصلة العقاد بقضايا الفكر وأهمية المكتبات عنده وسخر من رواية إشعال الحمام بمجلدات مكتوبة على الرق الذي لا يشتعل!.

لم تكن الرواية شيعية

ولم يتحدث العقاد عن بيئات شيعية صدرت عنها الرواية، بما كان يوحي عند هيكل أن أبا الحسن القفطي وابن العبري من بعده كانا من أهل التشيع، لكن العقاد يثير نقاطاً جديدة، فيلقي الضوء على القفطي أو ابن القفطي، وكان له أب معجب بصلاح الدين الأيوبي، فولاه قضاء القدس. أخطر مهمة في الحروب الصليبية، وعاصر ابن القفطي، عبد اللطيف البغدادي المعجب مثله بصلاح الدين، فتلاقيا في القدس، وسمع منه هذه الأسطورة التي توسع ابن القفطي في نقلها، فكان أول من ألف هذه الأسطورة من حاشية صلاح الدين لتزكية حاكم مصر الجديد.

وبهذا المقطع يبطل القول بأن الشيعة كانوا وراء المحرقة المكذوبة.

وصلاح الدين حارب الشيعة، فليس معقولاً أن تصدر من مؤسسته السنية رواية شيعية تسيء إلى عمر بن الخطاب.

وبالقدر الخاص بكاتب السطور المستبطن. مناهج القطيعة، والمقيم سبعين عاماً في البيئات الشيعية الخالصة، له أن ينفي دوراً للشيعة في ترويج خبر حرق المكتبة، رغم أنني أجد احتمالاً لإمكان أن يكون الشيعة وراء الخبر المدوّن في القرن السادس الهجري في عصر الخلاف المذهبي واتخاذ الدولة السلجوقية إجراءات ضدهم وخروج فقهائهم من بغداد إلى ظاهر الكوفة وتأسيس جامعة النجف الإسلامية.

وهذه الملاحظة لاتقوم أساساً لانتحال تلك الأسطورة لتعارضها مع حركة التشهير بعمر وسقفه المعروف في تيار القطيعة، والذي يدور حول تنكيل عمر بأهل البيت  "واغتصاب الخلافة من علي"  و"مواجهة الرسول" و"صلته باليهود والنصارى" وكسر ضلع الزهراء و"إسقاط جنينها محسن" والسكوت على أبي بكر في وضع اليد على عقار كان للرسول ويدعى فدك، ولم يرتق مستوى التشهير" إلى مافوق ذلك! فيشمل إقدام عمر على حرق مكتبة تضم الميراث الوثني والمسيحي فيحرم البشرية من الاستفادة منها.

لقد عشت في محيطي منذ سنوات الوعي حتى الآن ستين عاماً، لم اسمع قارئاً وخطيباً من المعروفين بكراهيتهم لعمر، وهو يشير إلى إحراق مكتبة الإسكندرية، والسبب أن هذا العمل لا يعد من معايب عمر، وهو يحرق كتب الوثنيين والمسيحيين، ويفضلون رواية إحراق بيت فاطمة على إحراق مكتبة الإسكندرية!. ويروجون لها كلما مرَّ اسم عمر على متحدث منهم!.

شطحات الدرة

درَّة عمر ليست آلة للقمع ولا عصا للإهانة، ولاهي مما يسميه العسكريون بعصا التبختر المضغوطة تحت الإبط بين ذراع الرجل وجنبه، وإنما هي كما نكرر  القول شطبة من غصن رمان على الأكثر، أخذت اسمها من وظيفتها الأولى، حينما كانت تستعمل لمداعبة فخذ الحصان لحثه على الإسراع وملامسة ضرع الناقة أو البقرة لكي تدر حليبها فسميت بالدرة. ومعنى هذا أنها لا تصلح للإيذاء والإيجاع، لكنها عندي أداة إشارة وتنبيه لغافل او لمخالف، فكأنها تتحرك مثل عصا المايسترو على مسرح الأوبرا في توزيع هارموني، لا يعلوه صخب، ولا لغو من القول، ولا استخفاف بالآداب، ولا طفيف من الخروج على المقبول الاجتماعي، والديني. أما ما زاد على ذلك فهو من مهمة من سينفذ القصاص جلداً بالسوط أو بعصا العقاب. وإلا ما كان لعمر أن يخفق بها كبار الصحابة، ومنهم المبشرون بالجنة، ولم ير فيها المخفوق إهانة أو أذى يوجع الجسد والنفس.

ولعله لم يكن ينظر إلى من هو أمامه سوى أنه من الرعية، فيعلوه بالدرة اذا ما خالف هامشاً من تلك الأمور. وكان من المخفوقين بها طلحة والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة.

لكن المرويات لم تتحدث أنه خفق أًحدا من بني هاشم مما يثير التساؤل العريض عما وراء ذلك؟.

فلماذا خفق بها كبار الصحابة، ولم يخفق بها صغار بني هاشم، وهم عنده سواء، ومخالفة الهوامش توجب الخفق صدرت عن هاشمي أم من غيره. ألا يفسر هذا أن عمر كان يضع بني هاشم في مواضع أخرى؟. فإذا كان عمر يتوقف عند عامة بني هاشم فماذا كان مقام زعمائهم كالعباس بن عبد المطلب وابنه؟.

يروى أن عمر خفق رجالا ونساءً في الحرم، كانوا يتوضأون سواسية، ففرقهم، ثم قال لرجل من إدارة الحرم:

ألم آمر أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء؟.

ثم اندفع فلقيه الإمام علي، فقال عمر: أخاف أن أكون هلكت.

قال الإمام علي: وما أهلكك؟.

قال: ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله.

قال الإمام علي: إنك راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح، فلن يعاقبك الله، وإن كنت ضربتهم عن غش فأنت الظالم.

ويروى أن رجلا جاء إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي، فأعني على فلان فإنه ظلمني. وكان عمر، مشغولاً ببعض الأمور العامة. وقد يكون، والله اعلم، أنه شعر أن استجابته لمثل هذه الدعوات، تحول مركز الخلافة إلى مركز شرطة في قرية، فانتفض عمر وخفقه بالدرة قائلاً:

تتركون عمر وهو مقبل عليكم ـ أي عندما يقوم بجولاته في أحياء المدينة – حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه. فانصرف الرجل متذمراً. فهاجم عمر الخاضع دائماً لعتاب الضمير شعور عاجل بالإثم، فاستدعاه على الفور، وألقى إليه بالدرة وطلب إليه أن يخفقه بها. لكن الرجل تركها لله. فأخذه معه إلى بيته وصلى ركعتين، فما كان من الأحنف بن قيس وكان معه إلا أن يوجه كلاماً لعمر لو وجه بعضه لمأمور الحدود أو ضابط الجمارك على حدود عربية لحرمك من دخول البلاد وتتركك في عراء عرعر وحفر الباطن، أو عند الرطبة وأبو الشامات. فلم يخاطبه بلقبه أميراً للمؤمنين قائلاً: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله. وكنت ضالاً فهداك الله. وكنت ذليلاً فأعزك الله. ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك فضربته فماذا تقول غداً لربك إذا أتيته؟.

ويختتم الأحنف روايته قائلاً:

فجعل أي عمر يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض.

وخفق بالدرة رجلاً كان عرض الطريق، وأراد عمر بذلك إماطته عن سبيل الناس. فلم تصب الدرة إلا ذيل ثوبه، فمرَّ عام فلقيه في السوق، فقال له عمر:

إنـي أردت الحج هذا العام، وأخذه إلى بيته. ويده بيده فأخرج كيساً من (600) درهم، فقال له:

استعن بها. واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول.

 فأجابه الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها.

قال عمر: والله مانسيتها.

لماذا يحدث لعمر ذلك كله، ولماذا تشطح الدرة؟.

يبدو أن الدرة تتحرك عنده بفعل انعكاسي يتصل برؤية المخالفة فلا يطيقها ولا تتجاوز مهمتها هذه الحدود. ولو كان عمر يستعمل الدرة للعقاب كما في بعض المصادر الحديثة، وكونها سياطاً يلهب بها ظهور الصحابة، لفعل ذلك بعد جلسة مساءلة تنتهي بتجريم المخالف وضربه، وعمر مؤسس قضاء، ان لم يكن واحداً من بناة العدالة في القضاء الإسلامي، وليس جلاداً يوقع بالسياط على ظهور الناس.

ولَدَرة عمر أهيب من سيوف حكام ظهروا في الماضي والحاضر.

 بغصن البان، قاد عمر بن الخطاب قبائل العرب، وهي صعبة القياد، ونظّم الحياة اليومية وحذّر المخالف، ونبّه الغافل.

هل اغتال سعد بن عبادة؟

في كتابه الاغتيال السياسي في الإسلام، يرجّح هادي العلوي أن تكون وفاة الصحابي سعد بن عبادة جاءت في سياق الاغتيال السياسي عام 14 للهجرة أي في عهد عُمر.

وابن عبادة كان زعيماً في الجاهلية والإسلام فلُقِبَ بالكامل، وكان قائد الأنصار في الحروب النبوية الأولى.

وكان متعففاً عن الغنائم، فإذا خرج النبي (ص) إلى الحروب التي كان يقودها بِنَفسهِ تولى سعد بن عبادة حماية المدينة.

وكان يتمسك بزعامة الأنصار، ويعارض زعامة قريش، وقيل: إنه في يوم فتح مكة وبيده راية الأنصار هتف بما يوحي برغبته في سقوط سيادة قريش. فأخذ منه النبي (ص) الراية وأعطاها لابنه قيس.

كان ابن عبادة أول من رشح نفسه للخلافة بعد وفاة النبي (ص)، وهو صاحب فكرة السقيفة ومُقيمها، ولم يكن لعمر بن الخطاب علمٌ بها في أول الأمر، ولكن عمر كان لحظتها خطّاف الزمن، خاطف المكان، فدخل السقيفة على حين غفلة ومعه أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح فاستحصلَ البيعة لأبي بكر.

وابن عبادة لم يقر نتائج الاجتماع فاختار العزلة أولاً، ثم الهجرة عن المدينة إلى بلاد الشام، بعد فتحها ومات هناك في ظروفٍ غامضة.

إن المؤرخين المسلمين أثاروا الشكوك بموته، وذكر ابن عساكر أن سعد بن عبادة بالَ وهو واقف فماتَ، فسمع قائل يقول من أهل الجنِ:

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة     ورميناه بسهمٍ، فلم نخطي فؤاده

ويورد صاحب العقد الفريد ثلاث روايات لقتل سعد بن عبادة تفيد إحداها:أن عمر بن الخطاب بعث رجلاً إلى الشام، فقال لهُ: أُدعه إلى البيعة، وأحمل له بكل ما قدرت عليه فإن أبى فاستعن بالله عليه.

فقدم الرجل إلى الشام، ولقيه في حوران في حائط (أي بستان)، فدعاه إلى البيعة، فقال له: لا أبايع قرشياً أبداً.

قال رسول عمر: فإني قاتلك، فقال سعد: وإن قتلتني.

قال رسول عمر: أفخارج أنت على ما دخلت فيه الأمة؟.

قال: أما من البيعة، أنا خارج، فرماه بسهم فقتله.

إن الشيخ عامر الكردي، وهو من علماء السُنة في سوريا، وقد استشيعَ يقول بأن الصحابي محمد بن مسلمة هو الذي انتدبه عمر لتلك المهمة.

والسؤال أن العرب ما اعتادت أن تقتل شخصاً تبادره برمية سهم، إذ المفروض أن يتم القتل بالسيف، لاسيما وهما يتحاوران جنباً إلى جنب!.

وفي رواية ثانية لابن عبد ربه نفسه: أن سعد بن عبادة رُمي بسهم من بعيد فمات فبلته الجن، ورددت بيت الشعر المشار إليه.

لم يستعمل عمر الاغتيال أداة في عمله السياسي، وهو يفضل المواجهة المباشرة حيث لا تخذله شجاعته عن محاكمة أي صحابي إنّ ماندَّ عن الإطار التأسيسي الأول للإسلام ودولته.

ومن جانب آخر، فقد كان سعد بن عبادة في يوم السقيفة مريضاً ومنهكاً، وإنما المفاجئة في وفاة رجل يعاني من إشكالات أمنية؟

إن هادي العلوي كتب الاغتيال السياسي في الإسلام في مطلع الثمانينيات وكنا هو وأنا نعاني من تهديد السفارات العراقية في أي بلد لجأنا إليه وقد هدد أخي من إدارة المخابرات العراقية في سفارة بكين فتركها والتحق بي إلى إسبانيا وعدنا منها إلى دمشق، وفي ظروف كهذه وحيث كان رجال المعارضة معرضين للاغتيال السياسي باستمرار كان طبيعياً لشقيقي هادي أن يضع الاغتيال السياسي على قائمة الاحتمالات الأولى لرحيل أي معارض سواء كان في أيامنا هذه أم في أيام سعد بن عبادة.

ولعل كتابه كان متأثراً في دافع تأليفه ومجمل أفكاره بالمناخ العام لاغتيالات متعاقبة كان وراءها رجال السفارات العراقية في لندن والخرطوم والكويت وإسلام آباد وباريس وكوبنهاغن والإمارات العربية المتحدة ودمشق وبيروت.

 

 

 

العراق ميدان الحروب المحمولة!

مكة والمدينة والشام تقاتل في العراق

والفرس والترك والانجليز والأمريكان

في الأرض السوداء!


 

ميدان مفضل للحروب!

ترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن عم النبي (ص) وصهره مسقط رأسه في مكة وهجر المدينة. وتركت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر زوج النبي (ص) مسقط رأسها مكة، وخرجت من مدينة الهجرة، فاختارا اللقاء في البصرة ليس لمناقشة ما قد ينجم ونجم من إشكالات بعد مقتل عثمان بل لمعركة الجمل التي نقلت الإسلام الناشئ إلى العراقيين، وهو منقسم على نفسه وكبار ضحاياهم كبار الصحابة في الإسلام.

واختار الإمام الحسين الكوفة مكاناً مناسباً لمواجهة فاصلة مع الحاكم الأموي والإمام الحسين من أهل المدينة، ويزيد بن معاوية متحصن بأهل الشام.

ورأى عبد الملك بن مروان أن يحدّ الناس عن بيعة عبد الله بن الزبير المقيم في مكة والقضاء على حركته بالحرب على أخيه والي الكوفة التي شهدت حرباً طاحنةً انقسم فيها المسلمون مرة ثالثة.

واختارت حركة سرية لأبي مسلم الخراساني وجماعة هاشمية من الفرع العباسي العراق ميداناً لثورة عارمة وحرب أهلية على الدولة الأموية المسـتعصمة في دمشـق الشـام، فيما يبعد مركـز الثورة عن مركز الخلافة (1000) ميل قريباً من الكوفة، فيما يسمى اليوم بالفرات الأوسط.

ولم تجد الدولة الصفوية بعد 1000 عام أفضل من العراق مكاناً لتحقيق أحلامها الإستراتيجية وحروبها الضارية مع الدولة العثمانية.

إن القادة المسلمين منذ العصر الأول قد حملوا الدين الجديد إلى العراق جسداً مشطوراً شطر، بدوره العراق إلى نصفين ثم اتهم العراقيون بأنهم أهل شقاق ونفاق ومساقط رأس الفتنة. وأن أهل الكوفة خاصة لا عهد لهم ولا ذمة. وأن الحرب في العراق نتاج للطبيعة البشرية لهؤلاء القوم المولعين بالعنف والانشقاق. وقرأ الأوربيون أثناء احتكاكهم بالدولة العثمانية وبعد انهيارها شيئاً من تاريخ الانشقاق في  الإسلام في مرحلة ازدهار ظاهرة الاستشراق واستشراء الشركات الرأسمالية العاملة في الدولة العثمانية، حتى إذا دخل البريطانيون إلى البصرة كان المتوقع عندهم أن يستجيب المنبوذون والمحرومون والمضطهدون في الدولة العثمانية وهم الشيعة لنداءات الجنرال مود، التي كانت تدعو العراقيين إلى مواجهة العثمانيين وأنهم محررون لا محتلون. ولم تكن إدارة الاحتلال تتوقع أن تتبنى جغرافيا التشيع، وفقهاؤها حركة الجهاد، ويستجيب الشيعة العراقيون المضطهدون لنداء المشيخة الإسلامية التي اضطهدتهم في اسطنبول فيخرج المجاهدون مع قوات الجيش العثماني ويوقفون زحف القوات البريطانية ثلاث سنوات قبل وصولها إلى بغداد في آذار 1917.

وهنا طرح الانكليز مشروع دولة متمذهبة تقصي الشيعة عن دور أو تمثيل صحيح لهم في صنع قرارها. فكان العراق البريطاني سني القرار والإدارة دون أن يكون سني الفقه، ولم يكن على البال أن يفكر الألمان وبعض الحلفاء لجعل العراق مسرحاً للحرب ضد الحلفاء بتحريض السفير الألماني كروبا سياسيين وعسكريين عراقيين على فك ارتباطهم مع بريطانيا قبل وصول القوات، ووصل إلى القاهرة، ومنها إلى بغداد، فإذا هي حرب عراقية – بريطانية تندلع في شهر مارس من عام 1941 فيما مدن العالم العربي تتفرج على حرب الألمان والحلفاء. ولأن الثوار الذين طردوا الحكومة العراقية الموالية للانكليز بإسناد من الجيش وضباطه الأربعة هم جميعاً من السنة فقد رأت السياسة البريطانية مغازلة الشيعة، وعرضت لندن على السيد صالح جبر فكرة أن تكون للشيعة حصة كبرى في إدارة الدولة بعد خيبتهم مع الوطنيين السنة، ولم توافق المراجع الخمسة في النجف وكربلاء والكاظمية على العرض البريطاني، وكان متوقعاً لو قُبل العرض أن يشهد العراق صراعات طائفية كالتي حدثت بعد سقوط النظام في 9 نيسان 2003، وظهور العراق الأمريكي مبشراً بعراق شيعي القرار.

ومرةً أخرى يجتذب العراق بدون دعوة أو إرادة حرباً جديدةً عندما اصطدمت المصالح الأمريكية في الخليج بظهور الثورة الإسلامية، التي قادها فقيه شيعي وقضت بالهجوم على السفارة الأمريكية بطهران وأسرّ من فيها.

فكان متوقعاً أن يأتي الردّ الأمريكي عاجلاً والجمهورية الإسلامية في أيامها الأولى وهي شيعية في محيط سني فتقدم دولة سنية صيغة لأمريكا بإعلان الحرب كتركيا العضو القديم في صف الأطلسي أو باكستان العضو المركزي في حلف بغداد أو أن تقوم السعودية بدور سني لمواجهة الثورة الشيعية. ولم يأتي الردّ عن هذا الجوار المتوقع دخوله في المواجهة. وإنما كان العراق من جديد مسرحاً للحرب الأمريكية على الشيعة.

وإذ ينتهي عقد التخادم السياسي بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية بانتهاء الحرب وغزو العراق للكويت في 2 آب 1990، بدأت صلات غزل أمريكية بريطانية مع المعارضة العراقية ذات النفوذ الإسلامي الشيعي الواضح وبدأت فكرة إسقاط نظام صدام حسين تنمو في واشنطن وتتعهدها لندن ودول الخليج، فيقوم تحالف أمريكي مع المعارضة العراقية وفيها أطراف تتمركز في إيران. وكلما سألت المعارضة عن موعد محدد لإسقاط نظام صدام حسين في العراق جاء الجواب ملتبساً حتى هجوم تنظيم القاعدة السني على ناطحات السحاب في نيويورك، فاستدارت الإستراتيجية الأمريكية بثقلها نحو الشيعة في العراق، وقد أصبح السلفيون السنة خصمها العقائدي، فاختير العراق مكاناً للحرب الأمريكية على السنة بعد عشر سنوات من الحرب الأمريكية على الشيعة.

إن الحرب الأمريكية على السنة مستمرة منذ أربع سنوات في العراق فهل تستمر أربعاً أخرى ليتساوى الزمن المفترض للحرب على السنة مع الزمن الذي خصص ما بين عامي 1980 – 1988 للحرب على الشيعة؟.

كان اسم عمر بن الخطاب يتردد في جميع تلك الحروب على رأس فريق يختفي خلف اسمه مقابل فريق يسبه بكرةً وأصيلاً، مع أن عمر بن الخطاب أدخل الإسلام إلى العراق يوم كان واحداً، فأسس البصرة قبل حرب الجمل والكوفة قبل حرب صفين، وعمر محسوب في إعلام اليقظة العراقية وقيادة حركتها الاستقلالية عن بلاد فارس ومهندس خارطة العراق الحالي.

ولأن الحرب العراقية – الإيرانية كانت الأكثر تأثيراً في إحداث المتغيرات الراهنة فسنتوقف عندها قليلاً.  

عمر في الحروب المحمولة

فتحت في ولاية عمر بلاد الشام والعراق ومصر ومعظم بلاد فارس وجزء من شمال إفريقيا وهي ليبيا الحالية.

لم تحدث لعمر مشكلة في البلاد العربية والمدن التي مصّرها، وبقيت بلاد الشام على ولائها الأول، وأحسن المصريون لمحرر بلادهم، والليبيون على وئام مع سياسة عمر. وبقيت مشكلته مع العراقيين قائمة, مع أن دوره في العراق أكبر من دوره في بقية الأمصار العربية، وقد أصبح واحداً بخارطته الحالية، ويسمى بأرض السواد لدكنة الخضرة فيه، ومنح العراقيين جميعاً بلا تمييز الجنسية العربية إن كانوا راغبين بها، وترك الآخرين يتمتعون بجنسياتهم، وعرض الإسلام على الراغبين به، ولم يكره أحداً من الراغبين عنه. فبقي يهود السبي البابلي على ديانتهم، ولهم في العراق خمسة أضرحة أنبياء على الأقل، تركها عمر أماكن للعبادة. مثلما أبقى كنائس المسيحيين ودياراتهم على أمتار من ظاهر الكوفة. وترك المجوسيين على مجوسيتهم إلى إن أسلموا عن قناعة وإيمان.

وحمل عمر إلى العراقيين إسلاما واحداً لم تطرأ عليه بعد بثور الفتن والانقسامات التي انتشرت على جسد الإسلام فيما بعد. وكان عمر قد أسس للعراقيين مدينة البصرة ثم الكوفة التي طارت بهما الحضارة العربية إلى العالم والكوفة جمجمة العرب ورأس الإسلام عنده.ولم تكن البصرة سنيّة ولا الكوفة شيعية.

ولم تكن البصرة والكوفة قد بلغتا سن العشرين حينما اختارت عائشة بنت أبي بكر وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأبناؤهما مدينة البصرة للقاء عسكري ضد جيش الخلافة في مدينة الكوفة ووقوع معركة الجمل، فبدا الإسلام أمام العراقيين مشطوراً إلى نصفين في يومٍ واحدٍ، ولم يمض على توحيده سوى عشرين عاماً بجيش الفتوحات العمرية.

وفي الكوفة كانت الحرب بين الإمام الخليفة والوالي المنشق في الشام. قبل أن تنتشر في  بقاع عراقية أخرى. وكتبت المقادير للكوفة أن تكون موطن الثورة الحسينية للإمام القادم من الحجاز، ووقوع مجزرة كربلاء. وأفاقت الكوفة بعدها على حركة ثأرية استئصالية للفتك بكل من فتك أو ساهم بقتل الإمام وأصحابه، وما لبث عبد الله بن الزبير الذي بويع في الخلافة بالحجاز أن وجه لأخيه مصعب لحرب في الكوفة انتهت بقتل المختار الثقفي وأتباعه والكثير ممن بقي حياً من أتباع الحسين.

فإذا انتهى مصعب من حربه ووضع رأس المختار في قصر الإمارة بالكوفة وجد عبد الملك بن مروان الظرف مهيئاً لإرسال جيش ومقاتلة مصعب ابن الزبير والانتصار عليه وتعليق جثته ووضع رأسه المقطوع في قصر الإمارة بالكوفة.

فما هي مسؤولية العراقيين في هذه الحروب، ومن الذي أحدث الانقسام فيه وحّّّوله إلى مجتمع منشطر، وما مسؤولية عمر بن الخطاب والإمام علي في ذلك حتى يتسنى لفريق أن يحمل اسم أحدهما ويحمل الفريق الآخر اسم الثاني؟.

وما الحق في اعتبار العراقيين أهل شقاق ونفاق، وقد اختارت الحركة الهاشمية المضادة للحكم الأموي مكاناً قريباً من الكوفة لإعلان ثورتها باسم العباسيين على الخلافة الأموية. ووقوع الحروب بينهما داخل الأراضي العراقية، وما شأن العراقيين وقد انقسم الهاشميون إلى عباسيين وعلويين، فاشتعلت الثورات في بلدهم، وما دور العراقيين في انشقاق بين اثنين من أبناء هارون الرشيد، فتحدث الحرب بين الأمين والمأمون؟.

يمكن أن يكون للعراقيين دور اجتذاب الصراع الإقليمي إلى بلدهم من خلال ثنائية عمر وعلي، فاتجهت الدولة العثمانية والدولة الصفوية لتصفية حساباتهما فوق أرض عراقية ولكل من الدولتين أنصار ومؤيدون من جماعة علي وعمر.

وفي العصر الحديث التقطت مراكز البحث الاستراتيجي في الدول الغربية الناهضة جانباً من قدرة الثنائية الطائفية على الانجرار والاصطفاف لمعسكر ما، فدخلت قوات الحلفاء بوحدات بريطانية إلى ميناء البصرة في الحرب العالمية الأولى أملاً في اجتذاب المحرومين والمنبوذين في مدن الجنوب العراقي وتحريضهم على السلطنة العثمانية وسياساتها العنصرية والطائفية، ولم يكن إستراتيجيو الحلفاء يتوقعون أن يتحد هؤلاء الفقراء مع جيوش السلطة العثمانية لمواجهة القوات البريطانية وحصرها ثلاث سنوات قبل سقوط بغداد. التي سقطت في عشرة أيام بعد إنزال مماثل قام به الأمريكان في آذار نيسان من عام 2003.

وشجعت ثنائية الانقسام غرف القرار الدولي بتوظيف الجانب الطائفي فيظهر العراق البريطاني سنّي القرار، والقيادة والإدارة مع تمثيل طفيف للمكونات الأخرى وحرمان العراقيين الشيعة من تمثيل ينسجم وحجمهم السكاني والوطني.

وفي ذات السياق استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية العامل الطائفي بشن الحرب من العراق على الفقيه الشيعي في إيران، والتي أدت في نهاية الأمر إلى وحدة إيرانية وانقسام عراقي كما سنرى في فصل قادم.

ولمواجهة تنظيم القاعدة ذي الأصول السنية بعد الهجوم على المركز العالمي للتجارة في سبتمبر/أيلول 2001، بدأ التفكير بحرب أمريكية على السنة ليس في أفغانستان ولا في باكستان ولا في دول العالم الإسلامي السني، وإنما على سنة العراق. لان الإرث الإستراتيجي للسياسة الدولية يتناغم مع الإرث الطائفي في العراق، والنجاح الذي تحقق في كسب السنة ضد الحرب الأمريكية على شيعة إيران سيتجدد بكسب الشيعة العراقيين والإيرانيين إلى حدٍ في الحرب الأمريكية على السنة.

وكانت الإستراتيجية الأمريكية قبيل هذه الحرب، تبحث عن حليف عقائدي لمواجهة خصمها العقائدي الجديد، فأعطى الرئيس الأمريكي بوش في خطابه بالأمم المتحدة قبيل الحرب خمس رسائل وإشارات واضحة لإيران لكسبها أو لتحييدها في الحرب، فضلاً عن الرسائل السرية التي نقلتها المعارضة العراقية من البيت الأبيض والبنتاغون إلى طهران، ثم قيام العراق الأمريكي، فتجددت الظاهرة البريطانية التي تحدثنا عنها في كتابنا الشيعة والدولة القومية وكتابنا العراق الأمريكي لمنح قرار الدولة لطائفة حتى لو كان رئيس الوزراء من الطائفة الأخرى. إذ يصطبغ القرار بلون الطائفة التي بويعت قبل الأخرى، فصار العراق البريطاني سنياً حتى بوجود رئيس وزراء شيعي. وصار العراق الأمريكي شيعياً حتى لو اختير واحد من الزعماء السنة لرئاسة الوزراء.

إن المسألة لم تعد ترتبط بأرقام وزارية أو نيابية تتشكل منها الدولة سنية أو شيعية بقدر ما تتعلق بصاحب القرار في الحالتين البريطانية والأمريكية.

عمر في الحرب العراقية ـ الإيرانية

بمهارة عالية في صياغة خطاب لدبلوماسية الحرب استخدم الجانب العراقي هوية الخصم ثلاثية الأبعاد، موزعة على ثلاثة اتجاهات متباعدة نجح الخطاب العراقي في تطويع كل جهة لصالحه باستخدام البعد النظير، إن الخصم في الخطاب العراقي سيكون فارسياً في الخطاب القومي الموجه إلى المحيط العربي الواسع، فيوظف البعد القومي العربي لمقارعة البعد القومي الفارسي.

من هنا أستحدث الصراع العربي ـ الفارسي لكي تصبح سواحل الخليج المقابلة للخصم الفارسي شريكة في الصراع وميداناً استراتيجياً مشروعاً بمنطق هذا البعد.

وفي لقاءات عراقية مع المؤسسات الدينية وحركاتها السياسية سيجري الحديث عن شيعة روافض، بل هي حرب عمر بن الخطاب وقادسية صدام قادسيته وعلى الخليج السني والعالم الإسلامي السني ودون تفضل منه أن يهيئ لقادسية عمر الجديدة أسباب الانتصار.

ولا بأس أن تكتب عبارة (الله أكبر) على العلم القومي للعراق.

وفي الخطاب الدولي يستخدم البعد الثالث والمخفي والمتواري من الخطاب في بعديه الأول والثاني وسيكون محور الحديث الثنائي بين وزير خارجية العراق، الذي اختير من بين البعثين المسيحيين أنها حرب الحضارة الأوروبية، أو على الأقل حرب العلمانيين ذوي الاتجاهات العصرية ضد ثورة إسلامية ونظام ظلامي يهدد حضارة الغرب وعلى فرنسا التي كانت الممثل الكاثوليكي للمسيحية الأوربية أن تكون في الوقت ذاته ممثلة دون تفضل كما الخليج منها للجانب العراقي في حمايته من ضغوط اللجان الدولية لحقوق الإنسان ونشاط معارضين عراقيين في أوروبا فضلاً عما ينفلت في الإعلام الأوروبي من كتابات حول استبداد السلطة العراقية.

إن كاتب السطور الذي وضع كتاباً في إشكالية الغزو والحرب بعنوان (أسوار الطين) الصادر للعام 1995 سيجدد القول هنا: إن صاحبه القديم الرئيس العراقي صدام حسين هو ليس عمر بن الخطاب بالتأكيد، وأن الإمام الخميني هو ليس كسرى يزدجرد، وكان كلا النظامين يعتمد على نظرية ولاية الفقيه. ففي إيران تقوم الدولة على سلطة الإمام الفقيه وفي العراق كانت ولاية الحزب لأمينه العام ومرشده الروحي ومفكره القومي الأول، الذي لا يعلوه اسم رئيس الجمهورية وأن القيادة القومية مختلطة بين مسيحيين ومسلمين عرباً وعراقيين.

أما الرئيس صدام حسين فقد أمر مرافقه الشخصي بأن يصدر تعميماً حزبياً لمنع قياديين في الحزب رآهم يحضرون صلاة الجمعة في المساجد وقال بالنص: إن ذلك يشكل خطراً على أجيالنا الحزبية وهي ترى قياديين في الحزب منغمسين بقضايا دينية. ولم أر الرجل وبيده نسخة من المصحف إلا في صالة محكمة الجنايات الكبرى، فتمنيت على صاحبي أن يكون أكثر انسجاماً مع أصوله العلمانية. وإن كان الأمر بعدئذ للـه فهو الذي يهدي ويضل ولا يعلم الناويا إلا اللـه.

إن الجانب العراقي في ثلاثية هوية الخصم، لم يجد في مرشده الروحي روحاً تضخ فيه البأس على الخصم، فاستعان بعمر بن الخطاب وانتحل قادسيته، لكنه لم يستطيع في خطوة واحدة صغيرة أن ينتحل روحه وعقيدته التي تتعارض في ضلعين من مثلث الدبلوماسية العراقية وخطابها الإعلامي والدبلوماسي. ولم يكن عمر مجمع الأضداد لكن زجه في الحرب قد ساهم بتجديد الانقسام في المجتمع العراقي وفي العالمين العربي والإسلامي وبظهور مؤسسات للكسب الطائفي والتشهير بالآخر. فكان العراق من جانبه ومعه مؤسسات دينية استجابت لخطابه تروج لكتب مدفوعة الثمن وشراء ذمم لكتاب عرب وباكستانيين وإيرانيين، فيما استعد الجانب الإيراني لمواجهة مماثلة مستخدماً خطاب الحركة الاستقلالية العربية في مواجهة النفوذ الغربي والصهيوني، والوقوف إلى جانب الثورة الفلسطينية واستقبال زعمائها فيما كانت شخصية الإمام الخميني تذكر عامة المسلمين بزهد عمر وترابية علي. وتأسست حركات إسلامية في المجتمعات السنية تأخذ بنظرية الثورة لتأسيس نظام إسلامي.

إن معارك الحرب العراقية ـ الإيرانية على الأرض، أورثت معارك أخرى بين المؤسسات الإسلامية السنية وأنظمتها ومعارك بين السنة والشيعة على الورق وفي مراكز البحث، وتحولت معارك الورق ومراكز البحث إلى دماء وسكاكين على مسرح الأرض العراقية، فيما إيران تنمو وتزدهر.

إن ظاهرة المستبصرين توضع في هذا السياق، ولا تخلو من انجذاب حميم لاتجاهات الثورة الإسلامية وشخصية الإمام الخميني عند عدد من المتحولين، بينما كانت أغلبية المتحولين تحت عامل الإغراء والشراء. والفرق بين الاثنين أن المنجذبين إلى اتجاهات الثورة الإيرانية قد حافظوا على توازنهم ولم يتمرغوا في حمأة السب والشتيمة، ومثال هذا الاتجاه السليم كتابات المفكر صائب عبد الحميد الحديثي.

بيد أن حملة (الاستبصار) في مجملها دخلت في الانقسامات المذهبية وأعادت النشر العربي والثقافة العربية إلى سنوات الصراع العثماني الصفوي، وكان عمر نقطة الهدف ومركز العصب ومرمى الأقلام في هذه الظاهرة.

وفي الطرف الآخر كانت أعراض الشيعة ودماءهم مباحة في الفتاوى اليومية.

إن مبدأ القطيعة يغادر التاريخ في لحظات ليكون حاضراً في الخلاف السياسي اليومي وفي خلافات الدول، والأبواب مشرعة أمام الفريق الآخر ليدخل من القطيعة المقيمة في دفاتر الكركي والمجلسي إلى أسواق الكرادة وبيوت الصفيح في مدينة الصدر، تقابلها مليشيا القطيعة في غزوات تذكرنا بغارات حسان بن حسان الذي دخل الأنبار فأزال خيلها عن مسالحها.

استباحة العثمانيين وحصانة الصفويين

أقامت حركة التنوير في مطالع النهضة العربية المعاصرة قواعدها الفكرية على فهم جديد للإسلام مغاير ومناهض للفهم العثماني. وزعماء الحركة فقهاء أهل السنة ومفكروها من كابول بلد جمال الدين الأفغاني ومروراً بالإمام محمد عبده في القاهرة وعبد الرحمن الكواكبي في حلب حتى احمد بن أبي الضياف وخير الدين التونسي في المغرب العربي.

وفي قلب الجزيرة العربية وجهّت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نقداً للسياسات العثمانية القائمة على احتضان التصوف المشوه والدروشة التي أنكرها الإسلام على المسلمين. ولم يتهم أهل السنة هؤلاء الفقهاء والشيوخ بالمروق والارتداد على الإسلام.

وفي المقابل لم تتعرض سياسة الدولة الصفوية إلى نقد مماثل صادر عن المؤسسة الشيعية إلاّ في نطاق ضيق تصدر فيه الفقيه إبراهيم القطيفي تياراً لمعارضة شرعية السلطنة، لكن الشاه الصفوي سبقه باستجلاب (120) فقيهاً كبيراً من لبنان والقطيف والعراق والبحرين. وفضل فقهاء آخرون العزلة في معتكف الدرس والعرفان، لعلنا نتحدث أيضاً عن موقف المفكرين والأدباء الشيعة إزاء الملك القهري الصفوي وتراجع واضح في مقدامية الشعراء العراقيين.

ففي الجانب السني يتصدى معروف الرصافي بجرأته المعهودة محرضاً العرب على الدولة العثمانية

عجبت لقـوم يخضعون لدولة              يسوسهم في الموبقات عميدها

وأعجب من ذا أنهم يرهبـونها                                وأموالهم منهم ومنهم جنودها

في وقت تمتعت الدولة الصفوية بحصانة من النقد والتعريض، وفرتها جهود مشتركة للسلطة والمؤسسة الدينية خلال أكثر من مئتين وعشرين عاماً. بينما تعرضت خليفتها الدولة القاجارية إلى حملة نقدية لعلماء التشيع شبيهة بحملة علماء السنة على الدولة العثمانية.

وحتى هذه اللحظة يمكن لكتابة مناهضة للشاه القاجاري المرور في أروقة الحوزة العلمية دون أن تترك الأثر الذي ستتركه محاولة مماثلة تمس الدولة الصفوية.

إن المفكر الدكتور علي شريعتي ينفرد بموقف نقدي صارم وبجرأة أدبية لم تتوفر لنظير عراقي، وكان سرّ قوته لا ينفصل عن صلته القديمة بحركة الثورة الجديدة للإمام الخميني التي يصح اعتبارها فاصلاً تاريخياً بين زمنين شيعيين، يمتد الأول من مطلع القرن السادس عشر الميلادي ويسقط في يوم انتصار الثورة الإيرانية في شباط 1979.

ومع هذا التطور تراجعت حركة نقد الدولة الصفوية في التأليف الرسمي وبرزت محاولة نافرة لتماهي ثورة الإمام الخميني بحركة إسماعيل الصفوي، وكونهما تأسيساً لدولة التشيع برؤيتين.

إن التطير من نقد المنهج الصفوي في الوسط العراقي خاصة، قد يكون له مبرر بعد أن صار مصطلح الصفويين مفردة يومية في مشروع تعجيم الشيعة، وطعن عروبتهم ووطنيتهم. وفي غير هذا لا نرى مبرراً للانزعاج من محاولة نقدية تفك الارتباط الموهوم بين الدولة الصفوية والإمام علي نظيراً للمحاولة السنية الناجحة في فك ارتباط السلطنة العثمانية اليوم بعمر بن الخطاب.

فروق طائفية:

ربع علي يسبون عمر، وربع عمر يسبون الشيعة

 إن الشيعي في فريق القطيعة قد يسُّبُ عمر على الشفاه، إذا كان من عامة الناس، ويسبُّه على مجلدات الأسفار إذا كان عالماً موسوعياً أو شاعراً أي شاعر، فيما يتحرك المتأثرون بنظرية المُشاركة وهم أقلية قليلة في المجتمع الشيعي على استحياء فيلوذون بالصمت إلاّ من أُعطي جرأة محمد حُسين كاشف الغطاء وعلي الوَردي ومعهما قلة من الفقهاء والكتّاب.

