فنون اللهو والتسلية في المقاهي العراقية القديمة ..والاخباري جعفر لقلق زادة ..لطيف حسن 

 

 خاص للارشيف

 

 

لم يتعرف الناس البسطاء في مدن وارياف  العراق ( عدا مراكز المدن المهمة ) في اواخرالدولة العثمانية على المسرح ، ولم يكن العراق يملك النوادي الثقافية والاجتماعية  بالمعنى الذي نعرفه الان حتى بداية  منتصف القرن التاسع عشر ، وكان العامة   يتسلون في  اوقات فراغهم في المقاهي والخانات ، اما لتصريف المصالح فيما بينهم ،  او للتسلية ،  اقصد بالعامة هنا  الرجال بالتحديد في مجتمعنا  الذكوري الذي كان يغلق ابواب ومنافذ  اللهو العام على النساء ، و كان  يمنعن من  الخروج  لوحدهن بدون محرم  الى الشارع او لزيارة الاقارب والجيران بدون سبب اضطراري موجب ( المرض أوالموت ).

 

وقد اشتهرت بغداد بكثرة مقاهيها وخاناتها العامرة، وقد وصفت بغداد و المدن العراقية آنذاك ، كما ذكر على الوردي (1) ، بأنها اكثر مدن العالم في عدد مقاهيها وخاناتها نسبة لعدد سكانها ، ويصف السواح الغربيين الذين شاهدوا بغداد في تلك الفترة للدلالة  على كثرة مقاهيها ، بأن هناك بين كل مقهى ومقهى ، يوجد مقهى .

 

 

 

( أحد مقاهى بغداد في بدايات القرن الماضي )

 

 

ويعتبر يعقوب سركيس ان اول مقهى اسس في بغداد كان في عهد الوالي ( جغاله زاده ) صاحب الخان المعروف ( بخان جغان ) وذلك في عام 1586 ومكانه الان قرب المدرسة المستنصرية(2)

 

كانت هذه المقاهي والخانات في البداية لايرتادها للهو الا المستهترون وطلاب اللذة ، وبنيت ( الخانات منها تحديدا في عصور اسبق من العصر العباسي بكثير ) كمراكز تجارية و لسكن وأستراحة الأجانب  من التجار والغرباء المارين الذين ينزلون في هذه الخانات  للمكوث المؤقت فيها والاستراحة، ولتفريغ حمولتهم فيها  وتصريفها بالجملة.

 

 وكان من عادة  اصحاب المقاهي أستخدام الغلمان الحسني  الطلعة لتقديم القهوة والمشروبات الى الزبائن ، و كانت تعزف في هذه المقاهي الجوق الموسيقية الغنائية  التي كانت تسمى ( بالجالغي ) وكانوا في البداية يكيفون مكانا في المقهى  الى ما يشبه خشبة المسرح سمي (بالتخت) نسبة الى مصاطب المقهى ( التخوت ) التي كانت  عريضة ومتينة تجمع  كل اثنتان منهما مع بعض وتستخدم كمنصة ، يجلس عليها العازفون ومغني المقام او البستة ثم اصبحت كلمة (التخت ) تعني الجوقة الموسيقية والكورس  ، ويذكر يوسف العاني  عن هذه  المقاهي  في ايامه انه لم يكن مسموحا للشباب ارتياد المقهى الا بعد ان تظهر لحاهم .

 

كان المقهى هو المكان  الوحيد الذي يجمع  البالغين من الرجال في اوقات فراغهم   ، فاضافة الى انه كان مكان لتبادل الاخبار وقضاء الوقت واللهو  ، و اللقاء بالاصدقاء ( الزكرتيه) العزاب الذي كان من المتعذر في ذلك الوقت  دعوتهم الى البيت الذي فيه حريم .

