الفصل الثالث
قديمة لم تتغير منذ خمسة عقود!
لا تراعي التقدم العلمي والتكنولوجي !
الدعوة لدراسة تغيير المناهج التعليمية السائدة, في كافة أقطار الوطن العربي، ليست دعوة جديدة ، وليست من مستجدات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر2001 م ، لكونها وردت ضمن أقوال للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عقب تلك الأحداث الدامية ، ولكنها دعوة تُثار من حين إلى آخر ، منذ عدة قرون خاصة العقود الثلاثة الأخيرة ، حيث بلغ التقدم التكنولوجي أوجه ، وسيطرت (المكننة ) و (الكمبيوتر) على كافة المجالات الحياة ، مما جعل الوجود البشري مجرد محرك لأزرار بسيطة ، تُشغل آلات تقوم في دقائق بعمل ما يفعله مئات من البشر في ساعات عديدة ، بالإضافة إلى التطور الهائل في ميدان الطب والعلوم ، إذ أصبح إستنساخ البشر ممكنا ، وثورة المعلومات التي جعلت هذا الكون الشاسع مجرد قرية صغيرة.
إزاء هذه التطورات ، يصبح منطقيا التساؤل: هل المناهج التعليمية السائدة في كافة أقطار الوطن العربي ، قادرة على إستيعاب هذه المستجدات ، بما فيها مستجدات الأوضاع السياسية وموازين القوى العسكرية بين طرفي الصراع في الشرق الأوسط ، وما يصاحبها من تحالفات دولية وإصطفافات إقليمية؟
إن الحديث عن تجربة اليابان ، يعنى إن موضوع تغيير المناهج التعليمية ليس جديداً ، وليست الأقطار العربية هي أول من يواجهه ، ففي أعقاب إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية القنبلتين النوويتين على مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين في الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية ، أدركت الإمبراطورية اليابانية ، أنها تواجه خصما يتمتع بقدرات عسكرية ، لا تجدي أمامها الهجمات الإنتحارية اليابانية بالطائرات ، كما حدث في هجومها الصاعق على قاعدة (بيرل هاربر) الأمريكية الذي دمر غالبية السفن والطائرات العسكرية الأمريكية ، وكان السبب في التغيير النوعي لمجريات الحرب العالمية الثانية, هذا التغيير الذي كان إلقاء القنبلتين هو التعبير الصارخ لتطبيقاته ، وفي هذه اللحظة التاريخية – النوعية ، وجدت القيادة اليابانية نفسها أمام قرار مصيري ، فإما الإستمرار في حرب الهزيمة فيها مؤكدة بخسائر أضعاف خسائر ودمار مدينتي ناغازاكي وهيروشيما أو الإكتفاء بخسائر هاتين المدينتين وإنقاذ الأمة والإمبراطورية اليابانية العريقة ، وهنا أمام لحظة مفصلية وحاسمة ، إنحازت القيادة الإمبراطورية الواعية إلى الخيار الثاني ، فأعلن الإمبراطور الياباني هزيمة بلاده وإستسلامها بشكل نهائي في الرابع عشر من آب/أغسطس عام 1945م ، حيث دخلتها على الفور القوات البرية الأمريكية ، وعقب مؤتمر موسكو في ديسمبر / كانون الأول من عام 1945 ، وضعت اليابان كلها ، تحت سيطرة الحلفاء من خلال نظام شامل ، الكرسي الرئيسي له في طوكيو العاصمة ، وممثلون (بعثات) في الجزر الأربعة, وكرسي رئيسي في العاصمة الأمريكية (واشنطن) ، ووضعت كافة المقاليد تحت إمرة الجنرال الأمريكي ماك آرثر, الذي أدار كافة شؤون الإحتلال للإمبراطورية اليابانية.
إن كانت كافة أنواع الإحتلال نقمة على الشعوب المحتلة ، حيث الإضطهاد وسرقة أو نهب خيرات البلاد ، فإن الإحتلال الأمريكي لليابان كان نعمة وخيراً علي اليابان الحالية التي تعتبر منذ ما يزيد على أربعة عقود من الدول الديمقراطية الأولى ، ومن الدول الصناعية الأولى في العالم.
فور هيمنة الإحتلال الأمريكي ، باشر الجنرال دوغلاس ماك آرثر بنفسه ، الإشراف على خطط تحديث اليابان ، مبتدئا ببرامج التعليم, ووضع أسس نظام برلماني ديمقراطي ، متوجاً العملية بمؤتمر السلام الأمريكي– الياباني في سان فرانسيسكو عام 1951م ، وفي الثامن والعشرين من أبريل عام 1952 ، نالت اليابان إستقلالها الكامل ، وقبلت عضوا في الأمم المتحدة في ديسمبر من عام 1956 ، لتصبح اليابان سياسياً تدور في فلك أمريكا, ولكنها من حيث النظام الديمقراطي والصناعة و المكننة ، تنافس الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها ، ولا داعي للتفاصيل في هذه النواحي ، فالجاهل والمتعلم في الأقطارالعربية ، يعرف حقيقة ما هي اليابان ، ومستوى صناعتها وحياتها في فترة لا تزيد على أربعة عقود ، وهي مرشحة منذ سنوات لتبوُّء مقعد دائم في مجلس الأمن لتصبح العضو السادس الدائم فيه.. وبإعتراف كافة الدراسات بما فيها اليابانية ، فإنه لولا تغيير مناهج التعليم والنظام السياسي فور إعلان الهزيمة والإستسلام عام 1945م ، لما وصلت اليابان لما هي عليه الآن.
واجهت مصر أيضا تجربة مشابهة بشكل جزئي وفي سيلق مختلف ، ولأغراض مغايرة ، عقب توقيع إتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979م ، إذ كان لزاما عليها حسب بعض بنود الإتفاقية المذكورة أن تعيد النظر في مضمون بعض الكتب التعليمية المقررة في مدارسها وجامعاتها ، وقد بدأ نظام الحكم هذه التغييرات المطلوبة ، في آب/أغسطس 1979 ، بحملة إعلامية مكثفة حول ما أُطلق عليه (الثورة التعليمية), ووضعت وزارة التربية والتعليم بالإشتراك مع المجالس القومية المتخصصة مشروعا باسم (ورقة تطوير التعليم) ، وطُرحت هذه الورقة على رجال التعليم ولجنة التعليم بمجلس الشعب ، والأحزاب والتنظيمات السياسية والجماهيرية ، وقد كشفت جريدة " هيرالد تربيون" في 21 يونيو/حزيران 1979م ، الهدف القريب والمباشر لورقة تطوير التعليم هذه ، في حديث أجراه مراسلها (توماس ليبرمان) مع عدد من مستشاري المواد الدراسية في وزارة التربية والتعليم المصرية ، وهم المشرفون والمنفذون للتغيير في المناهج . يقول توماس ليبرمان نقلاً عن عبد الفتاح عرفة مستشار المواد الإجتماعية (التاريخ والجغرافيا والتربية القومية) وجودة سليمان مستشار التربية الدينية واللغة العربية ، إن التغيير في المناهج والكُتب الدراسية, يُعد له منذ سنة 1973م ، أي منذ إتفاقيات فك الإشتباك التي أعقبت حرب أكتوبر (الغفران عند إسرائيل) ، إذ نصت هذه الإتفاقيات على وقف حملات الدعاية والكراهية المتبادلة لتهيئة أطفال المدارس لمعاهدة السلام ، وبمقتضى معاهدة السلام المتوقعة – كان هذا في العام 1973م ، ووقعت معاهدة السلام عام 1979م – إستبعدت كل إدانة لإسرائيل ، وكل هجوم على الصهيونية ، وكل دعوات الصراع المسلح . أما المستشار التعليمي عبد الفتاح عرفة, فيقول: "كانت الأحداث في الواقع تسير في هذا الإتجاه منذ عام 1971م ، عندما أعلن السادات في أول خطاب له ، أنه سيبحث الإمكانية مع إسرائيل ، وقد إستبعدت مصر وإسرائيل في إتفاقية فك الإشتباك عام 1975م ، إستخدام القوة في حل المنازعات ، وإتفقنا على وقف الدعايات العدائية المتبادلة" ، ثم يقول وهو يشير إلى الكتب الدراسية على مكتبه: "لقد أنجزنا بالفعل التغييرات المطلوبة ، وقبل ذلك كانت معالجتنا للأمور تختلف ، لأننا كنا مهزومين ، وكذلك كان رئيسنا يختلف ". ويقدم مثالاً على هذه التغييرات التي حدثت فيقول: " إنه وضع نص جديد في كُتب الصف السادس الإبتدائي ، حول المعالم الرئيسية للتاريخ المصري منذ عبد الناصر سنة 1952م ، يعزو الهزيمة المصرية في حرب يونيو/حزيران 1967م إلى سوء تصرفات عبد الناصر وأعوانه ، ويقول النص:" إن إسرائيل إستغلت نقاط الضعف, ولكنه لا يصف الإسرائيليين بالمعتدين أو يلومهم على فعلهم" ، أما جودة سليمان مستشار التربية الإسلامية واللغة العربية فيقدم نموذجاً آخر على التغييرات التي بدأ إستحداثها, فيقول: "إن التمرينات اللغوية في الماضي, كانت تهدف إلى غرس روح الكفاح والإنتقام في نفوس الشباب المصري ضد إسرائيل ، وذلك بالتركيز على أحداث مثل ضرب مدرسة بحر البقر، وقتل ثلاثين طفلاً وجرح ستة وثلاثين ، أو ضرب مصانع الحديد والصلب بأبي زعبل ، ولكننا ثأرنا لأنفسنا في حرب أكتوبر 1973م ، وإنتهى الموضوع, لذلك طهرنا المناهج والكتب من مثل هذه التمرينات ، لم يعد ثمة شئ من هذا القبيل في كُتبنا ودروسنا".(1)
وقد تبع أو رافق هذه التغييرات في المناهج التعليمية المصرية ، سن مجموعة من القوانين والقرارات إعتباراً من فبراير1977م ، كان أهمها أو أخطرها ما عُرف باسم (قانون العيب) ، الذي جاءت مواده ألـ (44) فضفاضة بشكل يشمل كل ما يريده النظام ، أو ما كان يُسمى آنذاك (المدعي العام الاشتراكي) ، خاصة المادة الثالثة من هذا القانون التي حددت الأفعال التي إن إرتكبها أي مواطن ، يُسأل عنها أمام المدعي العام الاشتراكي ، كما أعقب ذلك صدور قانون الصحافة الجديد الذي أصبح بموجبه أي تحريض ضد سياسة الدولة جُرما يُحاسب عليه القائم به ، وواضح أن إتفاقيات فك الإشتباك وكامب ديفيد ، إتفاقية الصلح والسلام مع إسرائيل, تدخل ضمن نطاق مفهوم سياسة الدولة العامة ، مما يعنى منع التحريض ضد إسرائيل ، لأن هذا التحريض يُعرض العلاقة معها للتوتر والقطع, وربما إعلان الحرب, وقد حوكم أكثر من ألف صحافي مصري بهذه التهمة".(2)
وشهدت مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية كذلك, تغييرات محدودة في المناهج التعليمية, ووثائق السياسة العامة, عقب توقيع معاهدة أوسلو في العام 1993م ، ومن أوضحها:
1- عدم كتابة أسم (فلسطين) فوق المساحة التي تشغلها دولة إسرائيل منذ عام 1948م ، من المساحة الإجمالية لفلسطين التاريخية كما جرت العادة في كتب الجغرافيا والخرائط المنشورة فيها ، ولكن – كخطوة تمهيدية تهيئ نفسية المواطن – لم يوضع كذلك إسم (إسرائيل) على المساحة نفسها في كافة الخرائط الجغرافية ، في الكتب المدرسية التي طُبعت في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية ، خصيصا لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية عقب إتفاقية أوسلو.