أما الردُّ السُنّي، والحديث عن العراقيين فلا يخضع إلى قوانين الهجاء ومناقضاته، والسُنّي في ثنائية عمر وعلي لا يتعرض للإمام علي بسوء في رده على  من ينال من عُمر،  وإنما بفتح شهيته التاريخية على المُرويات الفقهية لسَب الشيعة وليس إمام التشيع،  فظهر في وقتٍ مبكر مشروع تعجيم الشيعة في المرويات السُنّية، والتقاط نماذج شيعية في التاريخ الإسلامي والتشهير بها على أن يكونوا دون مقام الائمة فانتشرت روايات يفيض بها تاريخ بغداد ويتراجمون بها مع فريق القطيعة.

وعلى قسوة الانقسام الاجتماعي، ومنذ العهد العثماني في العراق لم تظهر لدى سُنّة العراق كتابات أموية، ولم يتحدث خطيب جمعة في نظرية وحدة الصحابة في منهج المقارنات بين علي ومعاوية.

وعندما ظهر كتاب يروّج للدولة الأموية لمؤلفه أنيس النُصولي، وهو مدرّس وفد العراق من الشام، لم يقف فقهاء السُنّة في العراق إلى جانبهِ، مع انتصار كتاب ليبراليين وقوميين لصاحب الكتاب الذي قرر مجلس الوزراء باقتراح من وزير المعارف السيد عبد المهدي المنتفكي إلغاء عقده وإعادته إلى بلاده.

يُستثنى أيضاً ما كتبه عبد الرزاق الحصّان في رسالة تشهيرية في الثلاثينات من القرن الماضي بالشيعة، لكن الأمر لم يتطور إلى فتنة بين الفريقين.

حتى في أصعب مراحل الصراع بين الصفويين والعثمانيين وقد اتخذ الفريقان من العراق ميدان حرب لهما، والجيش الصفوي يدمّر أضرحة أئمة السُنّة.

وفي الطرف الآخر كان السلطان العثماني يقاتل الشيعة في بغداد، ثم يأمر بتجديد أو بناء ضريح للإمام موسى بن جعفر في الكاظمية قبل أن يتوجه إلى النجف وكربلاء لزيارة أئمة أهل البيت.

وخلال ثمانين عاماً من حكم العراق الذي انفرد فيه السُنّة بالقرار السياسي ورئاسة الدولة ومجلس الوزراء والمواقع العُليا بنسب شبه مُطلقة، لم تُصدر السلطة السنيّة قراراً بإطلاق اسم أحد الأمويين على شارع أو معهد أو ساحة.

لكن تصرفاً نزقاً صدر عن الحكومة العراقية في عهد الرئيس عبد السلام عارف عام 1964 بتأسيس المكتب الأموي، ومنحه إجازة عمل وتوفير مكان له في مبنى مقابل لسوق الشورجة في شارع الرشيد ببغداد في وقت كانت تلك السوق المركز التجاري، الذي يغذي المرجعيات الشيعية.

وأغلق المكتب بعد وفاة الرئيس عبد السلام عارف ومجيء شقيقه عبد الرحمن عارف المعروف باعتداله وحياده.

فلا يذهب الظن بنا إلى حُسن الظن بالتمييز الطائفي في السياسة العراقية، لكننا نود أن نحصر القاعدة الاجتماعية في ثنائية عمر وعلي بعدم حصول شيء من التبادل السُني في مواجهة الشتم الشيعي للصحابة، فيقتصر أهل السُنّة على مجالات أخرى تمس الشيعة دون أئمتهم.

وكان هذا هو منهج الجاحظ في كتابه (العثمانية) وعليه سار سُنة العراق. ومن هنا تُكشّر المذابح الطائفية في العراق عن أنياب غير عراقية.

وكما قلت في كتابي (أسوار الطين) الصادر عام 1995، إن الطائفية مستقرة في العراق. لكن القتل الطائفي كان يفدُ دائماً من خارج العراق.

وكما في باب الفرق بين الطائفي الشيعي والطائفي السني من كتابنا (الشيعة والدولة القومية) أن الطائفية الشيعية تاريخية، تصب جهدها على تشريح من حَرَمَ الإمام علياً من الخلافة الأولى، وما يترتب على ذلك من إشكالات مع الطائفة السنية المتصالحة مع التاريخ،  لكنها ذات بُعد سياسي في الحاضر، يستهدف حرمان الشيعي من امتيازات السلطة. ولا ينسحب هذا التفريق بينهما على واقع الصراع ما بعد سقوط نظام صدام حسين،  فقد تطورت الطائفية الشيعية فصارت سياسة تعيش في الحاضر فضلاً عن جانبها التاريخي، ولعلنا أشرنا إلى ذلك في كتابنا (العراق الأمريكي) الصادر سنة 2006، وتطورت الطائفية السنية إلى مراتب أخرى لم يكن معظمها عراقياً.

والمظنون أن الأمور تسير في العراق حالياً على قاعدة ليست بعيدة عما نستعرضه، فالخطاب الشيعي عند أهل القطيعة، يواصل التعريض بالصحابة والنيل منهم بلا تحفظ.

ويكون ذلك كافياً لتحريض بقية المسلمين وهم الأغلبية العظمى على منابر التشهير، ليس بسبعين ألف منبر أقامها معاوية في الشام للتعريض بالإمام علي، وإنما بإرسال سبعين ألف انتحاري يؤمن بأن في موته موتاً للشيعة وثأراً للصحابة.

فإذا تصدى أحد القائلين بنظرية المشاركة أمثالنا، وتحدث عن قرارات مشتركة اتخذت في ركن المسجد النبوي بين عمر وعلي، صار خارجاً على المِلّة.

عمر والمصالحة العراقية:

رأيناه في مطلع الكتاب مُحرر العراق ومؤسسه وناقل إرادته من عجمة القرار إلى فصاحة العرب، وهو مُمصر البصرة والكوفة وهذا حسَبْهُ.

ولعلنا نبحث لعمر عن مقام يقضي فيه بين المتخاصمين على حصير تحت نخلةٍ من نخيل الكوفة، وفضائيات العرب تتناقل أخباراً عن مؤتمرات لـ"مصالحة وطنية" فهل سيحضرُ في منتهى مطاف الكتاب في سلسلة من الوشائج يُمسك بطرفٍ منها وطرفُه في ظاهر الكوفة عند صاحبه وشريكه ومرجع قضائه الإمام علي بن أبي طالب؟

أول ملاحظاتنا ألاّ تسحبنا الأحداث السياسية من وقار التاريخ إلى سطوح العناوين اليومية، وثانيهما أن الوطن ليس طرفاً في هذه المصالحة، وليست له مشكلة مع أحدٍ منهما وليس لهما مشكلة معه حتى تكون مصالحة وطنية.

وهي بهذا المعنى تحمل هوية أطرافها. مصالحة طائفية. وعندها سيدخل إليها عمر دون الإخلال بمنهج الكتاب.

فهل سيقتنع القائلون بالقطيعة أنهم لم يحصروا استشكالهم في زمانه بعيداً في أعماق التاريخ الإسلامي الأول، أم أنهم أيقنوا بعد جريان الدم، أن القطيعة تنتقل من الماضي إلى الحاضر بلحظات ربما هي أسرع من جريان الدم؟.

إن منهج القطيعة يقتضي بتبيان أسبابها، وهذه لا تستقيم بدون أن يوضع عمر على مشارح النقد والتشريح حتى يتوفر المسوغ الشرعي لقطيعة الإمام علي ومقاطعته مركز السلطة الإسلامية في المدينة، ويقود هذا إلى تجريم عمر وسبِّه على مسمع من آذان الفضاء وعيون المتابعين للسجالات والخطابات، وقد تحولت من منابر منزوية إلى عيون الفضائيات والأقمار الصناعية، فيستفزُ الطرف الآخر المحسوب على عمر فلا يرد على شاتميه بشتم أئمة أهل البيت، بل بالبحث في المرويات والقصص وصياغة الآليات لصياغة مرافعة ومشروع دفاعي وهجومي على الخصم سيكون منه تعجيم الشيعة ثم تكفيرهم مما يتيح لفرق الذبح بين الحدود العراقية والانبار وبين اليوسفية والمحمودية في طريق الأئمة أن يشهروا سكاكينهم ليؤدوا (الواجب الشرعي).

إن أهل القطيعة قد لا يكفرون أهل السنة، بل يكفرون عمر وأبا بكر وعائشة، فتنزل القطيعة من أعاليها إلى أسافلها وتدور الدورة الطائفية في مدن العراق.

ولهذا فإن وضع مشروع للمصالحة الطائفية إذا أريد له النجاح، سيقتضي أن يبدأ من التاريخ والتصالح معه لترجيح كفة المشاركة على القطيعة حتى تقبل المشاركة في الحاضر.

أما أن يستشري دعاة القطيعة ويستحوذوا على فضائيات عراقية وعربية،  وأخرى أُسست لهذا الغرض بالذات،  فيما هو يحضر اجتماعاً للمصالحة فهذا خداع النفس والضحك على الذات، وسينتهي مفعول المصالحة مع انتهاء المصورين من التقاط زواياهم المفضلة.

وبين منبرٍ للتشهير وآخر للتكفير، يتحول العراق إلى مسرح مفتوح للموت الطائفي، وسيصبح في شهور مسرحاً مهجوراً تنعقُ فيه الغربان.

ولا أخفي قلقاً وشعوراً بالأسف أن السنة العراقيين لم يعودوا يمسكون بامتياز تمتعوا به عبر التاريخ بعدم الرد على سب الصحابة بالإساءة إلى أهل البيت مادام هؤلاء الأئمة عندهم المشترك الإسلامي الموحد بين الطائفتين، ففقدوا هذا الامتياز في لحظة تدمير نازي لمعمارية الحضارة العربية في سامراء والمقامة على جدث الإمامين الهادي والعسكري، فانكسرت معادلات اجتماعية، واختلت موازنات، وتساوى السبابون، وتحول مجرى النزاع من مواجهة المحتل إلى ضرب المقدس المشترك. ودخلت إلى الصراع تيارات شيعية كانت محايدة، فاندفعت بالوازع العاطفي قبل  الطائفي برد فعلٍ كان لابد أن يحصل، والنيران تأكل معمارية المقدس المشترك، فحدث انعطاف هائل أضعف المركز السني،  وكأن الحادثة تذكرنا في لحظة هبوط منحنى دولة طالبان حينماضربت بالمدافع الثقيلة تمثال بوذا. فأثارت استياء الحريصين على التراث الإنساني، رغم أنه تمثال وثني فوق أرض إسلامية، وليس ثمة وجه للمقارنة بين أن يفجر المسلمون معماريةً إسلامية، أو أن يفجروا صنماً من أصنام الأوثان، وانتهى المشهد بمضاعفات لا تنتهي فقط عند ترحيل العائلة الشيعية في بلدة سنية والعائلة السنية في شارع شيعي.

إن عمر والكتابة في عمر وترويج تيار المشاركة بينه وبين الإمام علي هو الذي سيبني معمارية الوطن الموحد.

لم يبق إمام إلا وقتله هذا الضرب

وتشبه إيديولوجيا القطيعة نظيرتها المعاصرة القائمة على نبذ وتحريم وتجريم وإبطال أي اشتراكية أو فكرة صالحة خارج الجدلية الماركسية وقوانين التطور التاريخي القائل بالاشتراكية العلمية. ولم نكتشف أن اشتراكية أخرى هي التي تهدف لها الحياة ومازالت تغطي فقراء اسكندنافيا وأوربا الغربية بالدفء المجاني والتعليم المجاني والعلاج الاجتماعي وضمان العاطل عن العمل.

لقد كان خارج دائرة القطيعة عالم من الفكر والثقافة والتجارب حُرمت منها أجيال لكونها صادرة عن طرف لايعترف أهل القطيعة بهم، ومن دول سميت بالدول الغصبية وماعاد ممكناً الأخذ بالجميل من تجاربها والصالح من أفكارها بعد أن وضعت في دائرة الحجر الطائفي.

ومن طبيعة القطيعة أن تقاطع ماصدر عنه أئمة الإسلام من روايات يشم منها روح الاتصال مع الطرف الآخر، وقد ينزلق طرف في مشروع لو طرح على أئمته لصنفوا في مواقع الخصوم.

وإذا ما رأينا أن أهل القطيعة لا يحتجون بكلام للإمام علي أو للإمام الحسن ولبقية أهل البيت ضمن هذا السياق، فإن الطرف الآخر قد يقاطع أو يغفل أو لايأخذ برواية ولو صدرت عن  أم المؤمنين عائشة والصحابي الزبير بن العوام.

ففي رواية لعائشة احتجاجاً على طريقة التغيير الثوري وقتل عثمان تقول:" إن الأمر لايستقيم ولهذه الغوغاء أمر ـ أي أن الدولة لاتأخذ أبعادها الدستورية والسياسية إذا كانت المرجعية متروكة لمن هم في الشارع والمظاهرة، وكأن الدولة غير محصنة بأفكار وأحكام وتدابير.

ويقول الزبير بن العوام وهو ابن عمة الإمام علي وقد انشّق عنه بعد مقتل عثمان: إذا لم يُفطم الناس من أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب.

ويمكن القول افتراضاً أو استدلالاً برأي ابن الزبير، إن المسلمين المحتجين على الغوغاء وهذا الضرب سيحتج أتباعهم بالطريقة نفسها والقوة على أسلوب يستخدمه هذا الضرب في العراق حالياً. فلم يترك إماماً إلا قتله ولا أستاذاً في قاعة درس ولا طبيباً في عيادة.

لعلي الآن أقرب إلى قول الزبير بن العوام من أي وقت مضى لأرفع كلامه شعاراً فوق خرائب العراق وأشلاء ضحاياه منادياً: أيها الناس إذا لم تفطموا هؤلاء عن أمثالها لم يبق إمام إلا وقتله هذا الضرب. وأستحضر كلام أم المؤمنين في أمر الدولة والناس والقانون والحرية، وأتساءل: كيف يستقيم لنا أمر ولهذه الغوغاء أمر؟.

إن الصراع ينبغي أن يفهم في سياق القانون، وليس في جموح الحرية، وأن احتجاج المحرومين لا يعني الخروج عن الشرعية والقانون الذي هو حاضن الحرية ومرجعها بقدر ماكان الاحتجاج رغبة في العودة بالدولة إلى الازدهار ومجالسة المحرومين كما كان ذلك سائداً في عهد الاستقرار العمري.                        

 

 

البــاب الثاني

  

l   عمر في المنظور الشيعي

 

l المشاركة عند فقهاء العرب

l والقطيعة عند فقهاء المثالب

 

فقه القطيـعـة .. وفقهاء المثالب:

المتغلبون في الدرس والأسطورة والمنبر

 



 

عمر والقطيعة.. المناصفة الخاسرة

المتفرج على الحاضر الإسلامي، وقارئ المرويات التاريخية، وجليس المنابر والشاشات مقتنع، دون ريب، بانشطار الجسد الإسلامي إلى فريقين، هذا لعمر وذاك عليه. فربح القائلون بالقطيعة نصف التاريخ، واستقلوا بنصف الخطاب ونصف الاهتمام، وأكثر من نصف الاستشكالات الراهنة.

وهذه خطيئة الأخطاء، وخديعة الرؤية، والقصور عن التفريق بين ظاهرتي الانشطار والانشقاق.

إن عمر في رؤية الانشطار، يتطفف نصفا من التاريخ، ونصفاً من الناس، ونصفاً من المكانة. فخرج الرجل خاسراً في قسمة تعطي المنشقين صفة الانشطار، وتترك الجسد الإسلامي وكأنه مقسوم من الوسط.

وعمر تسعون، وانزل إلى السبعين وليس للآخرين مابقي من المائة. إذ لا يجمع التشيّع على كراهة عمر، وإنما انشق من داخله تيار سرعان مااتسع حجمه، هو الذي نصطلح عليه بالقطيعة، معتمداً منهج الأقلية في اللجوء إلى التشهير.

إن منهج القطيعة لم يظهر في العصور الإسلامية الأولى، يوم كان أهل البيت يقودون أتباعهم على منهج الإمام الأول، شريكاً مع شريك، ومؤسساً مع مؤسس.

والشيعة تعني في أصلها اللغوي الأتباع والأنصار والأعوان، وكل جماعة اجتمعوا على أمر فهم شيعة، واشتهرت هذه اللفظة عند إطلاقها على من يوالي الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته، حتى صار اسماً خاصاً بهم، وإلى ذلك يذهب ابن خلدون في مقدمته، فيقول:

الشيعة لغة هم الصحب والأتباع، ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه.

تذهب مصادر شيعية إلى أن أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله (ص) هو الشيعة. ويؤيد مرجع سني هو الأستاذ محمد كرد علي، في كتاب (خطط الشام) أن جماعة من كبار الصحابة عرفوا بموالاة علي في عصر الرسول (ص)، مثل سلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وخالد بن سعيد بن العاص، وقيس بن سعد بن عبادة، ويضاف إليهم صحابة آخرون كعامر بن وائله والمقداد بن الأسود.

لعل القائلين بالقطيعة قد استفادوا من هذه الحالة التاريخية، فأوحوا في مروياتهم أن هؤلاء الصحابة الذين شكلوا تجمعاً تنظمه رؤية واحدة في مولاة الإمام علي كأنهم مؤسسو تجمع مذهبي وحزبي وسياسي. والى هذا انتبه الفقيه الشيعي عبد الله النعمة في كتابه روح التشيع، فأنكر أن يكون لهذه الجماعة أهداف خاصة.

ولم يكن لهؤلاء الأفراد في ذلك العهد أي مركز قوة معارضة داخل ذلك المجتمع، وكانت رؤيتها قائمة على قناعة بأن هذه الموالاة هي من صميم الإسلام وروحه.

إلاّ أن اتجاهات القطيعة كرست عكس ما يذهب إليه الشيخ عبد الله النعمة، فصار هؤلاء الصحابة هم اللبنة الأولى في مذهب التشيّع، مقابل جماعة من الصحابة يتزعمهم أبو بكر الذي شكل أول خلية في تنظيم الإسلام ضمّت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان وآخرين. وكان سعد بن أبي وقاص أصغر عضو فيها، وهي التي كبرت سنة بعد أخرى. ولم يشكل هؤلاء مجموعة من الموالين لأبي بكر،  وإنما اجتمعوا على ضوء ماكان يصلهم من تعاليم النبي (ص)، ولم يكن عمر بن الخطاب قد أسلم بعد، ولم يلتق بأبي بكر إلا بعد ست سنوات، ولم يكن الإمام علي هو الآخر عضواً في هذه الخلية لحداثة سنه قياساً لمعدل أعمار هذه الخلية، إذ الفرق سيربو على أكثر من عشرين عاماً. ولأن الإمام علي كان في ذلك الوقت ربيب النبي (ص) ومريده، وقد توهج اسمه بعد أن كلفه النبي (ص) بالنوم في فراشه أثناء هجرته إلى المدينة، وما تركه هذا التكليف على تركيز الاهتمام بشخصية هذا الفتى وفدائيته العالية.

وبدأت إشعاعات الإمام علي تجتذب إلى شخصيته الكثير من الصحابة بعد عشر سنوات على الأقل من ظهور خلية أبي بكر، فلم تكن الموالاة للإمام ردّ فعل على تلك الجماعة ولا نقيضاً لها. وكانت معارك الرسول الأولى في المدينة قد ألقت أضواءً أخرى على شخصية الإمام علي الذي لم يخسر أو يتراجع أو يتردد في معركة منها.

إن تسع نظريات على الأقل اختلفت في زمن ظهور التشيّع، فالمصادر الشيعية تسحب الزمن إلى الوراء وصولاً إلى زمن صدر الإسلام، وبعض المصادر السنية تؤخر في ظهور التشيّع، حتى نسب بعضها ظهوره إلى فاجعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين. وبين هذين التاريخين يمكن الإشارة إلى يوم السقيفة باعتباره اليوم الذي ظهر فيه التشيّع، عندما تخلف الإمام علي عن مبايعة أبي بكر في طائفة من الصحابة. 

ومنهم من يفترض ولادة الشيعة يوم الشورى، بعد وفاة عمر بن الخطاب، ومنهم من يفترض يوم الدار حين أحاط المتظاهرون بعثمان بن عفان وحاصروه في داره وقتلوه، ومنهم من يفترض يوم واقعة الجمل.

لكن كثيرين يشيرون إلى معركة صفين بين الإمام علي ومعاوية.

ولا ننسى من يؤرخ ولادة الشيعة بظهور عبد الله بن سبأ، وهي الرواية الشائعة حالياً، والمضعفة عند كثير من المؤرخين.

وقد ننزل مع التاريخ إلى المائة الثانية للهجرة، فينسب ظهور التشيّع إلى زمن الإمام جعفر الصادق وتلميذه هشام بن الحكم، الذي قام بدور التشكيل الهندسي والبناء الفكري لفكر الإمام جعفر الصادق، يشبه إلى حد دور الفقيه أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة في صياغة المذهب الحنفي.

ولو أجرى معهد غالوب المعروف بدقته استبياناً في أروقة القطيعة لحصل الإجماع على يوم السقيفة، حيث يشخص عمر بن الخطاب وجها لوجه، فيصب على وجهه مصبوب المرويات منذ ذلك التاريخ. فكأن الأمة قد انشطرت بالسقيفة إلى شطرين. وعنهما نجمت ثنائية عمر وعلي، ولعل هذه النتائج المفترضة ستكون أخف ضرراً من تأصيل الفرقة بزمن النبي (ص)، وكأن الإسلام ولد مشطوراً. وكأن النبي (ص) كان يتحرك بجناحين، على غرار الواقع السياسي الراهن، جناح لعلي وآخر لأبي يكر، ولا بأس أن يسارع حملة الأيدولوجيا إلى تسمية أحدهما باليسار، وثانيهما باليمين، ويصبح الإمام علي زعيم اليسار، وأبو بكر زعيم اليمين، فيسقط التاريخ بإسقاطات الحاضر.

فقهاء التنقيص!!.

إن الكتابة الآن في عمر اختراق لحملة التنقيص التي تضرب التاريخ الإسلامي والإسلاميين من خارجهم، بعد أن كان منهج التنقيص محصوراً في إطار الثقافة والمثقفين الإسلاميين المستغرقين في صراعاتهم، فلا يدخل ميدان التنقيص، إلا فقيه بالمذاهب، وعالم بالرجال، ومحدث يستوعب علم الحديث ومدارسه. ومنطيق درس أرسطو، وأديب تعلم في مدارس البلاغة.

وباستمرار المناقصات، تتضاءل حجوم الرجال الأوائل، وتطغى المثالب على المكارم.

إن فقهاء الخلاف هم المتخصصون بهذا المنهج، لم يشاركهم غيرهم فيه، فإذا كتب العلمانيون في مطلع القرن الماضي، وحتى ربعه الثالث، فإنما يخضعون لقوانين الصراع الاجتماعي، ومفسرات السايكولوجية البشرية، وفي الحالتين يبدو عامة الناس عاجزين عن دور كهذا. والناس مبرأون من مثالب التنقيص. لكنهم يتلقون معلومات العلماء والمؤرخين عن طريق وسيط فتتحول الأحداث في مخيلتهم إلى نقائضها. أو يضاف إليها، فإذا ضعفت المعلومات بعوامل النسيان والاندثار، طلع عليهم الدعاة بما يجدد شبابها، فيعيد الحياة إلى عمر ذئباً يترصد علياً، أو قد يصبح قاتل الحسين هو قاتل الفتنة.

ولهذا فإن الاعتقاد بدور كبير للمتنورين من علماء اجتماع وكتاب وشعراء سيبدو غير دقيق، وعاجزاً عن التأثير في معتقدات معمرة، ومشاعر متأصلة.

إن التنقيص، هو المقابل اللغوي لنزعة الهجاء التي تجد لها دعاة ومستمعين، سوى أنه هجاء يستهدف الشخصيات الكبيرة، من أهل البيت، والصحابة، ورؤوساء المذاهب، ومن هنا خطورة التنقيص على سلامة المعلومات التاريخية. لا سيما أنه من شغل الكبار، فقد اشتغل أعظم أديب عربي، كالجاحظ في منهج التنقيص، في كتابه (العثمانية) الذي لم يتورع فيه عن سلب الإمام علي فضائله المنصوص عليها في كلام الله. وحديث رسوله، وعلى لسان الصحابة، فيرد على معتزل البصرة معتزلي من مدرسة بغداد، هو أبو جعفر الاسكافي، مدافعاً عن الأمانة التاريخية، والمكارم العلوية، فما الذي يستطيع فعله الفقراء والجهلاء والدهماء المتهمون، بأنهم حملة الفصل والتشهير الطائفي؟.

وتؤكد الموجة الحالية لحملة التنقيص وجهة نظرنا هذه ورجال التنقيص أدباء ومؤرخون وكتاب، خرجوا من حمأة الصراع الطائفي متسامين عليه، متساقطين في حمأة التشكيك، لينالوا بالدرجة الأولى من شخصية النبي (ص)، وفصل حركته عن إرادة السماء، واعتبارها سلكاً موصولاً بحلم السيادة القرشية، والرغبة الهاشمية القديمة بإقامة دولة مكة.

وأوغل كتاب الموجة النزقة في التعريض الشخصي، فدخلوا غرفة نومه، وبين أزواجه، مما تشكل الرسوم الدانماركية، قياساً لكتابات تصدرها مؤسسات عربية مسلمة، مجرد طرفة!.

وطالما أن الحملة أنجزت مشروع الفصل وسارت على النبي محمد(ص) رجلاً حالماً، بدولة قرشية، سهل عليهم أن يجردوا أصحابه ورجاله المؤسسين من حلة الاحترام، مستفيدين من ميراث وافر لفقهاء التنقيص الأوائل، يردون على أقوال من يطعنهم بالتشهير، وليس عليهم أن يصنعوا الروايات، أو يكتبوا التاريخ من جديد، فالمتناول من الأقوال مٌستمد من كتب الفقهاء والعلماء والأدباء الأوائل المتورطين في حملة التنقيص.

ومن الإنصاف أن كتاب الموجة النزقة قد يتوقفون عن نقل روايات لم يتوقف عن ترديدها فقهاء الصراع تجنباً لمساءلات قانونية أو ردات فعل شعبية. ولم يجرؤ كاتب من الملاحدة أن يترضى عن قاتل عمر بن الخطاب فيقول أبو لؤلؤة رضي الله عنه، ولا أن يترضى عن قاتل حفيد نبي المسلمين،وسبي حفيداته، حافيات من الكوفة إلى الشام. فيما كان عمر يرفض سبي نساء العرب في قبائل مرتدة، معترضاً على صاحبه أبي بكر، فأعاد السبي إلى ديارهم. إن كتب الفرق والطوائف والمذاهب شكلت مادة أساسية للتشهير الاستشراقي والعلماني بالإسلام.

ثنائية القطيعة والمشاركة:

أغلب الظن أن الانشقاق الإسلامي سيأخذ بعداً تلتبس فيه الانتماءات لو استفرغ الفقهاء والمثقفون بعض جهدهم، فيما نتعارف عليه بثنائية القطيعة والمشاركة، وهل كان الإمام علي في الأولى أم في الثانية بعد وفاة النبي (ص) وظهور الخلافة الراشدة. فلعل الناس سنة وشيعة يخنفون حدة القسمة وهم فريقان: أحدهما يأخذ بنظرية القطيعة، والآخر بنظرية المشاركة.

وأغلبية الناس على مبدأ المشاركة، وأن الإمام لم يستمر في معتكف القطيعة بعد وفاة النبي (ص) أكثر من ستة أشهر، فأعطى بيعته وتبعه بنو هاشم وبعض الصحابة ممن لم يكن قد دخل في البيعة بعد.

إن التاريخ الإسلامي العام، وهو مدون بحرفية أكاديمية عالية، يصادق على القول بنظرية المشاركة. ولم يتحفظ مؤرخ إسلامي محترف، عن القول بها، وإن قطيعة الإمام لم تكن أبدية، وأنه جمَّد أو أجّل ماكان ينسب إليه من اعتراض على الخليفة الأول، وإن لم تكن درجة الاتصال بدار الخلافة قد تطورت إلى مرتبة المشاركة الواسعة في الخلافة الثانية. فنشأت بين الإمام والخليفة ثنائية استعاد فيها عمر ثنائيته مع أبي بكر، وكان يصغي للإمام علي، والإمام لا يضن عليه برأي الناصح، ولا بموقف عاضد.

 ويتفق على حصول تطور إلى حد الانعطاف في نظرية المشاركة كل من ابن سعد في طبقاته والطبري في تاريخ الملوك والمسعودي في مروج الذهب واليعقوبي في تاريخه والأصبهاني في أغانيه.

والثلاثة الاخيرون محسوبون على التشيع.

وعند رجال البحث الأكاديمي المعاصر إجماع لم يخرج عنه إسلامي أو علماني على القول بالمشاركة. فيلتقي طه حسين بغريمه عباس محمود العقاد، والأزهري محمد أبو زهرة بالعلماني عبد الرحمن الشرقاوي، وتنفرد المدرسة المصرية بثقة لم تكتسبها مدرسة معاصرة أخرى، وواحد من عناصر الثقة بها يقوم على نشاطها المحمدي في حقل المشاركة العلوية – العمرية.

إن نفوذ القائلين بنظرية المشاركة هو المؤكد علمياً، والغالب عددياً، والنافذ المفعول في الثقافة المدنية القائمة على دراسة مستقلة وحرة للتاريخ، فطرقت أبواب التشيع في مركز عصب الخلاف، ولم تكن الاستجابة كبيرة في عصرنا، لكن مرجعاً كالإمام محمد الحسين كاشف الغطاء لم يتأخر عن إصدار الإعلان الشيعي الشجاع والأصيل في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) الصادر منتصف الخمسينات الميلادية والقائل بثقل حجية المشاركة. وكان باحثون أكاديميون وموسوعيون في الجانبين الإسلامي والعلماني من دعاة المشاركة، كجعفر الخليلي وعلي الوردي وحسين مروة وهادي العلوي وهاشم معروف الحسني، وهم أصحاب كتب ودراسات.

ولربما أيقظت هذه المدرسة في باحث إيراني شاب روحاً نقدية ألهبت إحساسه الإسلامي، هو الدكتور علي شريعتي، ليصبح أخطر مفكر إيراني وشيعي يجاهر بفكرة المشاركة في تحديات خرجت من عقر حسينية إرشاد في طهران، وهو صاحب نظرية التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وواضع أسباب الانقسام ومجذر رسومها وأصولها  بظهور الدولة الصفوية عام 1500 ميلادية.

ومن الإنصاف أن الصفويين لم يبتدعوا نظرية القطيعة، وقد كانت قائمة في مرويات محدودة لكن الصفويين نجحوا في أدلجة القطيعة ووضع مناهج خاصة بها في البحث التاريخي وثبتت لها القواعد القائمة على (الأدلة النقلية والبراهين العقلية) ووضعت موازنات لهذا المشروع، تحت تصرف أرفع العقول وأبهى الأسماء الفقهية في لبنان والعراق وإيران. ومنح فقيه الدولة الأول الشيخ علي الكركي صلاحيات الشاه، فصار حرامه حرام الدولة وحلاله حلالها. فعارضته المؤسسة الدينية في العراق والبحرين والإحساء والقطيف، واصطدمت بمعارضة كان طرفاها يختلفان في شرعية السلطان الصفوي ويتفقان في نظرية القطيعة، وإن كانت المعارضة أقل اندفاعاً في هذا الاتجاه، وأسلس روحاً وألطف عبارة. بينما دجج العلماء والمثقفون الصفويون القائلون بروح القطيعة الصارمة والأبدية، فنشروا المرويات الغريبة وأشاعوا الضعيف من الأسانيد. وكأنهم يستعيدون مرحلة مرت في التاريخ الإسلامي كانت الدولة الأموية تشتط بعيداً في هذا الاتجاه، وكأن التاريخ لا يبدو حيوياً إلا بتوازن السوء فينشأ تشيع صفوي وتسنن أموي.

ومادامت الأكثرية العددية بين المسلمين والنوعية في البحث الأكاديمي التاريخي العام، منذ طبقات ابن سعد، تأخذ بنظرية المشاركة العلوية مع الإدارة العمرية لتصريف أمور الدولة، فكيف أتيح للقائلين بالقطيعة كالسيد العلامة كاظم القزويني في أحدث كتاب له هو الإمام علي من المهد إلى اللحد وضع فصل مستقل: إن الإمام علي كان جليس البيت، منذ وفاة النبي (ص) حتى وفاة عمر عام 23، للهجرة مسلوب الإمكانيات على حد تعبيره. بينما كانت جيوش المسلمين تدق أبواب أسيا القصوى وإفريقيا الشمالية؟.

إن المنهج الصفوي يسعف العلامة القزويني بقواعد فقهية وإخراج رواية على لسان الإمام الصادق يخاطب أتباع أهل البيت، قائلاً: في حالة اختلاف الروايات واتفاق بعضها عند بعض الأئمة من أهل البيت:

خذوا ما خالف القوم أو خالفوا ماوافق العامة.

ولأن القوم المسلم قد أجمع على نظرية المشاركة العلوية في إدارة الدولة، وإلى جانبه روايات عن الأئمة، ومنهم الصادق وعن أهل البيت، ومنهم زيد بن علي، فالصحيح الصفوي هو الأخذ برواية القطيعة مادامت تخالف أهل السنة.

وهكذا حسم النزاع ويحسم في قضايا الخلاف، فيكون إجماع المسلمين على أمر سبباً للشك في الرواية، والمطلوب الأخذ بما خالف القوم!.

ولم يعد مما يقوي الشيعي القائل بالمشاركة،الاستشهاد برواية تقر حصول بيعة الإمام علي ومشاركته أبا بكر وعمر في إدارة الدولة.

فمن الذي حرم الإمام علي من المشاركة في إدارة الدولة سوى القائلين بالقطيعة؟. وما المذموم في أصل فكرة المشاركة الصادرة أساساً من وعي عقائدي حميم إلا من يُعتم على دور الإمام المؤسس والشريك؟.

إن فكرة الاعتزال إن لم تكن محرمة فهي لاتليق بالشريك المؤسس حامل أول لقب لفتى الإسلام.

وفي ذات السياق تركزت الجهود الفكرية والفقهية والدعائية على ربط عمر بن الخطاب في التأسيس السفياني للدولة الأموية بتعيين معاوية والياً على الشام وتوزيع المناصب القيادية على صحابة قادمين من المعسكر السفياني أو من البيت الأموي، وهو الأمر الذي لاقى ويلاقي رضا الفريقين.

فأهل السنة، وبحسب مبدأ وحدة الصحابة، وكون الإسلام يجبُّ ماقبله، وبقوة الأدوار التي نهض بها هؤلاء القادة في عصر الفتوحات سيكون من لطف الله عندهم أن تتعاشق وشائج الود والفهم المشترك بين سياسة عمر وفقهه وإدارته للازمات بتاريخ رجاله من قريش ومن بني أمية فيتساوى الرجل مع غيره في وحدة الصحابة ويدفع اللوم والتأنيب ونبش الماضي عن رجال قريش إذعاناً لقاعدة الإسلام يجب ماقبله، وهي عندي من أرقى المبادئ في العلاقات الإنسانية وأذكاها في إطفاء حرائق الفتن وأكثرها علمية في نشوء الدول.

إن عمر بن الخطاب يكاد أن يدمج مع الأمويين عند بعض أهل السنة وعند عموم أهل التشيع، والمهمة النبيلة للفقهاء والباحثين العمل على امتلاك القدرة العلمية والذهنية لاستلال عمر من انتساب لم ينتسب إليه، وبيت لم يكن منه، ولعل المدرسة المصرية أجابت عن هذه الحاجة الحضارية وحسمت الأمر لصالح القول بالمشاركة.

يروى أن عثمان بن عفان قال للإمام على: إنني لم أخرج عما كان عليه عمر في أمر تعيين الأمراء والولاة والقادة، فلماذا رضيتم به؟.

أجابه الإمام علي: إن عمر كان يتابعهم ويراقبهم ويعاقبهم بالعزل وبغيره إن لم يسيروا سيرة حسنة. ولم يترك لهم الأمر.

ويقول الدكتور علي الوردي:

إن معاوية مع عمر لم يكن ذاته مع عثمان، كان معاوية مع عمر محكوماً مطيعاً، لكنه في ولاية عثمان كان حاكماً وصاحب صلاحيات، وقد صارت الشام كأنها عاصمة الخلافة.

ومن الأمثلة على طريقة عمر التي أشار إليها الإمام علي أنه كان يعزل الوالي، وإن كان المعزول ممن أبلوا في الفتوح بلاءاً مثيراً للإعجاب، وقد عزل المغيرة بن شعبة عن البصرة وأمره أن يشخص إليه ليحاكمه في تهمة زنا، في الوقت الذي كان فيه المغيرة يلحق الهزائم في الجيش الفارسي في الأهواز.

وعزل قائداً وصحابياً كسعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة، كما عزل شرحبيل بن حسنة عن ولاية الشام لسبب سئل عنه عمر، فأشار إلى تفضيله الإداري القوي على الإداري الضعيف، وليس لسخطه عليه.

وقصته مع خالد بن الوليد وعزله معروفة.

رضي الله عنه وعليه السلام:

من وظائف فقه الخلاف توسع الفقيه في المرويات والآراء وإنجاب لُغة ومصطلحات تُرضي نزعة الافتراق.

فصار لكل فئةٍ لغة خاصة يتعرف الناس بها على مذهب الكاتب والمُتحدث، وشمل ذلك جملة الصلاة والسلام على النبي، هل هي له وحده أم يلحق به آله فقط كما يقول الشيعة، أم هي عليه وعلى آله وأصحابه، كما يقول أهل السنة؟

وهل سنقف عند هذه الصيغة أم نلحقها بمفردةٍ أخرى، مثل أجمعين، فيتشارك مع النبي في الصلاة والسلام أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو سفيان وعبد الله بن أبي سرح وعمرو بن العاص. حسب منطوق وحدة الصحابة. ومبدأ التسوية بينهم فيعترض فريقٌ من المسلمين على مفردة أجمعين. ويعترض أغلبية المسلمين على الآذان الشيعي في أكثر من مورد كحي على خير العمل والشهادة الثالثة؟.

و فقهاء التشيع يرون في حي على خير العمل، جملة واجبة الوجود في الأذان.

أما الشهادة الثالثة فهي مستحبة عند فريق من الفقهاء، ويمكن الاستغناء عنها، وعلى ذلك جرى الإمام محمد مهدي الخالصي فأثيرت حوله وعليه ضجة لم تهدأ.

فلماذا لم يترك المُستحب ويُستغنى عما أضيف هنا وهناك كي يكون الآذان واحداً؟.

أجيب، ومن وجهة نظر لا علاقة لها باجتهادات الفقهاء، أن الأمر ليس بهذه البساطة، فاللغة عند أهل المذهب قد توظف للتعبير عن الملامح، قبل المضامين، فإذا صرنا إلى الاستغناء عن مفردة خاصة ضاعت الملامح ولم يعد ممكناً التعرف على هوية المُتحدث والمؤذن وستنتفي الحاجة إلى فقه الخلاف!..

و في هذا السياق لم يُترك النبي محمد وحده ليصلي الله عليه ويُسلم. فألحق معه الآل أو الأصحاب ولو أن الآية 56 من سورة الأحزاب تقول: "إن الله وملائكته يصلون على النبي. ياأيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً" فيكون الأسلم والأجمل أن يصلي الله ويُسلم على نبيهِ دون أن يشترك معه أحدٌ من أهل القرابة والصحابة.