 

 والمقهى  ايضا كان مقرا لتصريف وتنظيم  وتنسيق الاعمال  فيما بين التجار او الحرفيين او حتى  اصحاب الهواية الواحدة ،  وكان يجتمع  في  هذه المقاهي رواد من نوعية واحده   ،  كأن يكونوا من  صنعة   وحرفة واحدة  ، وكانت المقاهي تسمى باسم روادها   كمقهى التجار ومقهى البناية ومقهى المطيرجية ، وكانت هذه المقاهي تتنافس فيما بينها  لجذب الزبائن اليها  بأستئجار المغنيين وقراء المقام المعروقين في ذلك الزمان ،  والقصخونية  رواة الحكايات والقصص والملاحم الشعبية ،  وكانت تقدم بعضها عروض ( القره قوز )  و( خيال الظل )، وتختص بعضها في اقامة مباريات صراع الديكة والكباش ، وقسم آخر منها  يملك الجفر لالعاب الزورخانة ، وتنشغل جميع هذه المقاهي في سهرات ليالي رمضان بلعبة ( المحيبس) الشعبية  .

 

هكذا كان  حال المقاهي في العراق  حتى بداية القرن الماضي ، الا ان بعض  هذه المقاهي ( لاسيما في منطقة الميدان في بغداد )   طورت  عروضها  وما كانت تقدمه للزبائن على غرار ماكان  موجودا في حلب وايران من ملاهي , فأستقدمت راقصات ومغنيات من سوريا ولبنان ومصر  ، وكان هذا الاستقدام يعتبر تحولا نوعيا في الاخلاق الاجتماعية العامة  ، وأقبالا منقتحا على  فنون كانت ممنوعة علنا  باعتبارها من المفاسد  والكفر .      

 

وتحت تأثير هذا التطور الاجتماعي ، غيرت  هذه المقاهي  شكل  بنائها بحيث وفرت في المقهى اماكن خاصة للرقص أشبه بخشبة المسرح سميت ( بالمرقص) وتحول بعضها فعلا الى ملهى ، مثل مقهى سبع  في الميدان ، الذي تحول اسمه الى ملهى سبع .

 

 يقول عبد الكريم العلاف انه كان اول مقهى اقيم فيه مرقص هو (مقهى سبع) الواقع في الميدان وكان ذلك  في عام 1907 ، وجاء  سبع بالغلمان المخنثين الذي يسمى الواحد منهم بالعاميه ( شعار )... ،  لربما جائت  التسمية من انهم كانوا يطيلون شعور رؤوسهم  ويزيلون ويحفون الشعر عن وجوههم وسيقانهم كما تفعل النساء ، ويلبسون الفساتين النسائية   .

 

 

 ويؤكد معظم المؤرخون على انه لم تصعد على المرقص في هذه المقاهي أمرأة الا في عام 1908  ،  عندما قدمت الى بغداد من حلب راقصة يهودية تدعى ( رحلو) بنت فريده العراطه الملقبة ( جرادة ) بدأت ترقص في ( مقهى سبع) ، ثم بدأ ت باقي المقاهي تقلد مقهى سبع  بجلب الراقصات والمطربات للعمل في مراقصها من الشام ولبنان ومصر .

 

 و توالت فيما بعد المقاهي التي وفرت فيها منصات الرقص  ، على شاكلة مقهى سبع ،  كمقهى العزاوي  ومقهى السواس وغيرها من المقاهي .

 

 جرى كل هذا التطورفي مجال اللهو في بغداد ، قبيل قيام الحرب العالمية الاولى ، وبقي لفترة طويلة هو المعبر عن مفهوم ( الشانو) او  نمر الفودفيل  التمثيلية الهزلية المسماة ( بالاخباري ) وهو من  فنون  الشارع الشعبي الذي انتقل الى   ( المقاهي  والملاهى) تقدم في الاماسي مع الطرب كنمرة ترفيهية عن الزبائن ، و أخذت  تقدم يوميا (في الملاهي) كفقرة  ختامية لحفلاتها .