2- إلغاء المواد التي تنص على إزالة إسرائيل وتدميرها, من الميثاق الوطني الفلسطيني ، وقد جرى هذا في جلسة علنية في المجلس التشريعي الفلسطيني ، حضرها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون في الشهور الأخيرة من ولايته ، قبل مؤتمر كامب ديفيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذي إنتهى بالفشل في يوليو/تموز من عام 2000م ، ومحادثات طابا من بعده ، محمّلا كل طرف الطرف الآخر مسؤولية فشله.
هذا وقد شهدت سورية أيضا أول تجربة عربية في تغيير المناهج التعليمية, أو كتابة مناهج جديدة عقب الإستقلال عام 1945م ، تُرسخ أمراً واقعياً حدث في عام 1936م ، عندما إقتطعت فرنسا الدولة المحتلة إقليم الإسكندرونة, وضمته إلى تركيا ، ومنذ ذلك التاريخ توقفت المناهج التعليمية السورية ، وكذلك كراسات التثقيف الحزبي البعثي منذ وصول حزب البعث للسلطة في الستينات وحتى اليوم ، عن أي ذكر لإقليم الإسكندرونة على أنه أرض سورية, يضم سكان عرباً سوريين ، جرى ضمه إلى تركيا عام 1936م ، أي قبل إعلان دولة إسرائيل في فلسطين بإثنتي عشرة سنة فقط. هذا ولم تشر المناهج التعليمية السورية ، ولا كتب التاريخ المؤلفة في سورية منذ عام 1960م مطلقا إلى إقليم الإسكندرونة على أنه أرض سورية محتلة ينبغي تحريرها ، وكذلك فإن كُتب الجغرافيا السورية ماعادت تورد هذا الإقليم على أنه كان يوماً أرضاً سورية, لا كتابة ولا في الخرائط الجغرافية الموضوعة أو المرسومة من جغرافيين سوريين .
إن التجارب المصرية والسورية والفلسطينية في موضوع تغيير المناهج التعليمية ، حسب المستجدات السياسية كما في الحالتين المصرية والفلسطينية ، وحسب الأمر الواقع المفروض وغير الممكن تغييره كما في الحالة السورية ، تفيد وتثبت أن موضوع تغيير المناهج التعليمية في الدول العربية مسألة قديمة ، جرى التعامل معها مرات سابقة على دعوة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في ديسمبر/كانون الأول من عام 2001م ، التي دعا فيها إلى إعادة النظر في المناهج التعليمية السائدة والمطبقة في الأقطار العربية ، فهاجت النفوس فقط لأن الدعوة جاءت من جهة أجنبية ، تماما كالرفض والهيجان الذي أعقب دعوات الإصلاح والديمقراطية، في العام 2004 ، وما زالت تتفاعل في الغالب رفضا من الأنظمة العربية والقوي السياسية التابعة لها ، بحجة أنها دعوات جاءت من دوائر أوربية وأمريكية ، وهذا دليل واضح على عدم الرغبة في إحلال الديمقراطية والحرية والعدالة ، لأنه لماذا يصبح خير الإنسان العربي مرفوضا إذا تم التنبيه له من جهات خارجية ، حتى ولو كانت أغراض تلك الجهات غير بريئة ، وهذا ينطبق عليه المثل العربي الشائع ( نكاية بالنظافة تبول في لباسه ) ، وكذلك ربط الإصلاحات ومحاربة الفساد والقمع بإندحار الإحتلال الإسرائيلي ، ولا يستطيع عاقل أو مجنون فهم العلاقة بين هذا وذاك ، في حين أن العاقل يستطيع أن يؤشر على أن الفساد والقمع والسجون ومصادرة الحريات للمواطن العربي ، هي من أهم الأسباب لعدم مبالاة الأغلبية العربية إزاء الإحتلال الإسرائيلي ، لأن هذه الظروف اللاإنسانية التي يعيشها المواطن العربي ، تقتل عنده الإحساس بالإنسانية والكرامة ، التي يسلبها الإحتلال الإسرائيلي من المواطن الفلسطيني أيضا ، والأنظمة العربية قاطبة تسلبها من مواطنيها بشكل لا يقل بشاعة عن سلوك الإحتلال الإسرائيلي .
في الحالات التي جرى فيها تعديل وتغيير في المناهج التعليمية والثوابت الوطنية السياسية كما في الحالة الفلسطينية, تمت التغييرات بهدوء كامل ودون صخب إعلامي أو سياسي:
1- في الحالة السورية لم يحدث مطلقاً أن وجّه كاتب أو صحافي أو حزب سياسي نقداً إلى حكومة بلاده لأنه شطبت إقليم الإسكندرونة من كُتب التاريخ والجغرافيا السورية, وهذا دليل على فهم متغيرات السياسة, وأن ما لا يمكن تغييره وما أصبح أمراً واقعا في السياسة الدولية, وتعترف به كل دول العالم, بما فيها دائمة العضوية في مجلس الأمن, من الأجدى الإعتراف به والتعامل معه كما هو.
2- في الحالة المصرية ، جرت التغييرات المذكورة في مناهج التعليم منذ عام 1979م ، دون إعتراض أحد, وما زالت مطبقة حتى الآن وأصبحت أمرا واقعاً جديداً, سيصبح بعد سنوات هو الامر الواقع الجديد – القديم.
3- في الحالة الفلسطينية ، كان شعار المنظمات الفلسطينية منذ عام 1965 ، هو "تحرير فلسطين من البحر إلى النهر" ، أي عدم الإعتراف بوجود دولة إسرائيل ، رغم أنها موجودة في الجغرافيا على كامل حدود فلسطين التاريخية, وموجودة في التاريخ والسياسة ، وتعترف بها كل دول العالم ومن ضمنها ثلاث دول عربية علناً: مصر منذ عام 1979م ، والأردن منذ عام 1994م ، وموريتانيا منذ عام 2000م ، وسراً تقيم عدة أقطار عربية علاقات تجارية وإقتصادية مع دولة إسرائيل, وتفتح لها سلطنة عُمان ودولة قطر مكاتب تمثيل تجاري منذ عدة سنوات . لذلك كان تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني عام 2000م ، لشطب المواد التي تدعو إلى تدمير إسرائيل وإزالتها أمرا طبيعياً, ينسجم مع موازين القوى العسكرية ، ومتغيرات السياسة الدولة التي لايمكن تجاهلها أو تغييرها.
لذلك جرى تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بإجماع الأغلبية العظمى وبهدوء شديد ، فيماعدا بيانات شجب من عدة فصائل فلسطينية مقيمة في دمشق ، وبياناتها هذه لا قيمة لها في الواقع السياسي والعسكري لأنها فصائل لايتعدى أفراد أكبرها العشرات ، إحترفت إصدار البيانات الكلامية ، وفي الوقت ذاته فهي بعيدة عن ساحة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, ولم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل . أما المنظمات الفلسطينية ذات الشعارات الإسلامية مثل "حماس" وحركة "الجهاد" ، فهي في تطبيقاتها السياسية ، تعترف بوجود دولة إسرائيل ضمن حدود عام 1967م ، وأكثر من مرة في السنوات الأخيرة ، عرضت حركة "حماس" ما كانت تسميه (هدنة مع دولة إسرائيل), وبالتالي فإن من يعرض (هدنة) مع (دولة) ، فهذا يعني أنه عملياً وواقعياً يعترف بوجود هذه الدولة ، وإعلان هذه الفصائل عن إلتزامها بالتهدئة مع دولة إسرائيل عقب إنتخاب محمود عباس ، رئيسا للسلطة الفلسطينية ، دليل على أنها عمليا مع الإعتراف بدولة إسرائيل ضمن حدود عام 1967 .
إن العرض السابق لتجارب عربية عدة ، في ميدان تعديل وتغيير المناهج التعليمية ، يدل بشكل واضح لا لبس فيه على أن تعديل المناهج كان يتم في العديد من الأقطار العربية ، كي تنسجم هذه المناهج ، وتواكب المتغيرات السياسية تحديداً ، دون ضجة تذكر في بعض الأقطار ، وعبر نقد غير جاد في أقطار أخرى كان أقرب إلى الإحتجاج أو تسجيل موقف فقط.
نستنتج أن الدعوة إلى تغيير أو إعادة النظر في المناهج التربوية – التعليمية العربية ، التي وردت بشكل عابر في حديث للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش, في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2001م ، ليست دعوة جديدة ، وقد مارستها أقطار عربية قبل سنوات عديدة من دعوة الرئيس الأمريكي.. إذاً لماذا الشك والريبة والهجوم على هذه الدعوة؟ أعتقد أن ذلك يعود إلى سببين:
الأول: أنها جاءت من شخص أجنبي/غربي ، والعقلية العربية لأسباب وظروف عديدة, مشبعة بالتفسير المؤامراتي لأغلبية ما يحيط بها أو له علاقة بها.