ولعلّي أميل إلى عبارة صلى الله عليه وسلم، وأستخدمها في أحاديثي، فحدث وكنت أُحاضر في حسينية الولاية في حي السيدة زينب بدمشق عن استشهاد الإمام الحُسين بين جمع من المدعوين شيعة وسُنّة، ولدى انتهائي من المحاضرة. كان أحد الفقهاء يتصدر المجلس، فهمس في أُذني أني لا ألتزم بلغة الإسلام، وظننت الأمر يتعلق بمنهجي المُستقل الخارج عن مناهج البحث الفقهي.

لكن السيد الفقيه استدلّ بعبارة (صلى الله عليه وسلم) ليكون النطق بها سبباً لجعلي غير ملتزم بلغة الإسلام. إذ المقطوع نهائياً أن تُلحق بالعبارة إياها جملة وعلى آله.

ولو نطقت بها لأعترض الحاضرون من أهل السنة، ولاتهمت بالممالأة.

فهل كثيرٌ على النبي أن يُخص بصلاة الله وسلامه وقد خصه الله وحده بالآية الكريمة؟.

وفي هذا السياق استبدّت صيغتان بأسماء أئمة أهل البيت والصحابة، بما يجعل الخروج عنهما أشبه بالخروج عن المقبول الديني لدى الفريقين، فاختص أهل السنة بصيغة رضي الله عنه للصحابي وللأئمة من أهل البيت ورفض الشيعة إطلاقها على الاثنين، فهي عندهم كثيرة على الصحابة وقليلة على الأئمة، إلاّ إذا كان الصحابي مقرباً من الإمام علي وللإمام صيغة عليه السلام وليس لبقية الصحابة صيغة رسمية في لغة التشيع.

وفي التحليل اللغوي وعلاقة كل من الصيغتين بالروح، تبدو صيغة رضي الله عنه مُناسبة للجميع إذ لا تقويم يعلو على تقويم الله الحاصل في الرضا والرضوان عمن هو جدير برضوان الله فإذا رضي الله عنك فما قيمة أن تغضب الخليقة عليك؟

ومن رضي الله عنهم لا يحتاجون إلى طلبِ أحدٍ منا إلى الله بالترضي والرضوان عليهم بعد أكثر من 1420عاماً على صدور الإرادة الإلهية بمنحهم رضوانه وقوله تعالى في سورة الفتح الآية 18 " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً عظيماً "

لكن منهج القطيعة يطوي المسافات وقد يعبر الآيات، فإذا وصل إلى تلك الشجرة ورأى عمر بن الخطاب تحتها مع من بايع الرسول ونزل فيه قرآن توقف المنهج سالكاً طريقاً لا يمر عند تلك الشجرة، ولو أننا اخترنا أيّ مقطع من هذه الآية الكريمة وألحقنا به اسم رجلٍ ممن كانوا تحت الشجرة لما خرجنا على مضمون الآية فنقول: إن عمر رضي الله عنه، أو أن عمر أنزل الله عليه السكينة، أو عمر المثاب بالفتح العظيم.

ونحن نميل إلى ترك الأمر إلى الله وهو صاحب الرضوان.

أمّا السلام عليه الذي يُلحق بأسماء الأئمة من أهل البيت، فلعلها صيغة مستعارة من آيات قرآنية منها:

" سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " / الرعد 24 /   

" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً " / مريم 15 /

" قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " / النحل 59 /

" سلامٌ على نوح في العالمين " / الصافات 79 /

" سلام على إبراهيم " / الصافات 109 /

" سلام على موسى وهارون في العالمين " / الصافات 120 /

" وسلام على المرسلين " / الصافات 181 /

فالذين ألقى الله عليهم بالسلام هم الأنبياء، والأنبياء بدرجة أعلى من الصحابة، فخصَّ أئمة أهل البيت بما خُصَّ به الأنبياء والمرسلون وعباده الذين اصطفى والصابرون فنعم عُقبى الدار.

يبدو أنها خيارات لتلوين اللغة وتطويعها حتى تكون خاصةً بهذا الفريق أو ذاك، وليست خاصةً بمجموع المسلمين.

إن إشكالاً آخر سيقع فيه المستمع للتلاوة القرآنية.

فكما أن النبي (ص) هو المشترك للمسلمين كافة وضرورة الخلاف تستدعي وضع إشارة بجانبه، حتى يعرف المتحدث شيعياً أم سنياً، فالمشترك الأعظم والأول للمسلمين هو القرآن.

فإذا تلي على الناس، فقد يضيعُ على المستمع هوية المقرئ وهوية المكان، هل هو في جامع سُني أم شيعي؟ وتدعو ضرورة الخلاف إزالة الإشكال عند مستمع التلاوة.

 وقد تم ذلك مؤخراً إذ يعرف القارئ الشيعي عند انتهاء تلاوته بجملة «صدق الله العلي العظيم» بدلاً من «صدق الله العظيم» التي أصبحت سُنيّة.

روزه خون القطيعة!

لعب المنبر الحسيني الدور الشعبي الأوسع تأثيراً في شحذ الوجدان الشيعي وصياغة ذهنية التشيع عند عامة الناس. فأدى وظيفة إعلامية ضخمة يوم لم تظهر بعد وسائل الاتصال والإعلام، وقبل أن يتحول العزاء الحسيني إلى فضائية مرتبطة بالأقمار الصناعية. وكان المصدر الرئيسي لمعلومات القارئ الذي يسمى الروزخون(*)، كما يقول د. علي الوردي، مجلدات بحار الأنوار للملا محمد باقر المجلسي الذي يصفه علي شريعتي، بأنه داعية السلطنة الصفوية ومروّج مشروعها السياسي والروحي.

ويدير الروزخون حديثه على روايات عاطفية ترتكز على قلة العدد وقسوة العدو وخذلان الناصر التي تنتهي عادةً بالفجيعة.

وساهم المنبر الحسيني بخلق وحدة نفسية لدى حاضري المجلس، تتجاوز انتماءات الطبقة والعنصر ومستوى التحصيل العلمي، فيبكي الجميع، وفي المقدمة منهم كاتب السطور الذي تتسارع دموعه في اللحظة التي يتنحنح بها القارئ، قبل النطق بالبسلمة. وهي لحظة شعورية موروثة تستحضر رمم جدي، وعظام أخي. وعباءة أمي، وشجى الصوت بلحن الفاجعة، ويدٌ مقطوعة الإصبع، وعمامة محمدية معلقة بحوافر الخيول، ومن بقي من أحفاد الرسول ورؤوس على الرماح، وبنات النبي سبايا فأين منهن عمر، وقراره الأول في اليوم الأول من ولايته بعد وفاة أبي بكر بمنع سبي العرب وإطلاق نسائهم وإن كانوا من أهل الردة.

وقد قال الإمام الحسين لعبد الله بن عمر الذي طالبه بعدم الذهاب إلى العراق، ومقاتلة الخليفة الأموي في الشام: لو كان أبوك معنا لنصرنا. لكن الروزخون يتعامى عن هذا النص، فيشتط به المجلسي إلى عمر بن الخطاب ليكون هو خصم الحسين وعدوه، فيستقر كلامه في أذهان الأتباع والمريدين والحاضرين، وكأن حقائقه لا ينفيها إلاّ قتلة الإمام الحسين.

وفي تطور متوقع، حدث انعطاف في اتجاهات المنبر الحسيني، الذي اعتلاه مفكرون ومؤرخون وكان رائدهم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي خريج جامعة النجف وجامعة القاهرة والفقيه المؤرخ والأديب الشاعر ولم يعد المجلس الحسيني دعوةً للبكاء واستخداماً غير مفيد لأحداث التاريخ.

تشريع قانون لسب عمر:

وفي المنهج الصفوي، يجوز لفقيه صغير الخروج على مرجع اكبر، وتفنيد رأي له أو خبر، إذا تعلق الأمر بنفي فضيلة وإبطال رواية تورط المرجع بذكرها والمستفاد منها (أبناء العامة)، وسيكون الجمهور مع الفقيه الصغير ضد المرجع الكبير.

وهذا ما حدث مؤخراً للمفكر والمرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، الذي شكك في رواية هجوم عمر على بيت الإمام علي وكسر ضلع الزهراء.

إن الشيخ محمد جميل حمود يكتب في هذا التأسيس القديم، فيقول: "لاكبار ولا سلاطين ولا فقهاء أمام تراب أقدام آل محمد ". ولم يكن هؤلاء الكبار والسلاطين والفقهاء في حقيقة الأمر إلا من مريدي هذا التراب الطاهر، لكن الشيخ حمود كان بصدد إبطال رواية تحدثت عن حصول زواج عمر من بنت الإمام علي بن أبي طالب.

إن وحدة القياس في المنهج الصفوي تتصل عند فحص الرواية بمدى قوتها لإحداث نوع من الانشقاق، وقدرتها على ترويع الطرف الإسلامي الآخر. وعندما يقول الإمام جعفر الصادق: " إننا نبرأ إلى الله ممن يسب أبا بكر وعمر"  فهي رواية غير معترف بها، وليس فيها رشاد لأنها مما يوافق العامة.

وكان الشاه الصفوي قد وجه مبعوثين إلى فقهاء النجف وجبل عامل للالتحاق به، وأرسل الهدايا الثمينة، فاستجاب لدعوته الشيخ علي الكركي، وهو من أهالي قرية (كرك نوح) في بعلبك بلبنان، وكان عند استدعائه يسكن النجف، ورفضها فقيه آخر كان يقيم معه في النجف، ويناظره في المرتبة العلمية، وهو الشيخ إبراهيم القطيفي- من أهالي القطيف والإحساء – ورفض هدية الشاه، وحرم على الشاه أخذ الخراج من الناس واعتبره غصباً.

يقول على الوردي: إن الشيخ على الكركي أفرط في تأييد مستحدثات الدولة الصفوية، بحيث وافق على أمور لا يجوز في الشرع الموافقة عليها كلها أو بعضها – ولعل هذا هو الذي جعل الخصوم – خصوم الاتجاه الصفوي – يطلقون على الكركي لقب مخترع الشيعة.

ومن مخترعاته، رسالة فقهية قدمت المسوغات الشرعية لسب عمر بن الخطاب وأبي بكر، بعنوان نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت.. ولم يكن الجبت والطاغوت في عرفه سوى عمر بن الخطاب. 

إن الجدال الشديد الذي نشب بين الكركي والقطيفي أدى إلى انقسام علماء الشيعة في حينه إلى فريقين متنازعين، ولكن هذا الانقسام لم يدم طويلاً حتى انتهى بانتصار الكركي وأتباعه كما يقول الوردي وليس من الصعب اكتشاف السبب الذي أدى إلى هذا الانتصار، وهو متوقع وينسجم مع طبيعة الحياة الاجتماعية، فالدولة بما لديها من أموال ومناصب مغرية قادرة أن تقوي جانب العلماء الذين يؤيدونها وتضعف جانب الذين يعارضونها.

ولم تتراجع السيادة الصفوية وسيطرة مناهجها، على اتجاهات البحث العلمي وقواعد الاحتجاج التاريخي، منذ ذلك الوقت من عام 1530 إلى أيامنا هذه، ولم يعد منهج الشيخ إبراهيم القطيفي معروفاً في تلك الأوساط.

وكان عمر بن الخطاب ضحية هذا الانتصار المؤسف، ولاينبغي إغلاق هذا الملف قبل الإشادة بدور الإمام السيد محسن الأمين العاملي، الذي كانت موسوعته أعيان الشيعة وكتاباته الأخرى المصدر المعتمد في تسجيل تلك الأحداث ومنه أخذ الدكتور علي الوردي المعلومات الخاصة بذلك الصراع.

المجلسي رائداً:

يقول علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق – الجزء الأول:

إن الملا محمد باقر المجلسي الذي توفي في عام 1699 كان شديد التعصب لعقيدته، وقد أغرى الدولة باضطهاد جميع المخالفين، الذين كانوا موجودين في داخل الحدود الإيرانية، وقد أوقف الشاه الصفوي بعض أملاكه الخاصة في سبيل نسخ كتابه بحار الأنوار، الذي يقع في (25) جزء وتوفيره للطلبة.

ويُعد (بحار الأنوار) أضخم كتاب لدى الشيعة، وفي رأي بعض الباحثين والكلام للوردي أن المجلسي أساء للتشيع بهذا الكتاب أكثر مما نفعه، فهو قد جمع فيه كل ما عثر عليه من الأخبار والقصص والأساطير، لا فرق بين الغث والسمين منها، ثم وضعها في متناول كل من يريد الاغتراف منها، وجاء بعدئذ قرّاء التعزية وخطباء المنابر فصاروا يأخذون منه ما يروق لهم وبذا ملأوا أذهان الناس بالغلو والخرافة وجعلوهم يحلقون في عالم من الأوهام. وقد تبنت الدولة القاجارية هي الأخرى هذا الكتاب، فكان أول المؤلفات التي طبعت بعد دخول المطبعة الحجرية في إيران، وقد وردت إلى العراق منه نسخ كثيرة مما أدى إلى انتشار معلوماته الغثة في أوساط الشعب العراقي على منوال ما حدث في إيران.

ولك أن تختزل خمسين كتاباً صدر لجماعة " المستبصرين " بكونها استنسخت الكثير من تلك المعلومات في الكتب التي صدرت لهؤلاء المتحولين.

وكان الإمام الخميني قد أوقف طباعة أجزاء من موسوعة البحار حرصاً على وحدة المسلمين، وحفظ الأجيال الجديدة من تسرب تلك المعلومات اليها.

والمجلسي متخصص في روايات التشهير بعمر بن الخطاب، حيث يمكن ردّ ما يتداوله الإعلاميون والمتعلمون والمتحدثون وبعض الفقهاء من معلومات حول عمر إلى مصادر المجلسي.

ويشترك مع المجلسي مؤرخ موسوعي آخر هو السيد البروجردي الكاظميني في كتابه جواهر الولاية.

يقول علي شريعتي  في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي، إن المجلسي، وهو أبرز وجوه التشيع الصفوي، يرسم للإمام السجاد صورة أعتقد أن أعداء آل علي الذين نصبوا لهم السيف يخجلون من نسبتها إليه. فإن العزة والوقار والهيبة واليها صفات معروفة لبني هاشم لاتنكرها حتى الجاهلية، وإن المجلسي ينقل أخباراً مثيرة للغثيان!.

إن علي شريعتي  يشك في علمية المجلسي، ويسخر من رواياته ويقدم نموذجاً لها قصة زواج الإمام الحسين من ابنة كسرى يزدجرد.

إفحام الفحول: الشيخ محمد جميل حمود

توشجت العلاقات بين عمر والإمام علي بعد وفاة أبي بكر، واستمرت في التلاحم والتفاهم إلى الحد الذي يدفعنا لجعل ولاية عمر بن الخطاب حكماً مشتركاً مع الإمام علي.

وكان عمر حريصاً على تطور وتطوير تلك العلاقة، فلم يحدث بينهما ما يعكرها إلا في مخيلة رواة القطيعة ومن يتلذذ ويستأنس العيش في تخوم الخلاف.

كان عمر يسعى لأن يرحل عن الدنيا وله نسب وسبب مع رسول الله، إذ لم يوفق الله ابنته حفصة زوجة النبي (ص) ”بالانجاب وحديثه كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي يغري عمر وبقية الصحابة في مصاهرة بني هاشم، ولم يكن للرسول إلا فاطمة، ولم يكن للزهراء سوى بنت غير متزوجة أم كلثوم، وهي آخر حفيدة لرسول الله، وأم كلثوم كانت ماتزال يافعة، وقد اختلف في عمرها عند طلب عمر الزواج منها كما اختلف في عمر عائشة في سنة زواجها بالرسول (ص)، وأنجبت أم كلثوم لعمر ابنا اسماه زيداً تيمناً باسم أحب أشقائه إليه زيد بن الخطاب. غير أن العاملين في مدرسة الانشقاق قد ساءهم أن يكون لعلي وعمر حفيد مشترك وأن يصبح مقام أم كلثوم عند عمر كمقام عائشة عند النبي (ص) حباً ودلالاً ومصاهرة.

إن روايات أهل البيت لم تنف حصول الزواج، فكيف يتصرف منهج القطيعة مع خبر مرفوع  عن الأئمة؟.

هنا يتدخل منطق الانشقاق فتقحم روايات، إما باعتبار الزواج اغتصاباً أو تهديداً أو أنه لم يحصل أساسا، وأن الله بعث إلى عمر كما يقول المجلسي في (بحار الأنوار) جنية تشبهها فيما تم إخفاء أم كلثوم عن الأنظار حتى وفاة عمر.

حول هذه القضية، كتب العلامة اللبناني الشيخ محمد جميل حمود رسالة بعنوان (افحام الفحول) في شبهة تزويج عمر بأم كلثوم صدرت عن مركز الفكر في بيروت عام 2003، ونفذت طبعتها الأولى في عشرين يوماً والتي بين أيدينا هي الطبعة الثانية الصادرة في العام نفسه.

ولأن خبر الزواج، متواتر عند أهل البيت، فقد استعان الشيخ حمود بمقولة ابن حنظلة، وقد توفر له خبر بنفي حصول الزواج، وباعتبار أن أهل السنة ممن يوافقهم خبر الزواج لا نفيه واستناداً إلى الخبر المنسوب إلى الإمام الصادق (إذ ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم) فقد أخذ الشيخ بخبر عدم حصول الزواج.

ولإيجاد مسوغ آخر لمناقشة خبر حصول الزواج، أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل جنية من أهل نجران يهودية يقال لها سحيقة بنت جريرة فأمرها فتمثلت بمثال أم كلثوم، وحجبت الأبصار عن أم كلثوم، وبعث بها إلى عمر، فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوماً، فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم.

ثم أراد أن يظهر ذلك للناس، فقتل وانصرفت الجنية إلى نجران، واظهر أمير المؤمنين الإمام علي أم كلثوم.

ويقول الشيخ المجلسي: إن هذا لايدل على وقوع تزويج أم كلثوم (رض) من (الملعون المنافق)، وكان فقيه عراقي معاصر هو السيد علي الميلاني قد استنكر هذا الخبر لأنه يشتمل على ما لا يصدقه الناس فهوجم السيد الميلاني  لصالح الشيخ محمد باقر المجلسي وجماعته.

ويروي الشيخ حمود ما تسمى حسنة زرارة، إذ ينسب للإمام الصادق قوله بما يشير إلى حصول الغصب في الزواج واجلالاً لمقام الإمام أحجمنا عن إيراد نص الخبر لما يتضمنه من إساءة بالغة للإمام ومقام الإمامة.

أبو لؤلؤة رضي الله عنه

يقول الشيخ محمد جميل حمود: إن عمر بن الخطاب هدد الإمام علي بقطع يده بعد اتهامه بالسرقة إن لم يوافق على تزويجه من أم كلثوم، وينسب كلامه هذا إلى رواة ثقاة في مدرسة أهل البيت وأن عمر كان يسعى لاهانة الإمام علي باهانة عرضه وتحقيره وتوهينه بالدوس على كرامته، وهو أي الإمام علي مكتوف الأيدي تكبله وصية رسول الله بعدم جهاد عصابة النفاق. ولأنه أي عمر ماكر خبيث، فإن إصراره على الزواج كان يخفي وراءه حقداً دفيناً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. من هنا ارتأى أن يقهر كرامته بوطء عرضه الغالي والمقدس، لكن يد الغيب الطاهرة كانت له بالمرصاد فكانت طعنات نافذة من أبي لؤلؤة (رض) فأودت بحياة من أراد التطاول على شرف المرتضى قبل أن يتمكن من أن يتبع خطوته الأولى بأي خطوة أخرى.

ويستكمل صاحب إفحام الفحول مناقشته لنفي زواج عمر من أم كلثوم أن الإمام علي قد وكلّ العباس عم النبي (ص) بمهمة قتل عمر إن أصّر على الزواج، كما أنه من المقطوع به أن الإمام علي كان يعلم بدنو قتل عمر بواسطة أبي لؤلؤة إن لم يكن قتله إيماء منه. وكل هذه الاحتمالات صحيحة.

إن كتاب إفحام الفحول هو النموذج الأخير المتكامل الجوانب للمنهج االذي لا يتأخر عن جعل الإمام علي كما يقول صاحب الكتاب ذليلاً ومهاناً بل ومهدداً بقطع يده، كما لو كان طفلاً يتلاعب بمشيئة خاطف متمرس بالقتل ، مقابل أن لا يتحدث التاريخ عن وشيجة إنسانية وشرعية بين اثنين من الصحابة المحمديين، ويستخدم خبراً على لسان الإمام الصادق تستنكف من تدوينه مجلات الجنس المشاعة في بيروت، لكن ما لم يكن في بال عربي ومسلم ومستشرق ومؤرخ وقارئ سيرة أن يردف أحد القتلة بعبارة رضي الله عنه الخاصة بالصحابة الأوائل والأولياء الأطهار.

ولكي يبعد هذا المنهج علياً عن عمر بنفي حصول الزواج، يقدم الشيخ حمود شهادة مكتوبة ضد الإمام علي بن أبي طالب بأنه هو الذي أوصى لأبي لؤلؤة بقتل عمر، وهو ما لم تقله منابر التشهير السبعين ألفاً التي نشرها الأمويون لشتم الإمام علي والطعن به.

موقف الدولة الإيرانية حالياً:

حملت كتاب افحام الفحول إلى مسؤول كبير جداً في  الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفقيه من مساعدي السيد الإمام الخامنئي. وأشرت إلى مسؤولية الجمهورية الإسلامية عن صدور مثل هذه الكتب والمواقف، التي توسع الفجوة بينها وبين المسلمين، واستغربت أن يترضى عالم دين مسلم على قاتل مثل أبي لؤلؤة وهو مجوسي، واقترحت أن يوصل رأيي هذا إلى سماحة الإمام الخامئني، ودعوت إلى تشكيل هيئة شيعية عليا لفحص المطبوعات التاريخية، أسوة بما هو موجود في الأزهر الشريف، صوناً لكرامة الأئمة واحتراماً لتاريخ الإسلام وحفظاً لوحدة المسلمين، وكانت المفاجأة بعد أن أصغى إليّ الرجل باهتمام قوله: إنَّ هناك روايات متوفرة لدى رواة أهل البيت أن الذي قتل في المدينة بعد مقتل عمر هو ليس أبا لؤلؤة، الذي تمكن من الهرب والوصول إلى إيران وسألته: وهل هذا يعني أن ما يقال عن وجود قبر يزار لأبي لؤلؤة في إيران صحيح، وهو عندي من المدسوس على الإيرانيين؟. قال المسؤول الفقيه: نعم.

السيد كاظم القزويني: الإمام علي جليس البيت

ليس من الصعوبة أن نعثر على مكان وجود الإمام علي في الفترة التي غيّب عنها في مصادر القطيعة.

يُجيبنا العلاّمة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني على هذا التساؤل في كتابه الرائج (الإمام علي من المهد إلى اللحد) منشورات مؤسسة النور بيروت 1993 / قائلاً وقد وضع عنواناً لفصل من كتابه هو: الإمام علي (ع) جليس البيت: جاء فيه (حديثنا الليلة حول الفترة التي انقضت على أمير المؤمنين (ع) وهو جليس البيت، مسلوب الإمكانيات، وقد ابتدأت تلك الفترة من يوم وفاة رسول الله (ص) واستيلاء أبي بكر على مسند الحكم, ولمّا انقضت أيام أبي بكر، أوصى من بعده إلى عمر بن الخطاب وكانت أيام حكمه عشر سنوات وشهوراً، ولمّا طعن وأحسّ بالوفاة, جعل الخلافة شورى ورشح ستةً من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحداً من أنفسهم)ـ.

انتهى نص العلامة القزويني فشرع يروي أحداث الشورى، حيث ظهر فيها الإمام علي لأول مرة على مسرح الحياة السياسية بعد أن أمضى ما يقارب ثلاثة عشر عاماً جليسَ البيت مسلوب الإمكانيات.

إن جوابي على جواب العلامة محمد كاظم القزويني، سيظهر عليه شيء من ميول الانحياز الكبير للإمام علي مما لا أستطيع السيطرة عليه في حالةٍ تعتريني كلما صدمتني رواية وصفعني مشهد يزكم النفس، فتتضرى عبارتي وتتوحش آدابي ومن سيمنع عني ذلك، وأنا العلوي المحب لبني قومي، وأهلي الذاب عنهم كيد خصومهم ومحبيهم فأرى إمامي الأول في معتكف الاختيار، وأبو بكر يؤدب المرتدين ويعيدهم إلى حيازة المدينة، وعمر يصول بين جرجان وطبرستان ويجولُ في إيلياء وفي بيت ماله مرصعات التيجان؟.

كيف أسكت عن رواية تحجر الإمام جليس بيت مسلوب الإمكانيات، في أخطر مرحلة تأسيسية في تاريخ الإسلام، معزولاً عن المشاركة في الجهاد، تاركاً لغيره لواءه، فتدخل جيوش الفتح إلى العراق، وتقيم البصرة والكوفة وتدخل الشام وتفتح أبواب الإسكندرية، وبيد عمر مفاتيح بيت المقدس، وتشاد الفسطاط والمسلمون في سواحل بحر قزوين، فتقام على ظاهر الشرق دولةٌ عظمى، وإمام المسلمين الأول  جليسَ البيت مسلوب الإمكانيات، فيتحول المعصوم إلى معتصم في عقر داره،  ولم يحاول السيد القزويني أن يكسر هذا الاعتصام ليُطلّ عليه لعل خبراً يأتينا من داخل معتصمهِ.

إن لوحة الإمام علي في خطاب القطيعة هي دائماً هكذا... رجل منكسر ونفس محطمة، مسلوب الإمكانيات، لا يدافع عن نفسه ولا يدفع عنه شر خصومه مدةَ ثلاثة عشر عاماً. ويتكرر مشهده كلما رغب صانع الخطاب باستخراج قيح الكراهية والبغضاء بين أبي بكر وعمر فيجرده من عناصر القوة للاستدلال على رواية يخرج الفقيه منها رابحاً جمهوره المخدوع وإن خسر الإمام.

و إذا كان الناتج السلبي حاصلاً عن كون هذا الخطاب  محسوباً في باب الغلو فهو ليس غلواً في حب الإمام، وقد كثر هذا الميل عند المسلمين وتوزع على كافة المذاهب والمدارس، وإنما يركز المنهج على الغلو في الكراهية.

إنه لا يغلو في حب الإمام علي كما يغلو في بغض عمر وكراهية الصحابة، ولا بأس عنده وهو مخمور بروح الكيد أن تكون الرواية والرأي اللذان يستدل  بهما مسيئين للإمام علي، كما يحصل في كتاب السيد محمد كاظم القزويني وفي كتب أخرى تعبيراً عن هذا المنهج.

وستُعرض علينا لوحات يؤخذ فيها الفارس، الذي لم يخسر معركةً مكتوف اليدين مسلوب الحركة ليرغم على بيعة أو أن عمر بن الخطاب يغتصب بالقوة ابنته الصغرى من فاطمة ليتزوج منها.

وكمحب لأهل البيت ومريد للإمام علي الذي يتعرض تاريخه للتشويه، أناشد السيد الإمام علي الخامنئي من موقعه، أن يؤسس هيئةً علميةً عُليا للنظر في صلاحية الكتاب المتعلق بأهل البيت، وبتاريخ الإسلام عامةً، أسوةً بما عليه مشيخة الأزهر الشريف، وأسوةً بالخطاب الرسمي في المؤسسات الإيرانية الرسمية، التي تمنع الإساءة والتشهير وما يمس وحدة المسلمين.

وإذ لا نطوي صفحة الإخفاء غير النزيه لهذا المقطع الأساسي من تاريخ نشوء الدولة الإسلامية والإسلام، نطل على صفحة أخرى من الكيد والإهمال والإغفال لعلي بن أبي طالب في روايات وكتب ودراسات تنشر في هذه المدرسة أو تلك. إذ يصدم المتابع أن بعض المصادر تتحدث في قضايا تمس مصائر الأمة، وأحداث ساخنة، فلا ترى فيها الإمام علياً حاضراًَ، وإذا ماحضر، فليس لك أن ترى اسمه إلاّ بمكبرة الحروف.

إن مساحة المدينة وتعدادها السكاني يجعلان من غير المعقول غياب شخصية بحجم علي بن أبي طالب عن أحداث التاريخ.

ففي وفاة أبي بكر استشار الخليفة عدداً من الصحابة لم يظهر علي بينهم، والخليفة يحتضر، ويستشير في لحظة مصيرية تتعلق بإمامة المسلمين.

تقول تلك المصادر: إن أبا بكر دعا عبد الرحمن بن عوف، ثم عثمان بن عفان، ثم أُسيد بن خُضير، ثم سعيد بن زيد، وعدداً من المهاجرين والأنصار.

فإذا كان الإمام علي حاضراّ، فلربما أستعيضَ عن اسم حضوره، بجملة عدد من المهاجرين والأنصار..!!

وكان رأي من استشارهم أبو بكر واحداً في عمر، إلا طلحة بن عبيد الله الخائف من شدته وغلظته.

إن هذه المرويات تكرس أمرين، مثلهما مثل خطباء القطيعة الذين يركزون في كتاباتهم على مقاطعة الإمام لأبي بكر، أو أنها تؤكد للجانب الآخر عدم أهمية الإمام علي عند أبي بكر وفي تلك الحالة فهناك غدرٌ وظلم يلتقيان في مشاهد مُدوّنة عند الفريقين، وهذا يدخل في مذهب التنقيص.

في ذات السياق فإن العلامة الشيخ علي الكوراني أعاد النظر في حقيقة اعتكاف الإمام علي بداره فيما المسلمون يفتحون الأمصار، فيقر بحديث نقلته فضائية الأنوار (الشيعية) يوم 9/9/2006 بأن الإمام علي هو فاتح بلاد فارس وأنه هو الذي أشار على عمر بذلك, وإن معظم تلامذته كانوا في مقدمة جيوش الفتح (انتهى كلام الشيخ الكوراني).

وهذا الكلام خطوة متقدمة قد تعيد للإمام علي دوراً أنكره عليه محبوه والموالون له، وهو اعتراف ضمني وواضح بأن عمر بن الخطاب والإمام علي كانا يشتركان في الكثير من القرارات الاستراتيجية(*).

كسر ضلع الزهراء

يستند شارع القطيعة على رواية لم ينفها كثير من المؤرخين الإسلاميين في توجه عمر بن الخطاب مع جمع من مؤيديه إلى بيت الإمام علي, لأخذ البيعة لأبي بكر في يوم السقيفة،  لكنها تختلف في ما حصل عند الباب، وهل تسبب ذلك في كسر ضلع الزهراء وإسقاط جنينها محسن؟

ليس من منهج الكتاب الخوض في روايات الخلاف, والرواية تندرج في هذا السياق. وقد شكك بها بعض الفقهاء الشيعة، وجعلها المؤرخ الشيعي هاشم معروف الحسني واحدة من ثلاث روايات أخرى في تلك الحادثة، وليس من شك عندي أن عمر بن الخطاب قد توجه في ذلك اليوم الخطير إلى بيت الإمام علي، وليس من شك عندي أن فاطمة الزهراء قد أسقطت جنينها بعد وفاة والدها, إنما الشك في ربط هذا بذاك.

إن حركة عمر في هذه الرواية هي أقرب إلى شخصيته وإلى طريقته, لا سيما في لحظة تأسيسية لمشروع الدولة بعد رحيل قائدها ومؤسسها, وأن يتصرف عمر بعنفوانه المعهود, وأن يحدث شيء من الحوار الساخن بينه وبين من كان حاضراً في بيت الإمام ومنهم الزبير بن العوام الذي تقترب شخصيته في بعض جوانبها من عنفوان عمر,وان يكون أحدهما أو كلاهما قد شهر سيفه، فما موقع الزهراء في ذلك الحوار الخطير؟.

لم استسلم بعد إلى زج فاطمة الزهراء في تلك الحادثة، وليس معقولاً ولا لائقاً أن تتحدث الرواية عن إسراعها إلى الباب في تلك اللحظة.

إن المهابة والمكانة والمناسبة اعتبارات تمنع وحيدة النبي أن تقترب من الباب بين أفواج من رجال قريش، ومن وضع الرواية تجاهل حزن الزهراء، على فقد أبيها ووفاتها كمداً عليه في روايات أبعدها زمناً ستة شهور، وتجاهل مهابتها فجعلها واحدة من المتخاصمات في يوم الحزن وأحال إسقاط الجنين إلى مصرع الباب بدلاً من أن يكون بسبب مصرع والدها النبي (ص) مثلاً.

 إن وفاة النبي (ص) عند فاطمة الزهراء، كان سيجهضها دون سجال. ولطالما أجهضت نساء لوفاة ابن أو زوج أو أب، فكيف والسيدة هي فاطمة. وكيف والفقيد نبي الله الخاتم، فلماذا يقلل من شأن رحيل النبي(ص)  في رواية الإجهاض سوى أن يكون عمر هو المتهم؟.

لم يكن من عادات العرب ردّ المرأة على طارق الباب، وفي البيت رجالٌ آخرون، ولم يكن بيت علي قصراً من تلك القصور العباسية ذات الأبواب والحريم والجواري في العصور التي كتبت فيها الرواية حتى تخرج امرأة لطارق الباب، فهل يعقل أن تترك فاطمة حزنها المقيم وفجيعتها المرّة لكي تفتح الباب أو تخرج إليه؟.

ربما لاحظت الرواية هذا الجانب فاستعانت بالزهراء لتصد مع الرجال هجوم عمر.

وتقول: إن الزهراء توجهت إلى عمر وأخذته من تلابيبه. وهذه فقرة ستكون الزهراء أجلّ وأعلى من أن تنسب إليها ولا نقترب من معالجتها، وإن كان السؤال قائماً. إذ كيف تمكنت الزهراء منه وهو طويل القامة وضخم، فهل أراد صاحب الرواية ومروجها أن الزهراء قفزت عليه؟.

إن الرواية لم تتوقف عند شيء من أنفة الزهراء وعزتها وكبريائها وروحها الاستشهادية، التي سجلت في ألواح الفداء. وكأنها استشهدت طوعاً بعد رحيل النبي. ولم تكن امرأة في بني هاشم، تنافس مكانها ومقامها وفضلها في الزعامة، لو أتيح للمرأة أن تتزعم ولم يحدث لفتاة في ريعانها أن يحدث موت أبيها رد فعل يودي بحياتها، وإذا ما سمحت مناهج الدفاع عن أهل البيت بالإساءة إليهم، إذا تعلق الأمر بالإساءة إلى عمر بن الخطاب، وضعت فاطمة الزهراء على باب الخصومة وأجهضتها وراء الباب، فمرويات أخرى في مناهج القطيعة تأخذ بالزهراء مع الإمام علي إلى أقل من ذلك. وتستشهد كتب القطيعة وآخرها كتاب (المواجهة مع رسول الله) للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب المتحول للتشيع، إذ يكرس رواية لصاحب كتاب (الإمامة والسياسة) أن علياً حمل فاطمة على حمار، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار، فكان الأنصار يقولون يا بنت رسول الله. قد مضت بيعتنا لهذا الرجل. ولو أن ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.

وروي عن معاوية أنه أعاب على الإمام علي حمل قعيدة بيته على حمار، ويداه في يدي الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر، فلم يدع (الإمام علي) أحداً من أهل بدر والسابقين، إلا دعاه إلى نفسه، ومشى إليهم بامرأته (وإدللت إليهم بأبنيك فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة). وقد ورد كلام معاوية هذا في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد.

وبهذه السهولة يفترى على الإمام علي. وترسم عنه لوحة تقشعر لها الأبدان. وكلتا الروايتين لم تحدثا، فلا علي يسمح لنفسه طارقاً الأبواب في الليل على حمار، ومعه المفجوعة برحيل والدها، وليس لمعاوية أن يستشهد بما لم يكن معروفاً آنذاك.  

إن الأتباع يفخرون عادةً بشعبية زعمائهم، وكثرة جمهورهم، لكن روايات القطيعة تجعل الإمام علياً دائماً وحده. وهكذا كان وحدهم جميع الأئمة، فلم يستجب حتى الأنصار لعلي، أما فاطمة في هذه الرواية، فهي المغلوبة الكسيرة التي تسترحم عطف الناس ولا من مجيب.

وإذا كانت في الرواية الأولى، قد سارعت إلى طارق الباب، ففي الرواية الثانية كانت هي التي تطرق الأبواب.

فأين منها الحزن الذي قتلها بعد أشهر؟. وأين الجنين القتيل الذي أجهضه عمر بن الخطاب قبل ساعات؟ وفاطمة في ذات الليلة تركب مع علي حماراً. وتطرق أبواب الأنصار؟.

وتعود ذات الرواية المنسوبة لأبن قتيبة(*) في الإمامة والسياسة، على لسان اليعقوبي، في تاريخه ويضيف ابن قتيبة، أن عمر هدد علياً بالقتل أمام المهاجرين والأنصار. ولم يحركوا ساكناً، ولم ينكر منهم منكر. فأضفت الرواية على الأنصار ما تضفيه الروايات على أهل الكوفة الذين لم ينتصروا للإمام الحسين فيما المتداول التاريخي أن الأنصار كانوا أقرب إلى الإمام من قريش. 

التنافس على قصور الكوثرية في الجنة:

كتب الفقيه السيد محمد رضا الهندي، وهو من علماء النجف، قصيدته على زنة الآية الكريمة، إنا أعطيناك الكوثر، وسميت فعلاً بالكوثرية التي هي الآن وبعد أكثر من سبعين عاماً على نشرها مطلوبة ومقروءة ولها شعبية وقدسية.

والسيد محمد رضا الهندي عاش تقياً ورعاً، لكنه أهال المعاصي على نفسه في هذه القصيدة، فأغرقها في خمرة لم يذقها، وكسرها بعود لم يسمعه، ودعا الناس للمعاقرة والمراقصة والمعاشرة، لكي يقول لهم، إن هذه المعاصي والموبقات والكبائر لن تُسألوا عنها إذا ما اعترفتم بولاية الإمام علي، الذي جميع (الخصوم المناوئين) له لن يساووا نعلي خادمه المرحوم قنبر.

وعندما اطلع عليها الفقيه المؤرخ العلامة الأميني صاحب الغدير أشهر موسوعة إمامية رأى في منامه أن قصره في الجنة أصغر من قصر صاحب الكوثرية، فأحتج العلامة الأميني على الموكلين في الجنة، كيف يكون ذلك؟. وكتاب الغدير أحد عشر مجلداً وكان تعبي عليه لمدة عشرين سنة متواصلة؟. فأجابه الموكلون: هكذا كان الحكم الإلهي!.

وعند الصباح، مضى الأميني لزيارة صاحب الكوثرية السيد محمد رضا الهندي، وطلب منه استبدال ثواب القصيدة الكوثرية بثواب كتاب الغدير فرفض السيد الهندي، وقال له: هيهات، هيهات، فإن منامك قد رأيته!.