 

 وتحولت هذه المقاهي والملاهي وعروض الشانو، الى مايشبه الارضية والقاعدة  التي انعشت  بذرة تمثيليات التسلية والكوميدية الساخرة ،  فعندما  وفد المسرح الدرامي الى العراق في نفس هذه الفترة ، كان هذا هو الجو الفني السائد، و كان المفهوم الشائع عن التمثيل  بين الناس ، هو فن ( الشانو) ، وقد شاب منذ البداية  نظرة الناس الى رجال المسرح الاوائل والى مهنتهم  الأحتقارالشديد على اساس هذه الخلفية ، وكانوا يشبهون الممثل تحقيرا في ذلك الزمان  ( بالشعار) وأعتبروهم اجتماعيا ( الكل على حد سواء) عبارة عن  مجموعة من الوضعاء و المنحطين اخلاقيا ، و ورسميا كانت لاتؤخذ شهاداتهم في المحاكم ، وأجتماعيا لايزوجون من بنات  العوائل .

 

 اخذت هذه  المقاهي وغيرها من دور الملاهي تقدم بأنتظام  نمر ( الاخباري) ، وهي نمر  تمثيلية فطرية  ساخرة تقدم ارتجالا ، لها قواعدها وتقاليدها في الصنعة ، كانت تقدم في الاسواق والشوارع ، من قبل جماعة من الاهالي ، هواة من غير المحترفين ، يختارون حدثا آنيا ما في المدينة ،  يعيدون تشخيص هذا الحدث اليومي المختار  بشكل هزلي ساخر مبالغ فيه ممزوج بالنكتة  البذيئة والرقص والحركات الماجنة ، ويعلقون على الحدث وقد يبدون منه موقفا ، واكثر هذه الاحداث احداث سياسية او وقائع اجتماعية . هو بأختصار فن شعبي ناقد بشكل جارح لبعض مظاهر الحياة الأجتماعية المعاشة، يتصف بالعفوية و الفطرية ، غارق في القدم ، من فنون شوارع القرون الوسطى  يصعب تحديد بداياته بدقة .

 

يعرف الاب الكرملي الاخباري بما يلي (.... قوم من  العامه يعرفون بالأخباريين او الاخباريات ، وهم قوم يتشبهون بالعلماء ، وفي زيهم وعملهم استهزاء بأهل العلم ، فيلقي احدهم احاجي على صاحبه ، او صاحبته  وتلك الاحاجي بذيئة ، فاذا جاء تفسيرها ، أو أحسن التلفظ بما عسر من الفاظها  المتكررة ، القى عليه بأحجية ثانية ، حتى يسقط، واذا سقط ، يجيل في وسط المجلس ويرقص رقصا مخلا بالآداب ، والظاهر ان الاخباري هو من يروي الاخبار ، والظاهر ان ( الأخباري ) له جذور تاريخية في الوجود ، لذلك نجد ان سعد التفتزاني ( 793 ه -1390م) في شرحه للعقيدة النفسية ينص على ان " لوجلس احد في مكان مرتفع ، وحوله جماعة يسألونه في مسائل مضحكة ، ويضربونه بالوسائد بعد اخبارهم ، يكفرون جميعا ،  كذلك نجد في ( غالية المواعظ) لخيرالدين نعمان الآلوسي  ( 1317 ه – 1899 م)  مايلي :- رجل يجلس في مكان مرتفع ويسألون منه مسائل بطريقة  الاستهزاء ، ثم يضربونه بالوسائد ، فأنهم كفروا جميعا ، وكذا لو لم يجلس في مكان مرتفع ، وكذلك اذا تشبه المضحك المذكور بقاض او مفتي او خطيب او نحوهم ، وهذا الفعل شائع في زماننا ، ويسمون المضحك المذكور ( بالأخباري) مع انه المطابق للحال تسميته ( بالأكفاري) فانا لله وانا اليه لراجعون ) ( 9)

 