الثاني: أنها جاءت في هذه الظروف وفي هذا السياق الذي أعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، وبدء الحملة العسكرية في أفغانستان ، ضد حركة "طالبان" وتنظيم القاعدة ، الذي يرأسه أسامة بن لادن ، والخلط في التعامل الغربي أحيانا بين الإسلام كدين والإرهاب كفعل ، وورود تعبير (حرب صليبية) في إحدى خطب الرئيس الأمريكي بوش ، رغم أنه أعتذر عن ذلك عدة مرات ، وبعدة وسائل منها زيارة مسجد في واشنطن ، ودعوة إمام مسلم للمشاركة في إحتفالية التأبين الكبرى التي جرت لضحايا الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان.
ورغم كل هذه الملابسات التي يمكن أن يُساء تفسيرها عند البعض ، ويُختلف حول تفسيرها لدى البعض الآخر ، إلا أن إثارة الرئيس الأمريكي لمسألة تغيير أو تعديل المناهج التعليمية العربية ، مسألة تكتسب أهمية ولو من باب طرح الموضوع وفتح النقاش حوله فقط ، إذ من الملاحظ أن الموضوعات ذات العلاقة بمستقبل الأقطار العربية وتقدمها ، لا تطرح بقوة للنقاش والتفاعل في الشارع العربي ، إلا بعد طرحها من جهات أجنبية تحديدا أوربية أو أمريطية ، كما نلاحظ في موضوعي تغيير المناهج التعليمية والإصلاحات الديمقراطية ، فلولا طرح هذين الموضوعين يقوة من الخارج ، لما تجرأت المحافل والتجمعات والكفاءات العربية على طرحها بهذه القوة ، بدليل أن هذين الموضوعين كان يتحدث عنهما بخوف وحذر طوال العقود الأربعة الماضية ، وام يصبحا ضمن أجندة الشارع العربي ، إلا بعد طرحهما من الخارج ..لذلك فهي ملفات جديرة بالنقاش الموضوعي الهادئ من قبِل المختصين في كافة المجالات ومن مختلف الجهات ، آخذين بعين الإعتبار ردود الأفعال المسبقة التي صدرت من جهات حزبية إسلامية خاصة فيما يتعلق بمناهج ما يعرف بإسم التربية الدينية ، وواقع المناهج التعليمية السائدة في الأقطار العربية ، هو أفضل إدانة ورفض لهذه المناهج ، ويمكن الإستدلال على ذلك من خلال دراسة واقع هذه المناهج من ناحية :
1. مواكبة التكنولوجيا والتطور العلمي
أعتقد أنه إستناداً لإطلاعي على المناهج التعليمية في عدة أقطار عربية ، ومن خبرتي الشخصية من خلال ممارستي السابقة لمهنة التدريس في عدة ثانويات وجامعات عربية ، فإن المناهج التعليمية العربية ، ما زالت في أغلبها تولي الأهمية لدراسة الموضوعات النظرية المتعلقة بالآداب والعلوم الإنسانية في مختلف ميادينها كعلوم الإجتماع والتاريخ والجغرافيا ، وذلك على حساب العلوم التكنولوجية ، وما جدّ فيها في العشرين سنة الماضية, حيث تغيرت صورة الإنسان والحياة ، بعد تحكم التكنولوجيا الحديثة في كافة أوجهها. صحيح أن أغلب الجامعات العربية تضم كليات للعلوم والطب والصيدلة وأقسام للأحياء والكيمياء ، لكن هذا لا يعنى شيوع النظرة العلمية للحياة ، وسيطرة التكنولوجيا على تسيير أوجه هذه الحياة. بدليل أنه في السنوات العشر الماضية ، بدلا من شيوع إستعمال المكننة والتكنولوجيا والإنترنت ، شاعت بشكل علني ، ما عرف بالعيادات القرآنية ، حيث مجموعات من المشعوذين الذين يصفون أيات من القرآن الكريم لعلاج كل مرض ، بما فيه السرطان الذي يدّعي هؤلاء المشعوذين أنه من عمل الجن وأنهم قادرون على معالجته والشفاء منه ، والكارثة الأكبر من وجود هؤلاء المشعوذين ، هي في وجود هذه الملايين من الجهلة الذين تصدقهم ، ويجمعون منها رغم فقرها الملايين . وضمن نفس السياق صرعة ما يسمّى الإعجاز العلمي في القرأن ، حيث كلما توصل العلم لإكتشاف جديد ، حتى تبارى أولئك لقوم للبحث في القرآن الكريم عن آيات يلوون عنق حقيقتها للإدعاء أن هذه الآيات ، تنبأت بهذا الإكتشاف ، دون أن يوضحوا للجهلة الذين يصدقونهم ، لماذا لم يبحثوا مسبقا في آيات القرآن الكريم ليقولوا لنا ، إنتظروا الإكتشاف العلمي الفلاني ، لأن الآية الفلانية تتنبأ به !!.
***********************************
عندما طرحت إمارة دبي قبل خمسة أعوام تقريبا مسألة (الحكومة التكنولوجية), وحددت فترة معينة لذلك، وبعد إنتهاء هذه المدة ، تُصبح كل معاملات المواطن ومراجعاته لدوائر الحكومة من خلال شبكة الإنترنت ، كانت إمارة دبي سبّاقة في الوطن العربي لإستشراف آفاق المستقبل لمواطنيها ، وهو الحاضر والمطبق في أوروبا وأمريكا ، الذي جعل الفارق الحضاري بين الأقطار العربية وهذه الدول ، يُقاس بمئات السنوات . إن مثالاً واحدا يُسهل تصور وتخيل هذا الفارق, وهو المشهد في دائرة حكومية عربية ومثيلتها في دولة من دول أوروبا الغربية أو الشمالية… الدائرة العربية التي تعج بالمواطنين المراجعين والطوابير والمدخنين وأصوات الزحام والشكاوي ، في حين أن الدائرة الغربية المشابهة في الدول المذكورة مجرد موظفين أمام أجهزة الهاتف والكمبيوتر ، يديرون حياة المواطنين بصمت من خلال كبس أزرار الكمبيوتر أو الرد على أجهزة الهاتف ، لذلك إنتشرت في تلك الدول منذ سنوات ، الوظيفة التـي يطـلق عليها ( العمل وأنت في بيتك ) ، ومن الممكن أن تكون موظفا رسميا لشركة في ( نيويورك ) ، وأنت أمام جهاز الكومبيوتر في منزلك في عاصمة عربية ، أو قرية عربية لا تجد إسمها في خارطة الدولة ذاتها . وهذه ليست مجرد تصورات خيالية ، فالجهات المتخصصة في الأقطار العربية’ تعي أهمية تطوير المناهج التعليمية العربية ، لتواكب التطورات التكنولوجية ، والدليل على ذلك (الحلقة الدراسية العربية حول تطوير مناهج التربية التكنولوجية) التي إختتمت أعمالها في العاصمة الأردنية عمّان في الحادي والثلاثين من يناير/كانون الثاني لعام 2002م ، وقد إستمرت هذه الحلقة أربعة أيام ، ونظمها الإتحاد العربي للتعليم التقني بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في السلطة الوطنية الفلسطينية وجامعة القدس المفتوحة ، وبمشاركة باحثين ومتخصصين من عدة دول عربية.
وقد أوصى المشاركون بـ "ضرورة إدخال مادة التربية التكنولوجية في مناهج التعليم العام ، كما أوصوا بالإستفادة من التقنيات الحديثة في مجال التربية التكنولوجية ، وتبادل الخطط الدراسية والكُتب, والإستفادة من خبرات المنظمات العربية والدولية ، وتوفير الكُتب والوسائل التعليمية المناسبة…., ودعا المشاركون إلى إعداد المدرسين والمدربين بالشكل المناسب.. وتعزيز التعاون بين مؤسسات التعليم والتدريب المهني وسوق العمل في مجال إعداد وتشجيع الأنشطة المرتبطة بالتربية التكنولوجية". هذه التوصيات من متخصصين عرب تدلل على الفارق التكنولوجي بين الأقطار العربية والأوروبية, وأيضا دول الجوار التي فيها من نسب ومعدلات الفقر والحاجة أكثر مما هو في أفقر الدول العربية, وأقصد (الهند), حيث نستطيع – مقارنة بالدول العربية جميعها – تسجيل الملاحظات/الفوارق التالية:
1. إنضمت الهند إلى عضوية (النادي النووي) بعد أن جربت وفجرت قنبلتها النووية الأولى, منذ ما يزيد على أربعة عقود ، وأعقبتها بإنتاج وتخزين ترسانة نووية, جعلتها في هذا الميدان التسليحي, تقف في مصاف روسيا والولايات المتحدة الأمريكية, ويُحسب حسابها عند دراسة الإصطفافات أو التكتلات الدولية.
2. أعقبت ذلك بإنتاج العديد من الصواريخ ومنها عابرة القارات وحاملة الرؤوس النووية ، وحاملة الأقمار الصناعية.
3. تُخرّج الهند وتصدر إلى دول العالم, وأولها الولايات المتحدة الأمريكية, أكبر نسبة من المتخصصين في مجلات الكمبيوتر, سواء ألـ Hard ware or Soft ware ونسبة ملحوظة ممن يعملون في صناعة وهندسة وبرمجة الكمبيوتر فيSilicon Valley في الولايات المتحدة هم من الهنود, ومن جراء ذلك تسمع النكتة الأمريكية التي تقول: إذا زار المواطن الأمريكي منطقة Silicon Vally, فمن الصعب أن تقنعه أنه ما زال في الأراضي الأمريكية ، ولم يدخل بعد نيودلهي أو كلكتا… والمتخصصون الهنود في مجلات الكمبيوتر في هذا الوادي الأمريكي, يقدرون بعشرات الآلاف.
4. إن ذلك عائد إلى تركيز المناهج التعليمية الهندية على هذه النواحي التكنولوجية وتوجيه أنظار طلاب الجامعات نحوها, عبر حوافز وتسهيلات معينة, وهذا ما يفسر وجود ما لا يقل عن عشرين جامعة هندية ، متخصصة في علوم الكمبيوتر فقط. (3)
دراسة المثال الهندي وحده, يبين الفارق العلمي- التكنولوجي, بين الهند وكافة الدول العربية, أو الدول العربية مجتمعة في مواجهة الهند وحدها .