 لكن الشيخ عبد الله نعمة، رئيس المحكمة الجعفرية في لبنان والفقيه المؤرخ المرموق يعدها ويعد قائلها من الغلاة. في كتابه " روح التشيع" الصادر عن دار الفكر في بيروت. ولا أظن الشيخ نعمة، وهو قاض ومؤرخ شيعي كبير، يجهل قائل البيتين اللذين استشهد بهما على الغلو، أو أنه لا يعرف الكوثرية. ولتعزيز موقفه الاستدلالي، استعرض الشيخ نعمة الموقف الشرعي، في روايات للإمام علي زين العابدين، والإمام الصادق، في هذا النص المنقول عن روح التشيع:

" لكن هذه الرؤية قد تحولت لدى بعض العوام الى ذهنية خاطئة، مغرقة في الانحراف، بتأثير الغلاة والمتصوفة، وسرت هذه الذهنية بسوء فهم لبعض تلك الأحاديث، والأخذ بظاهرها، وتفسيرها على غير وجهها. ويقوم هذا الفهم الخاطئ على أن محبة الإمام علي وأهل بيته هي الوسيلة الوحيدة لنيل رضا رب العالمين، وللنجاة يوم الدين، دون حاجة إلى أي عمل صالح، ولا يضر من رزق هذه المحبة والولاء ما يفعله من الموبقات والكبائر، مهما كانت، وانعكس هذا الفهم الخاطئ على قول بعض الغلاة:

كُلّ من والـى عليَّ المرتضـى             لا يخـافَنّ عظيـم السـيئات

حبة الأكسـير لـو ذُرّ علـى            سيئات الخلق عادت حسـنات

ويبدو أن هذه الذهنية كانت سائدة عند بعضهم منذ القرن الثاني الهجري، فقد جاء في رواية محمد بن مارد: " قلت للإمام الصادق: حديث روي لنا أنك قلت: إذا عرفت الإمام فاعمل ما شئت؟ فقال: قد قلت ذلك، قال: قلت وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله، ما أنصفونا أن نكون أخذنا بالعمل ووضع عنهم، إنما قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير، وكثيره فإنه يقبل منك ".

وأولئك قد اعتمدوا ظاهر بعض الأحاديث دون أن يلقوا بالاً على الأحاديث الأخرى، التي تجعل المقياس لنيل رضا الله والنجاة يوم الحساب هو العمل الصالح، منه قول الإمام الباقر: " لا تنال ولا يتنا إلا بالعمل والورع ".

وقول الإمام علي بن الحسين وهو يخاطب طاووس اليماني وقد رآه يطوف حول الكعبة ويتضرع ويبكي، فقال له: يا ابن رسول الله، ما هذا التضرع والبكاء؟ نحن أولى بهذا، أما أنت فأبوك الحسين وأمك فاطمة وجدك رسول الله، فنظر إليه زين العابدين وقال: " هيهات هيهات ياطاووس، دع عنك حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً. أما سمعت قوله تعالى: ﴿فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون﴾ والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح"

وقول رسول الله:" يا فاطمة ابنة محمد اعملي، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس ياعم رسول الله اعمل، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، ثم اقبل على الناس وقال: أيها الناس، لا يدّعي مدعٍ ولا يتمنى متمنٍ، والذي بعثني بالحق نبياً لا ينجيني إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت، اللهم هل بلغت قالها ثلاثاً ".

إن هذه الأحاديث وغيرها تفسر لنا تلك الأحاديث المطلقة، بأن المقياس الذي ننال به مرضاة الله والنجاة يوم الدين هو العمل الصالح. فالحب والموالاة دون أتباع علي وأهل بيته في أعمالهم وورعهم وطاعتهم، ليس من الحب والموالاة في شيء، والى هذا المعنى يشير الله تبارك وتعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ آل عمران:31

وكان الشيخ محمد هويدي قد حقق وأشرف على طبعة أنيقة من الكوثرية، والشيخ هويدي من فقراء شيوخ التشيع وكادحيهم، فسألته عن حقوق النشر، فاستشهد بالآية الكريمة 23 من سورة الشورى قال تعالى:

﴿قل لا أسألكم عليه أجراً، إلا المودة في القربى ﴾

 يقول السيد الهندي:

بََكّر للهو ونيل الصـفـ                   وِ، فصـفوُ العيـش لمن بكـّر

و اشغل يمناك بصب الكأ                    س وخـلّ يسـارك للمزهـر

فدمُ العنقود ولحن العـو                    دِ يعيـدُ الخيـر وينفي الشـر

ويخاطب الإمام علي:

أنّى سـاووك بمن ناووك                    وهل سـاووا نعـلي قنـبر؟.

وعمر في الكوثرية هو حبتر، أي الثعلب الماكر.

أقول: إذا كانت وحدة القياس، تختبر الناس بمدى كراهيتهم لعمر، فلن يكونوا مؤهلين للقب (محبي أهل البيت)، فوحدة القياس عند أهل البيت ترتبط بمدى قدرة محبيهم على استيعاب منهجهم الإسلامي في الوحدة والتوحيد، وحماية الخط، الذي اقتفاه أهل البيت المحمدي. وعلي شريعتي من منتقدي القصيدة الكوثرية، ويشير إليها بالإشارة إلى مقطع مشهور فيها – سوّدت صحيفة أعمالي ـ فيقول في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي:

قانون (يبدل الله سيئاتهم حسنات) تفهمه الصفوية على هذا المنوال:

إن سيئات الإنسان تتبدل يوم القيامة إلى حسنات، وليس أنها تمحى عنه فقط. ومعنى ذلك أن الإنسان يعتبر مغفلاً للغاية إذا لم يسرف في ارتكاب الذنوب، ولم يسود صحيفة أعماله، إذ لن تكون لديه مادة وفيرة صالحة لتبديلها إلى حسنات.

كيف يمكن الاحتيال على الله الذي لايغرب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وإن كل شيء عنده إلا بمقدار، كل ذلك على أساس قرآنه الذي يوجه لوماً للنبي العزيز(ص) لمجرد أنه عبس وجهه في وجه الأعمى الذي زاحمه، وهو عاكف على تبليغ رسالة السماء”.

كيف يغفر ذات الإله عن سيئات الخلق...؟ ولماذا تضع الصفوية أبا الأئمة، وفتى الإسلام وشيخه وشهيده، شفيعاً للسكارى والعصاة ومرتكبي الكبائر؟. أيدخل هذا في غلو الحب، أم في غلو الكراهية، والتعرض للكرامات العلوية السامية؟.

يحدث هذا عندما يسخّر الدين لأهداف العنصر القوي في مزيج ينتهي بسب عمر وخسارة علي.

يظهر من هذا أن في مقابل أي فقيه ومؤرخ على المنهج القطيعة، فقيهاً ومؤرخاً على منهج التشيع العلوي. مما يبطل قول المتقول بتعميم ما يصدر عن الفريق الصفوي، وكأنه لسان التشيع، وأن ما يحكم به وما يرويه مقطوع به عند عموم الشيعة.

إن تقسيم التشيع إلى علوي وصفوي، رغم أنه يستخدم للتشهير الإعلامي بدافع سياسي ضد عامة الشيعة، فإنه يدرأ الأذى عن أهل البيت. ويصد عن محبيهم كيد منهج قد لا ينزل مرتبة عن المراتب الصفوية في رفض الآخر وإلغائه، وقذفه بحمم الفتوى إلى حمم جهنم. فلماذا يتطير بعض الدعاة الشيعة من قسمة لتنزيه أهل التشيع عن الوقوع في العزلة، وهم يخوضون غمرات السياسة اليومية، ويتصارعون على الفضاء وعند أزقة بغداد وفي أحياء كراتشي؟.

أما الكوثرية، فلم تعد ثمنا لقصر العلامة الهندي في الجنة، والذي أثارت ضخامته احتجاج العلامة الأميني على الموكلين لكون قصره هناك دون قصر صاحبها. فهي اليوم موضع افتراق بين منهجين ومدرستين، وكلتاهما تزاحم الأخرى على صدق الانتماء، واستقامة النهج!.

ومن يدريك، فقد يكون قصري في الجنة قد انتهى تشييده في اليوم الذي انتهيت به من تشييد كتابي هذا عن عمر بن الخطاب، مادامت قصور الجنة محجوزة للشعراء والكتاب. وإن كانت مشكلتي أكبر من صاحب الكوثرية، إذ يرفض ابن حنتمة الوقوف على باب الجنة، لأنه يرفض الشفاعة وليس ممن يرشى بكتاب، ولست ممن يرتضي لإمامه الأول أن يقف شفيعاً لأمثالي وإن كنت من أحفاده،  يوم يعرف المجرمون بسيماهم.  

القطيعة ستحاصر الشيعة العرب

وعلى سعة نفوذها المحكم على المؤسسة الدينية وسيطرتها على الذهن الشعبي، لم يقدر لنظرية القطيعة أن تجد لها صالة أكاديمية ومريدين متنورين في الوسط الشيعي على الأقل في مقاسات النخب النوعية.

إن أكثر الأسـماء بريقاً في العراق وأحياناً في البلدان العربية والإسلامية تنتمي إلى القول بمبدأ المشـاركة والتجـانس بين الإمامة والخلافة في العهد الراشد.

ففي الجانب المشارك تلمع أسماء ريادية لم ينافسها اسم في مدرسة القطيعة، التي تبدو أكاديمياً شبه مهجورة في العراق ليس لغلبة النشاط السني الداعم والمبشر بنظرية المشاركة، بل لعبقريات خرجت من مدن التشيع إلى العالمين العربي والإسلامي برؤية تنويرية رائدة.

فعسى أن نلملم شتاتنا لقيام مدرسة لوحدة المشاركة بأساتذتها وأتباعها وإنتاجها الفكري والإعلامي، وبهذا قد نصون وحدة التاريخ العربي ونصون قبل ذلك حياة المنتمين لمدرسة أهل البيت، ونتسامى من حمأة الكراهية والدماء إلى رحاب السلم الأهلي، لاسيما وأهل التشيع هم الأقلية في محيطهم العربي، ومثل ذلك في عالمهم الإسلامي، بدل المواجهة الإعلامية التي طالما تقود في مرحلة تالية أصحابها إلى سكاكين الذبح.

إن دعاة القطيعة لا يقتصر أداؤهم السلبي على مرحلة في التاريخ الإسلامي فحسب، بل أيضاً على قطيعة اجتماعية وسياسية وحياتية بشكل عام مع مجتمعنا العربي.

ومع ارتفاع وتيرة التحريض في خطاب القطيعة ترتفع إجراءات القطيعة العربية لحاملي هوية التشيع، فيصبح الوسط الشيعي هو المقاطَع والمركون في حجر العزلة.

وإذا كانت نظرية القطيعة قد أقامت في إيران إمبراطوريات كبرى، وساهمت في إيجاد وحدة تقوم على التمذهب القومي، فلأن إيران عالم خاص يعيش في شبه قارة، لها عناصر قوة لا تتوفر لأهل التشيع في بلد آخر. وليس لإيران مجال حيوي غير بلاد فارس، فيما المجال الحيوي للشيعة العرب مفتوح على عالم يمتد من ثراء الخليج وينتهي بثراء المحيطات، وسيحول بين أبنائنا وحق الحياة في امتدادهم العربي، قول أبائهم بنظرية القطيعة مما يدفعني إلى التصريح أن نظرية المشاركة لاتقف عند اندماج الإمام علي مع الدولة والمحيط في التاريخ الإسلامي الأول، وإنما تدعو إلى اندماج بشري وقومي وإنساني واندماج المصالح للمنحدرين من سلالات شيعية مع مجتمعهم العربي، ومن دون ذلك فسيكون عبور شيعي عراقي إلى الخليج كعبور الخليجي السني إلى جنوب العراق في هذه الأيام من أواخر عام 2006. وهكذا يتحد الحرص على المصالحة التاريخية بالحرص على الصلح الاجتماعي مع الماضي والحاضر.

إن كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للإمام كاشف الغطاء ومهزلة العقل البشري لعلي الوردي وفصول من تاريخ الإسلام لهادي العلوي وشيء من هذه المحاولة هي جوازات مرور تخترق جدران القطيعة، التي يستفاد منها في إيران لكنها ستضرب مصالح الشيعة العرب أينما ولوّا وجوههم.

وفي منهج الوردي يمكن عرض الملاحظات التالية لعل جيلاً سينتبه إلى أهميتها مثلما استيقظ العراقيون بعد الحرب العراقية – الإيرانية على صوت الوردي وعادوا يستنجدون بمناهجه العلمية.

لقد أشاح الوردي عن التاريخ " ابراده القشب" وتحدث إليه بمثل ماتحدث طه حسين وجهاً إلى وجه، وأتاح ذلك له التحاور الإنساني مع المقدس، ووضع رجاله على طاولات التشريح الاجتماعي العلمي باعتبارهم بشراً، وقد استخرج من تاريخ الصراع المذهبي المرويات المشتركة والخاصة لإبطال القائلين بنظرية القطيعة ليس فقط بين عمر وعلي بل أعطى أمثلة ونصوصاً لفقهاء المذاهب الأربعة وميلهم لأهل البيت، واستل الوردي عمر بن الخطاب بمهارة وعفوية من امويته المخترعة، وعاد به إلى الخط المحمدي فأبطل مطروحات فقهاء الخلاف وأحالها إلى عاملين:

صراع المصالح الخاصة، وعامل يتصل بطبيعة النفس البشرية وتعقيداتها، والتقط الممتع والجاذب من تاريخ الإسلام. فحبب إليه من لم تكنّ لهم مصالح في القطيعة، بينما كان الفقهاء ورجال الدين من أوائل المتطوعين لوضع كتب في الرد عليه، وأبرز من كتب في نقد الوردي آية الله السيد مرتضى العسكري ورضا صادق و عبد المنعم الكاظمي وصالح القزويني.

 

 

مـثـالب الـمسـتبصـريـن

رجال دين وكتاب سُــنَّة تحولوا

إلى التشيّع ولُقبوا بالمستبصرين

 

مثالب المستبصرين

هم كما ستعلم المتحولون من التسنن إلى التشيّع في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران، ممن شكلوا ظاهرة إعلامية أكثر منها فقهية، باستثناء نفر دفعته قناعاته السياسية، والوجدانية، إلى التحول نحو التشيّع أمثال السيد علي البدري المستشيّع قبل الثورة الإيرانية بسنوات، والسيد صائب عبد الحميد، الذي انفجرت مواهبه الفكرية والذهنية بعد استشيّاعه، وهو مهموم بدرء الأذى الذي أوقعه بعض الفقهاء المسلمين بسمعة التشيّع وسلامة قصده، في سياق المناظرات والمراجعات، والتصويبات، بلغة المحاور الإسلامي وليس الداعية، وكلاهما من العراق، ولابد أن آخرين كانوا من الصنف المعتدل.

أما عامة المستبصرين المندرجين في موسوعة الشيخ هشام آل قطيط، وتقع في أكثر من ثلاثة ألاف صفحة، لاسيما من أسرع في " استبصاره " ودبَّج الكتب والمذكرات، فهم يتفقون على ما اتفق عليه روزخونية المنابر في الدرجة الرابعة، من عناية واهتمام وشراسة ورغبة في استجماع روايات وأساطير لإنتاج المثالب وصبها على عمر بن الخطاب أولاً، وكأنهم حلقة حزبية توزع عليها التعاميم والتعاليم والتوجيهات، فينطق أعضاؤها بمفردة واحدة، وعلى نهج واحد، يتكرر ويتكور ويدور عليهم مثلما تدور الأقداح على الأفواه في مجالس الشراب، فيخيل إليك أن صاحب المجلس هو المجلسي. وأن الساقي واحد والشراب المعتق في دنِّ الشاعر الباكستاني محمد إقبال، لكن خمرة إقبال غير خمرتهم!.

أنـا أعجمي الدنِّ لكن خمرتي                                كَرمُ الحجاز ونبعِها الغينان

إن كان لي نغَمُ الهنود ولحنهم                                 إن هذا الصوت من عدنان

روزه خون السوربون:

عمر ضال... وجاهل... ومعارض للاسلام!

هو التونسي محمد التيجاني السماوي، دكتوراه فلسفة من السوربون، كتب قصة استشياعه، تحت عنوان " ثم اهتديت " وكتاباً آخر، هو " الشيعة هم أهل السنة". وقد اختار فيه اثني عشر صحابياً بينهم صحابية واحدة هي عائشة، وهو يرسم تشكيلاً في مقابلة عددية، مع الأئمة الاثني عشر، وكأنه يفتح ملف الفساد لمجلس وزراء عربي معاصر، أو لمجلس إدارة نادي ليلي، بلغة الفضائح والتشهير، والرجل في هذا المنهج ما كان سيبذل العناء والتعب في دراسة السوربون، وكان يكفيه كثيراً أن يتتلمذ على شيخ ناشئ، وروزخون شاب من قراء الأساطير والناتج المطلوب هو ذاته، واللغة ذاتها، والأسطورة المحشوة في صواوين مسامعنا في طفولة الكرادة، ستغنيه عن عِلم السوربون ولغتها، وستزوده بمثالب يتطلع الرجل لتسويقها.

وأقول بحياد المسؤولية، إن الدكتور التيجاني يمتلك القدر الكبير من الأهلية العلمية ليبسط حصران النخيل في مسجد حسيني. ويستدعي اثني عشر رجلاً من رجال النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جانب اثني عشر إماماً من أهل بيته، ويستل المشتركات من طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام، وتواريخ الطبري والبلاذري واليعقوبي والاصبهاني والمسعودي وسواهم، فتتوفر له مستخرجات إسلامية في كتاب حاضن ومحضون، بدلاً من تقمص دور مكرر وممل وساذج وعدواني، وانشقاقي، سبقه إليه مئات من قراء " بحار الأنوار " الذي منع الإمام الخميني، فقيه التشيّع، نشر بضعة أجزاء منه لقلة علميتها وكثرة عدوانيتها، وهي التي اعتمدها التيجاني والمستبصرون معه.

وإذا كان الدكتور التيجاني يتطلع إلى فقه التشيّع، المشبع بروح الثورة والاحتجاج على الظلم، والدفاع عن روح الإسلام، فأمامه متسع من العنوانين المقصودة، وإذا كان معجباً مثلي بتشيّع الإمام الخميني، فالرجل مُعرَّف بكتبه وأقواله، أما تشيّعه فسرُّه عند تلميذه الشهيد الدكتور علي شريعتي، وكتبه منشورة وأفكاره قيد السجال العلمي في حسينيات ومساجد أصفهان وخراسان وطهران.

ومن بين الصحابة الاثني عشر، جرى التركيز على " مثالب عمر " خاصة وذلك يعنينا، منهجياً على الأقل.

المثالب التيجانية !

ويأتي الدكتور التيجاني على قائمة المخالفات الموزعة على المراكز العلمية والإعلامية منذ عشرة قرون، فيلوكها الناس وهو لايدري أنه آخر من اطلع على نسخة منها، فلدى أي روزه خون، ما هو أكثر، لكن الرجل وعدنا أنه سيوجز مخالفات عمر، لأنها لاتحصى إلا في كتاب، ولعل الكتاب إياه قد صدر له أو لغيره، بعنوان مساوئ عمر بن الخطاب.

يقول التيجاني في كتابه الشيعة هم أهل السنة:

عرفنا في أبحاث سابقة من كتبنا بأن عمر كان بطل المعارضة للسنة النبوية الشريفة، وأنه الجريء الذي قال: إن رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا، وحسب قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، فإن عمر هو الذي تسبب في ضلالة من ضل في هذه الأمة.

وعرفنا  بأنه عمل على إهانة الزهراء وإيذائها، فَرَوَّعَها وأدخل الرعب عليها وعلى صغارها عندما هجم على بيتها وهدد بحرقها.

وعرفنا بأنه عمل على جمع كل ما كتب من السنة النبوية، فأحرقها ومنع الناس من التحدث بأحاديث النبي (ص).

وقد خالف عمر سنّة النبي (ص) في كل أدوار حياته وبمحضر النبي(ص)، كما خالف سنة النبي (ص) في تسييره ضمن جيش أسامة، ولم يخرج معه بدعوى إعانة أبي بكر على أعباء الخلافة.

u كما خالف القرآن في منع سهم المؤلفة قلوبهم.

u كما خالف القرآن والسنة في متعة الحج وكذلك في متعة النساء.

u كما خالف القرآن والسنة في الطلاق الثلاث فجعله طلقة واحدة.

u كما خالف القرآن والسنة في فريضة التيمم، وأسقط الصلاة عند فقد الماء.

u كما خالف القرآن والسنة في عدم التجسس على المسلمين، فابتدعه.

u كما خالف القرآن والسنة في إسقاط فصل من الآذان وإبداله بفصل من عنده.

u كما خالف القرآن والسنة في عدم إقامة الحدّ على خالد بن الوليد، وكان يتوعده بذلك.

u كما خالف السنة النبوية في النهي عن صلاة النافلة جماعة، فابتدع التراويح.

u كما خالف السنة النبوية، في العطاء، فابتدع المفاضلة وخلق الطبقية في الإسلام.

وهذه الأمثلة التي أخرجناها هي غيضٌ من فيض لما فعله هو وأبو بكر تجاه السنة النبوية الشريفة، وما لقيت منه من إهانة وحرق وإهمال، ولو شئنا لكتبنا في ذلك كتاباً مستقلاً.

فكيف يطمئن المسلم إلى شخص هذا مبلغه من العلم، وهذه علاقته بالسنة النبوية الشريفة، وكيف يتسمى أتباعه بـ " أهل السنة "؟؟!.

وإذا كان عمر بن الخطاب يعمل على طمس السنن النبوية ويسخر منها ويعارضها حتى بحضور النبي نفسه، فلا غرابة أن تسلم له قريش قيادتها وتجعله زعيمها الأكبر، لأنه أصبح بعد ظهور الإسلام لسانها الناطق وبطلها المعارض، كما أصبح بعد وفاة النبي (ص) قوتها الضاربة وأملها العريض في تحقيق أحلامها وطموحاتها للوصول إلى السلطة، وإرجاع عادات الجاهلية التي يعشقونها ومازالوا يحنون إليها.

وهذا نزرٌ يسيرٌ من بدعه التي أحدثها في الإسلام. وهي مخالفة كلها لكتاب الله وسنة رسوله، ولو شئنا جمع البدع والأحكام التي قال فيها برأيه وحمل الناس عليها، لكتبنا في ذلك كتاباً مستقلاً، لولا توخي الاختصار.”

وهذه لو أرعوى المتخاصمون وكلهم أرحام، اجتهادات عقل مبدع، ومعالجات مؤسس وشريك، وصاحب قرار، وقائد أمة ناشئة، وزعيم دولة يافعة، وإمام، وقاضٍ، ومفتٍ، وصاحب الموحى إليه، وتلميذه، والمهاجر في وضح النهار، والمهيب في عتمة الليل، وهو يستجيب لتحديات المستجد من الأحداث والأزمات والمسائل التي لم تمر على المسلمين قبل عهده، فهل يتجاهل إرادة الحياة، وحاجات الناس. ومستلزمات الطارئ، وضرورات التأسيس، فيحدث الضرر في الدولة والناس، وهما الركنان الماديان اللذان بهما يتسور الدين الجديد وإليهما يعود بخيره. أم يستفرغ الجهد وجهد الإدارة المحمدية في المسجد النبوي، فيستهدي بالنص لتوليد النصوص وبآلية لم ينفرد فيها بقرار؟

فإذا أخطأ، فهي أخطاء الإدارة المشتركة في مسجد الشورى، والمسؤولية تتوزع على من كانوا معه، والصحابة أولى أن يثوروا على مخالف ومبتدع يقودهم إلى الضلالة.

إن تجريم عمر، وطعنه بالمروق عن النص، لا تقع مسؤوليته عليه وحده، وكأنه تجريم لعامة المشاركين من مسلمي المدينة، فلم يكن عمر دكتاتوراً، يبسط سطوته على مجلس شكلي، وعلى أعضاء تحت إمرته، فيرفعون الأيادي قبل التصويت، ويهزّون رؤوسهم بالموافقة قبل توجيه السؤال، وقد يضحكون إذا ضحك رئيس المجلس ويعطسون إذا عطس!.

وهدف رجال القطيعة ليس التنقيص من عمر بن الخطاب، ولا تجريمه وإدانته وطعنه، بل يمتد ضمنياً وشرعياً إلى عامة الذين وافقوا عمر على " “مروقه" أو سكتوا عنه، ولاذوا بالسلامة!. ولا نظن أحداً من رجال النبي (ص) كان على هذا الطراز وهذه الشاكلة.

وهو مسوّر بصحابة من أمثال علي وسلمان الفارسي، ومحمد بن سلمة، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، وأبي ذر وعمار بن ياسر. فَمَن مِن هؤلاء كان سيحني رأسه لعمر ليمرر عليه قانوناً خارجاً على قوانين الإسلام؟ وفي عهد كان كل صحابي حاكماً؟ ولم يكن أي من الرعية محكوماً، وكان للسكارى حق الاعتراض والمناقشة والرد على الخليفة وهم متلبسون باحتساء الخمرة، فيتفهم ردودهم ويتراجع عن خطأ وقع فيه مقابل ان يضع الحد في المخالف.

هل كان أهل المدينة ينتظرون فقهاء القطيعة والمثالب لتلقينهم الصائب الشرعي، ويدلوهم على سواء السبيل؟ أم كان المسجد النبوي ساعتها ينتظر وصول السيد التيجاني السماوي، ليعلم الإمام علي وعمر بن الخطاب وأبا ذر وعماراً أصول دينهم ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؟.

أغلب الظن أن المثالبة إنما رأوا أنفسهم وتخيلوا مواقعهم في أسر سلطات قاهرة، وبإمرة سلطان معاصر، فكتبوا عن خوفهم إزاءه، وتصوروا حال الصحابة مع عمر، حالهم مع سلطان وقتهم، وإلاّ فلماذا لم ينشقوا على هؤلاء الحكام، ويفتحوا ملفات الفساد، ويطاردوهم على شاشات الفضاء، وفي الكتب المجلدة، فتركوهم وانصرفوا عنهم إلى محاكمة بناة الحضارة في ماضينا العادل؟.

المستبصر الأردني أحمد حسين يعقوب:

 عمر حليف المنافقين !

وتتداخل صورة عمر في الكتابات المستشيعة وتشتبك خيوطها، فتصبح لعمر صورتان.

واحدة عند أهل القطيعة وأخرى لدعاة المشاركة. وإذ يكتفي الأخيرون بالحديث عن مشتركات علي وعمر في إدارة المركز العالمي الجديد، يتخبط كتاب القطيعة في أحكامهم غير عابئين بمهارة التاريخ وأصول البحث ومجلس الحقيقة، فإذا عمر عند المستيشع الأردني المحامي أحمد حسين يعقوب رجل ليس له قوة من تاريخه، وإنما من قوة المنافقين الذين أحبوه حباً شديداً من يوم الرزية، وهو اليوم الذي حال فيه عمر وحزبه بين الرسول وبين كتابة ما أراد. وقد تابع المنافقون بشغف بالغ معارضات عمر بن الخطاب المتكررة لرسول الله واعتراضاته عليه، وقد أحيطوا علماً بارتيابه.

والخلاصة والحديث مازال للأستاذ يعقوب أن المواجهة التي حدثت بين الرسول من جهة وعمر وحزبه من جهة ثانية في بيت الرسول، قد رفعت أسهم عمر بن الخطاب عند المنافقين إلى القمة.

ومنذ ذلك التاريخ لم يرو راوٍ قط أن أحداً من المنافقين قد عارض عمر أو تخلف عن دعوته لأي أمر من الأمور. إن عمر بن الخطاب مدين بجزء كبير من نفوذه ووجوده للمنافقين والمرتزقة من الأعراب كما جاء في كتابه (المواجهة) الصادر عن دار الغدير عام 1996،  ومن هؤلاء وهؤلاء تشكل حزب عمر. وعمر هو رئيس التحالف المعادي لآل محمد.

وهنا من سيكون المصدق الرواية والرأي المؤرخ القديم الخارج من طينة كربلاء والدارس منذ الطفولة في حوزات النجف والقائل: إن أحداً من المؤرخين لم ينقل عن الإمام  علي أنه وقف موقف المعارض لخلافة ابن الخطاب أو بدا منه ما يسيء إلى صلاته به، بل رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس لا يذكر عما مضى ولمن جاء من بعده إلاّ المحاسن، أم سنأخذ بالروايات التي ينقلها المتحولون من المشاركة إلى القطيعة والقائلون بأن المنافقين والمرتزقة هم الذين لم يعارضوا عمر؟.

المستبصر المصري أحمد راسم نفيس:

التشيع الممنوع في مصر

 يعلن الأستاذ أحمد راسم نفيس الذي يبدو أن حاسته الوطنية يعلو صوتها على أية حاسة أخرى، أنه تشيع إعجابا بالإمام الخميني وثورته الإسلامية وموقفها من إسرائيل. وهو بحكم تربيته المصرية يبدو أقل هجاءً للصحابة من زملائه المستبصرين. وإن كان لايخرج عن المنهج الاستبصاري ذاته في تسليط العتمة على إشراقة عمر في التاريخ الإسلامي.

يستعرض الأستاذ نفيس في كتابه (التشيع ممنوع في مصر) وجهة نظره ضد الإجراءات الحكومية المتخذة ضد المصريين المتشيعين، وهذا الكتاب لا يُنصف المدرسة المصرية، ولعله يمس حياد التسنن المصري وموقعه وعدالته وعلميته.

إن المصري لا يحتاج إلى التشيع حتى يحب أهل البيت أو يكتب عنهم. والمدرسة المصرية سنية إلى نهاية عصر الراشدين. فتتوقف عن مواصلة التسنن الأموي الشائع حاليا في البلدان العربية الإسلامية.

ولعلي عرفت حجم الأذى الذي وقع على الحسين عندما قرأت كتاب عباس محمود العقاد عن أبي الشهداء. وكنت تلميذاً في الخمسينات لمؤرخ الفلسفة الإسلامية الدكتور علي سامي النشّار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، والتقيت بجعفر الصادق في كتاب الشيخ محمد أبو زهرة، وفي كتاب المستشار عبد الحليم الجندي، واستمتعت بالمرافعة التاريخية التي كتبتها عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ عن السيدة سكينة بنت الحسين. وتابعت شيخ الأزهر سليم البشري في حواراته الممتعة مع الفقيه الشيعي السيد شرف الدين. ودرست شرح نهج البلاغة للإمام الشيخ محمد عبده وأحببت إنصاف عبد الرحمن البدوي وسميرة الليثي وأحمد الشرباصي لدور الشيعة في الفكر الإسلامي. فما الذي يزعج الشيعي في مدرسة مصر؟ وماذا يريد أكثر مما توفره المدرسة المصرية التي انتصر عميدها طه حسين للإمام علي في كتابه "علي وبنوه" وفتح بذلك منهجاً إسلاميا يمتزج فيه التسنن والتشيع بمحمدية علي وعمر. أما أن يتصدى باسم التشيع كاتب مصري أو تونسي ليضع عمر في أحضان اليهود حاملاً راية الضلال، أو أن يثني آخرون في المدرسة الأخرى على قاتل الحسين فيُكرم ويصبح سبي أحفاد النبي(ص) مسكوتاً عنه أو مبرراً، فليس مكان هؤلاء مصر والقاهرة. إن هنالك مدناً أخرى تشتغل بالتقاذف والتشهير، ولو كنت في مكان أي مسؤول مصري لمنعت أي فريق من هؤلاء عن تلويث المدرسة المصرية. ليبقى الإمام محمد عبده عند منهجه، والعقاد مع أبي الشهداء، وطه حسين مع علي وبنيه.

إن المصريين محمديون في عمريتهم وعلويتهم، ولا يجوز لطرف أن يخرق هذا النسيج بما يؤذي كرامة الإمامة ومقام الخلافة.

المستبصر السوري عامر الكردي:

النبي آدم يبغض عمر !.    

وأما المتحولون، أو المستبصرون، وهم مرة أخرى، علماء دين انتقلوا من التسنن إلى التشيّع، فلعلهم رأوا من مستصغر التشيع أن يظهر في زمن النبي محمد (ص)، فنقلوه إلى زمن النبي آدم، وأثبتوا بالدليل القاطع، وبالبرهان الناصع أن النبي آدم، ثم النبي نوح كانا على مذهب التشيّع!.

أظن أن السادة المستبصرين يضحكون على عقول الأتباع الشيعة. ولايعقل أن يستخفوا بأنفسهم، ويضحكون على ذقونهم التي مازالت سوداء لم يخالطها إلا القليل من البياض.

لكن المقصود أوسع مما نتخيل، إنهم يريدون الوصول إلى إشاعة مفهوم أن البشرية، من خلال أبيها آدم تناصب العداء لعمر،

وأن الانشطار ضئيل وغير عادل، وأن المسلمين ليسوا سنة وشيعة، وإنما تتحد البشرية على كراهة عمر بن الخطاب منذ زمن النبي آدم، ثم النبي نوح إلى اليوم الذي أصبح الشيخ عامر الكردي مستبصراً، فأبصر النبي آدم بأم عينيه، وببصيرته حاملاً لواء القطيعة معلناً الحرب على صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وليس على بني آدم سوى اقتفاء سيرة أبيهم، وليس لهم سوى ذلك وظيفة في الحياة.

المتحولون إلى التشيع: والسلم الأهلي في العراق

سيحتاج (المتحولون) الى وقت غير قصير ليقتنع الناس بأن انتقالهم إلى المذهب الجديد ناجم عن مراجعة ذاتية، لأن عالم دين وطالب علم نشأ على عقيدة مذهبية حتى صار فيها فقيهاً أو داعية أو خطيباً سيصعب عليه الظهور بين عشية وضحاها في ثياب مذهب آخر. وإذا كان ذلك مألوفاً، والنفس البشرية مفتوحة ومتحركة والعقل الإنساني يتقبل الأمر ونقيضه، فمن غير المعقول أن يبذل المرء جهداً ويخترق حاجزاً نفسياً ويخرج على محيطه وذائقته ويتحمل ردود أفعالهم فتكون حصيلة المتحول كتاباً يستعيد المتحول فيه ثمالات الملا محمد باقر المجلسي ورواياته المتخصصة في النيل من شخصية إسلامية كان المتحول قبل عام وربما قبل شهر واقعاً تحت تأثيره الروحي والتربوي والعرفي.

وسأضرب مثلاً بنفسي. فمنذ خمسين عاماً، وعمر بن الخطاب يشكل خطوط صورة مغرية للكتابة والتأليف، وقد استكملت أدواتي العلمية منذ تخرجي من كلية الآداب عام 1958، ولم يكن الوقت مناسبا إلا في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد اشتعال النيران الطائفية في العراق وانتقال الحرب من صفحات الكتب وأعمدة المنابر في فترة الحرب العراقية – الإيرانية، وماتلاها من تطورات في العراق إلى واجهات المنازل وأجساد الضحايا وسكاكين الذبح، فأصبحت الكتابة في عمر بن الخطاب وفي نقد الخطاب الطائفي واجبة وجوب الماء لإطفاء النار.

وكان مما عجل في إصدار هذا الكتاب على سوء صحة كاتبه أن الفضائيات العربية صارت تنقل شهادات لعلماء دين من الشيعة يتنافسون على مسبة عمر بن الخطاب وأبي بكر، وكأنهم بهذا يوفرون (الدليل الشرعي)، والمسوغ الفقهي للانتحاريين الذين يستهدفون المدن والبلدات الشيعية بالسيارات المفخخة (نكالاً) لهم على شتمهم عمر وتشهيرهم بعائشة!!.

ألا يعني هذا أن السلم الأهلي في العراق يرتبط بالكتابة التاريخية ابتداء من العصر النبوي وإبطال المناهج والوسائل والمستحدثات التي قدمها الشيخ علي الكركي ومدرسته؟ دون أن نغفل المدرسة الأموية التي سبقت السلطان طهماسب في أسلوب السب وشتم الإمام علي بأكثر من عشرة قرون.

 

 

الـتنــويــر الشـــيعي

الـمُشرق والمحدود التأثير



 

الـمـدرســة الـمصرية:

طبيعة المصريين الميّالة إلى الاعتدال، غلبت الأفكار والعقائد والاتجاهات المتشددة من أي مصدر صدرت، وأفرغت جانب التراكم الطائفي في المرحلة الفاطمية إزاء عمر بن الخطاب، مثلما أقصت التراكم الطائفي للمرحلة الأيوبية وأنتجت ثقافة ًإسلامية تستلهم في حيادها المذهبي روح زيد بن علي وممثله الفخري  في العراق أبي حنيفة النعمان بن ثابت.

ومع تواضع الأداء السياسي والفكري للزيدية في العصور المتأخرة حتى رُكنت مهملةً في تكايا اليمن المتوكلية، إلا أن التماس التأثير المكشوف على بعض المدارس العربية المتأخرة لموقفها العملي من الخلافة الراشدة يمكن رؤيته بسهولة في المدرسة المصرية وتأثيراتها العربية.

إن طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وبنت الشاطىء وعبد الحليم الجندي وعبد الفتاح مقصود وعبد الرحمن الشرقاوي إنما يمثلون الخط المحمدي، والفهم الزيدي القائم على استلال عمر وأبي بكر وعثمان من العجينة الأموية، فشكلوا موقفاً وسطاً بين خطين، هما النهج الأموي من جهة والنهج الصفوي من جهة أخرى، وهذان يسعيان بل يقرّان نهائياً بانتماء عمر بن الخطاب وأبي بكر للنهج الأموي فيبدو سيّان عندهم عمر ومعاوية وأبا بكر ومروان بن الحكم.

إن الشيعة الإمامية يرتاحون لخطاب يُعطي عمر للأمويين ويحملونه مسؤولية تأسيس الخط الأموي. إن المشاركة مبدأ عرضته المدرسة المصرية قبل أن يلتفت إليه فقهاء ومفكرون شيعة في تاريخ الإسلام.

 فقهاء المشاركة

الفقيه الشيعي في مراتبه العليا مرجع وليس داعية؛ ينقطع عن المجتمع في وقت مبكر، فلا يعود صديقاً في المستشفى ولا يعزي آخر، ولا يتحدث في وسائل الإعلام، ولا يكتب في وسائل النشر، ويلازم بيته ولا يخرج إلا إلى الصلاة في صحن الإمام، الذي يقيم الفقيه حول ضريحه. وقد يرتب لمسؤول الدولة الأول موعد معه داخل الصحن. فإذا تحدث مع ضيفه فلا يكاد يسمع له صوت، ولولا حركة طفيفة في نهايات شعرات لحيته لما حسبته يتكلم!.

إن تقاليد المرجعية صارمة، ويتفق عندها فقهاء القطيعة والمشاركة.

لكن بعضهم خرج على هذه المحكومات الشرطية فصار يتحدث في السياسة اليومية ويقف خطيبا بين الأتباع، ويقود مظاهرة يعبر فيها الجسر من مدينة الكاظمية الشيعية إلى مدينة الأعظمية السنية كالشيخ الثائر الإمام محمد مهدي الخالصي ليصلي في مسجد أبي حنيفة.

وقد يكتب في المجلات العربية ويراسل المؤسسات ويحضر المؤتمرات ويناظر الأدباء ويحقق دواوين الشعراء(*) ويكتب لبعضهم مقدمة الديوان ويمضي شهورا في جولات عربية كالمرجع الكبير الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (1876 - 1954) والمرجع الحالي السيد محمد حسين فضل الله، وان كان الأخير أبطأ حركة من شيخه وأستاذه كاشف الغطاء.

ويتفق هؤلاء المراجع في كونهم خارج المنهج الصفوي وهم لايرون مايضر (بالعامة) نافعا للشيعة، ولايرتاحون لحديث يثني على الإمام علي بن أبي طالب بهجاء عمر بن الخطاب، ولا يأخذون بروايات الفرقة والانقسام، أي ليسوا من دعاة القطيعة.

إن كاشف الغطاء من رواد نظرية المشاركة يكتب في (أصل الشيعة وأصولها) نصا تترجرج أمامه أقانيم الهيكل الذي بناه الشيخ علي الكركي والملا محمد باقر المجلسي والسيد الكاظميني البروجردي!.