يذكر يوسف العاني عن  فن (الاخباري) ، الذي استلهم  منها جو كتابة مسرحيته ( الخرابه - 1968 ) قائلا(( في العشرينات وقبلها بسنوات ، كانت في مدينة النجف مقهى صغير ، نسميها نحن في العراق ( جايخانه ) وكانت لقدمها تسمى ( الخرابه ) صاحبها رجل طيب يدعى ( جعفرالكابلي ) لايلتقي في المقهى الاعدد قليل من ابناء المدينة ، يشربون الشاي ، ويجتمعون يوميا لكي يمثلوا تمثيليات يقومون هم بتأليفها، ويؤدون ادوارهم ارتجالا .. دون ان يكون هناك متفرج في اكثر الاحيان ، والزبون الذي يدخل المقهى لابد ان يشارك في التمثيلية (.....) في كل يوم كانت هناك تمثيلية ، وقد يتكرر موضوع التمثيلية لعدة ايام، لكن اضافات عديدة تطراء عليها .. والشخوص قد تتغير ، وكان موضوع التمثيلية ينبثق من الحالة التي فيها رواد المقهى ، فتارة يسخرون من موقف الانكليز تجاه الثوار في النجف عام 1918 ، وتارة يقلد ون بأصواتهم وبالحركات قطيعا من الحيوانات،  كل منهم يمثل حيوانا، وواحد منهم يمثل صاحب القطيع ، ومن خلال كل ذلك يصدرون حكمهم على ( الحالة ).. ويظل هذا العرض مستمرا على قدر أستمرار أثر الحدث على المدينة... ...في هذه المقهى اعتاد ان يلتقي فيها بشكل دائم ، شاعر وبقال ومتخلف عقليا ( يتصرف مادام هو في المقهى بشكل طبيعي وكأي انسان عاقل )، كان  زبائن المقهى الاخرين يلتقون بهم في كل يوم حتى ماتوا الواحد بعد الاخر ، وآخرهم الذي مات صاحب المقهى ( جعفر الحاج عبدالحسين الكابلي ) ..)) ( 3) . .

 

ولم يجر لحد الآن تناول فن ( الاخباري في العراق) بالشكل الكافي الذي يستحقه  ، بالرغم من انه يعتبر الجذر التراثي الوطني الوحيد من فنون الشارع الذي استفاد منه وتأثر بكثير من تقاليده  المسرح الكوميدي العراقي المعاصر. ولابد ان  نتوقف عند الاجحاف والتجاهل الذي تعرض له في حياته وبعد مماته  ابرز وآخر فناني الاخباري العظام ، رائد الكوميديا الارتجالية في العراق ( جعفر لقلق زاده )  الذي له فضل المساهمة الآساسية في نقل عروض هذا الفن الشعبي من الشارع والساحات العامة ، الى  حلبات المراقص في المقاهي البغدادية القديمة ، وثم تطوير هذا الفن ليقدم على خشبات مسارح الملاهي  .

 

 ليست لدينا حتى الان أي  معلومات دقيقة تماما عن خلفية واصل هذا الفنان ، كل مانعرفه عن تاريح ميلاده ، انه قد ولد في اواخر القرن التاسع عشر ، و ما نعرفه عن نشأته الاولى ضئيل جدا ومشوش  ، بل اننا غير متأكدين حتى من اسمه الحقيقي ، هل هو كامل عبدالمهدي ؟ ام جعفر القزويني ؟ أم سلمان الاخباري ؟ ام ان له اسما آخر غير هذه الاسماء التي عرف بها .

 

 عاش بينهم ويعرفه أهالي الكاظمية منذ الصغر ، الا انه لااحد يعرف بدقة هل هو من مواليد الكاظمية ، ام انه من ولادة قزوين وحملته عائلته معها طفلا وهي تهاجر الى العراق وتستقربه في مدينة الكاظمية بالقرب من مرقد الامام جعفر الصادق ، جريا على عادة المهاجرين الايرانيين في السكن تبركا الى جانب  أضرحة آل البيت من ذرية علي أبن ابي طالب  في بغداد وكربلاء والنجف ، ام انه انتقل وحده من دون عائلته لظروف غير واضحة من ايران الى العراق في اوائل القرن الماضي وهو في مقتبل العمر .