وهذا يقودنا للسؤال المنطقي: لماذا هذا الفارق في حين أن أغلب الدول العربية ، أو الدول العربية مجتمعة ، فيها من الإمكانات المادية والثروات الطبيعية أضعاف أضعاف ما في الهند ، آخذين في الإعتبار تعداد السكان ، حيث يعيش في الهند أكثر من مليار نسمة ، وفي الأقطار العربية مجتمعة أقل من ثلث هذا العدد .
إن الحالة الهندية, وتذكر ما حدث في اليابان من تقدم تكنولوجي مذهل ، عقب إعلان هزيمتها وإستسلامها ، وتغيير مناهجها التعليمية بمساعدة السلطات الأمريكية ، يؤديان بنا إلى نتيجة مهمة ، وهي أن المناهج التعليمية التي يتلقاها طلاب أي قُطر في كافة المراحل الدراسية ، هي التي تُشكل التوجه العام لدى غالبية الطلاب والدارسين في ذلك القُطر ، فإن كانت المناهج التعليمية تولي أهمية خاصة للدراسات الأدبية – النظرية, والبحوث الدينية – الفقهية, فمن الأمور الطبيعية, أن تكون قلة من هؤلاء الطلاب من يتوجهون للدراسات العلمية – التكنولوجية ، بينما من يطلق عليهم الوعاظ والدعاة و أئمةالمساجد ، يتخرجون سنويا بالآلآف ، والمعاهد الدينية أكثر من المعاهد والجامعات التكنولوجية بشكل واضح ، وهذا ما يتبين من خلال طرح سؤال دون الإجابة عليه ، وهو : في مجال العلم والتكنواوجيا والحضارة ، أين الأقطار العربية وأين اليابان كمثال فقط ، لأن هذه المقارنة المجحفة هي نفسها مع العديد من الدول الأوربية ، بما فيها أسبانيا ذات الإمكانات المحدودة ، قياسا بدول أوربية أخرى !.
2. أهمية تحديث مناهج التربية الدينية
أود أن أوضح وأنبه إلى أن هذه المسألة في غاية الحساسية ، لذلك ينبغي تناولها من منطلق الحرص على أن يكون الدين في مدارسنا وجامعاتنا عاملاً إيجابياً ، كما هو في أساسه بعيداً عن مسائل الخلاف الفقهي ، إذ حوّل بعض العلماء والفقهاء حياة المسلم إلى غابة شائكة من الصعب معرفة الإتجاه الصحيح فيها ، من كثرة الفتاوى والفتاوى المضادة التي تواجه الإنسان المسلم بشكل يكاد يكون يوميا… ولا أعتقد أن هناك (فتوى من عالم أو فقيه ، إلا واجهتها فتوى مضادة تنقضها ، فأين وكيف يسير المسلم وأية فتوى يتبع؟! ، وأذكر فقط عدة أمثلة على هذه الفتاوى ، والفتاوى المضادة في السنوات القليلة الماضية ، كي ندرك حجم البلبلة التي تشبه الفوضى التي يعيش فيها الإنسان المسلم ، خاصة في الأقطار العربية .
1- فتوى من آية الله الخميني بقتل الكاتب البريطاني (سلمان رشدي) ، بسبب روايته (آيات شيطانية) ، وهي فتوى خالفها ولم يؤيدها علماء وفقهاء السنة ، وصدرت آنذاك بيانات ضدها ، تدينها وتفندها ، فيما أيدها غالبية علماء الشيعة.
2- فتوى بتحليل نقل الأعضاء البشرية أو زرعها من إنسان إلى أخر ، وفتاوى مضادة حرّمت ذلك.
3- فتوى بأن العمليات العسكرية التي يقوم بها بعض الفلسطينيين ضد جيش الإحتلال الإسرائيلي أو التجمعات الإسرائيلية ، والتي يفجرون فيها أنفسهم ، هي عمليات إستشهادية ، وأن المقتول فيها (شهيد) وبينما فتاوى مضادة ، إعتبرتها عمليات إنتحارية ، وهذا حرام في الإسلام وبالتالي فهو ليس شهيدا ، وقد أدخل بعض الشيوخ المسألة في تفاصيل وتعقيدات جديدة ، عندما إعتبروا من يُفجر نفسه في تجمعات عسكرية (شهيدا) ، ومن يُفجر نفسه في تجمعات مدنية (منتحراً) ، وعقب قيام إحدى الفتيات الفلسطينيات بعملية من هذا النوع ، قرأنا لمن أفتّى بأنه كان ينبغي أن يصطحبها ( محرم ) أثناء ذهابها لتنفيذ هذه العملية .
4- ثارت ضجة بين شيوخ مصر حول (الدروس الخصوصية) الشائعة في أوساط العائلات المصرية ، فأفتى بعض الشيوخ صراحة بتحريمها ، ورد عليهم شيوخ آخرون بفتاوي تحللها.. وفي مصر تحديداً, تثار بشكل دائم ومستمر صرعة الفتاوى والدعاوي بإسم الدين ، وللتذكير فقط:
أ- فتوى وتحريض أديا إلى اغتيال الدكتور فرج فودة قبل سنوات قليلة ، بسبب كتابه ومناقشاته حول (زواج المتعة) ، الذي يحلله (الشيعة) علناً ، ويحرمه (السنّة ) صراحة ، في حين أن الطرفين ، يستعملان للتحريم والتحليل الآية القرآنية ذاتها ( وما إستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) ، ولكنهم يختلفون في تفسيرها عبر تفصيلات فقهية لا يستطيع المسلم العادي وربما المثقف ، أن يلمّ بها أو يفهم المقصود منها ، وهذه في حد ذاتها مشكلة تواجه المسلم ، إذ من الصعب أن يتفق عدة فقهاء على شرح وفهم واحد لأية آية قرآنية .
ب- دعوى بالتفريق بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته ، وتهديدات علنية بقتله ، أدت إلى هروبه من مصر إلى هولندا ، وما يزال يعيش فيها منذ أكثر من عشر سنوات تقريبا ، وهذا في حد ذاته إساءة بالغة للنص القرآني ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، إذ أنه من المعيب والمخجل أن يهرب مفكر مثل نصر حامد أبو زيد من دار إسلام ( مصر ) ، ويلجأ لطلب الأمن والأمان في بلد عند فقهاء الظلام إسمه من ضمن بلاد النصارى !!!.
ج- دعاوي وتحريضات مشابهة ضد الروائي المعروف (نجيب محفوظ), وخصوصاً بسبب روايته (أولاد حارتنا) ، أدت إلى قيام أحد الشباب بمحاولة قتله طعنا بالسكين ، لكنه نجا من هذه المحاولة… وقد كان ذلك بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب.
د- فتوى بتحريم رواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر ، وهي فتوى حديثة العهد ، يتذكر القراء أنه تم بموجبها حرق الرواية ، ووقوع صدامات بين طلاب جامعة الأزهر المحتجين ضد الرواية وقوات الشرطة المصرية ، أدت إلى وقوع ما لا يقل عن سبعين جريحا من الطرفين ، وأعتقد أن غالبية الذين تظاهروا ضد الرواية لم يقرأوها ، وانقادوا كالمنومين مغناطيسيا وراء إثارة من شيخ أصدر بيان الإثارة ، وهو نفسه لم يفهم الرواية ضمن سياقها على أنها عمل إبداعي ، يتمثل فيه الروائي مواقف شخوصه الروائية ، وإن أثارت بعض أقوال الشخصيات الشيوعية في الرواية ذلك الشيخ ، إلا أنه قفز عامدا متعمدا على عشرات الأقوال التي تعبر عن مواقف شخصيات أخرى ، والراوي الذي ربما يكون هو المؤلف ، وفيها تمجيد لله تعالى ورسوله وللإسلام...والمثير للدهشة أن هذه الإحتجاجات ضد الرواية تأتي بعد ما لايقل عن عشرين عاما على صدور طبعتها الأولى ، فأين كان كافة فقهاء وعلماء الدين الإسلامي طوال عقدين من الزمن ، خاصة أن الرواية كانت من الأعمال الإبداعية المشهورة في عموم الأقطار العربية ، ولم يلاحظ واحد منهم أن فيها أية تعديات على الدين والمعتقدات الإسلامية ، بما فيهم شيوخ وعلماء القطر السوري المشهود لهم بعلمهم ومتابعتهم لما يصدر في بلادهم من كتب وإبداع .
هـ- آخر هذه الدعاوي المدعومة بفتاوي مشابهة ، هي محاولة التفريق بين الدكتورة نوال السعداوي ، وزوجها الدكتور شريف حتاتة ، التي إنشغل بها بعض الشيوخ في الأوساط المصرية أكثر من عام ، إلى أن رفض القضاء هذه الدعوى .
إزاء هذه البلبلة التي قلت أنها تشبه الفوضى ، وهي تنعكس بشكل من الأشكال على مناهجنا التعليمية وممارساتنا اليومية ، ألا تصبح مسألة وضع حد لها في غاية الأهمية؟! ومن تفاصيل هذه المسألة ، يستجد موضوع في غاية الخطورة, وهو يُحدث فعلاً خلافاً في تطبيقات حياة المسلم اليومية ، هذا الموضوع هو كيفية تناول وفهم بعض التطبيقات الواردة في القرآن والسنة؟! وهذه مسألة تحتاج إلى جهد وشروحات من علماء الدين المتنورين، القادرين على وضع مفاهيم دينية تنسجم مع الدين وأصوله ، وتيسر حياة الإنسان عبر فهم معاصر متطور إيجابي للدين الإسلامي ، دون الإخلال بالثوابت والفروض الديينية ، وأذكر في هذا السياق أمثلة فقط ، توضح صعوبة هذه المسألة في حياة المسلم اليومية ، وخطورتها في نظرة الآخرين للإسلام ، من هذه الأمثلة التي ترد في الكتب الدينية التي تدّرس في المعاهد والكليات العربية :
1. كيف يمكن تناول وشرح وتقديم حديث الرسول (ص) الذي يقول فيه: "عن أبي هريرة (ر) قال: قال رسول الله (ص): "إذا دعا الرجل أمرأته إلى فراشه, فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تُصبح" متفق عليه.. أو حديثه (ص): عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" رواة الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، فهل يُعقل أن يصدر هكذا حديث عن الرسول ( ص ) الذي علّم المسلمين أن السجود لا يكون إلا لله تعالى ؟؟. وتركيزي على ذلك مرده إلى إن العديدين ممن تعلّموا ودرسوا هكذا أحاديث ضمن مناهج التربية الدينية السائدة ، يسيئون إستعماله في حياتهم اليومية مع زوجاتهم عبر ممارسات فوقية وتعسفية تصل إلى حد الإغتصاب بمفهمم المجتمعات الغربية المتحضرة التي تحترم إنسانية المرأة وخصوصيات نفسها وجسدها ، ومن يتابع تقارير المؤسسات الإجتماعية القائمة على حل المشكلات العائلية في بعض الدول الأوربية ، يلاحظ أن نسبة عالية من السيدات اللواتي يراجعن تلك المؤسسات هنّ من السيدات المسلمات العربيات تحديدا ، ولإجبارهن على قبول الكثير من عنف الأزواج وتعسفهم ، يستعملون معهن هذه الأحاديث لتبرير تصرفاتهم هذه على إعتبار أنها حقوق لهم أقرّها الدين الإسلامي ، وتحدث فيها الرسول ( ص ) .