ولم تكن المراجع العليا تشتغل بحقول الأدب والشعر، بل الاتجاه العام لايخلو من ازدراء بالشعر والأدب،  ويعزو بعض المؤرخين ذلك إلى عجمة بعض المراجع الذين يفتقرون إلى الذائقة الأدبية. بنيما تجاوز هذه العقدة الفقهاء من أصول عربية وربما هجر بعضهم الدراسات الفقهية، وانحاز إلى الإبداع الأدبي كالجواهري وعبد الرزاق محي الدين ومهدي المخزومي ومحمد رضا الشبيبي، و حاول فريق آخر مزاوجة الأدب والفقه كالشيخ احمد الوائلي والسيد مصطفى جمال الدين، فلم يطغ أحدهما على الأخر.

أما الفقهاء الأدباء فعميدهم محمد سعيد الحبوبي، وأبرزهم محمد الحسين كاشف الغطاء وجميع من وردت أسماؤهم في هذه الحاشية هم من أهل التشيع العربي القائلين بمبدأ المشاركة. وجرى التقييم عليهم في معظم الأحكام والروايات والدراسات في الحوزات الدينية.

يقول نص المرجع الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء منقولا عن كتابه أصل الشيعة وأصولها الطبعة الثالثة الصادرة عن دار الأضواء في بيروت عام 2003، تحقيق العلامة الشيخ محمد جعفر شمس الدين.

" ثم لما ارتحل الرسول من هذه الدار إلى دار القرار، ورأى جمع من الصحابة أن لا تكون الخلافة لعلي(ع)، إما لصغر سنه، أو لأن قريشا كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم، زعما منهم أن النبوة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا، أو لأمور أخرى لسنا في صدد البحث عنها ولكنه باتفاق الفريقين امتنع أولا عن البيعة، بل في صحيح البخاري في باب غزوة خيبر أنه لم يبايع إلا بعد ستة أشهر، وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة كالزبير وعمار والمقداد وآخرين.

ثم لما رأى تخلفه يوجب فتقا في الإسلام لا يرتق، وكسراً لا يجبر، فكل واحد يعلم أن عليا ما كان يطلب الخلافة رغبة في الامرة، ولاحرصاً على الملك والغلبة والاثرة، وحديثه مع ابن عباس بذي قار مشهور، وإنما يريد تقوية الإسلام وتوسيع نطاقه ومد رواقه وإقامة الحق وإماتة الباطل، وحين رأى أن الخليفتين – أعني الخليفة الأول والثاني – بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا، بايع وسالم وأغضى عما يراه حقا له محافظة على الإسلام أن تتصدع وحدته، وتتفرق كلمته، ويعود الناس الى جاهليتهم الأولى، وبقي شيعته منضوين تحت جناحه ومستنيرين بمصباحه، ولم يكن للشيعة والتشيع يومئذ مجال للظهور لأن الإسلام كان يجري على مناهجه القويمة، حتى إذا تميز الحق من الباطل، وتبين الرشد من الغي، وامتنع معاوية عن البيعة لعلي وحاربه في " صفين"، انضم بقية الصحابة إلى علي حتى قتل أكثرهم تحت رايته، وكان معه من عظماء أصحاب النبي(ص) ثمانون رجلا كلهم بدري عقبي كعمار بن ياسر وخزيمة ذي الشهادتين وأبي أيوب الأنصاري ونظرائهم ".

لم يكتب الرواج والانتشار لنص صادر عن المرجع الإسلامي الكبير الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، لأنه يتعارض مع المناهج التي تستبد بالمؤسسات الدينية وتكاد تحتكر النتاجات الفقهية والفكرية قبل أن تتحول مؤخراً إلى مؤسسات سياسية بقي كاشف الغطاء دون الدرجات العليا في تقويمات هذه المؤسسة قياساً إلى من كانوا أقل منه علماً وعدلاً.

ويسجل لكاتب السطور إنه يقود حملة منذ ثلاثين عاماً لتسليط الضوء على هذه الشخصية في مختلف جوانبها. وكان الشيخ كاشف الغطاء رائد الاتجاه الذي ساد الأوساط الإسلامية مؤخراً في تعارض حقيقي بين الإسلام والدول الاستعمارية والرأسمالية، منذ أن وضع "المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون". رداً على دعوة من الولايات المتحدة الأمريكية له بالاشتراك في مؤتمر إسلامي في مدينة بحمدون اللبنانية، للتنسيق المشترك ومواجهة التحديات في المنطقة.    

علي شريعتي:

 نظرية النطف الكسروية:

نترك للدكتور علي شريعتي الاستفاضة في طرح وشرح ومناقشة نظريته في النطف الكسروية ولا بأس بعدها بمداخلة قد لا تبتعد عنها كثيراً.

ففي ربيع الأبرار للزمخشري وهو من علماء السنة المشهورين أن لله خيرتين: من العرب بنو هاشم ومن العجم فارس. وأن الإمام زين العابدين علي بن الحسين معروف بين المحدثين بابن الخيرتين.

إن الدكتور شريعتي استثمر إضطراب الرواية، وتعارضها مع بعضها للطعن بها، وإن كانت شائعة حتى يومنا هذا، عند المؤرخين ولدى القوميين الفرس والقوميين العرب.

والثابت عندهم حصول سبي بنات كسرى يزدجرد، فإذا حدث ذلك في زمن عمر بن الخطاب, كما تروج الرواية فسيحدث السبي عام 18 للهجرة أو في أقصى تاريخ وهو العام 22 منها، فيكون كما يقول شريعتي ذلك سبباً في رفضها، وقد ولد الإمام علي بن الحسين في عام 38 للهجرة وقيل 37 للهجرة أي بعد الزواج المفترض بعشرين عاماً.

لكن الإصرار على وقوع الأسر في زمن عمر، ينسجم مع فتح بلاد فارس في ذلك الوقت, والرغبة في صياغة حوار بين بنت كسرى أو بناته وبين الخليفة صحيح حيث تشير الرواية إلى أن بنت كسرى كانت تلعن الزمن الذي صار فيه سادة فارس أسارى تحت حكم رجل كعمر، وأن الإمام علي كان يترجم لعمر، وهذه وظيفة جديدة للإمام لم يتحدث عنها المؤرخون، ولم يُشَر إلى معرفة الإمام علي باللغة الفارسية. فإذا كانت الرواية قد أدخلته في علاقات (سرية)  لا نعرفها مع بلاد فارس مكنته من إتقان الفارسية، فلم نعرف أية لغة فارسية منها كانت هذه وهم يتحدثون بأكثر من واحدة تختلف كلياً عن الأخرى.

فهل أرادت الرواية أن توثق صلة الإمام بصحابي جليل كسلمان الفارسي واحتمال أنه تعلم منه لغته الأم، ولم يتحدث مؤرخ عن شيءٍ من هذا.؟. وإنما هي فرضية نفترضها.

 في العودة إلى الرواية، أراد عمر بيعها، فلم يوافق الإمام علي قائلاً: إن بنات الملوك لا تباع، ولو كنّ كفاراً، فأعطاها حق اختيار الزوج بنفسها فاختارت الإمام الحسين.

والذي نعرفه أن كسرى يزدجر كان ينسحب من المدن، التي يحتلها المسلمون فيتراجع إلى مدينة أخرى، حتى استقر في خراسان، فتوقف الأحنف بن قيس عن ملاحقته، وبقي معزولاً في تلك الأصقاع إلى أن توفي في خلافة عثمان.

فهل ترك كسرى بناته في المدائن عام 18 فأسرهن المسلمون؟ أم أنه انسحب مع عائلته وجيشه إلى ما بعد خراسان, وفي هذه الحالة، كيف أُخذت بنات كسرى أسارى؟.

تقول رواية أخرى: إن اثنتين من بنات كسرى توفيتا عند النفاس، ومنهما زوجة الإمام الحسين، لكن وليدها عاش وهو زين العابدين.

ويبدو أن الرواية لم تشأ ترك الإمام الحسين بلا زوجة فارسية, ولكي تستمر نظرية النطف، فقد قيل: إن بنت كسرى الأخرى تزوجت عبد الله بن عمر, وأنجبت ابنه سالم. وإن الثالثة تزوجت محمد بن أبي بكر فولدت منه القاسم. وبعد وفاة محمد بن أبي بكر تزوج الإمام الحسين أرملة بنت كسرى الثانية، وهي التي أشرفت على تربية زين العابدين.

وفي رواية رابعة قيل: إن عثمان بعد فتح خراسان أخذ اثنتين فقط من بنات كسرى، وزوجهما للحسن والحسين وماتتا في النفاس.

وحتى يتم التخلص من إشكالات أخرى، وتستقيم نظرية النطف، فقد زعمت رواية سادسة أن والياً للإمام علي قد حصل على اثنتين من بنات كسرى فتم زواج الحسين.

وهكذا تعرضت بنات كسرى للأسر في ثلاثة عهود لثلاثة خلفاء, لكن الزوج هو الحسين في كل مرة ويشاركه شقيقه, أو ابن أبي بكر وعمر.

وبعد أن أعلنوا عن وفاة بنت كسرى في النفاس، وقد وضعوا لها عدداً من الأسماء، تقدمت رواية جديدة أن بنت كسرى عاشت مع الحسين إلى معركة الطف،  فألقت بنفسها في الفرات حزناً على مقتل الإمام،وطبيعي أن يروج لهذه الرواية لأنها تؤدي دوراً أكبر في ترسيخ النطف الفارسية،مما لو ماتت بنت كسرى في وقت مبكر ولم تشهد الفاجعة.

تقول مصادر أخرى: إنه لم يكن أحد من أهل المدينة يرغب في نكاح الجواري حتى ولد علي بن الحسين،فصاروا يرغبون بالزواج منهن.

وإذا كان الشيعة قد ذهبوا إلى الفرس بزواج الإمام الحسين من بنت كسرى, فلماذا لم تذهب العرب الأخرى بعد زواج عبد الله بن عمر ومحمد بن أبي بكر من بنتيه الأخريين إلى بلاد العجم ويصبحوا فرساً مثلما أمسى التشيع عليه في مشروع تعجيم الشيعة؟..

إن الحديث عن مصير بنات الملوك بعد الحروب يغري الرواة وناسجي القصص المثيرة منذ عهود تسبق كسرى، وحتى يومنا الذي يتحدث فيه الأستاذ محمد حسنين هيكل في تلفزيون الجزيرة عن شقيقات وبنات الملك فاروق بعد الثورة المصرية في يوليو 1952.

وكنت شخصياً قد أوشكت أن أقنع الشريف المرحوم حسين بن علي والد الشريف علي بن الحسين، قبل ربع قرن لنشر قصة آخر بنات ملك الحجاز وزعيم الثورة العربية زوجته بديعة بنت الشريف الحسين بن علي، وهي الآن في العقد العاشر وما حدث لها بعد سقوط العرش الهاشمي في العراق عام 1958, فحالت أمور دون ذلك، إلى أن نشر الأستاذ فائق الشيخ علي كتاباً موسعاً عنها لم يأخذ مداه المفترض.

عروس المدائن في المدينة:

لم أجد مناصاً من أن أترك لقلم شريعتي وحده وبلغته المتدفقة وأصالته الإسلامية ودفاعه عن أهل البيت منقولاً عن كتابه التشيع الصفوي والتشيع العلوي يعالج أخطر رواية تداولها المؤرخون الإسلاميون وبقيت راسخة بالجذور التاريخية للتشيع الذي استقر في إيران.

يروي العلامة المجلسي في بحار الأنوار(ج11 ص4) – بعد نقل أخبار حول زواج الإمام مثيرة للغثيان – إن والدة الإمام هي بنت يزدجرد التي جيء بها أسيرة في زمان الخليفة عمر، وقد أعجب بها الإمام الحسين، وتزوجها فولد له منها ابن واحد هو الإمام زين العابدين (ع)(*).

من جهة نحن نعلم أن الإمام السجاد ولد عام 37هـ، أي بعد عشرين عاماً من زواج أمه من الإمام الحسين!.

وقد صرحت هذه القصة بأن (شهر بانو) كانت من أسرى فتح المدائن، وأن عمر كان ينوي قتلها، ولكن الإمام علي هو الذي أنجاها من الموت، وواضح جداً أن واضعي هذه القصة هم من أنصار الشعوبية الإيرانية، وأنهم أرادوا من ذلك إظهار أن عليا(ع) كان يساند الساسانيين، ويدافع عنهم وذلك في مقابل عمر الذي كان عدوهم وهازم جيوشهم!.

غير أن هؤلاء فاتهم أنهم حينما أرادوا إثبات أن الإمام السجاد هو حفيد يزدجرد وأمه شهربانو، أوقعوا أنفسهم في إشكال تاريخي عويص وهو لزوم أن يكون الإمام الحسين تزوج في العام 18 للهجرة (عمره حينها 15 سنة) بينما الإمام السجاد ولد العام 38 للهجرة، ومن المنصوص عليه أنه لم يولد له من شهر بانو سوى الإمام السجاد، وهذا يعني أنها لم تلد من الإمام الحسين إلا بعد مضي عشرين عاماً.

غير أن العلامة المجلسي عندما تنبه إلى هذه المشكلة بالرواية حاول ترقيعها بالقول: إنه ليس من المستبعد أن تكون كلمة (عمر) الواردة في الرواية تصحيفاً لكلمة (عثمان) فيكون الزواج قد تم في عهد عثمان لا في عهد عمر!.

والواقع أن هذه المحاولة – إذا قبلت – فإنها سوف تحل إشكال التفاوت الكبير بين وقت الزواج ووقت الولادة، ولكن إشكالا آخر أكثر إحراجا سوف يظهر فيها وهو طول المسافة الزمنية بين انكسار جيش يزدجرد وبين أسر بناته!. هذا مضافاً إلى أن الرواية تضمنت التصريح بأن الأسرى هم أسرى (المدائن) فهل يقول العلامة المجلسي أنها مصحفة أيضا؟.

ويتطرق العلامة المجلسي إلى بيان اسم أم الإمام وهل هي سلامة أو خولة أو غزالة أو شاه زنان أو.. فيقول: إنهم جاءوا ببنت يزدجرد إلى المدينة وما أن وقعت عينها على عمر حتى غضبت وسبت عمر، فسبها هو أيضاً، وأمر بأن تباع شأن سائر الأسرى فاعترضه أمير المؤمنين بالقول: إن بنات الملوك لا تباع وتشترى، وإن كانوا كفاراً وأشار عليه بأن يزوجها رجلاً من المسلمين ويدفع صداقها من بيت المال! وفي ذيل هذه الرواية المنسوبة إلى الإمام الصادق، نصغي إلى الحوار الآتي بين الإمام علي وابنة يزدجرد:

فقال " جه نام داري أي كنيزك؟" يعني ما اسمك ياصبية؟!.

قالت: جهان شاه.

فقال: بل شهربانويه.

قالت: تلك اختي.

قال:" راست كفتي " أي صدقت...!

ويبدو أن الناقل (أو المختلق) لهذه الرواية، لم يكن يدري أن الإمام علي  حتى لو سلمنا أنه تحدث معها بالفارسية، إلا أن اللغة التي كان سيتحدث بها لم تكن مفهومة عند بنت يزدجرد، وذلك لان الإمام يتحدث باللهجة الفارسية الدرية، وهي لهجة محلية لأهالي خراسان بينما كانت بنت يزدجرد تتحدث باللغة البهلوية الساسانية! هذا أولا، وثانياً أن عبارة " أي كنيزك" الواردة في الرواية من الواضح أنها من الاصطلاحات الرائجة في زمان (الراوي) لا في زمان الحدث.

وإذا أمعنا النظر في الرواية نلاحظ شيئاً غريباً، وهو أن الإمام كان يخاطبها بالفارسية بينما هي تجيب بالعربية.

والأغرب من ذلك التوجيه الذي ذكره العلامة المجلسي بإزاء تسمية الإمام لها بـ(شهربانويه) بدلاً من (جهان شاه) حيث أعزا العلامة ذلك إلى أن كلمة (شاه) هي من أسماء الله تعالى مستدلاً على ذلك بما جاء في الخبر من أن علة النهي عن الشطرنج وجود عبارة الشاه مات، ووالله أن الشاه لا يموت!!. 

شريعتي والعسكري:

السيد مرتضى العسكري فقيه بدرجة آية الله وهو أكبر معمر بين فقهاء التشيع حالياً وسنه عبرت المئة، وهو عندي البقية الباقية من مؤرخي العصور الإسلامية كالطبري وابن الأثير واليعقوبي، حيث تتجاوز اهتماماته في التاريخ العام اهتماماته الفقهية، وهو صاحب كتاب معالم المدرستين وكتاب خمسون ومئة صحابي مختلق، والأخير على غرار كتابات طه حسين في الأدب الجاهلي.

طلب السيد العسكري إلي في لقاء جمعنا في لندن منتصف الثمانينات الميلادي وبحضور السياسي العراقي سعد صالح جبر، أن أتتلمذ عليه قائلاً: إنه شديد الاعتزاز بأن أكون ثالث تلميذ له بعد السيد محمد باقر الصدر والدكتور داود العطار، وكان السيد العسكري قد أعد نقداً لكتابي في عبد الكريم قاسم، فاعتذرت له بأني من تلامذة الوردي وعارفي فضل شريعتي . فقال: وما المانع من أن يستقيم المرء بعد اعوجاج. وكان السيد العسكري قد تبنى حملة للرد على كتابات علي الوردي، ونشر كتاباً لإبطال ما جاء في وعاظ السلاطين للوردي في مطلع الخمسينات، مثلما تبنى حملة لاحقة ضد الدكتور علي شريعتي، فنشر بياناً مع فقهاء آخرين يصف شريعتي  بماوصف به الوردي. ونقل شريعتي  نص الهامش الذي كتبه السيد العسكري بخط يده عن البيان المذكور. وهنا نص السيد العسكري منقولاً عن التشيع العلوي والتشيع الصفوي.

يقول السيد العسكري:

متى كان عمر بن الخطاب شريف بني عدي، أما نسبه ففي كتاب الدرر بإسناده عن الحسن بن محبوب عن ابن الزيات عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كانت صهاك جارية لعبد المطلب. وكانت ذات عجز وكانت ترعى الإبل وكانت من الحبشة، وكانت تميل إلى النكاح، فنظر إليها نفيل جد عمر في مرعى الإبل فوقع عليها فحملت منه بأم الخطاب، فلما ولدتها خافت من أهلها فجعلتها في صوف وألقتها بين أحشام مكة فوجدها هشام بن المغيرة بن الوليد فحملها إلى منزله وسماها بحنتمة، وكانت شيمة العرب من يربى يتيماً يتخذه ولداًَ، فلما بلغت حنتمة نظر إليها الخطاب فمال إليها وخطبها من هشام، فتزوجها، فأولد منها عمر، وكان الخطاب أباه وجده وخاله وكانت حنتمة أمه وأخته وعمته، وينسب إلى الصادق في هذا المعنى شعراً:

من جــده خـاله ووالده

 

وأمـه أختــه وعمتـه

أجدر أن يبغض الوصي وأن

 

ينكـر في الغـدير بيعـته

ويواصل الدكتور علي شريعتي قائلاً: واكتفى بنقل هذا المقدار من الهوامش (العلمية) لهذه الشخصية العلمائية الصفوية، واعتقد أنها كافية لتوضيح طبيعة المنطق العلمي والديني الذي يتعاطى به رجالات التشيع الصفوي، واقتصر هنا على الإشارة إلى مفارقة طريفة وهي إنني أوعزت منزلة أبي بكر وعمر واللوبي الذي يعمل بالتنسيق معهما إلى زمان الجاهلية، أما الذين يصرون على أن أبا بكر وعمر لم يكونا قبل الإسلام سوى أولاد خدم وجامعي حطب فإنهم قد اعترفوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون بأن الرجلين اكتسبا هذه المنزلة والمكانة من الإسلام  لا من الأوضاع الاجتماعية والطبقية للجاهلية.

وإذا كانت حمية شريعتي المفكر الشيعي الإيراني الفارسي على هذا القدر من العلو والتسامي والانفعال لدرأ الأذى عن عمر بن الخطاب فما الذي علي أن أقوله بعد وأي مبررات ستهدئ من روع الكتابة؟

لعلنا في مأزق يقف فيه عمر بن الخطاب حاجزاً نفسياً يقطع ما بعده ما قبله، فيستحيل مفكر ومؤرخ وفقيه بحجم مرتضى العسكري إلى سباب وشتام يدخل في أعراض الناس ولا أقول المسلمين، وأتوقف عن توصيف من جعله ابنا غير شرعي ونسب إلى أعظم أئمة الفقه الإسلامي الإمام الصادق شعراً من هذا القبيل المتردي. فما الذي سيتغير في أوساط تتلقى المعرفة بشحنة الكراهية؟ أما السباب والشتيمة فهي من أدوات الاستدلال في المنهج الصفوي.

ويعقب شريعتي: إن القرآن ينهي عن السباب والشتيمة معتبراً أن الكلام الفاحش يعبر عن هبوط شخصية المتكلم قبل السامع.

قال الإمام علي لأصحابه في حرب صفين: إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين.

غير أن السباب والشتيمة يمثلان الشكل الأمثل، من أشكال الاستدلال في المنطق الصفوي. يشار إلى أن الترجمة الفارسية لكتاب نهج البلاغة تتحايل على النص عندما يتعلق بموقف ودي للإمام علي من عمر، وحتى في عبارته بمنع السب لجأ المترجم إلى التأويل قائلاً: ليس المراد من هذه العبارة هو عدم جواز شتم المخالف واللعن عليه، بل على العكس هذا واجب وتكليف.

وبالعودة إلى لقائنا مع السيد العسكري في لندن فقد تناول الحديث الأوضاع السياسية في العراق وإيران، وفهمت من السياق قبل أن يسرني المرحوم صادق العطية الذي كان حاضراً هو الآخر، بأن زيارة آية الله العسكري إلى لندن تتصل بتلك الأوضاع، واحتمال إحداث انعطاف في المرجعية استعداداً لمرحلة ما بعد الإمام الخميني، واحتمال أن يكون للسيد العسكري دور في الانعطاف المفترض، لا سيما وأنه في جناح بعيداً عن اتجاهات الإمام الخميني الذي لم يعط للعسكري دوراً ما، وكانت الدائرة الصغرى حوله، تشير إليه بما يضعه في صف النظام الشامنشاهي.

وبإحساس سياسي عالي الوتيرة، سارعت إلى كتابة مقال صحفي استعملت لأول مرة فيه مصطلح “العمائم البديلة” مشيراً إلى المجموعات المتطوعة للعمل في البرامج الغربية، والتي تركت طلابها الفقراء في حوزات قم، والسيدة زينب، واختارت الإقامة في دول القرار الغربي. وكان تيار عريض من المثقفين الإسلاميين الشيعة يشتركون في هذه الرؤية إزاء العمائم البديلة.

وبشكل عام، فإن خطاً موجوداً بقوة داخل مؤسسة المرجعية يميل إلى التعامل الواقعي مع الدولة صاحبة القرار أو الدولة الرسمية أياً كانت ويسمى هؤلاء علماء “الحفيز” أي الأوفيس! وقد شكلوا جناحاً أثناء الثورة الإيرانية. برعاية من دولة قرار أوروبي ولهؤلاء ثلاث خصائص:

¥ الواقعية، والاعتدال، والبقاء بعيداً عن العمل الثوري الذي يتبناه فقهاء آخرون، والدعوة إلى عدم المشاركة في النشاط الوطني.

¥ تنصب فوق مستوى الحد المقبول، من العداء والكراهية للصحابة، ولعمر بن الخطاب بالذات.

¥ احتضان الأفكار والمشاريع المطروحة في السياسة الدولية.

محمد باقر الصدر وشريعتي

كان الإمام موسى الصدر من دعاة المشاركة الأقوياء، ومن رافضي منهج القطيعة ومنتقدي رجاله، ومروجيه، فلم يكن غريباً عليه إقامة مجلس تأبيني بوفاة الدكتور علي شريعتي، تناقلت وقائعه الصحافة اللبنانية، مما أثار استياء آية الله السيد مرتضى العسكري، فكتب إلى السيد موسى الصدر رسالة يلومه بعنف لإقامة مجلس فاتحة (للفاسق الفاجر المقبور علي شريعتي) وقاد السيد العسكري حملة ابتهاج برحيل خصمه المتنور. فكيف يجرؤ السيد الصدر على تكريمه في بيروت؟

أما موسى الصدر فكان جوابه، أنه بعث برسالة السيد العسكري كما هي مقرونة برسالة شخصية منه، إلى السيد محمد باقر الصدر في النجف الاشرف، الذي كتب بدوره رسالة تعنيف إلى السيد العسكري قائلاً له: من جعلك قيماً على الفكر الشيعي منتصراً لموقف الحزن على رحيل علي شريعتي، الذي سبق له القول بعد الاطلاع على رسالة للسيد محمد باقر الصدر في (الولاية) إن التشيع إذا طرح بهذا المفهوم فالمستقبل لهذا الطرح العظيم.

والسيد محمد باقر الصدر كان في ذلك الوقت يتزعم الاتجاهات الجديدة للحوزة العلمية. وربما تنفس خصومه الصعداء لإقدام صدام حسين على إعدامه مع شقيقته بنت الهدى، فحُرم الإسلام من أخطر مفكريه المعاصرين والداعين إلى فهم جديد للتاريخ الإسلامي بما يعزز المشتركات، ويضعف المنهج التقليدي لفقهاء القطيعة بين المسلمين.

إن الشيخ خير الله البصري، وهو من بناة العمل الإسلامي في العراق، يحتفظ بشهادة مثيرة حول هذا الالتباس.

التشيع العراقي، والتشيع اللبناني.

الفرق الملقوط بين مدرسة التشيع العراقي وشقيقتها اللبنانية أن المتنور في الأولى يطّل على الناس من خارجها، فكأن حركة التنوير تتوشج مع خيوط الانشقاق عن المؤسسة الدينية، وقد يكون المتنور رائداً علمانياً كعلي الوردي، أو تراثياً ماركسياً كهادي العلوي، ويندر أن يلتقي التنوير والانتظام في إطار الحوزة كحالة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء التي لم تتكرر في هذا الانتظام.

أما في المدرسة اللبنانية، فقد يسطع نجم المتنور من مؤسسة التشيع، كما في مدرسة السيد محسن الأمين العاملي، والممتدة والمتفرعة إلى بعض أبنائه والمستقرة في حارة حريك في الضاحية الجنوبية، على عنوان السيد محمد حسين فضل الله، والواضحة المعالم في كتابات السيد هاني فحص.

وتختلف المدرستان لدى الإسلاميين العراقيين واللبنانيين الذين يتغذون من الوريد الايراني، ففي الحالة العراقية يبدو الإسلاميون، وهم ألصق بجغرافيا إيران، ألصق بالمألوف التقليدي وأعراف الحوزة في تيار القطيعة، ولو أنهم تلامذةً وأحزاباً، محسوبون على الإمام الخميني وثورته. والسبب غير الواضح أن الإسلامي العراقي الشيعي قادم دائماً أو على الأكثر من سلالة دينية ذات نفوذ يستمد منها تراثه الحوزوي والعائلي، وكأنه في غنىً مادام في بركة الفيض النجفي، عن التأثر بالمدرسة الجديدة للإمام الخميني، حتى في جانبها السياسي، ولولا موقفه المتشدد من النظام العراقي في عهد صدام حسين، لكانت طرق الاتصال بالثورة الإسلامية الإيرانية أضعف مما صارت عليه في الثمانينات الميلادية كملاذ وممول لحركة المعارضة الإسلامية. والدليل أن الإسلاميين العراقيين المحسوبين حتى اللحظة على إيران يفضلون التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو عند الإمام الخميني تحالف شيطاني مريب.

وفي الاتجاهات الفقهية، لم يُأخذ الإسلاميون العراقيون من مدرسة الإمام الخميني إلاّ القليل منهم رغبتها في صياغة خطاب المشاركة، وتستثنى من ذلك الجهود الخيرة للإمام السيد محمد باقر الحكيم.

ويسجل على المدرسة العراقية الراهنة أنها لاتنتهي فقط إلى تراث القطيعة في التاريخ، بل إلى شيء من القطيعة مع المحيط العربي، وهو الأمر الذي يبرر بكونه استجابة طبيعية لقطيعة المحيط العربي ضد التشيع العراقي بعد تغيير النظام السياسي في نيسان 2003.

ولطالما أشبعت رسائلي إلى السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله، بالإلحاح على ضرورة ميل الإسلاميين نحو جذورهم العربية، ولعله أقتنع بقبول الأفكار الدائرة حول الفصل بين العروبة والقومية العربية، وكون النبي محمد كان عربياً ولم يكن قومياً عربياً.

أما المدرسة  اللبنانية فهي ألصق بمحيطها العربي وبشخصيتها الوطنية.  فهي مثلاً تستفيد من الوريد الإيراني وتندمج عقائدياً مع الثورة الإسلامية، لكنها تحتفظ بشيء من الاستقلالية التي ورثتها من التربية الليبرالية ومن جذور مدرسة الأمين العاملي وظروفها المحلية.

وكرد على خطاب المشاركة السائد في التشيع اللبناني ظهرت كتابات في زخم تيار القطيعة وثقافتها الصفوية، فتنشر في بيروت أكثر الآراء تطرفاً ضد عمر بن الخطاب وصحابة النبي(ص).

عمر بين المجلسي وشريعتي 

يقول علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق – الجزء الأول: إن الملا محمد باقر المجلسي الذي توفي في عام 1699، كان شديد التعصب لعقيدته، وقد أغرى الدولة باضطهاد جميع المخالفين، الذين كانوا موجودين في داخل الحدود الإيرانية، وقد أوقف الشاه الصفوي بعض أملاكه الخاصة في سبيل نسخ كتابه بحار الأنوار الذي يقع في (25) جزءاً وتوفيره للطلبة.

ويُعد بحار الأنوار أضخم كتاب لدى الشيعة، وفي رأي بعض الباحثين ،والكلام للوردي، أن المجلسي أساء للتشيع بهذا الكتاب، أكثر مما نفعه؛ فهو قد جمع فيه كل ما عثر عليه من الأخبار والقصص والأساطير، لا فرق بين الغث والسمين منها، ثم وضعها في متناول كل من يريد الاغتراف منها، وجاء بعدئذ قرّاء التعزية وخطباء المنابر، فصاروا يأخذون منه ما يروق لهم، وبذا ملأوا أذهان الناس بالغلو والخرافة، وجعلوهم يحلقون في عالم من الأوهام. وقد تبنت الدولة القاجارية، هي الأخرى، هذا الكتاب فكان أول المؤلفات التي طبعت بعد دخول المطبعة الحجرية في إيران، وقد وردت إلى العراق منه نسخ كثيرة، مما أدى إلى انتشار معلوماته الغثة في أوساط الشعب العراقي على منوال ما حدث في إيران.

ولك أن تختزل خمسين كتاباً صدر لجماعة " المستبصرين " بكونها استنسخت الكثير من تلك المعلومات في الكتب، التي صدرت لهؤلاء المتحولين.

وكان الإمام الخميني قد أوقف طباعة أجزاء من موسوعة البحار حرصاً على وحدة المسلمين، وحفظ الأجيال الجديدة من تسرب تلك المعلومات إليها.

والمجلسي متخصص في روايات التشهير بعمر بن الخطاب، حيث يمكن ردّ ما يتداوله الإعلاميون والمتعلمون والمتحدثون وبعض الفقهاء من معلومات حول عمر إلى مصادر المجلسي.

ويشترك مع المجلسي مؤرخ موسوعي آخر، هو السيد البروجردي الكاظميني في كتابه جواهر الولاية.

يقول علي شريعتي  في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي: إن المجلسي وهو أبرز وجوه التشيع الصفوي يرسم للإمام السجاد صورة أعتقد أن أعداء آل علي الذين نصبوا لهم السيف يخجلون من نسبتها إليه. فإن العزة والوقار والهيبة وإليها صفات معروفة لبني هاشم لاتنكرها حتى الجاهلية، وإن المجلسي ينقل أخباراً مثيرة للغثيان!.

إن علي شريعتي  يشك في علمية المجلسي، ويسخر من رواياته ويقدم نموذجاً لها قصة زواج الإمام الحسين من ابنة كسرى يزدجرد.

المنهج الصفوي بدلاً من التشيع الصفوي

قد نتجنب مصطلح التشيع الصفوي مااستطعنا إلى ذلك سبيلا،ً لأن فريقاً من السياسيين صاروا يلحون باستخدامه، من باب التشهير بالتشيع، في إطار مشروع تعجيم الشيعة، الذي ظهر لأول مرة أثناء الاحتلال البريطاني للعراق وتصدى الفقهاء الشيعة بشكل خاص له.

ومن الأمانة العلمية أن كاتب السطور لم يكن مبتدع هذا المصطلح، حيث صدر لأول مرة من منابر حسينية إرشاد في طهران، على لسان المفكر الإسلامي الشهيد علي شريعتي، وإن كنت معنياً بالدور الصفوي في مصادرة التشيع قبل أن تترجم كتابات علي شريعتي  إلى العربية بأكثر من عشر سنوات، وعندما اطلعت عليها في منتصف الثمانينات، وجدت أن المشترك بيننا يتسع باتساع الهوة ما بيننا وبين التشيع الصفوي. واكتشفت أن هذا المفكر الذي وجد ميتاً في شقته بلندن عام 1977، عن ثلاثة وأربعين عاماً، كان مثلي من المتأثرين بكتابات الدكتور علي الوردي. ومن جانب آخر يبدو الرجل وهو إيراني فارسي قح، كأنه من الدعاة القوميين العرب في منهجه الثوري الجديد، والذي دفع حياته ثمناً له.

وإذا عزفنا عن استخدام مصطلح التشيع الصفوي، لذلك السبب، وأسباب أخرى فلا يعني عدم وجوده.وقد أنكر بعض المتحدثين من الإعلاميين الشيعة تقسيم التشيع إلى علوي وصفوي وقالوا بوحدته. فإذا اتفقت جدلاً مع هذا الرأي، فالراجح عندنا عدم إغفال المنهج الصفوي في البحث التاريخي، ووحدة القياس المذهبي وفي أولويات دعاته. والصفويون أسسوا أول إمبراطورية شيعية كسروية لمواجهة الدولة العثمانية، وأعطوا للفقيه سلطة ودوراً أساسياً في قيادة الدولة. وأقاموا مؤسسات ومعاهد ومجالس علمية وأعرافاً وتقاليد ليس من السهولة أن تنزاح عن تاريخ التشيع.

صاحب نظرية النطف – تلميذ الخميني

الكشف العلمي لانتحال رواية تزويج الإمام الحسين من بنت كسرى، وإنجابه منها الإمام علي زين العابدين، الوحيد الذي نجا من مجزرة الطف في كربلاء. وانتهت إليه الإمامة الرابعة سيصيب بالانكسار والخيبة كلاً من الفريقين المبتهجين برواية الزواج، ففي الجانب العربي يقدّم الزواج المفترض مادة تاريخية صالحة لدعاة تعجيم الشيعة. وجعل هذا الزواج سببا في الميل الشيعي لإيران(*)!. وقد بنيت على الرواية المنتحلة أحكام قومية تمس الانتماء العروبي للتشيع العراقي وسواه. وفي الجانب الفارسي يوفر الزواج مادة تاريخية صالحة لدعاة نظرية النطف، التي اكتشفها الدكتور علي شريعتي في الأساطير الإيرانية، ومن القصاصين الإيرانيين الذين لايتورعون عن إلقاء النطفة التي تمثل جوهرهم العنصري. ومظهر استمرارهم القومي، في رحم أعدائهم حفاظاً على هذا (الجوهر المقدس) من الاندثار، وقد يبادرون إلى انتحال علاقات مصاهرة من هذا القبيل، إذا أدرك صناع الأساطير أن سلالة معينة، هي في طريقها إلى الانقراض، فيمهدون إلى اختلاق قصص وأساطير لربط آخر حلقات السلسلة التي كانت هي السبب في الانقراض. وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم الخلفيات التي تقف وراء افتعال زواج الإمام الحسين ابن بنت النبي، من شهربانو بنت الملك يزدجرد، حيث يمثل ذلك آخر محاولة يلجأ إليها الساسانيون في إنقاذ وجودهم من الانقراض.

إن زواج فتى من بني هاشم بفتاة من بني يزدجرد، يعبر في الوجه الآخر من القضية، عن اقتران أول السلسلة الجديدة، بآخر حلقات السلسلة القديمة، والإمام كما قال فيه الشاعر: 

 وإن غلاماً بين كسرى وهاشم        لأكرم من نيطت عليه التمائم

وكأن نسبه القريشي – الهاشمي – العلوي لايؤهله لأن تناط عليه الكمالات البشرية. ولكن الأمر حصل مع الاسكندر، الذي يطيح بالسلالة الهخامنشية في إيران – ومن ثم يولد له منها أولاد وذرية، ويستمر بهم الجوهر محفوظاً، ولكن بعنوان إمبراطورية الاسكندر بعد إمبراطورية هخامنش، وقبلهم كان قوروش قد استمر وجوداً في صلب الماذيين.

أما كيف تم الزواج المحمدي – الكسروي – فالقصة مستمرة: إذ سبق النبي جنوده في الوصول من المدينة إلى إيران بنفسه، لكي يعقد الصلح، وأنه دخل قصر يزدجرد قبل إسلام ابنته، وعقدها على حفيده الإمام الحسين، ثم جاءت فاطمة لتدخل كنتها في دين الإسلام.

وهكذا دخل كسرى في أهل بيت الرسول، لكي تبقى القومية القديمة خالدة في المذهب الجديد، بتعبير الدكتور شريعتي ويصبح المذهب الجديد مركباً من الشاه، والنبي في نسب الإمام زين العابدين.

إن الدكتور شريعتي كان سيموت بالعبقرية ميتة أبي تمام، أو يموت بالغيلة بعد الكشف الخطير، الذي لم نستعرض سوى جوانب منه. وهو ماحدث لعبقري التشيع العلوي – العربي – فيقول في النتائج المستهدفة من أسطورة الزواج الهاشمي الكسروي:

1-  إظهار عمر بمنزلة العدو رقم واحد لعلي وشجب مناوأته لحامل لواء الإسلام. والحلقة الأولى في سلسلة أهل البيت وأبي الأئمة. وذلك انتقاماً من دور عمر البارز في القضاء على الدولة الساسانية، وتقويض وجودها.

2-   إلقاء تبعة انقراض الدولة الساسانية على عمر لاعلى الإسلام.

3-   تلقين الناس على أن الخلافة كانت تعادي السلطة الساسانية أما الإمامة فكانت بمنزلة المدافع عنها.

4-   إن تسنن عمر هو عدو السلطنة الساسانية (قصة بنت يزدجرد) بينما كان علي محامياً عنها!!.

5-  إن دخول إيران في الإسلام لم يقع إثر فتح المدائن بواسطة عمر، أو غزو المسلمين لإيران، بل هو نتيجة مجيء النبي وابنته فاطمة إلى المدائن ودخول قصر يزدجرد وعقد شهربانو لابنه الحسين – ومن ثم دعوتها إلى الإسلام.

6-  إن يزدجرد آخر أكاسرة الساسانيين كان قد انكسر بواسطة عمر، وإن النبي هو الذي أعاد له شأنه ومكانته المرموقة بالمجتمع الإيراني. وذلك من خلال إدخاله في بيت النبي عبر أحدوثة الزواج ليصبح أحد طرفي السلسلة وطرفها الآخر هو النبوة.

7-  إن بنت يزدجرد تمثل البقية الباقية من السلالة الساسانية وقد أسلمت بدعوة من فاطمة بنت النبي وزوَّجها النبي لابنه. وشفاعة علي لدى عمر نجَّت شهربانو من مخالبه.

8-   إن عمر هو الذي حرم السلالة الساسانية من حق الحكم كما أنه حرم السلالة المحمدية من حق الخلافة.