 

ومنهم من ينكر عليه حتى انتمائه لأب معروف او أصل  ، الا انهم يتفقون على انه عاش طويلا في الكاظمية وينحدرمن اصول ايرانية ، ولم تترك قدسية مدينة الكاظمية واجوائها الدينية اليومية عمليا  أي اثر على شخصيته البوهيمية وسلوكه الاخلاقي الرافض والمناقض الذي عرف عنه .

 

لم يتعلم في المدارس ، ويقال عنه أنه لم يدخل حتى الكتاتيب لتعلم القرائة والكتابة  في حياته و يكاد يفك الخط بصعوبة ، عمل منذ الطفولة بحرف مختلفة ، واستقر في شبابه على حرفة صناعة الامشاط الخشبية ، وهذا يدل على انه قد نشأ في كنف وسط فقيرومعوز.

 

وعندما كان صبيا في مقتبل العمر ، استرعت  انتباهه فصول الاخباري البغدادي جاسم ابن الحجامة وزمليه منصور اللذان كانا من سكنة محلة (العوينه)  و كانا  يعرضان فصلهما منذ بداية القرن الماضي وحتى  قبيل بدء الحرب العالمية الاولى في مقهى (الشبانة) في محلة ( الفضل)  ، الا انه أعجب وتأثر عميقا  بعروض الاخباري  وشخصية (الهبش) التي كا ن يؤديها راشد بمعاونة زميله الحاج محمود ، و قدعشق هذا فنهما وتعلق بما كانا يقدمان ،  بحيث لم ينقطع عن مشاهدة عروضهم التي كانت تقدم في بغداد ليلا ، فكان يضطر عند حضوره هذه العروض البعيدة عن مكان سكنه ، ان يبيت ليلته في ( خان الجبن ) بالكرخ لخطورة  طريق العودة ليلا الى الكاظمية بسبب كثرة ( المسلبجية) الذين يكمنون في البساتين الكثيرة التي  كانت تحف بجانبي  الطريق ،  وأخذ يقلد راشد افندي في دور ( الهبش) ويعيد في اليوم الثاني ماكان قد شاهده امام معارفه ، وعندما لمس منهم الاستحسان والتشجيع  ، بداء عروضه الخاصة في مناسبات الافراح الخاصة  والاعراس .

 

 الا ان ظروف الحرب الروسية – العثمانية ( سفر بر ) ترك اثره الكبير السلبي على سير عروض الاخباري في العراق ، الذي تراجع بحدة وسرعه وكاد ان يضمحل تماما جراء فرض الفرمانات العسكرية الشديدة و الأجرائات الاستثنائية التي كانت ثقيلة جداعلى المواطنيين العراقيين ، لتموين و دعم  الجيش العثماني بالجنود ، فكان يجري الاستيلاء بالقوة على  المحاصيل الزراعية والثروات الحيوانية المنتجة ، و بدون مقابل تقريبا ، ويسوق كل من بلغ الرابعة عشر من الشباب الى جبهة الحرب ، والكبار منهم يؤخذون لأعمال السخرة دعما للحرب ، ولم يكن تراجع فن الاخباري هذا الفن العفوي  والناقد للحياة اليومية في هذه الفترة يعود فقط الى سبب عدم تشجيع العثمانيين  له كفن يثير مواجع وحفيظة  الناس ضدهم  أثناء حملتهم  على الجبهة الروسية ، بل الناس انفسهم انفضوا وانشغلوا عنه بتدبير امور حياتهم الاولية التي اصبحت عسيرة جدا لاتطاق ، ومدارات بلواهم  التي عاشوها في تلك الفترة .