2. ضمن السياق ذاته ، آخذين في الإعتبار ما يمكن أن تحمله بعض الشروحات لبعض الأحاديث من مفاهيم مختلفة ، وتعطي بالتالي تطبيقات مغايرة من شخص إلى آخر ، ما يمكن أن يفهم من حديث الرسول (ص): عن أبي هريرة (ر) أن رسول الله (ص) قال: " لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فإضطروه إلى أضيقه " رواه مسلم.
كيف يمكن تقديم هذا الحديث وشرحه ، خاصة وأنه يوجد بيننا متزمتين جهلة ، يطبّقون هذا الحديث بنصه حرفياً ، في حين يوجد بين العرب والمسلمين حوالي خمسة وثلاثين مليونا من العرب المسيحيين ، عرباً أباً عن جد منذ آلاف السنين؟ ألا نلقي عليهم السلام؟ أنضايقهم في الطرقات؟ وفي التفاصيل ، إذا تزوج عربي مسلم ، عربية مسيحية ، أو أجنبية مسيحية ، وهذا جائز شرعا ، أيلقى عليها السلام أم لا؟ وكيف يستقيم الفهم الحرفي المتزمت مع طبيعة الحياة؟ وهذه الزوجة المسيحية – عربية أم أجنبية – نهاراً في بيته وليلاً في سريره؟! إن ما يثير هذا النقاش إختلاف الشرّاح ، فمثلا بصدد هذا الحديث ، ورد القول (4)في شرح الحديث في الهامش ( إجعلوه يعدل عن السير في وسط الطريق وبحبوحته إلى أضيقه وطرفه عند الزحام ، على ألا يُسبب ذلك له الأذى). إن جملة (على ألا يسبب ذلك له الأذى) هي إجتهاد إضافي من الشارح ، لأن الحديث لا يتضمنها مباشرة أو ضمنا ، بدليل أن هكذا شرح وفهم ، لم يرد مشابها له في العديد من طبعات (رياض الصالحين) لشُراح ومحققين آخرين في طبعات أخرى عديدة.
3. ضمن السياق ذاته الداعي إلي فهم صريح متطور للنصوص الإسلامية ، بعيداً عن النقل الأعمى ، خاصة أن الغالبية العظمى من المسلمين ، مسلمون بالوراثة ، لم يدرسوا إلا القليل عن دينهم ، وخارج الأقطار العربية وإيران ، فإن غالبية المسلمين لا يفهمون إلا القليل عن الإسلام ، وهذا القليل أغلبه مُشوّه ومحرّف !. … كيف يمكن فهم وتقديم بعض الآيات القرآنية؟ . في غالبية دراساتنا ومناقشاتنا ، نعترض على ما ورد في العهد القديم من أن اليهود هم شعب الله المختار(5)؛ كيف نشرح هذا الرفض عندما ترد الآية القرآنية:" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين".(6) وترد نفس الآية في موقع ثان في سورة البقرة(7). إن مثل هذه الآية تحتاج إلى شروحات عديدة لبيان تعارضها أو توافقها مع مقولة العهد القديم (شعب الله المختار) ، وهي شروحات ليس في وسع المسلم العادي الإلمام بها ، أما المشتغلون بالعلوم الدينية فنادرا ما يقدمون تفسيرات أو تبريرات مشابهة .
4. كيف يمكن فهم الدعاء الذي يتردد كل صلاة جمعة على الأقل في عشرات الآلاف من المساجد في الأقطار العربية, ذلك الدعاء الذي يرد فيه (اللهم انصرنا على اليهود والنصارى والكفار والملحدين….اللهم دمرّهم .. اللهم دمرّ أعداءك أعداء الدين يارب العالمين).
كيف يردد الملايين من المسلمين العرب تحديدا هذا الدعاء بشكله المطلق ، وبينهم ما لا يقل عن خمسة وثلاثين مليونا من العرب المسيحيين؟…. وهذا الدعاء عندما يتكرر بهذا الشكل يوميا ، و منذ الآف السنين ، ألا يُحدث شرخا نفسيا ، بين المسلمين العرب وكافة الدول الأوروبية والأمريكية التي يقطنها مئات الملايين من هؤلاء (النصارى) ، الذين نعتمد على منتجاتهم وصناعاتهم في كافة شؤون حياتنا.. هؤلاء النصارى الذين إن أوقفوا تصدير القمح لعدة أقطار عربية ، وبسعر أرخص من سعره العالمي ، شاع في تلك الأقطار الجوع . هؤلاء النصارى ، إن أوقفوا تصدير الورق وآلات الطباعة وأجهزة الكمبيوتر للعالم العربي ، ما تمكنت ملايينه من طباعة القرآن الكريم وأحاديث الرسول ، والكتب الدينية والتاريخية التي تحرض على هؤلاء النصارى ، . وتطلب العون من الله لتدميرهم!! إن هذه التربية ، وهذه المفاهيم ، عندما تسود في وطن عربي تزيد نسبة الأمية فيه عن خمسة وخمسين في المائة ، يمكن أن تُفسر وتوضح هذا الإحتقان الخفي في العلاقة بين مسلميه ومسيحيه ، هذا الإحتقان الذي عندما يظهر على السطح ، يحدث ما شاهدناه في مراحل الحرب الأهلية اللبنانية (1976م- 1988م) ، وما يحدث من حين إلى آخر في صعيد مصر بين المسلمين والأقباط.. وهذا يفسر أيضا لماذا كان الذين نفذوا الأعمال الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م في الولايات المتحدة كلهم من العرب المسلمين ، خمسة عشر من المملكة السعودية ، واثنين من دولة الإمارات العربية المتحدة وواحد من مصر ، وواحد من لبنان.. وهذا الواقع شكل صدمة للمحللين السياسيين وللقيادات السياسية الأوروبية والأمريكية ، فكل الذين نفذوا ذلك الإرهاب من شعوب عربية ، حكوماتها هي الأكثر تحالفاً وصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي حكومات المملكة العربية السعودية و دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر… وقد عنى هذا أن الحكومات في واد ، وشعوبها في واد آخر ، لأن الحكومات تفكر في مصالحها حسب موازين القوى السائدة ، وشعوبها تنطلق من تربية ومناهج تعليمية ، تتلقنها منذ مئات السنين ، تعبئ نفسية شبابها بمفاهيم تضعهم في صدام دائم مع غالبية دول العالم, نتيجة سيادة وطغيان مفهوم (المؤامرة) ، فقد تشبعت عقلية غالبية الشعوب العربية بهذا المفهوم ، الذي يرى أن الكل… أن الجميع يتآمرون عليهم.. ناسين أنه في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ما لا يقل عن سبعة ملايين مسلم ، يتمتعون بكامل حرياتهم الدينية ، ويدخلون الجيش الأمريكي ، ويدعون ويبشرون بالدين الإسلامي ، عبر عشرات الجمعيات والمساجد ، ويعلنون شهرياً عدد النصارى الأمريكيين الذين تحولوا للدين الإسلامي علنا على مرأى ومسمع من حكومات هؤلاء النصارى ، في حين أنه في كل الأقطار العربية ، يحظر التبشير بالدين المسيحي, ويسجن ويطرد من البلاد، كل أجنبي نصراني يدعو ويبشر بالدين المسيحي ، كما حدث في مصر قبل عدة سنوات تقريبا ، فلم يرد النصارى البريطانيون والنصارى الأمريكيون ، بطرد مسلمين أو إقفال مساجدهم أو منعهم من التبشير العلني بالدين الإسلامي ، وأحياناً التحريض السافر ضد تلك الحكومات ، كما يحدث تحديداً في لندن ، إذ يتمتع الأصوليون المسلمون بحرية ، لا ينالونها في أقطارهم العربية بدليل أن أغلبهم هاربون من أقطارهم ، وبعضهم محكوم بالإعدام ، ووفرت لهم حكومات النصارى الأمن والراحة والسكن والراتب الشهري ، هذا الراتب الذي هو من خزينة الدولة النصرانية التي جزء منها من الضرائب التي يأتي بعضها من البارات والحانات والملاهي الليلية ، فيقبض أولئك (المجاهدون) منها رواتبهم الشهرية وميزانيات مساجدهم براحة بال ، لا يسألون عن مصدرها ، وهل هذا المصدر يوافق الشرع الإسلامي أم لا؟
هذا الخلل السائد في فكر المواطن العربي المسلم وممارساته, عائد – كما أرى ويرى آخرون- إلى المناهج التعليمية السائدة ، خاصة مناهج وكتب التربية الدينية ، التي تُلقن الأجيال مفاهيم ومعلومات ، لا يتمكنون من تمحيص خلفيتها التاريخية ، والسياق الذي وردت فيه ، فينتج عن ذلك التحجر الذي يفسر تخلف العالم العربي ، والتطرف الذي يسود حياتنا مع (الآخر) ، وحياة الفرد مع أسرته ، إلى درجة أن المرح والضحك أصبح علامة شؤم ونذير سوء… فإذا ما وُجد مجموعة أصدقاء في جلسة شاع فيها المرح وخفة الظل ، وضحكوا… فجأة يعلو صوت واحد منهم أو أكثر بشكل لا شعوري ، داعياً : ( اللهم إكفنا شر هذا الضحك!)… وهذا التطرف هو ما يفسر خلاف المسلم والمسيحي العربي حول بناء جامع أو كنيسة ، في مجتمعات نعتقد أنها أكثر المجتمعات العربية تعليماً وفهماً وعقلانية ، وهو خلاف أدى عدة مرات لحرق وتدمير ونهب وإطلاق رصاص ، ونترك دراسة السبب الرئيسي لذلك ، ونلقي باللوم على العامل الخارجي الذي يتآمر علينا… إنه قصور مواجهة الذات ، عبر البحث عن تبريرات خارجية لكل ما يصيبنا من أيدينا وأفعالنا .