لم يتوقف علي شريعتي عند هذه المشارف الخطيرة. وكان لابد من أن ينتقل إلى مراحل أخرى يصبح فيها المرجع المجدد والإصلاحي الثوري في تاريخ التشيع. فقتل قبل اندلاع الثورة التي كان شريعتي مفكرها. ولم يكن ممكنا للإمام الخميني أن يقوم بدور تلميذه علي شريعتي في التصدي للمنهج الصفوي الكسروي على صعيد نظري، لكنه وفي مجمل مسالكه السياسية وفي خطابه الإعلامي بعد نجاح الثورة كان يعزز منهج الإسلام الواحد. إن المدخل الأرحب والأوضح إلى عالم الخميني. يمر أولا فوق ارض مفروشة بسجادة شريعتي، ومصنوعة من أوراقه المحمدية.

علي شريعتي قتل في شقته بعد كشوفاته التاريخية والفلسفية، والقاتل ليس الشاه محمد رضا بهلوي وحده، بل معه الجماعات التي قطعت الطريق على عبقري الثورة التوحيدية، الذي كان متوقعاً له، لو عاش في الثورة أن يكون فيها المرجع المشترك الفكري لمسلمي إيران والمنطقة.

استشهد علي شريعتي كما لو كان مجاهداً على الثغور في جيش الإسلام الذي أرسلته المدينة لفتح بلاد فارس غارقاً بمداد الحبر المسفوح، شاهداً وشهيداً على عدالة أهل البيت، عارفاً لامعترفاً فحسب، بالدور العمري في تحرير شعبه من نيران الشرك، وتطهير بلاده من الكسروية الصفوية، فاستحق من شيخه وإمامه الخميني إطلاق اسمه على شارع كبير في طهران وتأسيس منتدى خاص بفكره ومنهجه القويم.

منبر الوائلي وهوية التشيع

شكلت محاولة الوائلي تطوراً نقل المتحدث على المنبر من روزخون إلى مؤرخ أكاديمي، خرج من الحوزة الدينية ولم يخرج عليها، فكان يقدم عصارة جهده بكلام تتوازن فيه الجمل بحذر بالغ، وكرسّ الشيخ الوائلي القول بمنع أئمة أهل البيت، سبّ الصحابة، واعتمد على روايات التاريخ العام. في مؤلفات الطبري والبلاذري والمسعودي، فضلاً عن المصادر التاريخية الحديثة. وهو بين المكتبة والمحاضرة والكتاب.

وقد برز له دور استثنائي، عندما كانت حرب على الأرض العراقية – الإيرانية تجرف غابات الجنود والنخيل وتزوّد الأسماك في شط العرب ونهر كارون بلحوم البشر.. وعلى الطروس وفي المكتبات ودور النشر، حرب استمرت إلى ما بعد توقف الحرب الأرضية. وقد دخل إلى ميدان الصراع متطوعون لإسعاف الفريقين، وانحدرت السجالات إلى قيعان الزيف والزلفى وامتهان الكرامات والطعن في أعراض المسلمين، وظهور مجلدات باهظة الكلفة لأسماء مجهولة، ما بين باكستان ولبنان، وعرفت جماعة "المستبصرين" التي كانت تواجه طعن الشيعة بطعن عمر، وترفع من شأن الإمام علي، الذي لا يحتاج إلى روافع بمنهج تنقيص الصحابة.

في هذا المحتدم، وعند مزدحم الصراع، كتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي (هوية التشيع). وكأنه كان يرد أصلاً على مرويات القطيعة. في الوقت الذي يواجه عند الطرف الآخر محاولات لتعجيم التشيع، وطعن الشيعة بإسلامهم، فقدم الوائلي أطروحته العلمية بترسيس الجذر العربي للتشيع، ومسقط رأسه الجزيرة العربية، وزعيمه هاشمي من قريش، ولسانه لسان عربي مبين، ودعوته إلى عروبة الخلافة، بخلافة الإمام القريشي، ووجوب الأذان وكتابة العقود بالعربية، فاستعرض لائحة بعلماء اللغة والنحو والصرف وهم من أهل التشيع.

والوائلي صعب المراس، والأصعب في الانجرار إلى مساجلات الفرق، وكان ينأى بنفسه عن إشكالات العمل السياسي، ورفض زيارة إيران، كما رفضها كاتب السطور، مادامت الحرب قائمةً بين البلدين. وحصر حركة كتابه بالعصور الإسلامية المتقدمة، حتى لا ينزل إلى مشتجر الخلاف بعد الدولة الصفوية. وهو يبدأ مقدمة كتابه (بالصلاة والسلام على محمد وآله الأطهار، وأصحابه الأبرار والتابعين) وفي هوية التشيع الذي صدرت منه ثلاث طبعات في الثمانينات، ينقل من كتب التراجم مثلاً أن يحيى بن يعمر كان شيعياً من القائلين بتفضيل أهل البيت، من غير تنقيص لغيرهم، كما في وفيات الأعيان، وفي الاستيعاب أن أبا الطفيل عامر الليثي أدرك من حياة النبي ثماني سنوات، وقيل: إنه آخر من مات ممن أدرك النبي عن مئة عام. وكان محباً لعلي ومن أصحابه في مشاهده وكان ثقةً مضموناً، يعترف بفضل الشيخين إلاّ أنه يقدم علياً.

رواد الحضارة العربية من أهل التشيع

 ويستعرض الشيخ الوائلي لائحة بأسماء الرواد الأوائل من بناة الحضارة العربية، ومؤسسي علومها وثقافاتها والمنسوبين إلى التشيع.

وباستعراض المدونة أسماؤهم، لا تواجه قائلاً منهم بالقطيعة، وليس له نشاط سياسي خاص، ولم يتكتلوا في كوى حزبية أو طائفية ولا يعرف الواحد منهم إذا كان فعلاً من أهل التشيع أم من أهل السنة أو المعتزلة. وعلى بعضهم خلاف عند المؤرخين والتباس في انتماءاتهم، فيحسب بعضهم على هذا الفريق أو ذاك، لحياده وعلميته وتجانسه مع حركة الإمام علي وأصحابه الأوائل في حركة الدولة الراشدة.

وهذه لائحة يقدمها الشيخ الوائلي في هوية التشيع لبعضهم قائلاً:

فمن الرواد في علم السير والتواريخ عبد الله بن أبي رافع صاحب كتاب تسمية من شهد من الصحابة مع علي (ع)، ومحمد ابن اسحق صاحب السيرة النبوية، وجابر بن زيد الجعفي ومن الرواد في علم النحو: أبو الأسود الدؤلي، والخليل بن أحمد إمام البصريين، ومحمد بن الحسين الرواسي إمام الكوفيين وأستاذ الكسائي والفراء، وعطاء بن أبي الأسود الدؤلي، ويحيى المبرد بن يعمر العدواني، ويحيى بن زياد الفراء، وبكر بن محمد أبو عثمان المازني، ومحمد بن يزيد أبو العباس المبرد، وثعلبة بن ميمون أبو إسحق النحوي، ومحمد بن يحيى أبو بكر الصولي، وأبو علي الفارسي الحسن بن علي، والأخفش الأول أحمد بن عمران، ومحمد بن العباس أبو بكر الخوارزمي، الذي يقول عنه الثعالبي في يتيمة الدهر: نابغة الدهر وبحر الأدب وعيلم النظم والنثر وعالم الظرف والفضل، كان يجمع بين الفصاحة والبلاغة ويحاضر بأخبار العرب وأيامها ويدرس كتب اللغة والنحو والشعر، والتنوخي علي بن محمد، والمرزباني محمد بن عمران صاحب التصانيف الرائعة في علوم العربية، وملك النحاة الحسن بن هاني، ومعاذ الفراء واضع علم التصريف، وعثمان بن جني أبو الفتح وأبان بن عثمان الأحمر، ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق، وأبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة، ومحمد بن عمران المرزباني صاحب المفصل في علم البيان وصفي الدين الحلي صاحب الكافية في البديع والعالم النحوي الحسين بن محمد صاحب كتاب صنعة الشعر، والخ.

وعن ابن خلدون صاحب المقدمة، أن أصحاب علي عندما فاتته الخلافة اكتفوا بالتأفف والأسف. بمعنى أنه ينفي ضمنياً حركة المقاطعة وفي هذه الاستشهادات يستشرف الوائلي قيم المشاركة نائياً عن نظرية القطيعة.

وعلى صعيد شخصي، كنت والشيخ الوائلي نلتقي ثنائياً، ولم يشترك معنا في دمشق بأعمال المعارضة، وكان يدعوني سراً ليقرأني قصيدةً في الحنين لبغداد. فأحفظ بعض مقاطعها. وأتمثل بها في مقابلاتي شرط عدم الإشارة إلى قائلها. وكان أول المتبرعين للمرضى والفقراء والمحتاجين.

ولما أبلغه الأطباء باقتراب أجله، بعد إصابته بالسرطان، طلب حمله إلى العراق في الأسبوع الأول من سقوط النظام العراقي في نيسان 2003 فتوفي بعد يوم من وصوله وسار في موكب تشييعه ثلاثة ملايين حزين، في أكبر جنازة.

فكان ذلك استفتاءً شعبياً بفضله وحياده وتوازنه، وانتصاراً لمنبر المشاركة على روزخون القطيعة.

الروافض

لم يطلق على أصحاب الإمام علي مصطلح الرافضة وقد شاركوا في إدارة الدولة الجديدة، لكن وصف أتباعه، وعلى وجه الدقة الشيعة، بأنهم روافض يتعارض مع أمرين: الأول ذهاب أصحاب الإمام إلى مذهب المشاركة وإنهاء القطيعة. والثاني أن الأغلبية المطلقة للمراجع السنية وأقوال أئمة المذاهب ودعاتهم حتى اليوم تؤكد بيعة الإمام علي وعدم مواصلة اعتكافه أكثر من ستة أشهر، وقيل أقل من ذلك. وهذا إقرار بأن أصحاب الإمام وشيعته لم يكونوا من الروافض، إذ لا يستقيم القول بالمشاركة والقول بالرفض.

فإما أن يكونوا مشاركين، وهذا ما عليه المراجع السنية وما يقول به أهل التشيع قبل ظهور نظرية القطيعة فهم ليسوا روافض، وإما أن يكونوا مقاطعين للأبد. ويصح قول القائلين بالقطيعة، فهم روافض. ويكون أهل السنة من دعاة القطيعة لا المشاركة والقائل بالرفض هو القائل بالقطيعة. سواءً كان من أهل التسنن أم من أهل التشيع وحجم القائلين  بالقطيعة سينتعش، وتتكرس نظريتهم، وتكسب دعاةً جدداً، والدليل أن الشيعة روافض، بمنطوق سني، فكيف يدعو كاتب السطور إلى نظرية المشاركة التي لا يؤيدها أهل السنة بهذا المنطوق؟.

إن طعن الشيعة بمصطلح الرافضة يؤكد عدم حصول البيعة لأبي بكر وعمر، وأن الإمام علي كان بالفعل جليس البيت، لم يغادره منذ وفاة النبي حتى ظهور اسمه في مجلس الشورى. وهذا نصر مبين لما يسمونه الآن بالمنهج الصفوي القائم على رفض الإمام علي وأصحابه المشاركة في دولة أبي بكر وعمر. فيلتقي المتشدد من أهل القطيعة، وهم من يسمونهم الصفويين مع المتشددين الذين يصمون الشيعة بالروافض في الكتب والخطب والمقابلات التلفزيونية، ظانين أنهم يدفعون بهذا الكلام الأذى عن الشيخين.

واصل الرافضة في قواميس اللغة (كل جندٍ تركوا قائدهم) والرافضة فرقة منهم.

والرافضة فرقة من الشيعة قال الأصمعي: سمّوا بذلك، لأنهم بايعوا زيد بن علي ثم قالوا له تبّرأ من الشيخين. فقال: لا.. إنهما وزيرا جدي. فتركوه ورفضوه وأرّفضوا عنه، والرافضة غير الشيعة كما الناصبة غير السنة، وكان العقاد يستخدم هذا الفصل عندما يذكر أحدهما.

وإن الفقيه الشيخ أحمد الوائلي ينفي في كتابه (هوية التشيع) أن يكون أصحاب زيد طلبوا منه البراءة من الشيخين، ويهاجم قائلاً:

1-   إن هؤلاء الذين طلبوا البراءة لو كانوا شيعة، فلا بد أنهم حريصون على نصر زيد وكسب المعركة ضرورة أن مصيرهم مرتبط بمصير زيد، فإذا هزم فمعنى ذلك القضاء عليهم قضاءً تاما،ً خاصة وأن خصومهم الأمويين، الذين يقتلون على الظنة والتهمة كل من يميل إلى آل أبي طالب، فما الذي دفعهم إلى خلق هذه البلبلة، التي أدت إلى انفضاض جند زيد عنه، وبالتالي إلى خسارته للمعركة فموته شهيداً على أيدي الأمويين، فلا بد أن يكون هؤلاء ليسوا من الشيعة، وإنما هم جماعة مندسة أرادت إحداث البلبلة للقضاء على زيد واحتمال كسبه للمعركة.

2-   وعلى فرض التنزل والقول بوجود فرقة خاصة من رأيها رفض الشيخين، فما معنى سحب هذا اللقب على كل شيعي يوالي أهل البيت، حتى أصبح هذا الأمر من المسلمات.

3-   إرادة لسحب اللقب وهو رافضي على كل شيعي، مبالغة في التشهير بهم وشحن المشاعر ضدهم، مما سنلمح كثيراً من الأمثلة له، ومما يؤيد على أنها تتمشى مع تخطيط شامل يستهدف محاصرة التشيع والتشهير به وبكل وسيلة سليمة كانت أم لا.

4-   قد يقال: إنه لاشك في وجود جماعة شتّامين للصحابة، فما هو السبب في كونهم من هذا الصنف في حين تدعون أن الشتم لا تقره الشيعة ولا أئمتهم، وللجواب على هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى مجموعة من الأسباب تشكل فعلاً عنيفاً استوجب رد الفعل. منها المطاردة والتنكيل المروع للشيعة وبالشيعة وما تعرضوا له من قتل وإبادة على الظنة والتهمة وفي أحسن الحالات الملاحقة لهم والمحاربة برزقهم ومنعهم عن عطائهم من بيت المال وفرض الضرائب عليهم وعزلهم اجتماعياً وسياسياً وبوسع القارئ الرجوع إلى التاريخ الأموي في الكوفة وغيرها من المدن الشيعية ليقف بنفسه على ما وصلت إليه الحالة وما انتهى إليه ولاة الأمويين من قسوة ومن هبوط في الإنسانية إلى مستويات يتبرأ منها في العهدين الأموي والعباسي. إن مثل هذا الاضطهاد يستلزم التنفيس عن الكبت، فقد يكون هذا التنفيس في عمل ايجابي، وقد يكون سلبياً فيلجأ إلى هذا الشتم. ولسنا نبرر ذلك بحال من الأحوال، إن الذي أسس لهذه الظاهرة هم الأمويون أنفسهم، لأنهم شتمواً الإمام علياً على المنابر ثمانين سنة، واستمر هذا الوضع حتى أن محاولة الرجل الطيب عمر بن العزيز لم تنجح في منع الشتم.

5-   انتهى نص الشيخ الوائلي، فنقول: إذا كان الأمويون يشتمون على منابرهم الإمام علياً، وينتقصون أهل البيت كما في المصادر السنية بشكل عام. فهل رد الفعل على الأمويين بشتم الخلفاء الراشدين. وعمر بالذات يشتم في كتب تتوالى في الصدور بطبعات جديدة في حملة منظمة، وعلى القنوات الفضائية. فما علاقة ظلم بني العباس أبناء عمومتهم العلويين وكلاهما من الفرع الهاشمي بسب عمر وطعنه بلا هوادة ودون هدنة؟. وهل سيغضب أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل لنقد بني أمية وبني العباس؟.

تنوير شيعي

تنهض حركة تنويرية في الإحساء والقطيف، فيكتب الدكتور توفيق سيف في الاستبداد ونظرية السلطة في الفكر الشيعي. والدكتور فؤاد إبراهيم في الفقيه والدولة، وحمزة الحسن وزكي الميلاد في المنشور من الأبحاث وتتمحور اتجاهاتهم الفكرية نحو نظرية المشاركة أو على الأقل، تنزيه الملة من شوائب السلطنة الصفوية.

يقول الدكتور فؤاد إبراهيم في كتابه المرجعي (الفقيه والدولة – الفكر السياسي الشيعي) الصادر عن المكتبة الأدبية في بيروت سنة 1988.

"إن الشاه إسماعيل الصفوي يرمي من وراء ميثولوجيا غارقة في الغيبوبة والخرافة إلى إضفاء وشاح من القدسية على سلطانة. مما يجعله جامعاً لرئاسة الدين والدولة،  وبالتالي إلى انتفاء الحاجة إلى اقتسام السلطة مع العلماء. فقد جمع السلطتين الدينية والدنيوية. وإن إدماج العلماء في جهاز الدولة في أيامه لم يتجاوز مهمة ترويج التشيع وولاية الأمور الحسبية"(*).

وفي توق منه إلى تحصيل الاصطفاف الشيعي الجماهيري وكسب تعاطف رجال الدين الشيعة، قام الشاه إسماعيل باعمار المشهد العلوي في النجف، والمشهد الحسيني في كربلاء، وبناء حرم الكاظميين، وتشييد جامع الصفويين بجوار حرم الكاظم على مقربة من بغداد.

وفي حقيقة الأمر أن التشيع لم يكن يعني بالنسبة للشاه إسماعيل إلا بمقدار ما يعزز سلطانه السياسي، فلم يتجاوز التشيع الصفوي في عهد الشاه إسماعيل " مسائل سطحية استحدثها في عصره أو أحيي مواتها كاضطهاد أهل السنة وسب أعداء الشيعة في مختلف العصور وتنظيم الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين على النحو المبالغ فيه.

فتماهي الصفويين في التشيع كان في أجلى مقاصده إيجاد هوية سياسية للدولة وإضفاء مشروعية على السلطان الصفوي، ولذلك فإن الإحياء الصفوي للتشيع طال أدوات الإثارة والتعبئة لا أدوات التوعية في المذهب الشيعي، الأمر الذي افقد التشيع صورته الأصلية، حين أضفى وشاحاً من التعصب والخرافية والغيبوبة على المذهب الشيعي لجهة تحصين الدولة وضمان استقلال إيران، وتحويله في مرحلة لاحقة إلى أداة للتوسع، فالتشيع الصفوي كان سياسياً بدرجة أساس.

وسنقف قليلاً عند أهم نتائج واستخلاصات دراسة العقل السياسي – الأيدلوجي الصفوي، ولعلنا نجد في تحليل د. علي شريعتي للتشيع الصفوي في جملة من كتاباته مادة ثرية ومفيدة للغاية في هذا الموضوع، وقد اظهر شريعتي كفاءة عالية، قل نظيرها في  الوسط الإيراني والشيعي بوجه عام.

إن التوظيف السياسي الصفوي للمذهب الشيعي في بناء الشرعية السياسية والدينية لسلطانها، وإحالة التشيع إلى أيدلوجيا قومية سياسية للدولة الصفوية، انتهت إلى شبه قطيعة مع المذهب الشيعي نفسه، بل أن الدولة الصفوية، الوارث التاريخي والمذهبي للدولة البويهية أضفت لونها الخاص على المذهب الشيعي الذي أفادت منه تحصين الدولة واستعملته خطاباً للتعبئة العامة وإن تطلب في أحيان كثيرة إضفاء مسحات عقدية مستحدثة على المذهب الشيعي كالتصوف والاعتزال، أفضت حسب د. علي شريعتي إلى نشوء " خليط من فلسفة النظام الحاكم والروح القومية والتصوف، وأن هذا الخليط الكيماوي الذي غطي بلواء التشيع واسمه، إنما يدفع نحو الانحطاط ويبرره، وهو أعدى أعداء التشيع العلوي نفسه. هذا الخليط نفسه يؤول إلى ترويض التشيع وابتزازه، يسلب منه مضمونه الحقيقي ويحيله إلى مجرد أداة دعائية تعبوية محضة، أو حسب د. شريعتي إلى تشيع المصلحة لا تشيع الحقيقة. 

وقد لا نذهب مع الدكتور فؤاد ابراهيم في اعتبار الدولة الصفوية الوارث التاريخي والمذهبي للدولة البويهية في أكثر من وجه.

إن اتجاهات البويهيين تتحدد برؤية زيدية ملتزمة بإمامة زيد بن علي وإقراره بخلافة أبي بكر وعمر. فيما قامت الدولة الصفوية على أساس البراءة منها وجعل سبهما بما يقابل إعلان الشهادة للمسلم. وكان موقف البويهيين إيجابياً من الدولة العباسية. على الأقل في استمرار عمل الخليفة. وثالث الفروق بينهما، أن البويهيين وإن استحدثوا بعض الطقوس الحسينية، فقد كانوا أقرب إلى فهم الحضارة العربية فاندمجوا بها.

إن الصفويين كانوا مؤسسي تيار القطيعة، والبويهيون دعاة مشاركة. 

هاشم الحسني:

كسر القطيعة و بواقعية الإمام

على خلاف غالبية مؤرخي القطيعة من المرتبطين بالمؤسسة الدينية، ينفرد المؤرخ هاشم معروف الحسني بموقف ثالث ويكسر مناهج القطيعة ويقر بعلاقات طيبة بين الإمام علي وعمر بن الخطاب ويطرح مسوغاً للإمام علي على ضوء مبدأ الأمر الواقع وأخلاقيات الإمام ومسؤوليته الشرعية إزاء صراع الإسلام مع الإمبراطوريات المجاورة.

وهذه مرتبة متقدمة في الكتابات عند مؤرخي التشيع الملتزمين بمناهجه التقليدية والتزامه بالمقولات الشيعية المصادق عليها.

لكنه لا يقول بالقطيعة ولا يضع الإمام في معتكف العزلة جليس البيت ثلاثة عشر عاماً حسب روايات أهل القطيعة، و لايذهب برواية كسر ضلع الزهراء إلى مراتب عليا، لكنه يشير إلى ضرر أو أضرار أوقعها عمر بن الخطاب بابنة النبي (ص) لعدم أخذه بالوصية وحرمان ابن عمها من الخلافة الأولى وموافقة أبي بكر وعمر وفاطمة الزهراء عند مرضها، لكنه يستخدم السيناريو التقليدي، الذي لايقلل من أهمية الاعتراف بوقوع الزيارة وحديث أبي بكر للزهراء.

وفي ما يشبه الاقتحام وبحمية علوية في الرد الضمني على القائلين بعزلة الامام والمسلمون يواجهون الامبراطوريات ويقيمون دولة كبرى في الشرق يقول المؤرخ الحسني: ”أما أمير المؤمنيين(ع) فلم ينقل أحد من المؤرخين أنه وقف موقف المعارض لخلافة ابن الخطاب، أو بدا منه ما يسيء إلى صلاته به، بل رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس، لا يذكر لمن مضى ولمن جاء من بعده إلا المحاسن، ولا ينطق إلا بلسان البررة الأطهار، يمنحه النصيحة ويزوده برأيه كلما أشكل عليه أمر من الأمور أو طرأ حادث جديد لم يسبق له نظير في حياتهم من قبل تسيره مصلحة الإسلام وحدها ولا ينظر إلى الحكم والحاكمين إلا من هذه الزاوية، ومادام الإسلام يسير بتلك السرعة في ماوراء حدود الحجاز وعروش أولئك الحكام تتهاوى تحت أقدام الفاتحين، وأصوات المؤذنين تنطلق من الأعالي والسهول ومن على سطح الكنائس ومن كل مكان، مادام الإسلام يسير بتلك السرعة والمسلمون بخير لا يهمه من تولى الحكم وكيف تولاه، وطالما كان يردد على مسامع الناس ويلقي عليهم من دروسه الرائعة، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليّ خاصة. لقد ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامة ما وسعه، وأدى ما عليه للجمهور من تعليم وتفقيه وقضاء على مدى أوسع مما أداه في عهد أبي بكر حيث اقتضت الظروف ذلك.

ويحدث التاريخ عن عمر بن الخطاب بأنه كان يحترم قوله، ويقف عند رأيه حتى في غير التشريع، ويقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وتنص المرويات على أن أمير المؤمنين هو الذي وضع للمسلمين تاريخهم الذي أرخوا به و لايزال حتى اليوم. ولقد جاء في ذلك أن رجلاً جاء إلى ابن الخطاب يخاصم آخر ببدين له عليه ومعه صك مكتوب فيه استحقاق أصل المال وأنه يستحق شعبان، فلما ألقى بصره عليه أدرك مواضع النقص وتوجه إلى الدائن يسأله أي شعبان هذا؟ أشعبان هذه السنة أم التي بعدها.

وأجابه الطرف الآخر، ولكنه لم يكن ليطمئن لقوله مادام كل منهما يدعي أمراً والكتابة لم تنص بصراحة على تاريخ الأداء، والناس يوم ذاك لم يكن لديهم تاريخ خاص فكان بعضهم يؤرخ بعام الفيل، وآخرون يعتمدون تاريخ الدولة المجاورة لهم، فأجمع رأي ابن الخطاب على أن يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في أمورهم، فجمع الصحابة ليقف على رأيهم في هذا الموضوع واختلفت آراؤهم في ذلك أشد الاختلاف، وكادوا أن يتفرقوا بدون أن ينتهوا إلى نتيجة حاسمة، لولا أن علياً(ع) قد أقبل عليهم بالمعهود من رأيه السديد، واتجه إليه ابن الخطاب يسأله، فقال(ع) نؤرخ بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، فأعجب عمر بن الخطاب برأيه وهتف يقول: لازلت موفقاً يا أبا الحسن.

واقترن رأيه هذا بإعجاب الحضور أيضاً لأن هجرة الرسول كانت البداية لانتصار الإسلام على الشرك وحدثاً تاريخياً لعله من أبرز الأحداث في تاريخ الدعوة من حيث نتائجه، يذكرنا بالتضحيات الجسام التي قدمها علي بن أبي طالب لينتشر الإسلام في شرق الأرض وغربها. وجاء في شرح النهج عن الحسن بن محمد السبتي أنه قرأ في كتاب أن عمر بن الخطاب نزلت به نازلة فقام لها وقعد لمن عنده من الحضور: يا معشر من حضر ما تقولون في هذا الأمر، فقالوا يا أمير المؤمنين: أنت المنفزع، فغضب وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} أما والله إني وإياكم لنعلم بجدتها والخبير بها، فقالوا: كأنك أردت علي بن أبي طالب، فقال: وأنى يعدل بي عنه، وهل طفحت حرة بمثله؟ قالوا فلو دعوته يا أمير المؤمنين، فقال: هيهات أن هناك شمخاً من هاشم وأثره من علم ولحمة من رسول الله، إن علياً يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه فمضوا نحوه. لقد كان علي(ع) يتمنى أن يكون ولو جندياً مع أولئك الغزاة إلى ماوراء الحدود وما داموا يحملون إلى تلك البلاد رسالة محمد(ص) التي كان يفنى في سبيلها ولا يفكر بغيرها، ولا يضره إذا تحققت أهدافه أن يكون أميراً أو مأموراً، وطالما كان يرمي بنظراته تلك الجموع المدججة بالسلاح تودع المدينة في طريقها لخارج الحجاز ويتمنى لو يتاح له أن يكون معهم حيث يريدون ولكن ذلك كان محظوراً عليه وعلى غيره من كبار الصحابة فيعود طاوياً قلبه على هم جديد فوق ماطواه عليه من هموم وأحزان. لقد اختزل الحسني في هذا النص عناصر منهج آخر يتعارض مع فكر القطيعة ومروياتها ومخيلتها، فالإمام علي في هذه الرؤية التي يتبناها كتابنا هي موقع الإمام علي في نفس عمر وتقويمه له شامخاً عزيزاً.

وفي المقارنة بين صورة الإمام علي عند عمر وصورته عند أهل القطيعة قبل وبعد أن تلتقطها الدولة الصفوية، فتنزل بالإمام علي منازل تمس أنفته، وهو على حمار ووراءه فاطمة، يطرق أبواب الأنصار وحوله ولداه الحسن والحسين فإلى أي مشهد ينتهي مريدو الإمام والسائرون على مدرسة أهل البيت، أعلى حمارٍ في جنح الليل وحيداً إلا من ابنة الرسول وابنيه يبحث عن نصير فلا يستجيب له أحدٌ من الأنصار أم هو في ضمير عمر ووجدانه (يُؤتى ولا يأتي) ؟.

 

 

التشيّع العلماني على مذهب المصريين

المدرسة المصرية عند العلمانيين العراقيين من أصول شيعية

 

علي الوردي رائداً

يحدد الدكتور علي الوردي ثنائية الانقسام بفصل موسع من كتابه (مهزلة العقل البشري).على ضوء قوانين علم الاجتماع، وببساطة وعفويّة وبحياد وشجاعة رائدة مما يوجبُ علينا التوقف عن السرد والاستطراد، لنفسح المجال لرؤية الوردي أن تأخذ مداها الكامل، باعتباره أول عالم اجتماع وأديب ينتسب إلى أسرة شيعية فيسخر من المنهج الصفوي ورواياته مثلما ينتقد المنهج الأموي في تفسير التاريخ الإسلامي، والذي يبدو أن علي شريعتي، قد تأثر بمنهج الوردي أو أن الوردي هو الذي أيقظ في روح هذا المفكر عنفوان الاحتجاج والتمرد.

يقول علي الوردي: أصبح النزاع بين الشيعة وأهل السنة في العصور المتأخرة، كأنه نزاع بين علي وعمر.

وصار الناس يطلقون على الشيعة اسم "ربع علي" وعلى أهل السنة " ربع عمر".

وظهر هذا بجلاءٍ في العراق في العهد العثماني يوم كان التنافس شديداً بين الصفويين والعثمانيين.

وانهمك العوام في هذا الموضوع انهماكاً غريباً حتى خيل للناظر أن علياً وعمر كانا في حياتهما متباغضين تباغضاً عنيفاً.

وأخذ المداحون والقصاصون يزيدون في النار لهيباً.

فكان كل فريق منهم يبالغ في تبيان فضائل صاحبه ليكسف بها فضائل خصمه المزعوم.

 ومن يدرس الكتب التي تخرجها المطابع في أيامنا هذه حول هذا الموضوع يجد أثر ذلك واضحاً.

ولا يجب أن نضع أصابعنا على ما جاء في هذه الكتب، لكي لا نزيد في الطنبور نغمة جديدة.

ومشكلة العقل البشري أنه إذا ركّز انتباهه على مناقب شخص أو على مثالبه، استطاع أن يأتي منها بشيءٍ كثير.

فهو إذا أحبّ شخصاً استطاع أن يجعل كل أعماله مناقب، وإذا أبغضه حولها إلى مثالب.

وهذا أمر نلاحظه في حياتنا اليومية. فالمحبوب هو فاضل في جميع أعماله وأقواله.

وإذا رأينا منه شيئاً يستوجب المذمة أو اللوم لجأنا إلى منطق التبرير والتسويغ وقلبناه إلى حق لا مراء فيه.

سألني بعض الأجانب عن هذا النزاع بين علي وعمر، ما هو مصدره ومنشؤه؟

وهذا السؤال له أهميته الاجتماعية. فالأجانب حين يقرأون تاريخ الإسلام الأول يجدون الصفاء تاماً بين علي وعمر.

فقد تزوج عمر من ابنة علي، وتولى أصحاب علي الولايات المهمة في عهد عمر.

وكان عمر يستشير علياً في كثير من القضايا ويمدحه، كذلك كان علي يمدح عمر في حياته وبعد مماته كما جاء في نهج البلاغة.

فما هو السبب الذي جعلهما متباعدين بعد موتهما بينما كانا في حياتهما متقاربين تقارباً واضحاً؟

هنا يأتي الافلاطونيون فيحاولون أن يفسروا هذه الظاهرة الاجتماعية العجيبة بمنطقهم البالي العتيق.

يقول فريق منهم: "إن السبب كله راجع إلى الملعون بن الملعون عبد الله بن سبأ، فهو الذي صوّر علياً بصورة المبغض لعمر، وهو الذي هدم الإسلام بهذا التفريق الشائن".

ويأتي الفريق الآخر فيقول: "كلا وألف كلا إن السبب هو عمر نفسه. إذ كان يكره علياً كراهة عميقة ويريد الإضرار به والانتقاص من فضله الذي كان كالشمس في رابعة النهار ".

إن البحوث الاجتماعية تخالف هذين الرأيين معاً. فالرأي الأول تافه لا يعتد به.

فليس من السهل على شخص واحد، مهما كان عبقرياً في دهائه وحيلته، أن يعبث بالإسلام ذلك العبث الهائل، دون أن يصده صاد أو يعاقبه أحد.

أما الرأي الثاني فهو سخيف لا تقره وقائع التاريخ فلو كان عمر يكره علياً كرها شديداً لما تزوج من ابنته ولما ولّى أصحابه في الولايات المهمة.

لا ننكر أنه قد حدث شيء من الخصومة والمنابذة بين علي وعمر بعد وفاة النبي مباشرة، لاسيما في حياة السيدة فاطمة.

وقد أشار إلى ذلك كثير من المؤرخين. ولكن ذلك كان أمراً مؤقتاً انتهى بموت فاطمة كما هو معروف.

حيث يقول بعض الغلاة: إن علياً كان يداري بعمر من باب التقية وأنه رضي بتزويج ابنته منه بعد أن هدده عمر تهديداً شديداً.

وذهب بعضهم إلى القول بأن عمر لم يتزوج ابنة علي بالذات، إنما تزوج امرأة من الجن على صورتها بينما كانت ابنة علي لا تزال في بيت أبيها عذراء.

إن هذه الأقاويل يمكن أن يتحدث العوام بها في المقاهي، ولكنها غير جديرة أن تطرح على بساط البحث العلمي.

الواقع أن علياً وعمر وأبا بكر كانوا من حزب واحد، وهو حزب الثورة المحمدية.

ولهذا وجدناهم يناوئون قريشاً ويفضلون عليها سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي.

أما ما حدث بينهم من خصومة طفيفة في يوم من الأيام فلا يستوجب أن يكون شعاراً لنزاع اجتماعي عام يقتل الناس فيه ويتلاعنون.

من الحقائق التي يجب أن يفهمها هؤلاء المغفلون: أن عمر وعلياً كانا من حزب واحد واتجاه متقارب.

ولا يستطيع أي مؤرخ أن ينكر أن أصحاب علي أيدوا عمر في خلافته كما أن أصحاب عمر أيدوا علي في خلافته.

فالصحابة الذين اشتهروا بالتشيع لعلي كانوا في عهد عمر عمالاً وقُواداً يأتمرون بأمر الخليفة ويخدمون الإسلام بالتعاون معه.

نخص بالذكر منهم: عمار بن ياسر وسلمان الفارسي والبراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وحجر بن عدى وهاشم المرقال ومالك الأشتر والأحنف بن قيس وعدى بن حاتم الطائي.

وعندما سافر عمر إلى الشام ولّى علياً مكانه في المدينة.

ونجد من الناحية الأخرى أن الذين بايعوا عمر وآزروه في خلافته هم أنفسهم الذين بايعوا علياً بعد ذلك وقاتلوا تحت رايته.

بايع علياً أكثر المهاجرين والأنصار. وهذا أمر لا مجال للشك فيه. وقد صرح علي غير مرة أنه بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر من قبل. فلم يرد عليه أو يكذب دعواه أحد.

يقول الألوسي: إن ثمانمائة من أصحاب بيعة الرضوان كانوا يقاتلون معاوية تحت راية علي في صفين. وقد قتل منهم ثلاثمائة.

وأصحاب بيعة الرضوان هؤلاء هم نخبة الصحابة وقوام المهاجرين والأنصار.

وقد حدثت بيعة الرضوان في عام الحديبية حيث جدد المهاجرون والأنصار بيعتهم للنبي وعزموا على الموت.

وهم إذن يختلفون عن أولئك الناس الذين دخلوا الإسلام بعد الفتح وكان كثير منهم منافقين، حيث أسلموا رهبة أو رغبة.

إن هذه الوثائق التاريخية الصارخة يجب أن تكون موضع نظر لدى الشيعة وأهل السنة.

وعليهم أن يفهموها قبل أن ينشغلوا بجدلهم العقيم الذي لا طائل وراءه.

ماركسي وعلماني.. ونموذجه عمري !.

وجدت في حياة شقيقي هادي العلوي أكثر من عشرين خصلة مستلهمة من تراث عمر بن الخطاب، عثرت عليها فيما بعد أثناء دراستي له.

أوشك هادي أن يمزق ستائر منزلي في الشام، كما مزق عمر ستائر يزيد بن أبي سفيان يوم قدم إلى الشام.

ورفض هادي أن يركب معي في سيارتي، قائلاً: إن عمر بن الخطاب كان يحرم على نفسه ركوب البرذون، وهي نوع من الحمير والبغال العالية والمدربة والمفضلة عند الأغنياء، وقال: إنها تقابل المرسيدس في أيامنا هذه، ولو كان عمر حياً لما فضل غير السيارات الروسية، ولحرّم امتطاء السيارات الفارهة.

وجاءني مرة طالباً أن أشتري منه كيساً من الرز البسمتي الممتاز الذي اعتاد أن يبعثه صديقه من البحرين فيتقبله على ألا يدخل بيته ويفرض عليّ شراءه بثمنه ما يزيد على (300) كيلو من الرز التايلندي الشعبي، ليوزعه على عوائل عراقية في حي السيدة زينب على أن أقوم أنا بالتوزيع، وهو معي.

 وكان يقول للإسلاميين هناك: لماذا لا توزعون بطونكم وتتشبهون بعلي إن كنتم من مدرسة أهل البيت. ولا أقول عمر لبعده وبعدكم عنه؟. وكان يشير بذلك إلى رواية تقول: إن عمر بن الخطاب كان يذهب إلى القصاب الذي يدير (ملحمة) كبيرة تابعة للزبير بن العوام وهي الوحيدة في المدينة، فإذا رأى رجلاً اشترى لحماً يومين متتاليين ضربه بالدرة قائلاً:

ألا طويت بطنك لجارك وابن عمك؟.

وطلب إليّ مرةً أن استنسخ على الآلة الكاتبة نسخاً من تعاليم عمر وتعريفه بأصحاب الكروش كما يسميهم الماركسيون، وهم المبطانون بمصطلح العرب.

أيها الناس إياكم والبطنة عن الطعام فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مورثة للسقم وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أدنى من الصلاح.

ويذكر ابن الجوزي كما يقول الصلابي أن عمر رأى رجلاً عظيم البطن، فقال: ما هذا؟ قال: بركة من الله.

فقال عمر: بل عذاب من الله.

وكان الجواهري يستلهم عمر بصب العذاب على تلك الكروش في قصيدته.

(أطبق دجى):

  أطبق على هذي الكروش           يمُطِّها شـحمٌ مـذاب

وينتقد هادي العلوي موقف أغنياء التشيع ومؤسساتهم الدينية إزاء العراقيين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، فانتزعت أموالهم ونهبت محلاتهم التجارية، وشرّد الآخرون لأسباب سياسية فتشاركوا العيش في غرف مظلمة في حي السيدة زينب بالشام. وكأنهم دخلوا في سنواتهم إلى عام الرمادة المستمر سوى أنهم رعية بلا راع، وفقراء بلا عمر، وشيعة بلا علي. وكأنه يشـير إلى موائـد عمـر في عام الرمادة، التي اتسعت لعشرة آلاف، فضلاً عن (50) ألفاً يرسل إليهم الطعام في المدينة، فيما عشرات الآلاف من العراقيين لم يجدوا في رمضان مايكسرون به الصوم في ساعة الإفطار. وموائد ممثلي بعض المرجعيات الدينية، لا ترقى إليها سوى موائد الأمويين في عزّ خلافتهم.  