 

عندما يتذكر جعفر لقلق زاده  الفترة  التي قضاها  نادلا في نادي الجيش العثماني في مقابلة صحفية اجريت له ، لا يشير الى كيفية  تملصه من الخدمة العسكرية  وغض العثمانيون النظر عنه وهو في سن التجنيد ، ونجاته من التسفير الى جبهة الموت ، لربما تبعيته الايرانية  كانت وراء  سبب عدم شموله  بالتجنيد ،  حاله حال اقرانه من الشباب العراقي الذين كانوا يخضعون للتبعية العثمانية  ،  واخذوا عنوة من أسرهم الى حملة (سفر بر )  وانقطعت اخبارهم ولم يعودوا الى بيوتهم بعدها ، و يذكر ان بدايته الفعلية في الاخباري كانت بعد مباشرةعمله في هذا النادي الذي اكتشف مواهبه  متعهد النادي (  تولكين خان ) يبدو من الاسم انه ارمني ، فأخضعه للتدريب على يدي  ابراهيم سامي  وابراهيم  عجمي قطان ، ثم شغله كمقدم  لنمرة ( الهبش ) في مقهاه التي يملكها ( مقهى طويق ) ، وبعد  ان شاع صيته انتقل الى مقهى العزاوي ، وبعدها اخذ يقدم قصوله في أشهر مقاهي وملاهي  الميدان والكرخ في نفس الليلة الواحدة ، متنقلا بينها مع فرقته واكسسواراته وخيوله وحميره  التي كان يستخدمها في العرض، وشاع اسمه على كل لسان في العراق .

 

كان جعفر لقلق زاده  ، رغم ثقافته البسيطة والمحدودة يتكلم اللغات العربية والفارسية والتركية والهندية التي كانت آنذاك  لغات شائعة بين البغداديين ، وكانت له علاقات صداقة بأشهر الكباريهات والملاهي التي تقدم النمر الترفيهية  في المنطقة ، يتابع اخبارها ويأخذ منها ، وزار في فترات عزه  وثرائه بلدان الجوار اسطنبول والشام ولبنان ، وشاهد ماكان يقدم على خشبة  كباريها وملاهيها وكان لاينحرج في أخذ المواضيع منها وتعريقها ، لاسيما العروض التركية والمصرية ، وقد شاهد علي الكسار ونجيب الريحاني وبديعه مصابني ، و يبدو انه قد تعرف على الاخيرين مباشرة ، واعجب بالريحاني الذي اخذ يقلد له بعض شخصيات مسرحياته بعد تعريقها ، وقد اشتهر بين رواد الملاهي في بغداد بشخصية ( كشكش بيك) الشخصية النمطية الشهيرة التي كان يقدمها  نجيب الريحاني ، الى جانب شخصية (الهبش) الذي استعارها من معلمه الاول الاخباري راشد افندي .

 

وشخصية ( كشكش بيك) في الاصل المصري عمدة ريفي ، تعود  ان ينزل في  القاهرة بعد جمع ايراد محصول الارض في نهاية كل موسم  ، وفي العاصمة تسرق نقوده البغايا والراقصات والمحتالون ، ليعود بعدها الى  القريه مفلسا، ثم يعاود الكره  بعد جني المحصول في السنة القادمة دون ان يتعظ ويتعلم .

 