لذلك تستحق التقدير والإشادة جرأة وعقلانية الدكتور محمد بن أحمد الرشيد ، وزير المعارف السعودي ، في إنتقاده المباشر لأسلوب تلقي المعلومات السائد في المدارس السعودية ، والذي ظل خلال ثلاثة عقود من المسلمات التربوية التي يؤمن بها القائمون على التعليم، وقد جاء ذلك في لقاء تربوي عُقد في الرياض في الثاني من فبراير عام 2002م ، حضره مسؤولون عن الجهات المشرفة على التعليم في المملكة العربية السعودية ، وقد شدد على ضرورة الإنتباه إلى متطلبات العصر وتوجيه المنافسة ، للتمكن من التقنية والعلوم الحديثة ، وقد قال نصا: "إن المسلمات التربوية التي كنا نؤمن بها قبل ثلاثين عاماً، قد اختلفت ولم تعد مصدر التلقي الوحيد ، بل سحبت البساط من تحت أرجل الكثيرين في وسائل الأعلام والاتصال". وتابع القول: "إن أسلوب التلقين الببغائي لم نجن منه إلا الحنظل ، فلا بد من هجره ، وإن الحكمة ليست مقصورة عليكم…".(8) و هذا الحنظل أسهم في تكثيفه في حياة المواطن العربي ، مجموعة من الشيوخ الذين يقدمون أنفسهم على أنهم فقهاء الزمان والعصر ، وهم وحدهم من يملك مفاتيح الحكمة والجنّة أيضا ، فيفتون في كافة أمور حياة المسلم ، يحرّمون ما يريدون ، ويحللون ما يريدون ، وأغلبهم لا يملك من الخبرة الفقهية إلا مظهري الجلباب القصير واللحية الطويلة ، التي شهدت بعض الأقطار العربية من بعضهم صرعة ( التوبة ) ، خاصة فيما يتعلق بالإرهاب في العراق ، فمن فتوى لدعمه إلى توبة وتراجع عن تللك الفتوى ....إن هذه التربية وما يصاحبها من تثقيف يومي في المساجد والزوايا والفضائيات العربية ، لن ينتج عنه سوى هذا العنف الذي تشهده الساحة العراقية ، ويتجلى بوحشية تجد لها غطاءا يوفره البعض من الدين والثقافة الإسلامية .
أعتقد بعد رصد كل هذه الظواهر ، وما صاحبها من إرهاصات ودعوات ، تصبح مسألة تغيير البرامج التربوية العربية – الإسلامية ، ضرورة ملحة لمجتمعاتنا ، كي تأخذ بأساليب العصر العلمية – التكنولوجية ، وتنسحب من تربية العنف ، وعلينا أن نتذكر التطبيقات العربية التي ذكرتها والتي غيرت مناهجها التعليمية عدة مرات في العقود الأربعة الماضية ، ونستمع للأصوات العربية المتخصصة الداعية لهذا التغيير ، وأن لا نتحسس لمجرد أن هذه الدعوة لتغيير المناهج التعليمية ، تتردد في دوائر القرار الغربية .
1. لمزيد من التفاصيل يراجع : د. حسن فتح الباب وسيد خميس, مجلة دراسات عربية, العدد( 11), سبتمبر 1980م, ص 96, وكذلك كتاب: مصر بعد المعاهدة – محمد سيد أحمد, دار الكلمة, بيروت 1980م.
2. هناك الكثير من هذه التفاصيل حول هذه الموضوعات, من وجهات النظر المختلفة, في كتاب: د. أحمد أبو مطر, الثقافة المصرية في زمن التطبيع, منشورات الإتحاد العام للأدباء والكُتاب العرب, عمان 1994م.
3. جريدة الشرق الأوسط, العدد 8466, الجمعة 1/2/2002م.
4. رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين, للإمام محي الدين النووي, تحقيق وتعليق وشرح علي عبدالحميد أبو الخير, دار أبو الخير للنشر, بيروت, الطبعة الأولى عام 1996م, ص 322.
5. العهد القديم, سفر التثنية, الإصحاح السابع, جملة 6 و 7, وورد المعنى نفسه في أسفار أخرى, بصيغ مختلفة, خاصة في سفر الخروج.
6. سورة البقرة, الآية رقم 47.
7. سورة البقرة, الآية رقم 122.
8. جريدة الشرق الأوسط, العدد 8468, الأحد 3/2/2002م.
كان ظهور حركة (طالبان) على مسرح الأحداث في أفغانستان عام 1996 ، مفاجأة كبيرة لأغلب المراقبين، فقد تمكن عدة (مئات) من طلبة (طالبان) العلوم الدينية في باكستان وأفغانستان، بدعم من حكومة باكستان، وتحديداً مخابراتها العسكرية، من تنظيم صفوفهم، ودخولهم أفعانستان لتعبئة وتنظيم ميليشيات، شعب (البشتون) الذي يشكل غالبة سكان البلاد ، معتمدين على سيكولوجية الأغلبية في أقطار العالم الثالث ، إذ تطمح دوماً للسيطرة على باقي الاقليات وتذويب هويتها وثقافتها ولغتها إن وجدت. ونتيجة الدعم العسكري الباكستاني الضخم، وسيطرة (البشتون) على أغلب مساحة أفغانستان، فيما عدا مناطق الشمال، وإنهيار الجبهة الداخلية منذ سنوات، تمكنت قوات (طالبان) من التقدم ودخول العاصمة (كابول)، وبعد أسابيع قليلة أعلنت الحركةأفغانستان ، التي كانت (ملكية) لسنوات خلت قبل الغزو السوفيتي، إمارة إسلامية، يترأسها أمير المومنين الملا محمد عمر (كان عمره عام 1996) حوالي خمسة وثلاثين عاماً ، و لم يكمل بعد دراساته الدينية، وحسب إعتقاد (طالبان)، فهو ليس أميراً للمؤمنين في إمارة أفغانستان فقط، ولكن للمؤمنين (المسلمين) في كافة بقاع العالم ، أي أمير على حوالي مليار ومائتي مليون مسلم ، ففي فكر (طالبان) مسحة من أفكار حزب التحرير الذي يؤمن بخلافة إسلامية وأمير واحد للمؤمنين منذ أن وضع هذه الأسس، مؤسس الحزب في بلاد الشام (تقي الدين النبهاني)، حيث لا بد للمسلمين من "إمام يلم شعثهم ويوحد كلمتهم، ويجمع تفرقهم، ويطبق فيهم شرع الله عز وجل".
كيف كانت تطبيقات شرع الله الطالباني في أفغانستان، في امارة أفغانستان؟ أمعنوا النظر، ودققوا الفهم، كي نرى كيف طبقت (طالبان) شرع الله، وما سيعقب ذلك من أسئلة:
1- أوقفت البث التلفزيوني في عموم مناطق إمارة افغانستان ، وحرّمت تحت طائلة تطبيق الحد على كل من يحاول التقاط البث التلفزيوني القادم من مئات محطات البث العربية والاسلامية والاجنبية.
السؤال هو:
هل حركة طالبان وأمير مؤمنيها الملا محمد عمر على حق في مسألة وقف البث التلفزيوني، وأكثر من مليار مسلم، في حوالي خمسين دولة، على (باطل)؟ وهل يفهم الملا محمد عمر (الذي كان مجرد طالب يحاول تحصيل العلوم الدينية) في أمور الفقه والتشريع، أكثر من علماء الشيعة وفقهائها في (قم) الايرانية؟ واكثر من علماء وفقهاء السنة في مصر والمملكة السعودية، وسائر عواصم المسلمين، حيث مئات العلماء والفقهاء ومراكز الفقه والفتوى والتشريع، ولم يقل واحد منهم لا بشكل مباشر ولا غير مباشر، لا تصريحاً ولا تلميحاً بتحريم البث التلفزيوني، وبعكس التفكير الطالباني المتخلف المنغلق، تقوم محطات التلفزيون في كل بقاع المسلمين وأقطارهم، ببث الصلوات على الهواء مباشرة، وتستضيف عشرات الشيوخ والفقهاء لبث دروسهم الدينية، في مختلف الاوقات والمناسبات، مما جعل بعض هؤلاء الشيوخ مثل (المرحوم) محمد متولي الشعراوي ويوسف القرضاوي، نجوماً تلفزيونية، تنافس نجوم ونجمات السينما العربية.
2- منع المرأة من مزاولة العمل في العديد من مجالات الحياة، ومنعها من الاختلاط بالرجال، مما جعل الغالبية العظمى من النساء الأفغانيات رهينة قيد الإقامة شبه الإجبارية في البيوت ، فأثر ذلك على مجالات الإنتاج، بسبب تعطيل نصف طاقة المجتمع.. كما أدى إلى إغلاق العديد من مدارس البنات، بسبب عدم توفر الهيئة التدريسية من النسـاء (المنقّبات ) ، وعندما كان من أطلق على نفسه، أو أعطى نفسه لقب أو صفة الملا، ونقصد الطالب محمد عمر، يُسأل عن كل هذه القيود المفروضة على المرأة، يجيب سائليه، مدعياً ان مجموع أحاديث الرسول (ص) عن المرأة، يفهم منها أن المرأة خلقت للنكاح فقط ، وعندما يستغرب مستمعوه هذا الجواب، كان يعيد على أسماعهم : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا دعا الرجل إمرأته الى فراشه، فلم تأته فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح".