وهادي العلوي يطبق على نفسه معتقداته الفكرية، فإذا دوّن نصاً في الزهد سارع إلى الأخذ به في حياته البسيطة، وكان يقرّ بنظرية القدوة. والنموذج المشع والمؤثر في المجتمع. ويعطي لعمر بن الخطاب نصيباً أوفر للنموذج الجاذب وفي أبحاثه النظرية تلتحم السير المحمدية مع بعضها في ثلاثية أبي بكر وعمر وعلي.

يقول في كتابه "خلاصات في السياسة والفكر السياسي في الإسلام":

فهناك نصوص تتحدث عن تفاعل أحادي بين الدولة والمجتمع يترتب عليه تغير متناسب في أخلاقية الشعب باتجاه السياسة الرسمية السائدة. ويحدث التغير من خلال تأثير ميكانيكي يعتمد على فكرة النموذج والقدوة.

وعن ابن الأثير يقول هادي العلوي:

كان الوليد بن عبد الملك صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، فكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء. وكان سليمان صاحب طعام ونكاح فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام. وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن الخبر: وماوردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر..؟

يريد ابن الأثير من هذه الحكاية، التي لا تخلو من مبالغة، تأكيد تبعية سلوك الناس للخليفة، بوصفه قدوة لهم. والتبعية هنا مباشرة وبسيطة تتمثل في ملاحظة سلوك الخليفة والاقتداء به عن وعي وقصد. وترجع فكرة القدوة إلى وقت مبكر، وقد نص القرآن على ضرورة الاقتداء بالنبي(ص) كأسوة حسنة للمؤمنين، تبصرهم بأبعاد السلوك المثالي. وهناك تصور مقارب يرد في روايات من عهد عمر.

ففي الطبري: لما جيء بسيف كسرى ومنطقته وزِبرِجه إلى عمر قال: إن قوماً أدوا هذا لذوو أمانة." فعقب علي بن أبي طالب: " إنك عففت فعفت الرعية".

 ويتردد رأي في نفس المعنى يقول ابن سعد وابن الجوزي: إن عمر كتب به في جملة وصاياه إلى عماله. وإحدى صيغه تقول:" إن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا " وتصدر هذه الملاحظات عن فكرة القدوة، فرجل الحكم إذا كان نزيهاً لزم الناس – ومنهم المسؤولون الثانويون- جانب العفة. وإذا كان سارقاً فلنا أن نتوقع أن يكون الناس سراقاً مثله (هل يحتاج العربي المعاصر إلى دليل نظري على صحة هذه القاعدة؟).

وهنا ترتد سياسة السلطة على المجتمع، فتكسبه صبغتها الخاصة بها. بهذا المعنى ترد عبارة ينسبها ابن شعبة إلى علي بن أبي طالب تقول:" الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم..".

الخليلي والشرقي والجواهري :

إن حركة التنوير في سلالات التشيع العراقي المعاصر لم تتوقف عند الدكتور علي الوردي الذي ظهرت كتاباته في وقت متقارب مع الإعلان الشيعي الأول الفريد الصادر عن المرجع الكبير محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) في مطلع الخمسينات، حول مبايعة الإمام علي الشيخين والعمل المشترك معهما.

ولو أتيح لباحث أن يتخصص بهذا الحقل لاتسعت أمامه فرص الكتابة لتشمل باحثين وشعراء كجعفر الخليلي والشيخ علي الشرقي والمؤرخ هاشم معروف الحسني، والشيخ عبد الله النعمة ومحسن الأمين العاملي في لبنان.

إن جعفر الخليلي مثلاً وضع موسوعة العتبات المقدسة، وصارت مرجعاً للدراسات الدينية والأكاديمية، لكنه لم يوفق في تعميم نموذجه المستقل في الأوساط الدينية التي كان قريباً منها.

أما الشيخ علي الشرقي، وهو فقيه وكان أستاذاً للجواهري، وابن عمته فلم يقترب من النزاعات الطائفية، وبقي بعيداًَ عن منهج نقد الصحابة، وكان يرى من الأفضل للأجيال القادمة، وللمجتمع الإسلامي المعاصر أن ينأى عن دوران الحديث حول الخلافات التي حصلت في العصور الإسلامية واجترار روايات النزاع قائلاً:

وخل واقعة الجمل
والنحل تعمل للعسل
أرأيت مزرعـــة البصـل ؟

 

دع عنك مروان الحمار
للسع نعمل دائماً
بلـــدي رؤوس كــــله

أما الجواهري، أهم شاعر في تاريخ العرب المعاصر، وهو نجفي من سلالة فقهاء، فقد نأى بنفسه عن تداول لغة النزاع، وتأخذ الحوزات العلمية عليه أنه لم يلتفت مرة خلال ثمانين عاماً من تجربته الشعرية إلى القبب الذهبية حوله فيشير إليها بقصيدة أو بيت أو شطر.

وفي استقرائي الخاص، أنه كان يفضل أي مدينة في العالم على مدينته ومسقط رأسه النجف، مما حداني إلى إثارة هذا الجانب في جلسة تلفزيونية نقلت من بغداد عام 1969، واشترك فيها علامة النحو الكوفي الدكتور مهدي المخزومي، والشاعران شاذل طاقة وشفيق الكمالي، وكاتب السطور بالإضافة إلى مدير الجلسة، إذ قلت:

إن الجواهري نجفي عاق، وعقوقه هي التي أنجبت شاعراً من هذا الطراز. وبشكل عام، فقد تحرر الكتاب القوميون واليساريون الشيعة من عقدة عمر في ميراثهم الطويل، كما تجاوزتها دوائر الصراع، ونأى عنها في وقت مبكر، الزعيم السياسي ورئيس المجمع اللغوي العراقي الشيخ محمد رضا الشبيبي وشقيقه الشاعر محمد باقر الشبيبي والدكتور عبد الرزاق محي الدين، وهم في دائرة التشيع الديني لكنهم لم يقتربوا من تدوين ذلك في كتاب أو مقالة.

 

 

من تجارب المشاركة العلوية العمرية

بعد أن انتهى الإمام الخميني من تأسيس جمهوريته العلوية،

وجدنا التجربة العمرية شاخصة.



 

جمهورية الخميني العلوية والتجربة العمرية

في تاريخ الفقه الشيعي الحديث ينفرد المفكر الفقيه الإيراني شيخ الإسلام محمد حسين النائيني ـ نزيل النجف في العراق ـ برأي خطير، وهو يدلل على مشروعية تولي غير المجتهدين للسلطة الإسلامية، فيقرر، كما يقول المفكر السعودي الشيعي توفيق السيف(*)، ترجيح رأي الولي النوعي، في مجال عمله ومشروعية عمله تبعاً لترجيحاته اذا كان مأذونا في الولاية.

إن الولي النوعي المقصود هنا هو صاحب الكفاءة، الذي يتولى عملا من أعمال الدولة، فيكون صاحب اختصاص فيه. وهذا مشابه لما ذهب إليه قليل من الفقهاء الذين اشترطوا الخبرة النوعية في صاحب الولاية مثل كاشف الغطاء والخميني.

وفي هذا الرأي اعتراف ضمني، وإن لم يُصرح به بصواب نظرية عمر بن الخطاب في اعتماد (غير المجتهدين) ولاة وأمراء ممن يطلق عليهم الشيخ النائيني في رسالته المثيرة: (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الولي النوعي. ويفهم الدكتور توفيق السيف أن الخبرة النوعية في أمر الولاية مقدمة على الاجتهاد في الفقه بالمعنى المتداول مع الاحتياط ونيل الأذن من الفقيه الأعلى.

 أصدر عمر بن الخطاب بعد الإطاحة بالسلالة الكسروية، أمراً أبلغه سعد بن أبي وقاص يستصفي ماكان لآل كسرى، ومن لجّ معهم  من الدهاقين والقادة، من أموال، ووجد عمر كما يقول محمود شلبي في كتابه حياة عمر، طبقتين في بلاد فارس، عالية شامخة ظالمة تمتلك كثيراً. وأغلبية مستضعفة لا تمتلك شيئا، فصادر أملاك آل كسرى وأملاك الكبراء والأمراء والدهاقين، فأصبحت تلك الأملاك ملكاً للدولة، لا يجوز التعامل فيه، ولا بيعه، ولاشراؤه، حبساً على منفعة الناس، وكانت تلك من قرارات التأميم المبكرة في تاريخ البشرية، كما اعتبر الأراضي الزراعية المؤممة ملكاً خاصاً للدولة يعمل فيها الفلاحون القدماء أنفسهم، وجعل المنافع العامة من مجاري المياه وسلك البريد ملكاً عاماً أيضاً.

وأقول كشاهد ومراقب لتاريخ الثورة الإسلامية في إيران، إن الخميني طبق هذه الإجراءات عند إطاحته بنظام كسرى بحذافيرها، فصادر ممتلكات الأسرة الكسروية ووزع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين، وجعلها أملاكاً للدولة، رغم أن صعوبات واجهته من داخل المؤسسة في المضي بمشروع الثورة الزراعية.

ليس تشابه التجربتين والمرحلتين، وكلتاهما أدت لتحويل بلاد فارس من نظام كسروي إلى نظام إسلامي، مقتصراً على السلوك الخاص والسمات الشخصية كالورع والزهد والتواضع وإنما في تشابه الإجراءات كما أسلفنا.

ونضيف أن الخميني لم يوصِ بدور لابنه في خلافته، وإنما ترك الأمر لمجلس الخبراء، الذي يشبه مجلس الشورى عند عمر، وكما أُبعد عبد الله بن عمر عن دور أساسي في اختيار الخلف، أبعد أحمد الخميني عن دور له حسب وصية والده.

وتوفي عمر، ولم يترك إرثاً لأحد من ابناءه، وهو الذي كانت عليه عائلة الخميني بعد رحيله.

وعلى ما كانت عليه مهابة عمر وعلو مكانته مؤسساً لأول دولة عربية بالخارطة الحالية للوطن العربي، وعلى ما فيه من شجاعة ونفوذ، فقد سمحت بعض قوى العراق ومحلات بغدادية بجعله شخصية كاريكاتورية، ومادة للكوميديا الجاهلية، تغري الصبيان والسوقة بتسخيفه والضحك عليه، سُمح أيضاً، وفي البلد نفسه، لأن يتحول الخميني بتقواه ومهابته وشجاعته وزهده وعزمه، إلى مادة للكوميديا، في مسرحيات يشترك فيها سقطة القوم بسفسان الكلام.

ولو كان الخميني في دوره هذا فقيهاً عربياً سنياً، وثورته في بلد عربي سني، لنعمت الأمة بعصر جديد من العصور المحمدية العلوية، وقد أحال بينه وبين هذا الحلم أنه إيراني، والمنطقة عربية، وشيعي والمنطقة سنية، ولهذا كنت أكرر القول في نشاطي السياسي والإعلامي، إن حرب النيابة الأمريكية لتحجيم ثورة الخميني لم تكن ضرورية، فهذه الثورة محجمة بالعاملين إياهما، ومحددة الحركة بحدود إيران، وبالحجم السكاني للمسلمين الشيعة في المحيط السني الواسع.

وفي الختام سيكون الاعتراف أو السؤال: بأن الخميني، مادام من أتباع الإمام علي، فلم جعلتم مشترك إجراءاته شبيهاً لسنة عمر ونهجه، ولماذا قد أقحمنا عمر فيها.

فأقول: إن الجواب هو السؤال فحيثما كان الفقيه ملتزما بالسياسة الإسلامية، مقيداً بقيودها، فسيكون صعباً تصنيف اتجاهات الدولة إلى علوية وعمرية، لتوحدهما بتوحد المصدر.

وسيكون في الوقت ذاته، سهلاً على المصنفين أن ينسبوا المنهج السياسي وأسلوب الحكم إلى أي منهما، فيكون محسوباً على الإمام علي أم على عمر بن الخطاب.

وسيكون من باب التوفيق، والإصابة لمنهج الكتاب، وعنوانه، ومضمونه أن العلوي الخالص لوجه الله والمحمدي المتصل بعقيدته هو العمري الخالص لوجه الله المتصل بعقيدته.

وفي سوى ذلك، فالمسلمون على نهج التنقيص، سواء كان المستهدف علياً أم عمر.

إن التركيز على هذا الفصل هو خلاصة هذا المنهج، الذي يأبى المتنقصون من الطرفين أن يطلوا عليه بروح محمدية وبروح الحياد المنهجي. 

ولو كان حكام العراق على هذا الفهم، أو لو كانوا عمريين، لحافظوا على إبقاء الخميني في ظاهر الكوفة، يقود المسلمين من العراق كما فعل عمر من قبل، لا أن يطرد إلى بلد غير عربي، وغير مسلم، فتفقد الكوفة دوراً مفصلياً لها، كان يمكن أن يتصل بدورها الأول، وباعتبارها قاهرة الدولة الساسانية.

لم أكن أجهل هذا ونحن في الأيام الأخيرة من صلتنا المشتركة مع صدام حسين، وكان نائباً فسألته هذا السؤال، وكنا على الحدود الإيرانية، لماذا لم ندعم الثورة الإيرانية، وهي تطارد مؤسسات الموساد والمنظمات الماسونية والدعاة الإسرائيليين هناك. فقال بالنص الحرفي: (إن ربعك غشوني) فمن هم ربعي؟.

ربما قصد بهم علماء الحوزة المتواطئين مع السلطة، والذين كانوا يهزؤون من الخميني ونفوذه، أو من المنظمة الحزبية في النجف التي كتبت لصدام حسين شيئاً من هذا القبيل. فلم يتصور أن للخميني هذه القدرة.

وتقضي الصدف، بلغة علمانية، وإرادة الله، بلغة دينية أن تكون مدة ولاية عمر على رأس الدولة تمتد إلى 128 شهراً. وولاية الخميني تمتد إلى 136 شهراً. فيقترب الزمان بالمكان وتتقارب التجارب، ولم يترك سوى شهور قليلة هي بقدر الخلاف في الاجتهاد بين تجربتين عاشتهما إيران في صراعها ضد السلالات الكسروية.

على خطى عمر:

فكما رفض عمر أن تفرش على عباءته في المسجد النبوي تيجان كسرى وصولجانه وخزائن الماس والذهب، رفض الخميني أن يقترب من رؤية هذا العرش المرصع بالماس. وكما فضل عمر بن الخطاب صحن الخزف على الأواني المصنوعة من الذهب والمرصعة باللؤلؤ، فتركها ووزع ثمنها للمستحقين، أو أعادها إلى بيت المال، وجلس على حصيرته في المسجد النبوي، يقضم كسرة الخبز اليابس ويرطِّبُها بقليل من اللبن في صحن الطين، جلس الخميني على حصيره في مصلى جمران ووجبته وجبة عمر، وهي وجبة النبي (ص) يشارك ابنته وزوجها.

أجل إن عاطفتنا تتسع، فتقفز من الذاكرة الملتهبة إلى شبكة العين صورة رسمها الشاعر محمد مهدي الجواهري لأبي العلاء المعري، فخرجت منه، ومن المعري إلى من كانوا ظاهرة في التاريخ البشري، أنبياء بحجم محمد (ص)، وأئمة بحجم علي، وخلفاء بحجم عمر، وفقهاء من طراز الخميني:

على الحصير وكـوز الماء يرفده     وذهنـه ورفوف تحمـل الكتبا

أقام بالضجـة الدنيا وأقعـدها       شيخ أطل عليها مشفقاً حـدبا

بكى لأوجاع ماضيها وحاضرها     وشامَ مسـتقبلاً منها ومرتقبـا

حِّنا على كل مغصوب فضمده      وشجَّ من كان أياً كان مغتصبـا

وإذا تجرأنا على نقل ما تحدث وتتحدث به كتب ودراسات لمفكرين إسلاميين من غير المدرسة السلفية، وأخرى علمانية من ضمنها المدرسة المصرية المحايدة، فسنكون في مواجهة فقهية صعبة، وعناوين تتحدث عن اجتهاد عمر بن الخطاب في أكثر من موضع، وهي تسير باتجاهين متعاكسين.

إن طه حسين وعلي الوردي وهادي العلوي مثلاً يشيرون إلى تلك المواضع كأدلة على قدرة عمر على الاجتهاد وقوته على محاورة النص، وفهمه الضرورة بطريقته الخاصة بينما تسعى كتب المذاهب والفرق للتشهير بعمر وطعنه بالخروج على النصوص التي لا اجتهاد فيها.

وشمل اجتهاد عمر منع عطاء المؤلفة قلوبهم. وإمضاء طلاق الثلاث بكلمة واحدة، ونهى عن رواية الحديث، وكان يأبى كتابة السنن ويدرأ الحد بسبب الاضطرار، ويأبى قسمة الأرض في بلاد فارس بين المسلمين الذين فتحوها. وله اجتهاد خاص عزله عن غيره من البلاد.

إن المدرسة المصرية أقرب إلى المعقول والرضا في تفسير اجتهادات عمر، من المدرسة السعودية التي تقلل ماوسعها ذلك من أمر الاجتهاد، وتحصره بما يجعل عمر تابعاً مثل غيره خشية من أن يوصم بالابتداع أو البدعة.

أما المدرسة الصفوية فهي تتلقف اجتهادات عمر، لا للفخر به، كما يفعل المصريون، وإنما للتشهير والتجريح والتدليل على عدم التزامه بنصوص القرآن.

وبالمصطلح المعاصر يصبح عمر بن الخطاب تحريفياً عند هذا الفريق!.

وكان فقهاء التشيع في إيران والعراق قد طعنوا الخميني بالتحريف، ولأن الخلاف في الحوزات الدينية يتخذ طابعاً تشهيرياً، تطرف بعضهم، فصار يطالب بتطهير الكأس التي يشرب ابنه مصطفى، إشارة إلى ارتداده عن الدين فتحاشوا حضور دروسه ومجالسه إلا القليل منهم.

وفي السياق نفسه، واجه الخميني بعد الثورة الإسلامية في إيران، خصومات فقهية لدى أغلبية الفقهاء المحافظين الذين ينكرون عليه إقامة الدولة الإمامية بغياب (الإمام المعصوم)، وهم من يصطلح عليهم بـ (الحجتية)، فضلاً عن عامة فقهاء التشيع الذين لا يأخذون بالولاية المطلقة للفقيه، ويحصرونها بالاحوال الشخصية دون التوسع بها.

إن ولاية الفقيه حسب المنظور الخميني، والتي يتطير من ذكرها الفقهاء شيعة وسنّة، هي الاسم الشيعي الذي استخدمه الخميني بما يعادل مفهوم الخلافة السنية.

فكما الخليفة خليفة رسول الله (ص) بعد رحيله، فولاية الفقيه هي خلافة الإمام الغائب والنيابة عنه. وصلاحيات الولي الفقيه والخليفة واحدة، وهي في الحالتين ليست طرازاً من الدكتاتورية والاستبداد الفردي بأمور المجتمع، وإنما مركز سياسي وفقهي وديني، له حق إرسال الجند إلى الثغور وحمايتها، وجباية أموال الخراج، والصدقة، وما إلى ذلك من الأمور الحسبية.

ومع تمتع الصحابة بحق الاجتهاد، يبقى الرأي الأخير لما يقره الخليفة، وهكذا الأمر في ولاية الفقيه.

وعرف اهتمام عمر بشؤون الرعية، وكان عام المجاعة امتحاناً ربانياً وانسانياً لرؤية عمر على الطبيعة، فجاع مع جوع المدينة، واستحال وهو الخليفة شخصاً من فقرائها لا يأكل ما لا يقدر عليه جياع البدو النازحين ممن ضربهم القحط والجفاف، فشحب لونه، ومال وجهه إلى الجفاف، وبدا عليه ما يبدو على الجياع في مشاهد التاريخ والحاضر فسمي (ابو العيال).

 ولا عجب، فهؤلاء هم دفاعه الشعبي ومركز قوته بعد الله.

وعلى هذه الصورة كانت حياة الخميني، وإن لم يمر في إيران عام الرمادة وكان يقول:

إن الحفاة هم أولياء نعمتنا، ولو عملنا لهم العمر بعد العمر فلن نرد لهم الجميل.

إن الحفاة الجياع هم القادرون على منع الطغاة من اعتقالنا وسجننا. ومن يعتمد عليهم بعد الله، فلا يفكر بأنه سيهلك تحت وطأة الطغاة.

وفي خطبته الأولى كرر عمر بن الخطاب مبدأ القوة والتواضع، وفقر الحاكم في ثراء الدولة، وأقسم أن يأخذ الحق من القوي إلى الضعيف.

يقول طه حسين في الفتنة الكبرى:

"إن سنة عمر جرت على أن يسمع من الرعية كل ما يعيبون على ولاتهم، بمشهد من هؤلاء الولاة والعمال، أو من يغيب منهم، وكان يحقق كل ما يرفع إليه من ذلك، تحرياً للعدل وإبراء لذمته أمام الله والناس".

وهذا أسلوب يأخذ به أهل الديمقراطيات الغربية تحت قبة البرلمان، أو في صحف تنبه وتترك التحقيق لمؤسسات القانون، وكان عمر يترك الولاة يعملون فيراقبهم بعيونه وبمؤسسة البريد.

أما الخميني، فيقول المفكر والمرجع الإسلامي محمد حسين فضل الله في كتاب ثورة الفقيه ودولته الذي ساهم كاتب السطور بتدوين فصل مع كتاب آخرين: إنه أي الخميني كان يترك للمسؤولين أن يعيشوا تجربتهم، وكان يراقبها، فإذا أخطأوا في موقف أو كلمة أو ما أشبه ذلك كان ينبههم.

ومن الإيجابيات الكبيرة التي تسجل له  أنه كان ينبههم إلى ذلك من خلال الشعب أو في الهواء الطلق، ولم يكن ينبههم في السر، حتى يتعلم الشعب أن لا يعيش المجاملات وأجواء ماوراء الكواليس، بل كان يؤمن بالوضوح. فلما كان واضحاً مع الناس. كان يريد للمسؤولين أن يكونوا واضحين معه. وكان يريد أن يكون واضحاً مع الشعب في تنبيه المسؤولين على أخطائهم.

وفي سياسة التعيينات ينهج الخميني أسلوباً مرّ بمرحلتين فقد أختار في أول الأمر التكنوقراط والليبراليين وأهل الإدارة، وإن لم يكونوا من قدامى الإسلاميين، فاختار الليبرالي مهدي بازركان لرئاسة الوزراء، وبني صدر لرئاسة الجمهورية، وإبراهيم يزدي للخارجية، ففشلت التجربة، فعاد إلى الأدوات الإسلامية من رجال الثورة ليكونوا على رأس قيادات الدولة ومراتبها المتقدمة.

ولعل شجاعته، كما يقول السيد فضل الله، أنه كان يتراجع عما يتبين فشله من خلال التجربة.

لعل السيد محمد حسين فضل الله يشير إلى مبدأ في سياسة الإمام علي يقدم على عدم حجب الأسرار عن الرعية، وكان الإمام علي يفتح لجيشه وأصحابه قلبه، فلا يخفي عليهم شيئاً مما يفكر القيام به، مادام يواجه المتصدين، وهو ما كان عليه عمر بن الخطاب الذي أثار مناقشة القضايا حتى الاستراتيجية منها في جلسات مفتوحة على أرض المسجد النبوي في المدينة.

أقول: لو وضعت هذه الفقرة ونسبت إلى عمر بن الخطاب، أما كانت سليمة، سوى أن تراتب المرحلتين مختلف، فقد بدأ عمر بن الخطاب بإسناد الولايات والإمارات لأصحاب القدم في الإسلام، فعين عمار بن ياسر على الكوفة وسلمان الفارسي على المدائن، ثم اكتشف بالتجربة أنهم لم يكونوا حازمين وحاسمين في ضبط مجتمع يخرج إلى الحياة الجديدة من بين قسوة القحط وعنفوان القبيلة، فاستبدلهم بالتكنوقراط ممن يمتلكون مهارة قريش وتجربتها في الزعامة والإدارة والقيادة. كالمغيرة بن شعبة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، فابتلي عمر على عمره. لتعيينه المتأخرين في الإسلام، مثلما ابتلي الخميني في المدرسة الليبرالية، أنه استبدل أهل الدراية والتجربة بأهل التقوى ودعاة الثورية.

انتقدت مصادر مختلفة أن يزج عمر بجيشه إلى الثغور في ظروف صعبة، مما أوقع في جيشه خسائر بشرية شملت قادة كباراً كالنعمان بن مقرن والمثنى بن حارثة. ومصادر كثيرة انتقدت الخميني، أنه زج بأتباعه لمواجهة غير متكافئة مع قوى الجيش، فمشت الدبابات على أجسادهم.

أما عمر فقد تعهد في وقت مبكر من استلامه المسؤولية للناس أن لا يلقيهم في المهالك ولا يجمرهم في الثغور، لكنها الحرب، فالذين يقتلون هم ليسوا ضحايا سياسيين حصدتهم أجهزة عمر وسلطته. وفي حالة الثورة الخمينية كانت تعاليم الخميني تركز على المواجهة المباشرة بين الشعب الإيراني، وسلطته الكسروية بدلا من طرق ثورية أخرى تستخدم الاغتيال السياسي وتفجير المؤسسات وتفخيخ السيارات.

 

النطفة التي قتلت عمر

من وراءها ؟... سادة قريش أم عبيدها،

أم ارتداد المدن المفتوحة؟.



 

الإمام علي يحذر من اغتيال عمر

هل استشرف الإمام علي مصير صاحبه الذي ستقتله بلاد فارس، فحذره قبيل معركة نهاوند عام 21 للهجرة، من التوجه إلى أرض الميدان وقيادة جيش الفتح، وتحصين المدن المفتوحة لمواجهة حركة انتقاض فيها أوشكت أن تهدد مركز الكوفة؟

لقد أصغى عمر بن الخطاب لرأي الإمام، وأخذ به، وأنت أمير العرب وأصل العرب فإذا اقتربت منهم اشتد كَلَبُهم عليك.. وانفرط العقد والنظام! وكأن مسامع الهرمزان الذي كان حاضراً في المسجد النبوي قد اتسعت مرتين لالتقاط الإنذار، ولعله فكر بطريقة أيسر، فإذا لم يذهب “المطلوب” سنذهب إليه، ولماذا نذهب؟ ونحن على بعد ذراعين منه غير محروس، وغير مسلح... وخفق الخنجر المسموم ـ غير خفق الدرة!.

أما عمر فلأنه تخصص باستبطان العرب وقادتهم، فلم يكن يولي أي حَذَر سيأتيه من سبي فارسي أنقذ رأسه من التدحرج تحت قدميه، ولا سيخيفه مولى من عبيد قريش، والحذر المفترض سيتجه إلى سادة قريش، وليس إلى عبيدها!! وقد طغى على سريرته حسن الظن بمن أحسن بهم الظن، فيصرع فاتح العراق، والمدائن، وميديا وخرا سان وبيت المقدس، وبرقة... بخنجر، لم يستطل هامته المديدة، ولا استطال قريباَ من القلب، فأصاب إصابة في النصف الأسفل، وهي الحدود السفلى لمبغى الاغتيال.

النطفة القاتلة

لا نظن باحثاً سيضيف إلى  دراما مقتل عمر المحكمة الحلقات بعد أن أغلق عثمان بن عفان ملف الاغتيال بمهارة مشهودة، وأفرج عن عبيد الله بتسديد دية الهرمزان، الذي لم يكن له ولي أمر فصار الخليفة الجديد ولي أمره.

وقاتل عمر بالإجماع التاريخي هو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة، وأداة القتل خنجر مسموم له نصلان ومقبض من الوسط. وسبب القتل المعلن عدم انتصار عمر له في شكواه من ثقل الضريبة التي يتقاضاها منه المغيرة بن شعبة، والسبب المجمع عليه أن أبا لؤلؤة ثأر لبني قومه الفرس الذين غلبهم عمر وأخذت جيوشه نساءهم أسرى.

تبدو حادثة اغتيال عمر شبيهة باغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1963، إذ قتل القاتل ولم يعرف خيوط الجريمة بعد نصف قرن وما زال من وراء القاتل مجهولاً.

وفي مقتل عمر لم يجر تحقيق مع شهادة الشاهد عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى الهرمزان مع جفينة، مولى لسعد بن أبي وقاص، جاء به من العراق وكان نصرانياً مع أبي لؤلؤة ورأى الشاهد خنجراً يسقط على الأرض هو ذاته الذي استخدم في قتل عمر. مما يعده عباس محمود العقاد سيناريو مؤامرة مخطط لها. فثار عبيد الله بن عمر عند سماعه كلام عبد الرحمن بن أبي بكر فقتل الهرمزان وجفينة وبنتاً صغيرة لأبي لؤلؤة.

ووجه الشبه بين اغتيال عمر واغتيال كنيدي ورود رواية في أكثر من مصدر تشير إلى شخص يدعى ذو البرنس العراقي وقد خرج من مكان ما ليضع البرنس فوق أبي لؤلؤة، وكأنه يصطاده كما تصاد السمكة بالشباك، وانتهى الأمر بالقول إن أبا لؤلؤة قتل نفسه لأنه أحس بأنه سيقتل.

يمكن الشك بأن ذا البرنس هو الذي قتل أبا لؤلؤة، أما من يكون هذا فليس لنا من الأدلة ما يساعدنا على كشف هويته، وهناك احتمالان كلاهما يرتبط بمخطط الاغتيال.

إما أن يكون من قريش أو أن يكون مكلفاً من قبل ذات المجموعة الفارسية التي خططت لاغتيال عمر بقتل القاتل.

وفي نظرنا أن حادثة الاغتيال تمتد إلى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ العقاد والقائلون بنظريته.

وأغلب الظن عندنا أن اغتيال عمر يرتبط بحركة فارسية مضادة بدأت عام 21 للهجرة، بانتفاضات في نهاوند واصطخر ومناطق أخرى نجح فيها الفرس من إخراج الإدارة العربية، فاضطر عمر بن الخطاب إلى إعادة فتحها، وبقيت مناطق قلقة، ولم يمض على الوجود العربي سوى ثلاثة أعوام في بعض المناطق، وعام في مدن أخرى، وهي مدة غير كافية لتثبيت الاستقرار وقد تركت مدن كثيرة على مجوسيتها مقابل دفع الجزية.

وكان اغتيال عمر، سينعش الحركات المضادة هناك والبدء بانتفاضات لإعادة النظام الكسروي لا سيما وأن أحد أهم أمرائهم وهو الهرمزان موجود قريباً من عمر وهو عقل استراتيجي ومخطط، ولعله هو صاحب فكرة اغتيال عمر بن الخطاب، ولم تكن شهادة عبد الرحمن بن أبي بكر عابرة.

هـل شاركت قريش بقتله؟

يقول بعض الباحثين بمسؤولية قريش المحتملة باغتيال عمر، وقد أثقل عليها وأرهقها وأخذها من حلاقيمها، وما كان غيره قادراً على تطبيع قريش وترويضها.

وهي وجهة نظر فيها كثير مما يغري القارئ الأخذ بها، ومن أهم من أشار إلى مسؤولية قريش الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) وهادي العلوي في كتابه (الاغتيال في الإسلام).

 يقول الوردي:

إن عمر انتهج سياسة خاصة للعطاء حسب منزلة الرجل في الدين وسابقته في الإسلام وجهاده في سبيله، فغضبت قريش لأنها أخر الناس إسلاماً وأقلهم سابقة فيه، وبقيت قريش تكره عمر وتكره خلافته حتى قتل, ويقال أنها هي التي حرضت على قتله.

يقول هادي العلوي متشككاً بدور لقريش في اغتيال عمر، إن خيوط مؤامرة خفية تتجمع في مجمل ما يروى في قصة اغتيال عمر قد تكون حيكت من خارج المجموعة الفارسية الصغيرة التي اتهمت بالتواطؤ مع القاتل.

ولعل عبيد الله بن عمر كان مطلعاًَ، أو على الأقل متحسساً بملابسات من هذا القبيل حين هدد بقتل آخرين قال إنهم اشتركوا في الجريمة، إذ صح ما نقله الطبري.

وقد حال الإسراع بالقبض عليه دون تنفيذ تهديداته، وبالتالي أدى إلى كتمان أسماء كان يمكن أن تظهر للعلن مع لمعان سيف الولد الموتور..

 ولكن لماذا لم يتفوه عبيد الله بذكر هذه الأسماء بعد أن قبض عليه.؟ هنا قد نجد أنفسنا أمام سر آخر يتعين علينا كي نستشفه أن نعرف من كان يقصدهم عبيد الله بالتهديد.

وهم في حالتنا هذه أحد ثلاثة: قريش أو أنصار علي بن أبي طالب، أو ورثة وأعوان سعد بن عبادة. وكان هؤلاء الثلاثة قد استقطبوا في جبهتين متخاصمتين ستخوضان حرباً أهلية بعد قليل، تضم الأولى قريشاً وتضم الثانية الفريقين الآخرين. وقريش هي التي استلمت الخلافة في شخص عثمان، وهي التي احتجزت عبيد الله وتحكمت فيه.

وبالتالي فلو أنه كان يقصد بتهديده الفريق الآخر، فقد كان من مصلحتها أن لا يسكت لكنه وقد سكت لا بد أن يكون المقصود بالتهديد رجال من قريش وبالطبع فإن قريش، الحاكمة، تملك القدرة على إسكاته.

وثمة عامل هام يفترض أنه أثر على موقف عبيد الله وهو مطالبة علي بن أبي طالب بإعدامه لقتله الهرمزان، وكان علي يصدر في هذه المطالبة عن موقف شرعي بحت.

وعلي معروف بعدم مرونته في هذا الجانب، وقد لج في مطالبة عثمان بعد استخلافه بإعدام عبيد الله إلى أن حسم عثمان القضية بتخريج قانوني قال فيه إنه، أي عثمان، ولي الهرمزان لأن الهرمزان لا ولي له (يقصد ليس له أقرباء يطالبون بدمه، وفي هذه الحالة يكون الخليفة هو الولي) وإنه بالتالي قد تنازل عن دمه وقرر العفو عن قاتله.

وهكذا وجد عبيد الله نفسه في حماية قريش والأمويين بالأخص فكان من الطبيعي أن ينحاز إليهم ويعتبر قضية والده منتهية إلى هذا الحد.

لا مجال مع ذلك لأي قدر من الجزم بنتيجة قاطعة. وإن كنت لألمح من الضجيج الذي أثاره القدماء والمتأخرون من رواة التاريخ حول هذه “الجريمة الفارسية” دوراً في التميع والتستر رأينا له منذ عشرين سنة مثالاً في تقرير لجنة وارن الأمريكية حول ملابسات اغتيال جون كنيدي رئيس الولايات المتحدة، الذي دخلت سياسته في تعارض الفئات الأكثر تطرفاً في قيادة الإمبريالية الأميركية.

ومعروف أن هذا التقرير لم يفعل رغم لغته القانونية المحكمة أكثر من إلقاء ضوء أسود على الأسماء التي وقفت وراء القاتل الفرد إوز والد.

وبقدر ما بقي الكشف عن قتلة كندي الأصليين شبه متعذر قد يكون بقي كذلك بالنسبة لقتلة الخليفة الثاني للمسلمين... على أننا لنملك حق البت في الحقيقة التالية، وهي أن مقتل عمر قد استجاب لمصالح اجتماعية إن لم تكن هي التي دبرت قتله، فإنها كانت المستفيد الأوحد من هذه العملية، وأنه ليبدو لنا الآن دون أن نجد حافزاً إضافياً لمواصلة الطخ على أبي لؤلؤة المجوسي، أن الفاتح العظيم قد ذهب ضحية ـ محتومة ـ لتلك المفارقة الكبرى (التي تكررت أيضاُ في خلافة علي بن أبي طالب، وانتهت إلى المصير المماثل الذي سنقصه بعد قليل) بين سياسة تقوم على الفتوحات ـ أي بناء إمبراطورية ـ وتسعى في الوقت نفسه لإقامة نظام داخلي في توزيع المنهوبات يقوم على التساوي بل ويسعى لمصادرة أموال الأغنياء (قادة الفتح ومؤسسي الإمبراطورية) وتوزيعها على الجنود...

إن من يفكر في المساواة، وفي أي إطار كانت، لا يستطيع أن يبني إمبراطورية، ولا شك أيضاً أن من يبني إمبراطورية لا يسعه أن يسلك سلوك عمر.

لقد خلق عمر بهذه السياسة المزدوجة تناقضاً لم يكن ممكناً حله إلا باستخلاف عثمان بن عفان ، وهو الخيار الوحيد الذي أمكن معه لتاريخ الإسلام أن يأخذ مساره اللاحق، ولم يكن خنجر أبو لؤلؤة غير الرافعة التي اختارتها المسيرة لإزاحة عقبة ناشزة في مجراها.

الشيعة وحادثة الاغتيال:

ينحدر علي الوردي وهادي العلوي من أسر شيعية رغم علمانيتهما، لكن الاستشهاد بهما لا يصلح اعتباره موقفاً شيعياً. إن الموقف الشيعي يخضع هو الآخر لانقسام المؤرخين بين القطيعة والمشاركة.

وطبيعي أن يكون دعاة المشاركين ميالين إلى الرواية المصادق عليها في التاريخ الإسلامي العام، والتي أخذ بها محمد حسين هيكل في كتابه (الفاروق) والعقاد في عبقرية عمر والوردي والعلوي.

وينزلق دعاة القطيعة بمرويات شاذة، لو أخذ بها لوضعت المصادر العربية للتاريخ في محرقة النفايات ولاهتزت الأسس العقلية والنفسية للقارئ العربي وعلاقته بتاريخه الإسلامي إذ يصل المروي عند العلامة محمد جميل حمود في كتابه (إفحام الفحول) إلى القول بأن مقتل عمر جاء بإرادة إلهية وبطعنة نافذة من أبي لؤلؤة رضي الله عنه بسبب تجاوزه على عرض الإمام علي والحيلولة الإلهية دون تحقيق زواج عمر من أم كلثوم.

وينحدر المتخيل إلى قيعان القطيعة فيقدم الشيخ المذكور رواية على لسانه بأن الإمام علي ربما كان هو الذي أمر بقتل عمر بن الخطاب.

وكأنه يريد أن يضع الإمام علياً في الطرف المساند لانتفاضات المدن المفتوحة، والحمد الله أني لم أقرأ في مكان آخر مثل هذه الشهادة التي ربما يكون الشيخ حمود قد استقاها من مصدر ليس بعيداً عن نطفة أبي لؤلؤة.

شهادة مؤرخ شيعي معتدل:

وسيكون الجريء والجديد معاً أن يتبنى مؤرخ شيعي معتدل ومحافظ هو السيد هاشم معروف الحسني النظرية القائلة بمسؤولية قريش في اغتيال عمر كما جاء في كتابه (سيرة الأئمة الاثنى عشر) مما يلزمه الاعتراف الضمني والرد الصريح على كتاب القطيعة ومنهم الأستاذ المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب، وقد جعلوا عمر بن الخطاب رئيساً للتحالف القرشي ضد أهل البيت وزعيم المواجهة ضد النبي وواضع الأسس الأولى لإقامة الدولة الأموية.

