احتفاليتي بالجواهري نموذج
رقم 6
الجواهري في وداع الأ ُم .
خلدون جاويد
مستهل وقصيدة :
نسيت أهاجي جرير والفرزدق ، وظلت بعض الأبيات تعلق بذهني منها مثلا هجاء
جريرالقائل : " زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ..... أنعم بطول سلامة يامربع ُ ! "
. واذ آنس لهذا التهكم فان امتعاضتي تكمن في قول الفرزدق : " اني رأيت أبي بنى
لي بيته ..... في دوحة الرؤساء والحكام ِ " وهو بيت شعري بغيض ومغيظ يذكرني
بدلال ابناء الذوات الذين خالطتهم في أماكن متفرقة من بغداد ، الاّ شخصا واحدا
هجينا لم يكن ابن اغنياء ، بل ابن مختار محلة له علاقة وطيدة بمركز شرطة على
مبعدة من سكننا ... ولأن هذا الواحد ( س ) قد كان يعاني القلة وبالتالي حداثة
النعمة ، فقد كان كثير الترديد لهذا البيت ، فهو اذن يفخر بالامتلاك ... وعلى
حب الملكية قامت وقعدت الدول ، وناضلت واستشهدت الالوف بل الملايين ، ولكن شتان
بين حب الذات المادي ، وحب الوطن والاستشهاد من اجله ... أما بالنسبة للتكوين
الثقافي عندي فقد ظللت اتابع جماليات حب الفكرة السامية ، حب الوطن والاستشهاد
من اجل القضايا الكبيرة ، الموقف من النبل والشهامة والصدق ... لكن ذلك البيت
الشعري ( اللوثة )او ( العلق ) قد ظل معي بما يشبه
الغثيان .
وفي هذا المجال الشعري ، أحببت الصعاليك عروة بن الورد ، وسليك بن سلكة وأحببت
المعري والرصافي ، وأحببت كل الثائرين والبائسين والفقراء والخائبين والمخذولين
والضعفاء ، وغدا عندي غنى الروح مع الفقر والاباء وطنا احلم ان اسكن فيه بدلا
من بيت الفرزدق اياه . وبعد حين وعبر سنوات العمر لم انتبه – رغم ان رباعية
الجواهري معي أنىّ تنقلت – الى ان عيني لم تكتحل بأعز الدموع وكما قال المتنبي
في مكمن الخطأ : " اراد اعتذاري اعتذارا " فلقد بكيت ندما على دموع لم اذرفها
قبل اليوم ! . حقا لقد اكتشفت ابياتا شعرية عن سكن قدسي هائل الروعة رحت معه
اتذكر الامهات العراقيات ، اخذت تلك الأبيات كالهارب ورحت ارددها في الشوارع ،
شوارع تعج بأنواع السيارات التي لا أمتلك أرخص اطار من احدى عجلاتها ، شوارع
تعج بالفرح والاكتناز والافتتان والغزلان والخضرة والنضارة وهفيف اوصال الشجر
واجواء ابن زيدون الطلقة " اني ذكرتك في الزهراء مشتاقا ... والافق طلق ووجه
الارض قد راقا . وللنسيم اعتلال في اصائله ... كأنما حن لي واعتل اشفاقا " ،
ولكني مع كل هذا المهرجان الخلاب ، كنت اسكن في الحضرة القدسية لتلك الابيات
وأنا اسير مبتل العينين احاول حجب ذلك الرقراق الوجداني مخافة استصغار الآخرين
لرجولتي وجلدي .
ان مفتاح تلك الابيات يكمن في المقدمة التي كتبتها جريدة النصر الدمشقية عام
1951 عن قصيدة للشاعر المدوي أبي فرات بعنوان قفص العظام وهي باختصار : " ....
اثر مصرع شقيقه الشاب – جعفر – في نفس والدته الوقور وتملكها الحزن فاعتزلت
المجتمع ولجأت الى مشهد الامام علي ( ع ) في النجف لتقضي ما تبقى من ايامها
.... " " .... وقبيل مغادرة الشاعر الجواهري الى مصر زار امه في النجف وتملّى
من صفاء جبينها وشعرها الابيض ورضاها ما ملأ به قلبه وروحه ... ولكن شعورا
مأتميا خيّم عليه ، فلما استقل السيارة مرتحلا هطلت دموعه ، وثارت في نفسه
عوامل الحنو ، ودار فيها انه قد يكون يشاهد امه للمرة الأخيرة ، ففاضت سليقته
الشعرية بهذه القصيدة ... " :
تعالى المجد ياقفص العظام ِ
وبورك في رحيلك والمقام ِ
وبورك ذلك العش المضوّي
بوحشته وبالغصص الدوامي
وصابتك التحايا عاطرات
بما لم يحتمل صوب الغمام ِ
تعالى المجد لا مال فيخزي
ولاملك يحلل بالحرام ِ
ولا نشب تهان الروح فيه
فتخضع للطغاة وللطغام ِ
الى ان يقول :
تعالى المجد يا أُم الرزايا
تمخض عن جبابرة ضخام ِ
تملى القبر منها أي عطر ٍ
ووجه الأرض أي فتى همام ِ
وهبت الثروة الكبرى دماءا
وروحا وارتكنت ِ الى حطام ِ
أية ثروة كونية هذه التي وهبت الى الام العراقية الكبيرة وهي في حطامها الجسدي
، وأي سكن هائل القداسة قد سكنت فيه ؟ ، وأية دونية – بالمقابل قد انتهى اليها
سليل مركز شرطة الديكتاتور الذي يغيض الآخرين بأنه يمتلك ! ولنا بالامتلاك وحبه
عبرة فلا أموال قارون ولاجبروت فرعون ولا قصور المتكابرين والدمويين ظلت على
الماعاتها واطلالاتها .. كل شئ زائل وأتفه انواع الزوال هو ما لحق من ازدراء
بالبيت الشعري : " اني رأيت أبي بنى لي بيته .... في دوحة الرؤساء والحكام ِ "
ان بيت ام الشهيد جعفر وبيوت امهات الشهداء العراقيين له خالد ابد الدهر ،
وثروتهن لاتنضب فهي مهجة العراق التي جاهدت وتجاهد اليوم من اجل تأصل الجذور في
شجرة المحنة والسعادة ... تعالى المجد يا أم الجواهري الكبير ، تعالى المجد
ياجميع امهات العراق اللواتي فجعن بابنائهن في كل بيت ! ومن أين آتي بجواهري
آخر لكل ام شهيد ؟ .
|