3- فرض نوع من الحجاب على المرأة، جعلها إن سارت في الشارع، وهذا ما يحدث نادراً، تسير كما شاهدناها في التلفزيون بعد هروب طالبان وقادتها وقد غطيت بغطاء سميك من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها، مع وجود فتحات صغيرة في هذا الغطاء تسمح بالتنفس فقط، والرؤية بصعوبة، وهو نوع من الحجاب / النّقاب ، لا وجود له في أية دولة إسلامية، فالغالبية العظمى من المسلمين، ومنهم في جمهورية ايران الاسلامية، يطبقون حديث الرسول (ص) الذي يقول فيه: (كل المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها) ، لذلك تسير النساء في غالبية الدول الاسلامية، وقد لبسن جلبابا طويلاً، وغطاءاً على الرأس ولكن حاسرات الوجه واليدين، بعكس المرأة الافغانية في زمن تخلف وجاهلية (طالبان) حيث تسير المرأة وكأنها جهاز (روبوت) ، لا تعرف هل هي إنسانة أم هيكل حديدي ، تبدو في بعض اللقطات كرجال الفضاء الذين يلفونهم كاملاً بالبسه شبه بلاستيكية، دون ان يظهر منهم سوى اعينهم وفي حالة المرأة الافغانية حتى عينيها لا تظهر.
4- فرض إجباري على كل الشباب فوق سن الرابعة عشرة، بإطلاق (لحاهم) وبحلق شواربهم، ومن لا يفعل ذلك، كان (الملالي) يضربونه في الشارع ضرباً مبرحاً، حتى ولو كان من الحالات التي يتأخر عنده نمو شعر اللحية.
والسؤال:
هل هذه من سنن الاسلام؟ ولماذا لم نشاهدها سابقاً والآن في كل الدول الاسلامية؟ لانها مسألة شخصية، لمن أراد إطلاق لحيته أو شواربه ولم نقرأ عنها في زمن الرسول (ص)... إلا الآن ، في زمن الطالب / محمد عمر، حيث له سننه الخاصة وفقهه الخاص.
5- تدمير التماثيل الأثرية التاريخية، ليس تماثيل بوذا التي أثارت ضجة في العالم كله، ولكن آلاف أخرى في متاحف افغانستان. وهذه المسألة مثل بقية المسائل السابقة، طبق آل (طالبان) عليها فقههم الخاص ، و بخصوص تماثيل بوذا، لم يستمعوا لكل النداءات الواردة من علماء العالم الاسلامي الذين زاروا (كابول) بصحبة عدد من أشهر فقهاء وعلماء المسلمين.
والسؤال:
هل أمراء / طلاب (طالبان)، أفقه من كل علماء وشيوخ المسلمين، ففي كل بلاد المسلمين تماثيل ومنحوتات بشرية وحيوانية، ومنذ دخول أو فتح المسلمين لمصر منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة، وحتى اليوم يوجد في مصر آلاف التماثيل، أو كما يقول علماء الاثار، فثلثي التماثيل والاثار الموجودة في العالم ، موجودة في مصر ، ولم نسمع منذ الفتح الإسلامي، من نادى أو فكّر في المساس بهذا المخزون الأثري التاريخي ، إلا أن لطلبان فقهها الخاص، وإسلامها الخاص جداً.
6- رغم كل المحظورات السابقة ، إلا أن حكام طالبان وأمراءها ، إستمروا في زراعة الحشيش، وشجعوا عليه، في الاراضي التي تحت سيطرتهم ، وكانت حوالي 90% من مساحة أفغانستان، ومن المعروف أن النسبة العالية من زراعة الحشيش، كانت في أفغانستان، وظلت كذلك في زمن الطالبانيين، وكانت نسبة حوالي ستين بالمائة من الحشيش والمخدرات التي تهرّب إلى أوربا والولايات المتحدة ، تأتي من أفغانستان الطالبانية ، وكان أمراء طالبان، يفتخرون بذلك علنا ، لأنهم كانوا يريدون تدمير أخلاق وصحة الشباب الأوروبي والأمريكي، وهذا عندهم نوع من الجهاد أو (الإرهاب المحمود).
هذا ، رغم أنه في كل الدول الإسلامية تُحظّر زراعة الحشيش، ويحاكم كل من يحاول نقله أو بيعه أو ترويجه، بالاشغال الشاقة في بعض الدول والإعدام في دول اخرى.
7- أما عن ممارساتهم أثناء معاركهم مع معارضيهم ، طوال السنوات الست التي سبقت سقوطهم و إندحارهم وهروبهم ، فقد قتلوا آلافاً من معارضيهم، وربما لم يكن لديهم أسرى في كل معاركهم، فكل من كان يقع تحت أيديهم كان مصيره القتل والتمثيل بجثته قبل الوفاة وبعدها... أما (سبى) النساء فحدّث عنه دون حرج ، فقد تم إغتصاب آلاف من النساء الأفغانيات وبمفهومهم حسب إسلام طالبان، فهؤلاء كنّ سبايا حروب، من حقهم الاستمتاع بهن ونكاحهن، وقد مارسوا ذلك حتى في الايام الاخيرة لهروبهم من كابول ، وقد تحدثت علنا عدة نساء أفغانيات، أنهم إغتصبوهن قبل هروبهم وأطلقوا عليهن (صفة سبايا) ، يحق لهم التمتع بهن ومعهن ، رضين بذلك أم رفضن، وقد إتضح بعد هروبهم أن أغلب قياداتهم بما فيهم الملا محمد عمر و أسامة بن لادن، قد تزوجوا من أكثر من أربعة نساء في آن واحد ، أطلقوا على من هنّ فوق عدد الأربعة، صفة (وما ملكت أيمانكم)... وما زال في أفغانستان حتى الآن اكثر من زوجة لابن لادن، من عدة جنسيات، يحاولن الإتصال بأهلهن والعودة لبلادهن .
تلك كانت بنية المجتمع الإسلامي الذي أقامته وأسسته حركة (طالبان) في أفغانستان خلال ستة أعوام من سيطرتهم على ما يزيد عن ثلثي مساحة أفغانستان . ماذا حدث لهذه البنية فور بدء الغارات الأمريكية العسكرية الجوية والبرية، دعماً لقوات التحالف الشمالي، الزاحفة نحو (كابول) العاصمة وباقي مناطق سيطرة طالبان؟... هذا هو ما حدث وشاهده العالم كله حيا في كافة الفضائيات التلفزيونية:
إنهيار سريع لقوات طالبان، وهروبها مع قياداتها، بمن فيهم الطالب الملا محمد عمر و أسامة بن لادن، فور وصول قوات التحالف الشمالي لمسافات قريبة من قواعدهم... مما نتج عنه: عدم وقوع أية معارك أو مواجهات عسكرية بينهم وبين قوات التحالف الشمالي، التي وصلت الى العاصمة كابول، وسيطرت على عموم افغانستان خلال اسابيع، بالطبع مدعومة بشكل أساسي، من الغارات الجوية الامريكية ، ولكن مهما كانت موازين القوى العسكرية مائلة لصالح خصومهم فهل من أخلاق المجاهدين المسلمين أن يهربوا من ميدان الجهاد سالمين بأرواحهم ، طالبين من جنودهم الصمود في وجه العدو !!!؟ . هل كان الرسول محمد ( ص ) وصحابته ، يهربون ويولّون الأدبار ، عند وصول جحافل المشركين لقواعدهم ؟. عشرات من الصحابة جرحوا وقتلو في معارك ومواجهات غير متكافئة لماذا فقط (هرب) مجاهدو طالبان ومعهم أمير المؤمنين محمد عمر وداعية الجهاد أسامة بن لادن، وقيادة الصف الاول عنده... وقد سلم عشرات من أعضاء تنظيم القاعدة أنفسهم لقوات التحالف الشمالي والقوات الامريكية، وعندما سئل بعض الأفغان العرب، الذين إستسلموا بدون قتال، عن سب إستسلامهم قالوا : لماذا نموت من أجل الملا محمد عمر وصهره إبن لادن، وقد هربوا علنا في الساعات الاولى، وطلبوا منا الصمود والإستمرار في الحرب.... لماذا هم يهربون نجاة بأنفسهم وعائلاتهم ونموت نحن بدون معنى وبدون هدف؟
1- عند هروبهم، تأكد أنهم هربوا بعد أن استولوا على ملايين من الدولارات وأكياسا من الذهب سرقوها من البنك المركزي الأفغاني ، فهل هذه من أخلاق الاسلام وسنن الرسول ؟
2- فور وصول قوات التحالف الشمالي إلى أية مدينة أو قرية ، ماذا كان يحدث وماذا شاهدنا مباشرة في نقل حي في كل الفضائيات التلفزيونية العربية والأجنبية ؟
3- خروج النساء الى الشوارع بعضهن بدون حجاب، وبعضهن خلعن حجاب طالبان، وخرجن بالحجاب السائد في كل العالم الاسلامي الذي لا يخفي وجه المرأة ولا يديها.
4- إزددحام الشوارع بالشباب من كافة الأعمار على محلات الحلاقين، والحلاقين الذين جلسوا على ناصيات الشوارع، لحلق لحاهم مما عنى أنهم كانوا مجبرين عليها خوفاً من إرهاب طالبان، وليس قناعة بمفاهيم إسلام طالبان.
5- عودة البث التلفزيوني الافغاني بنشرات الاخبار، والمسلسلات والافلام، كباقي البلاد الإسلامية، وظهور مذيعات أفغانيات على شاشة التلفزيون وفي الاذاعة.
6- عودة النشاط الى الحياة الفنية المسرحية، فقد سارع عدد من الممثلين والممثلات الافغان لتقديم اول عمل مسرحي، بعد انقطاع عدة سنوات طالبانية، قدموه على خشبة مسرح في العاصمة كابول وفي شارع عام في الهواء الطلق وكأنهم يودون إيصال رسالة احتجاج ضد الظلم والقمع والكفر الطالباني .
7- إعادة فتح محلات ودكاكين بيع أجهزة التلفزيون والراديو، واشرطة الفيديو وكاسيتات الموسيقى والغناء وسط إقبال واسع من الجمهور الافغاني ، الذي حُرم من الموسيقى والغناء والفرح طوال فترة الحكم الطالباني.