إن معنى اتهام قريش بقتل عمر أو المشاركة في اغتياله أن الخليفة كان على نهج آخر غير نهجها، فيسقط منهج التسويغ الفقهي لإدانة عمر، وكأنه اعتراف بمحمديته في مواجهة قريش، وعدالته وصدق المروي عنه في كتب التاريخ وضعف القائلين بالقطيعة، وكانت قريش التي قتلت الحسين بفرعها الأموي، هي ذاتها التي قتلت قبله عمر بن الخطاب، فكيف سيواجه المؤرخ الشيعي هذا الإشكال؟.

استخدم السيد الحسني أفعال الاحتمالات وأفعال الشكوك وأسند الاعتراف بفضائل عمر باستخدام الفعل المبني للمجهول مثل قيل عنه أو بإسنادها إلى الجانب السني واستخدام أفعال مثل تظاهر عمر بذلك.

لكن النتيجة كانت لصالح عمر الذي ظهر في هذه الشهادة التي سننقل نصها يتمشى على خط محمد (ص) وقريش ما فتئت تكيد له.

لا أشك أن قراءاً كثيرين سيضيقون ذرعاً بهذا النص، وقد لا يتقبلون صياغاته ومضامينه، والمفترض بهؤلاء القراء أن يتريثوا قليلاً مع نص لا يستطيع مؤرخ رسمي شيعي ملتزم أن يذهب إليه فكيف إلى أبعد منه؟

“إن المؤرخين القدامى والمحدثين يروون قصة وفاة عمر بن الخطاب ولا يقفون عند أسبابها وملابساتها، بينما يحاول بعض المتأخرين من الكتاب أن يضعوا حولها أكثر من علامة استفهام ولكن بتحفظ لعدم توفر الأدلة المادية على التآمر والتخطيط لاغتياله.

وعندما يعود الباحث إلى الأسباب التي أدت للحادث، لا يجد عند المؤرخين سبباً سوى ما يدعونه من أن الخليفة لم يتجاوب مع أبي لؤلؤة في تخفيض الضريبة بعد أن عرف منه أنه يتقن أكثر من صنعة، وهذا السبب بنظري بعيد للغاية، إذا كان للضريبة من تأثير على حياة العبد من الناحية الاقتصادية فمن اللازم أن يحقد على مولاه وينتقم لنفسه منه، لأن الضريبة تعود لصالح المغيرة مولاه ولا شأن للخليفة بها ولا هي تعود إلى بيت المال ليكون الأمر منها إلى الخليفة نفسه، لذلك فإني أرجح أن تكون أسباب الجريمة أبعد من ذلك، ومن غير المستبعد أن تكون داخلية ومن صنع أولئك الذين ضيق عليهم عمر بن الخطاب، ولم تتسع صدورهم لحزمه وصلابته ورقابته الدائمة لجميع تصرفاتهم، وكان يتظاهر في الشطر الأخير من حياته بالتقشف والعطف على الفقراء والصراحة في محاسبة ولاته، على ما كان يبدر منهم من التصرفات مما يتيح لمحبيه أن يطروه بالعدل ويضربوا الأمثال بعدله، وبلغ من السطوة والهيبة حتى دانت له رقاع واسعة من الأمصار، كان من في أقصاها يخاف درته، وهو في الحجاز، ولقد قال عمرو بن العاص يوماً: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر بن الخطاب، والله لقد رأيته وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تتجاوز ركبتيه وعلى عنقه حزمة حطب، ورأيت العاص بن وائل في مزرارة الديباج، كما كان المغيرة يحقد عليه أيضاً لأنه عزله عن البصرة بعد اتهامه بالزنا وشهود الثلاثة عليه، وقد درأ الحد عنه لأن الشاهد الرابع زياد بن عبيد لم يكن صريحاً في شهادته، وكان كلما رآه بعد ذلك يقول له: كلما رأيتك خفت أن يرجمني الله بحجارة من السماء.

على أن رواية عبد الرحمن بن أبي بكر تدل على اشتراك جفينة غلام سعد بن أبي وقاص في الجريمة، وسعد بن أبي وقاص لم يكن على صلة حسنة بابن الخطاب، هذا بالإضافة إلى نبوءة كعب الأحبار بالجريمة قبل وقوعها، وكعب هذا كان على صلة متينة بالمغيرة بن شعبة وجميع المنافقين الذين لا يهمهم إلا الهدم والتخريب.

وما كان لعبد مملوك في تلك الفترة من تاريخ المسلمين أن يقدم على جريمة من هذا النوع تهز الدولة التي دانت لها  رقاع واسعة من الأمصار، لمجرد أنه لم يتوسط له من مولاه بتخفيض الضريبة عنه، كما يدعي المؤرخون، ولم يكن ذلك إلا نتيجة لعمل مدروس ومتفق عليه بين هؤلاء الذين ثقل  عليهم وجود الخليفة، وكانوا يضمرون له العداء والكراهية وكان هو بدوره يفاجئهم بما يسيء إليهم.

إن أبا سفيان استطال حياة عمر بن الخطاب وخاف أن تتطور الأمور لغير صالحهم لا سيما بعد المصاهرة التي تمت بين علي (ع) وعمر بن الخطاب، وبعد التصريحات التي كان يعلنها ابن الخطاب في مجالسه، وفي محاوراته بحق علي بن أبي طالب كما ذكرنا بعضها، وقوله: حق لمثله أن يتيه والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو أقضي الأمة وذو سابقتها وشرفها، وقوله: إن وليها حملهم على كتاب الله وسنة رسوله وقوله لأمير المؤمنين: أما والله لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك، إلى غير ذلك من تصريحاته التي تركت عامة الناس يظنون أنها لن تعدوه، وبلا شك فإن الحزب الأموي كان من أبرز العاملين في هذا الاتجاه وذلك كله يؤكد بأن اغتيال عمر بن الخطاب كان نتيجة مؤامرة مدروسة” .

وعن موقف الإمام علي من خلافة عثمان يقول السيد الحسني، بما لا يرتاح إليه دعاة القطيعة:

“ لقد وقف علي (ع) بين تلك الجماهير التي احتشدت في ذلك اليوم يخاطبهم بالمنطق السليم، الذي اعتاد أن يخاطب به الناس، ليكشف لهم الخط الذي سيمضي عليه في هذا العهد الجديد، فقال: أيها الناس لقد علمتم أني أحق الناس بهذا الأمر من غيري، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون، فو الله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة.

وهكذا سالم أمير المؤمنين (ع) وبايع لعثمان كما بايعه الناس ومضى في السبيل الذي اختاره لنفسه يعمل ما وسعه العمل في سبيل الصالح العام، لا يبخل عليهم بآرائه، ولا بكل إمكانياته إذا أرادوها في سبيل الإسلام وانتشاره كما سالم وساير من كان قبله”.


 

المشهد الأخير:

علي وعمر في حقائب الصراع

يخرج سؤال من محبس اللسان، عن فاعلية الانقسام، وانشقاق ثنائي حيوي وناشط ومتحرك منذ مطلع التاريخ الهجري، حتى قرنه الرابع عشر. وهل كان ما حصل في يوم السقيفة عنيفاً بحيث استمر الخلاف حياً. وحضارات قامت، وأخرى نامت، وحروب كونية ومواثيق سلام، ومؤتمرات عالمية، وانهيار إمبراطوريات الشرق. وظهور قارات جديدة  وقوى عالمية. أحصت دموع المطاط في الغابات الاستوائية، وحفرت في مناجم إفريقيا مناجم الذهب، واستخرجت النفط من أعماق الربع الخالي، ومن أعماق البحار... والمسلمون يتقاتلون على حق الولاية بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم! ويأخذ الصراع شكل اللواء الأبدي بين اثنين من بناة المشروع الإسلامي منذ سنواته الأولى!

أغلب الظن أنها حيوية الإسلام، توجب حيوية خصمه ومحيطه ولو كان الإسلام خاملاًً مثل كثير من الأديان الخاملة في أقصى الشرق، لما أثار اهتمام الحضارات والأمم، ولما استمرت أحداثه الأولى حية ونشطة حتى أيامنا هذه.

لكنها فتنة الإقتتال تخرج من داخله والطائفية مجالها الذي يجتذب صراع الدول إليها. وليست هي وليدة الاستعمار العالمي الجديد، وقد ولدت قبله بأكثر من ألف عام؟!

قد لا تكتشف ظاهرة، أن الطائفية في العراق، هي ليست صراعاً عقائدياً ولا مذهبياً، ولا هي من صراع الأفكار.

إن الطائفية في العراق شكل من أشكال الصراع على السلطة، فهل ينبغي إلغاء السلطة لإلغاء الطائفية أم توزيعها على مستحقيها على قواعد يتفق عليها.

أظننا اقتربنا من حاشية الإشكال، فالتوزيع الرديء وغير العادل للمواقع العليا والامتيازات “والحقائب” مسؤول إلى حد كبير عن تردى الأوضاع الاجتماعية في هذا البلد وامتداداته العربية الإسلامية.

حدث ذلك في العراق البريطاني ـ السني.

ويحدث الآن في العراق الأمريكي ـ الشيعي.

فهل سينتهي الخلاف برحيل البريطانيين والأمريكيين أم ستكون المواجهة أشرس وأضرى؟.

إن توزيع السلطة سيكون باهظ الكلفة، وصعباً ما دام يمس الحقائب، والمصالح المباشرة: باعتبار السلطة، مصدر الامتيازات الكبرى، وسيتشبث أي فريق، سني سابق أم شيعي لاحق، بحقائب الامتيازات مستعيناً بالعوامل المباحة وغير المباحة، على مستوى محلي ـ وإقليمي ـ ودولي. وبسبب ذلك كان للعاملين الأخيرين دور في صناعة القرار دائماً، أما المحلي فمن السهولة إدخاله إلى معادلة الصراع على الامتيازات، فهذه الحقائب الوزارية هي حصة عمر بن الخطاب، وهذه الحقائب الوزارية هي من حصة علي بن أبي طالب، وأن السياسيين مجرد وكلاء أمناء على الأمانة. فهل يجوز لرجل السلطة في العراق البريطاني أن يضحى بحصة عمر بن الخطاب وأبي حنيفة؟

وماذا يقول الشيعي في العراق الأمريكي للإمام علي وللإمام جعفر الصادق، لو أنه تنازل عن حقائبه إلى غريمه السني؟!

 وكان علي بن أبي طالب ومعه أهل البيت، هم الذين لا يوافقون على إمعان النظر في توزيع السلطة بما يجعل العراقيين يعيشون بسلام!.

فإذا استحال تقسيم السلطة على قواعد العدل والإنصاف وصعب ذلك على السنة، ما قبل سقوط نظام صدام حسين، وإذا ما أستأثر الشيعة بالحصة الكبرى بعد السقوط وصعب عليهم تقسيم السلطة على قواعد الوفاق الوطني والمشاركة وليس المحاصصة الرقمية، فإن الحل الأسلم، هو تقسيم الدولة، حتى تتوفر سلطة خاصة لكل طرف في دولته الخاصة، وقد يكتفي أحدهم بأربعة سنتيمترات لتشكل عالمه الكبير، فيغمس فيها إبهامه ويبصم جيناته على وثيقة الاستقلال!

وسيشعر عمر بن الخطاب بارتياح لم يشعر به عند فتح نهاوند، وسيفرح الإمام علي فرحه برؤية صاحبه الحذيفة بن اليمان رافعاً لواء الإسلام في تلك المدينة.

لقد أقحم رجال الإسلام ومؤسسو دولته الكبرى ليتحملوا مسؤولية إحدى مكوناتها، وتقسيم دولة قتل من أجل تحريرها المثنى بن حارثة، والنعمان بن المقرن، وعمر بن الخطاب.

ما السبب أذن؟!

هل هي حيوية النطفة التي قتلت عمر؟ أم هي حيوية عمر وكلاهما موجود في التاريخ ومقيم في الحاضر؟

إن القاعدة القانونية في الشرائع الوثنية والسماوية واحدة إزاء حادثة القتل... فالقتيل طالب، والقاتل مطلوب!.

والقتيل هنا، هو عمر بن الخطاب، والمطلوب هنا هو عمر بن الخطاب، وهي مع أنها غرست في أمعائه نصلين من السم، فما تزال النطفة ذاتها تترافع لتجريم القتيل على المنابر وفي المجالس والمدارس، وفوق مذهبات الكتب والأوراد منذ ألف وأربعمائة وأربع سنوات!.

وما موقع الإمام علي في هذه المرافعة الدائمة، وهو قامع الانشقاق منذ يوم السقيفة؟.

أتراها شخصية الإمام هذه المرة وموحياتها الروحية تثير الأسى والحزن والغضب، لفقده الخلافة الأولى مع حصوله على الإمامة الأولى؟ ولماذا لم يظهر الوجوم والتجهم على محياه الكريم، وتظهر آثار حزنه على وجوه أتباعه البررة بعد أربعة عشر قرناً؟.

أن المعروض التاريخي الأمين يتحدث عن ثنائية مشاركة بين علي وعمر، فكيف استحالت بعد رحيلهما إلى رحاب الخلد، إلى ثنائية كراهية وخصومة لا تنقطع؟!

ولماذا الخصومة كبرى في العراق، والشيعة في الجوار يعيشون حياتهم الطبيعية ويعيشها أهل السنة.

أهو الجوار الإيراني ـ التركي؟ ربما كان ذلك صحيحاً، لكن قبل مائة عام! وإذا توقفنا قليلاً، سنجد هؤلاء المؤسسين من رجال الإسلام الأول، وقد صيروا أوراقاً انتخابية، ولافتات للناخبين، فيوضع فاتح خيبر على لائحة المرشحين، وفاتح بيت المقدس على لائحة المقاطعين!

وليتهما مكثا عند صناديق الاقتراع... لا حيث تحمل صناديق الديناميت، وصناديق الموتى.

أغلب الظن أنها حيوية الإسلام وشخوصه في العصر والمكان أوجبت حيوية خصمه وانفعال محيطه . ولو كان خاملاًً شأن كثير من أديان الجوار ، لما آثار اهتمام الحضارات والأمم، ولما استمرت أحداثه حية ونشطة في سلبها وإيجابها .

لكنها فتنة الاقتتال تخرج من داخله، والطائفية جاذب آلي وذاتي الحركة، لصراع الدول، وليست، هي، كما نوهم أنفسنا وأجيالنا، وافداً غريباً تسلسل إلى بلداننا على غفلة منا! ولربما ولدت قبل مولد الدول الاستعمارية الحديثة بألف عام هجري، وارتبطت كالاستعمار العالمي بالمصالح الدولية وقوانين الصراع، وهي ساعدت الإدارة الاستعمارية، على تدوير شؤونها وتسهيل خياراتها، ومن الطبيعي أن تستفيد السياسات المحلية من عامل قوي ومؤثر لم تستخف بفاعليته إمبراطوريات قديمة وجديدة .

وفي العراق ومحيطه – أحياناً – تبدو الطائفية شكلا من أشكال الصراع على السلطة، وليست انقساما اجتماعيا، إنما الانقسام ناجم أصلاً من هذا الصراع . فجرى توظيف ثنائية الضد العلوي– العمري – لتوفير مسوغات شرعية للاستئثار بالسلطة والحصول على حقائب وزارية، ستوفر لحامليها حلم الوصول السهل للامتيازات العسيرة !.

وبهذه البساطة أصبح عمر بن الخطاب ورقة سياسية، والإمام علي ورقة انتخابية. وكل منهما مجرد لافتة معلقة على خرائب المتقاتلين. وأدخلت ثنائية عمر وعلي في طريقة التوزيع الردىء وغير العادل لامتيازات السلطة.

حدث ذلك في العراق البريطاني السني القرار، ويحدث ذلك في العراق الأمريكي الشيعي القرار.

ولأن التنازل عن الحقائب الوزارية باهظ الكلفة، وتوزيع السلطة على أسس العدل والإنصاف سيؤثر على حجم المنافع من الحيازات السياسية والاجتماعية والمالية، فقد يصبح توزيع الدولة، إجراءاً قابلاً للعمل به وشعاراً يطرح على الأتباع المهددين بالموت والخوف من الموت. وسيوفر أكثر من سلطة للمتصارعين عليها، مادام توزيع الدولة أيسر من توزيع السلطة !.

أما التشاهر في خطاب الملاعنة الموجود في التاريخ، والمقيم في الحاضر، فقد تيسرت له سبل الانتشار الفضائي، واختُرقت حصانات التاريخ، وحقائق الهوية، فتصبح الكوفة جمجمة العجم، ورأس الكفر.

وفي منهج التلاعن، تستعيد القطيعة حيويتها، وتخترق القاعدة القانونية، التي أجمعت عليها الشرائع الوثنية والسماوية، ولم يعد القاتل مطلوباً، والقتيل طالباً على جانبي الصراع. ففي فقه الخلاف المعاصر، القاتل هو الطالب ، والمطلوب هو القتيل!. والنطفة التي قتلت عمر بن الخطاب ما تزال تترافع على تجريم القتيل في المجالس والمدارس وعلى مذهّبات الكتب، وشاشات الفضاء. والعصبة التي تقتل الفقراء الباحثين عند الفجر عمن يشتري قوة عملهم بقوت أطفالهم، يُفجَرون بمفخخات المجاهدين!. الساعين إلى تحرير العراق، رافعين لواء الفاروق عمر بدعم فضائي لتجريم الضحايا بعد أن خُوِّل مذيع الفضاء صلاحية القاضي، الذي يصدر الأحكام على الهواء ، وعمر يُقتل في العراق عند كل صورة متلفزة مرتين!.

مرة بمناهج القطيعة ، وحيوية النطفة، ومرة بمناهج التكفير وحيوية الفتوى، فيوضع محرر العراق وفاتح بيت المقدس على لائحة الإتهام .. وليت الإمام الأول والخليفة الثاني يمكثان عند صناديق الإقتراع .. لا حيث تحمل صناديق الديناميت ، فتلتحق بها صناديق الموتى.

وفي النزاعات الطائفية، توري العقول والأذهان، فتقدح بأفكار جديدة وأساليب عجيبة، وينجح الشيعة العراقيون بعد الاحتلال الأمريكي، في عرض مشهد جذاب للرأي العام العالمي، ومؤسسات المجتمع المدني، كدعاة مشاركة متحمسين لصناديق الاقتراع، وسن دستور دائم بعد أكثر من أربعين سنة على إلغائه عام 1958م،  وأتباعهم يتحاشون أن يجوسوا مساحب الدم في طريقهم إلى صناديق الاقتراع، والطرف الآخر مصمم على القطيعة وضرب المقترعين وصناديق الاقتراع بما يتيسر له من القنابل البشرية، مما ترك انطباعاً عن الجانب الشيعي لدى الرأي العام العالمي، لاسيما في الغرب، قد يصحح لديهم الانطباع السائد، والذي تركته الثورة الخمينية، في عنفوانها المعادي للغرب، ثم تبنته تنظيمات سنية على رأسها القاعدة، حيث لا يتورع أتباعها عن الوقوف أمام عدسات الانترنت، وقد يحمل التابع القاعدي بأطراف أصابعه، رأساً مقطوعاً من شعره فيضع الرأس في سطل مليء بالدم، ويظهر هؤلاء الأتباع في مشهد ينقله موقع القاعدة على الانترنت، لرجال ملثمين يذبحون على الهواء إنساناً مختطفاً. وقد تصور عمليات خاطفة، لإحراق حاملات الجنائز مع من فيها من أحياء، عند منطقة «اليوسفية» وهي مضارب لقبيلة أخوال كاتب السطور.

لقد تعثرت القاعدة ومعها الكثير من سنة العراق، «بمطب استعماري» ومصيدة ماهرة. لا بأس أن نطلق عليها مصطلح «تبشيع الخصم» في الحرب النفسية لتأليب المجتمع المحلي والدولي على «ارتكابات الخصم» ونشرها بحرية النشر على الرأي العام العالمي. مما يسهل للخصم الأول تنفيذ برامجه العسكرية وهو في غمرة الحرب الأمريكية على السنة، لجعل المغير المتوحش على قرى الطين وكأنه يرش المبيدات الزراعية، على الحقول ! فلم يتحرك الشارع العربي ذو الأغلبية السنية المطلقة احتجاجاً على رشوش الصواريخ العملاقة فوق سقوف مصنوعة من جذوع النخيل في بلدات الفرات الأعلى وحتى تخوم الفلوجة.. ولو تذكرنا للحظة رد الفعل العربي على قصف بور سعيد والإسماعيلية. أثناء العدوان على مصر في حرب السويس 1956م، وقارنا ما كان عليه الشارع العربي والبيت العربي، والوجدان العربي، مع ما حصل في الحرب على الفلوجة و الأنبار، وحديثة، لاقتنعنا قليلاً بأن القصور لا يتصل بحالة الانكماش القومي وظاهرة التراجع العربي الطويل، فحسب، بقدر ما يتصل بالناتج العلمي لنظرية «تبشيع  الخصم» والممارسات التي تهللت لها وجوه المذيعات وأصابع المشاركين المرحبين بمشاهد الرؤوس المقطوعة في براميل القمامة.

إن نظرية تبشيع الخصم، أخذت بها إسرائيل منذ حرب فلسطين الأولى عام 1948، وكنت قد سألت اللواء طاهر الزبيدي. معاون قائد القوات العربية في تلك الحرب، وقد عاش أيامه الأخيرة وحيداً في داره بمدينة اليرموك، عن تمرير إشاعة كان العراقيون يتفاخرون بها، وتقول: إن الجيش العراقي كان إذا ألقى القبض على يهودي، وضعه في مرجل من الماء المغلي حتى يتفسخ لحمه.. وعظامه! قال اللواء الزبيدي ربما كان القصد تخويف اليهود، فقلت، ولكن اليهود يعرفون أن ذلك لم يحدث، وأن الإدارة الإسرائيلية كانت تسعى لإرساء مفهوم أنها تحارب العرب باعتبارهم متوحشين ومصاصي دماء، وتأتي الإشاعة العراقية التي ربما خرجت في سياق الحرب النفسية لتدعم منهج اليهود في الحرب مع العرب، وذلك بتبشيع صورتهم أمام الرأي العام العالمي، والغربي الذي تعتمد على دعمه وتأييده بالدرجة الأولى.

يبدو أن ما حصل من ذبح على الهواء، وحرق جنائز على الطريق، كان نموذجاً ممتازاً لتصوير المعارضة السنية بما صور به العرب في الحروب الإسرائيلية، لكنها هذه المرة خبرٌ يقين ومصادق عليه ومنشور بإرادة فاعليه.

لكن جهات سنية عراقية لها عراقة في السياسة المدنية، كالحزب الإسلامي، والإسلاميين المستقلين والعلمانيين السنة، الذين لم تعد لهم قوة مساوية، لجموح القاعدة قد تداركوا هذا المنزلق، وصححوا المعادلة وعادوا بالسنة إلى ميراثهم الطويل في إدارة السلطة، بذكاء وخبرة، فأعلنوا مشاركتهم في الاستفتاء على الدستور، والدخول في العملية السياسية، وما يترتب عليها من التزامات ومخاطر، صوناً لميراثهم المدني، فلم يتفهم موقفهم العادل والخطير، لا رجال القاعدة، الذين يفتقرون إلى تجارب العمل المدني، ولا الشيوخ المؤيدون لأسلوب القاعدة، فضلاً عن حساسية الجانب الشيعي المتزاحم على السلطة، والذي كان عليه أن يستوعب بصدر أوسع هذا الخيار العراقي السني، فيتنازل أو يتواضع عن شروط الحوار مع هذا القادم إلى السلم الأهلي، من بين أنقاض الجثث. فحصر السنة القادمون إلى العملية السياسية بين فكي الصراع .

ومن جانب آخر فقد تسبب استهداف القاعدة المعماريات الإسلامية الشيعية، وتفجير ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، في تأجيج عاطفي وطائفي، لدى قوة شيعية كبيرة كانت تحاول الوقوف على الحياد في الصراع الطائفي. فاندفع التيار الصدري وجناحه العسكري جيش المهدي إلى ميدان الاقتتال بما لديه من حشود بشرية ومساحات جغرافية تحيط ببغداد، ففقدت اللوجستية السنية أهم مراكز قوتها.

وكان الناتج العام قد ألقى بظلاله السوداء على عموم أرض السواد، لكن المأزق الأكبر مابرح يحاصر الحزب الإسلامي والعلمانيين السنة ممن يسميهم الدكتور علي الوردي «ربع عمر» الذين لم يعودوا قادرين على المواصلة السلمية ولا قادرين على المقاطعة، التي تخلي العراق من قوة التوازن التي بها تنتصب قامته وتنتظم خطواته .

ومن جانبنا فما زلنا ننتظر لحظة اللقاء بين ربع عمر وربع علي، ليعودوا إلى الصلاة في المسجد النبوي ، ويستكملا ثمانية عشر ألف صلاة مشتركة بين علي وعمر هناك.

وبذلك يختتم الحُلم القَصي...

 
 

 

الفهرس

 الاهداء------------------------------------ 5

 أول الكلام----------------------------------- 7

الكرادة والكتاب--------------------------------- 9

ثنائية الكتاب---------------------------------- 11

السفر إلى إبن حنتمة----------------------------- 15

الباب الأول كونية عمر ـ البرية ـ والدولة ـ والرعية

في وضح البرية--------------------------- 23

جاذبية المعروض التاريخي------------------------- 25

المكون البري--------------------------------- 26

فتى عكاظ----------------------------------- 30

قامته تربو على مترين---------------------------- 31

هل وأد ابنته---------------------------------- 31

البرية أم الجندية------------------------------- 32

أسلم على طريقته البرية: بالصوت أم بصدمة الصوت----------- 35

مناقشة الرواية-------------------------------- 39

رقم اسلامه 67-------------------------------- 41

دولة المشروع المحمدي--------------------------- 43

عبقري السقيفة-------------------------------- 45

الحذر من شبح القيصرية-------------------------- 47

سياسة التعيينات------------------------------- 50

الاستبطان العمري وتوزيع المسؤوليات------------------ 54

الاستفادة من الخبراء----------------------------- 55

إلزام الوالي بالكشف عن أمواله----------------------- 56

يمنع دخول الولاة والأمراء ليلاً ----------------------- 56

يحول الوالي إلى راعي غنم ------------------------- 57

نظرية منع التراكم------------------------------ 57

عمر والمعارضة السياسية------------------------- 58

مناشير عمرية ضد أمراء الدولة ---------------------- 60

مظاهرة على بابه------------------------------- 61

الطباق العمري-------------------------------- 62

خلافة السلم الأهلي------------------------------ 65

مفهوم جديد للدولة ونظام سياسي خاص------------------ 66

سياسته القرشية

عمر وعثمان--------------------------------- 71

الإسلام وقريش-------------------------------- 73

حلاقيم قريش--------------------------------- 77

عمر وخالد بن الوليد----------------------------- 81

المغيرة وأم جميل------------------------------- 83

عمر ومحكمة نورنبرغ للأبي سفيان ------------------- 84

عمر والسلفية--------------------------------- 85

مستطرف الرعية

احترام الكرامة الإنسانية--------------------------- 91

إعفاء المعيل من خدمة العلم ------------------------  91

أبو العيال يخاطب الذاهبين إلى الثغور-------------------- 92

يجوع ما جاع الناس ---------------------------- 92

عزل المصابين بأمرض معدية------------------------ 94

يحفظ عروبة المسيحي حتى لاينفره من الإسلام ------------- 94

عهد عمر للنصارى في بيت المقدس-------------------- 95

سفط نهاوند---------------------------------- 96

خضيراء الوالي-------------------------------- 96

يمنع زوجاته من السياسة ------------------------- 97

يمنع التشهير بشارب الخمرة ------------------------ 98

ينفي الوسيم البطران!---------------------------- 98

ينزع ثياب الحيطان------------------------------ 99

يفضل لغة الصحافة------------------------------ 99

جرائم الجنس في عهده--------------------------- 101

الجنس والمشاهير------------------------------ 102

أربعة خلفاء وأربعة دعاوى ------------------------ 104

العفو عن الهرمزان----------------------------- 104

سياسته العلوية

علي المؤسس لا المستشار------------------------- 109

في يوم السقيفة------------------------------- 111

الفقه المشترك-------------------------------- 115

الإمام علي يقترح على عمر: التاريخ الهجري -------------- 119

الإمام علي يؤيد مخصصات لعمر---------------------- 119

علي ينصح بذهاب عمر إلى فلسطين------------------- 119

الإمام علي لا ينصح عمر بالذهاب إلى بلاد فارس------------ 120

عمر يبسط رداءه للإمام علي------------------------ 122

عمر يقبل رأس الإمام علي------------------------- 123

عمر للإمام الحسين: انتم على الرأس------------------- 123

عطاء أهل البيت في عهده------------------------- 125

عمر والعلويون ضد الاجتثاث------------------------ 126

الإمام علي يرثي عمر---------------------------- 130

أحد عشر عاماً و 18 الف صلاة ---------------------  130

عمر والعراقيون

العراق العمري-------------------------------- 135

الكوفة جمجمة العرب---------------------------- 139

أهل الكوفة ليسوا عراقيين! ------------------------ 143

نخلة العراق أم زيتون الشام------------------------ 144

المثالب الجليلة

المجتهدات العمرية ----------------------------- 147

يستهدي بالنص لتوليد النصوص---------------------- 148

تحريم زواج المتعة----------------------------- 149

الصلاة خير من النوم---------------------------- 152

هل كان الزهد مطلوباً في ثراء الفتوحات؟----------------- 153

ليس لعمر حكم ووصايا‍‍‍‍‍‍--------------------------- 157

أجلاء اليهود والنصارى عن جزيرة العرب---------------- 159

إحراق عمر  مكتبة الاسكندرية----------------------- 161

إبطال الرواية -------------------------------- 163

لم تكن الرواية شيعية---------------------------- 164

شطحات الدرة-------------------------------- 165

هل اغتال سعد بن عبادة؟-------------------------- 168

العراق ميدان الحروب المحمولة!

ميدان مفضل للحروب!--------------------------- 173

عمر في الحروب المحمولة------------------------- 176

عمر في الحرب العراقية ـ الإيرانية-------------------- 179

استباحة العثمانيين وحصانة الصفويين------------------ 182

فروق طائفية--------------------------------- 184

عمر والمصالحة العراقية-------------------------- 187

لم يبق إمام إلا وقتله هذا الضرب--------------------- 189

 

الباب الثاني: عمر في المنظور الشيعي

فقه القطيعة وفقهاء المثالب!

عمر والقطيعة.. المناصفة الخاسرة-------------------- 195

فقهاء التنقيص!------------------------------- 198

ثنائية القطيعة والمشاركة-------------------------- 200

رضي الله عنه وعليه السلام ----------------------- 205

روزه خون القطيعة! ---------------------------- 208

تشريع قانون لسب عمر -------------------------- 209

المجلسي رائداً-------------------------------- 211

أفحام الفحول: الشيخ محمد جميل حمود------------------ 213

أبو لؤلؤة رضي الله عنه-------------------------- 214

موقف الدولة الإيرانية حالياً------------------------- 216

السيد كاظم القزويني: الإمام علي جليس البيت-------------- 216

كسر ضلع الزهراء----------------------------- 220

التنافس على قصور الكوثرية في الجنة------------------ 223

القطيعة ستحاصر الشيعة العرب---------------------- 228

مثالب المستبصرين

مثالب المستبصرين----------------------------- 233

روزه خون السوربون

عمر ضال.. وجاهل.. ومعارض للاسلام!----------------- 234

المثالب التيجانية!------------------------------ 235

عمر حليف المنافقين!---------------------------- 238

التشيع الممنوع في مصر-------------------------- 239

النبي آدم يبغض عمر!--------------------------- 241

المتحولون إلى التشيع: والسلم الأهلي في العراق------------ 241

التنويــر الشيعي

المدرسة المصرية------------------------------ 245

فقهاء المشاركة------------------------------- 245

علي شريعتي: نظرية النطف الكسروية------------------ 249

عروس المدائن في المدينة------------------------- 251

شريعتي والعسكري----------------------------- 254

محمد باقر الصدر وشريعتي------------------------- 257

التشيع العراقي، والتشيع اللبناني---------------------- 258

عمر بين المجلسي وشريعتي------------------------ 260

المنهج الصفوي بدلاً من التشيع الصفوي----------------- 261

صاحب نظرية النطف – تلميذ الخميني------------------- 262

منبر الوائلي وهوية التشيع------------------------- 265

رواد الحضارة العربية من أهل التشيع------------------- 267

الروافض----------------------------------- 268

تنوير شيعي--------------------------------- 271

كسر القطيعة و بواقعية الإمام----------------------- 273

التشيع العلماني على مذهب المصري

علي الوردي رائداً------------------------------ 279

ماركسي وعلماني.. ونموذجه عمري!------------------ 282

الخليلي والشرقي والجواهري------------------------ 285

من تجارب المشاركة العلوية العمرية

جمهورية الخميني العلوية والتجربة العمرية--------------- 291

على خطى عمر------------------------------- 294

 

النطفة التي قتلت عمر

الإمام علي يحذر من اغتيال عمر--------------------- 303

النطفة القاتلة--------------------------------- 303

هـل شاركت قريش بقتله؟------------------------- 305

الشيعة وحادثة الاغتيال--------------------------- 307

شهادة مؤرخ شيعي معتدل------------------------- 308

المشهد الأخير

علي وعمر في حقائب الصراع----------------------- 312

الفهرس------------------------------------ 321

 


 

* -   أخبرني الدكتور عبد الساتر الرفاعي الذي أشرف على فحص ومعالجة هادي العلوي في مشفى الشامي بدمشق أن آخر كلمة نطق بها قبل دخوله في الغيبوبة التي انتهت بوفاته يوم 27/9/1998 أن المستقبل للحضارة الإسلامية وليس للغرب.

* -   الزوية: محلة ملاصقة لما يسمى الآن بالجادرية، وهي تقع على ضفة دجلة اليسرى مقابل مبنى القصر الجمهوري، حيث يجلس الجسر المعلق على كتفها حالياً، وكانت تسمى زاوية السيد خلف جدي لأبي، ثم حذف المضاف إليه بمرور الزمن، كما هي العادة عند العرب وفي هذا الحي كان السيد خلف يستقبل الفقيه الشاعر المجاهد محمد سعيد الحبوبي في بعض أيام الصيف وقد أعطت هذه المحلة ما يقرب من ثلاثمائة رجل وامرأة في عهد الرئيس صدام حسين.

* - الدِرة: بكسر الدال وتضعيف الراء عصا تسمى عندنا في العراق شطبة كانت تستخدم لخفق البقرة برفق على ضروعها لاستدرارها فسميت بالدرة على ما نعتقد وهي نفسها التي يستخدمها الآن فرسان الخيول في السباقات.

* - العبارة بين الهلالين وردت في رسالة إلى المؤلف بعثها الدكتور نعمان السامرائي زعيم الحزب الإسلامي عند تأسيسه عام 1960 والداعية الإسلامي والمفكر الكبير نزيل الرياض حالياً والمؤرخة في 30/1/ 2006

* -   السفط: وعاء من قضبان الشجر، أو خوص النخيل، توضع فيه المجوهرات والنقود، وبعض الملابس إذا كان كبيراً. وهو اسم شائع في العراق ومنه قول الجواهري في امه: تعالى المجد ياسفط العِظام!.

* - الدقل: يقول الدكتور الصلابي في هامش له أن الدقّل هو التمر الرديء ونقول نحن العراقيين أن هذا النوع من التمور مازال موجوداًومعروفاً باسمه وتنطق القاف (بالكاف) على لهجة أهل العراق وهو من الأنواع الممتازة على عكس ما كان عليه دقل مكران من رداءة وباعتقادي فإن سبب جودته في العراق ورداءته هناك أنه ومن اسمه ينسب إلى دجلة ولا يزرع بعيداً عنها فإذا أبتعد جفت طراوته وتقلص حجمه وانكفأ على نفسه انكفاء العاشق عندما يبتعد عن حبيبه. وقد رأيت في بلاد عربية أخذت الدكل من العراق مثل تونس والمغرب والجزائر، فحدث له هناك ما حدث له في مكران.

* - آية 41 سورة الأنفال

* - يجدوا: يأخذهم الوجد عليه.

* - في الديمقراطيات الغربية يتصدى العاملون في جمعيات الدفاع عن الحيوانات للابسي ولابسات الفراء ثأراً للحيوانات التي تقتل لاقتناء فرائها، وعمر بن الخطاب يمنع قبل اربعة عشر قرناً رؤية الفراء على أجساد المصلين في المساجد

[1] - كنت أقرأ على صديق قديم في الحركة الإسلامية العراقية. عند زيارته لي أثناء تحرير الفصول لاختبار موقفه من مسألة المتعة، وهو من أنصار حلالها والنافحين عنها كيد أعدائها! حتى إذا وصلنا لقولنا هذا، صعق.وقال وهو ناصح حقاً. إن هذا القول فيه تجنٍ على إيران.وإن كنت تتحدث عن خمسين عاماً سابقاً، وسينسحب الضرر على إيران الإسلامية، وأنت صديق لها. أجبته: وأين المساس والتجريح والإساءة في الحديث عن مكان يحلل " زواج "المتعة مادامت هذه حلالاً. أما كان عليك أن تنتصر لخبر تسمعه عن أمة أو دولة، أو ملة. تأخذ بحلالها وتمارسها. ألا ترى في أعماقك احتجاجاً عليها. وإلاّ فما هو مبعث اعتراضك على العمل بما "حلله الله ورسوله، وحرمه عمر بن الخطاب؟!" 

[2] - يسميه المؤرخون المسلمون "يحيى"

* - الروزه خون: فارسية مركبة تعني روضة معناها كتاب الحزن، الذي قد يكون هو كتاب المجلسي، وخون أي القراءة.

* - لم أكن من متابعي الشيخ الكوراني حتى حدوث تلك المساجلة بيني وبينه على فضائية المستقلة في رمضان 2005، وكنت أنكر عليه قسوته على عمر بن الخطاب، ولكني وجدته عالما عميقا ومتحدثا دافئا، وإن كان مازال شديد الوطأة على أقرب الصحابة من النبي (صلى الله عليه وسلم).

* - كقارئ أرجح القول بانتحال اسم ابن قتيبة، ووضعه على كتاب الإمامة والسياسة، والذي ينفرد بمنهج تشهيري، وهو ليس منهج ابن قتيبة.

* - من مؤلفاته:

- المراجعات الريحانية، وهي مجموعة مباحث تاريخية وفلسفية جرت بينه وبين صديقه الاديب اللبناني أمين الريحاني.

- الميثاق الوطني العربي.

- محاورة بينه وبين السفيرين البريطاني والامريكي.

- وحقق ديوان محمد سعيد الحبوبي.

- والوساطة بين المتنبي وخصومه.

* - أحد السادة الذين طالعوا هذا الكتاب (البحار) واستمعوا للشريط المتضمن لمحاضرة ألقاها احد الوعاظ المحترمين في الرد عليّ لأنني بانكاري لهذه الرواية وجهت طعنة غادرة للشيعة (بالطبع الشيعة الساسانية!) يقول هذا الأخ إنه قد التقى بالواعظ المذكور شخصياً وقال له: إن هناك آخرين أنكروا هذه الرواية غير (شريعتي)

* - لاتقتصر الرواية على ابنة واحدة لكسرى، بل كنّ ثلاث بنات قيل انهن توزعن زوجات لأبناء الإمام علي والخليفة عمر بن الخطاب. واختلف في ابن الصحابي الثالث هل كان لأبي بكر أم لصحابي آخر. وأي من هؤلاء هو قريشي والنطف الكسروية في رحم مشترك!.

* -الأمر لم يعد على هذه الحال بعد أن تولى السلطنة – الشاه طهماسب وكان مايزال فتى، فمنحت في عهده أوسع الصلاحيات للفقهاء، ومنهم الشيخ علي الكركي.

* - راجع كتابه القيم – ضد الاستبداد، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – 1999