إزاء كل هذه الظواهر التي أعادها المجتمع الافغاني فور تحرره من نظام طلاب طالبان ، نستطيع بموضوعية التوصل إلى نتيجة واحدة ، وهي أن حكم طالبان طوال ستة سنوات، كان مفروضاً على الشعب الافغاني بقوة القتل والظلم وسفك الدماء ، دون أدنى قناعة من الشعب الأفغاني، بدليل أنه إنقلب بسرعة على كل ما فرضه حكام/ أمراء طالبان، وعادوا رجالاً ونساءاً يمارسون حياتهم، كما كانت قبل حكم الطالبانيين، وكما كانت وما زالت في عموم العالم الاسلامي... مما يعني أن الشعب الافغاني ، كان سعيداً ومسروراً لانهيار حكم طالبان وزوال نظامها وفهمها الخاطئ المخالف لكل إسلام الدول الاسلامية التي يزيد سكانها على مليار نسمة.
بعد كل هذه المآسي الطالبانية... واندحارها عن قلب الشعب الافغاني... ماذا عن تطبيقاتها في العالم العربي ، ربما يستغرب بعض القراء هذا السؤال عن (تطبيقات طالبان في العالم العربي)، وربما يقول ، ما لنا نحن وطالبان؟ وأجيب أننا في كافة الاقطار العربية من المحيط الى الخليج ، معنيين مباشرة بـ (تطبيقات طالبان) ، وبانهيارها وزوال نظامها ، لأنه في كل قطر عربي، توجد ( نائمة) ، أو(يقظة) أو( جنينية) خلية بشرية ، من أشباه طلاب العلوم و أدعياء التفقه في الدين الاسلامي، الذي يعتبرون أنفسهم فوق (قم) (والازهر) و (والنجف) وهم وحدهم الذين يفهمون حقيقة الاسلام، ويمارسونه عملياً في بعض الاقطار العربية على طريقة (طالبان) ونظرياً في بعض الاقطار، لان الظروف لم تسمح لهم بعد بتطبيق نظرياتهم... وللذين ينكرون هذه الحقيقة، أورد الأدلة التالية من عدة أقطار عربية، وهي في رأيي أدلة مقنعة للغاية، ومحرجة لمن ينكرون، إن لم يقدموا ما ينقض ذلك:
1- ماذا نسمي ما يحدث في الجزائر، منذ ما يزيد على عشر سنوات من:
- قتل للمدنيين الابرياء... وتدمير قرى بكاملها، نتج عنه حتى الآن خسارة ما لا يقل عن مائة و خمسين الف جزائري قتلى، وآلاف من الجرحى والمفقودين.
- سبي وإغتصاب آلاف من الفتيات والنساء، وفي أغلب الحالات، كان يتناوب على إغتصاب الفتاة عدة (مجاهدين) وصلوا في بعض الحالات إلى خمسة عشر رجلاً.
- الهجوم المباغت، وإقامة الحواجز الطيارة لرجال الشرطة والجيش، تم خطفهم أو قتلهم.. مما نتج عنه قتل آلاف منهم...
- تفجير العديد من مراكز الشرطة والمطاعم والفنادق، وتعطيل العديد من المرافق الاقتصادية، خاصة السياحية.
وفي أغلب هذه الحالات، كانت مجموعة إسلامية، تعلن مسؤوليتها عن ذلك... واكثر من مرة، أعلن مسؤولون سابقون وحاليون في جبهة الانقاذ الاسلامية، إستعدادهم لوقف هذا العنف، إذا إستجابت الحكومة الجزائرية لشروطهم.
2- وماذا نسمي ما ترتكبه نفس الجماعات الاسلامية في مصر، من حين إلى آخر:
- قتل للسياح الاجانب.
- إغتيالات مسؤولي أمن وكتاب و صحفيين و مفكرين .
- نهب وسطو على محلات ذهب تحديداً، تعود ملكيتها غالباً الى مسيحيين.
وقد ادت تلك العمليات الى تشويه صورة مصر في الخارج ، وتراجع في حركة السياحة، الى حد ضرب مواسم سياحية كاملة في بعض السنوات.
هذا وقد أصبح معروفاً، أن قيادات من الجماعات الاسلامية، مثل (ايمن الظواهري)، ساهمت مساهمة كبيرة في تجذير الفكر الرجعي لجماعة طالبان في افغانستان ، وكذلك مساعدة ابن لادن في عملياته الارهابية ، إذ كان الظواهري أبرز مساعديه وطبيبه الخاص.
3- وفي اليمن والسعودية كذلك هناك العديد من العمليات تفجيرات وخطف اجانب، ودخول القبائل على خط خطف الاجانب لتصفية خلافات خاصة مع الحكومة في اليمن، والتصاعد الأخير لهذه العمليات الإرهابية في السعودية ، و كل هذا نتاج الفكر الطالباني، وتأثيراته عبر الاف ممن أصبحوا يعرفون باسم (الافغان العرب) الذين عاد العديد منهم الى أقطارهم، وينشط من لم يعد منهم بمختلف الوسائل، لايجاد موطن قدم لهم، لممارسة الفكر المنحرف الذي مارسوه وتعودوا عليه، وتعيشوا منه رزقاً وسكناً ومتعة جنسية.
4- أما ما يحدث في العراق منذ سقوط نظام الديكتاتور صدام حسين ، ويعلن عنه بأسماء منظمات إسلامية ، فهو خير دليل على الإرهاب الذي يتستر بإسم الدين ، من قطع للرؤوس وخطف للصحفيين والنساء العاملات في مجال الخدمات الإنسانية ، وتفجير بيوت العزاء والأفراح والمساجد والحسينيات والكنائس و الأسواق ، ولن أطيل في هذا الميدان ، فالباب الثاني من هذا الكتاب ، قدّم ما يدمي القلب !!!.
ونحن أمام هذه التطبيقات الشيطانية لأفكار وممارسات طالبان واشباهها في عدة اقطار عربية، ما كانت بقية الاقطار في منأى عن هذه الممارسات لو استمر نظام طالبان وحكمها في افغانستان ، لذلك نصل بعد كل هذا العرض للواقع في اكثر من قطر عربي ، للقول أنه إنطلاقاً مما تعرضت له وعاشته و تعيشه عدة أقطار عربية خاصة العراق والسعودية ، وما يفتعل في داخل نسيج مجتمعات عربية أخرى، أرى أن زوال حكم (طالبان) وممارساتها في أفغانستان، كان خدمة جليلة للشعب الافغاني، بدليل إنقلابه كما لاحظنا على كل تشريعات طالبان، وممارسته النقيض فور اندحارها ، وفي الوقت ذاته خدمة جليلة و نعمة كبيرة لكافة الاقطار العربية لسببين:
1- إن إندحارها وهزيمتها، أعطى الشعب الافغاني حريته، فعاد وهو الشعب المسلم يمارس قناعاته وسلوكه كما كان قبل وصول طالبان للسلطة، وهذا في حد ذاته، يؤكد لشعوب كافة الاقطار العربية، أن وصول أية نسخة شبيهة لطالبان للسلطة، يعني قلب كافة أسس حياتها الحالية، وفرض ما ليس له علاقة بالاسلام عليها، كما حدث أمام سمعها وبصرها للشعب المسلم في افغانستان، ولا احد يستطيع التنبؤ عندئذ بسنوات سيادة ذلك الفكر الظلامي، فقد كان الشعب الافغاني محظوطاً نسبياً، فرغم تعاسته ومعاناته طوال تلك السنوات الست من حكم طالبان، الا انه محظوظ لان مستجدات الساحة الدولية، بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر الارهابية، أوجدت سياقاً ووضعاً دوليين أديا الى محاربة طالبان ودحرها وهنا يصدق المثل: (مصائب قوم عند قوم فوائد)، فما كان مصيبة عظمى لدى الشعب الأمريكي ، كان فائدة للشعب الافغاني ، هي زوال كابوس وظلام طالبان.
2- إن إنهيار حكم طالبان بهذه السرعة ودون أية مقاومة تذكر، سيجعل أية خلايا أو نسيج طالباني وسط المجتمعات العربية، يدرك أنه من المستحيل وصوله للسلطة لأنه لن يكون مقبولاً حكومياً وشعبيا ، وأساساً لن يكون وصولها للسلطة سهلاً بعد فتح عيون الحكومات والشعوب على تلك الممارسات ، وعدم تساهل المجتمع الدولي مع أية حكومة تساعد تلك الخلايا، أو تغض النظر عن نشاطاتها.
في كل مجتمع عربي... في كل قطر عربي... كانت وما زالت خلايا طالبانية، أصبح أملها في النمو والتكاثر والسيطرة صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً.... وبالتالي كنتيجة غير مقصودة من التحالف الدولي ضد طالبان افغانستان ، فقد قدمت خدمة جليلة لمجتمعاتنا العربية... ينبغي السهر والعمل للمحافظة عليها.
أما المفاجأة فهي إنقلاب قيادة طالبان قبل أسابيع قليلة على الملا محمد عمر ، والإعلان عن طرده من قبل عشرات من كوادر طالبان و شيوخها الذين إجتمعوا في مسجد بكابول ، معلنين إدانتهم لممارسات طالبان كافة وتعريتهم الصريحة لتستر قيادتها الكاذب بالدين الإسلامي...إن شيوخ أفغانستان هؤلاء يتقدمون بمئات المرات على فقهاء و شيوخ الين الإسلامي من العرب ، وهم يذكروننا بالمصلح الأفغاني المشهور الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي قام بجهد واضح في مصر قبل حوالي مائة و خمسين عاما لتجديد الفكر الإسلامي...فهل يفيق شيوخ العرب الذين لهم كل يوم فتوى و فتوى مضادة ؟؟.
إن النتيجة التي يمكن الإقرار بها بعد هذا العرض ، أن الأقطار العربية تواجه مفصلا تاريخيا مصيريا ، فإما أن تقوم بإصلاح وتطوير برامجها التعليمية والتربوية ، و تبني الفهم الحضاري لروح الإسلام الحقيقي بعيدا عن إسلام الفقهاء الذين يتلونون حسب الموقف السياسي وموقف الحاكم منهم ، وذلك لدخول العصر ومواكبته ، لأن العالم منذ سنوات يعبر عصر الذرة والتكنولوجيا المتقدمة ، والأقطار العربية مجتمعة ما زالت في عصر البخار !!!.
اقتبس الكتاب من موقع الدكتور احمد ابو مطر