و(كشكش بيك  ) عند ( جعفر لقلق زاده ) يتحول الى شيخ او سركال عراقي ابله تضحك عليه في المدينة بنات الهوى والراقصات  والسماسرة ، يعكس هنا ضمنا المرحلة التاريخية التي كان يمر بها العراق ، ساخرا من التباين بين عقلية الريف القديمة المتخلفة و البسيطة الساذجة التي تصدق كلام افندية المدن ، وبين عقلية اهل العاصمة المتمدنين ، التي جبلت على  الاحتيال والمراوغة واللعب على الحبال وسرقة زوارها من الشيوخ  والسراكيل السذج.، يعكس الصراع الذي كان دائرا آنذاك بين نقاليد واخلاق المدينة والريف ، الجديد والقديم ،  المدينة التي تستغل بلا اخلاق  جهد الريف  وتسرقه ، والريف الغبي  الساذج المغلوب على امره  الذي لايكف عن علاقته بالمدينة  ومحاولاته المتكررة ببذل الغالي والرخيص  للتمتع بمباهجها الحلم ، رغم انه يكتشف في نهايه المسرحية  انه قد خدع وغش وسرق ،  وسيعود مفلسا الى الريف ، لكنه مع ذلك لايتوب على هذه العلاقة.، ويكررها  بعد جني المحصول في السنة التالية  كأن شيئا لم يحدث .

 

وقد قدم خلال حياته اكثر من ثلاثمائة تمثيلية مرتجله  من الفودفيل ، بعضها قفشات  ساخرة  للظواهر الاجتماعية السائدة ، كالسخرية من طريقة تعليم الاطفال على يد الملالي آنذاك ، ودجل وشعوذة بعض رجال الدين  ( الفتاح فالية )الفتاح فالية والمدعين بالقدرة على  أتيان السحر ، والنفاق الاجتماعي، وما الى ذلك ، وكانت تستضيفه الفرق المسرحية العراقية في عروضها ، ليقدم أخبارياته الهزلية  بين الفصول والاستراحات ، وأيضا كانت تفعل  المدارس في حفلاتها التي اعتادت  على تقديمها سنويا .    

 

لقد ارتبط أسلوب (جعفر لقلق زاده ) الساخر الهزلي بالمسرح الكوميدي في العراق فيما بعد ، وترك  بصماته على اعمال كل رواد الكوميديا من بعده  بهذا الشكل اوذاك ،  لاسيما كتابات شهاب القصب ، ويوسف العاني في بداياته ، وعبدالله العزاوي ، وعلى الفرق المسرحية ، منها (فرقة الزبانيه) التي تكونت من مجموعة صغيرة مرحة من طلاب معهد الفنون الجميلة ، اشتهرت بتقديم  المسرحية الكوميدية الأرتجالية التي تعتمد على ابتكار واريحية  ممثلي الفرقة، وعلى نمط جميع ألآعمال الكوميدية   لفرقة ( 14 تموز للتمثيل) ،

 

ومما يؤسف له ان مابقي لنا من تراث الفنان يكاد ان يكون لاشيء، والمعلومات التفصيلية عن تمثيلياته و اعماله  شحيحة للغاية ، حالها حال  كل الفنون الاتجالية  ،  والموجود من تراثه لحد الان قليل ، مقارنة بغنى وكثرة انتاجه وذيوع صيته بين الناس (4)  ، وقد اخذ الموت الان معظم مجايليه من الفنانيين ومعاصريه ومشاهديه ،  ممايصعب  ويعقد عملية  رسم صورة منصفة و دقيقة لعروضه الآن، بعيدة عن التشويه لفصوله التي شغلت العقول وسلت  الناس لعقود طويلة  ،  سيما وانه كان فنا ارتجاليا صعب حفظه ، الا ان نتفا من بعض اغاني تمثيلياته كان يحفظها محبي فنه من بعده ، والذين قد غادرونا جميعا الآن دون ان تحفظ عنهم ، من امثال  المرحوم حسن العمري  الذي كان يتذكر بعض هذه الاغاني التي منها على سبيل المثال  :-

 

ريض يا حلو الطول وارحم بيه

مجبور آنه بيك وماتحن عليه

عندي يشماغ فرفوري جديد مهتلف

مينلبس بعكال وما يرهم اللف

ضميته آنه بصندوق خوف يتلف

أخاف أطلعه و يتلف بيديه

 

***

 

عندي عباية جوخ شغل المعمل

لاحر لابرد لامطر تتحمل

من البسها اصير مكمل

الفين ركعه مركعه وستمية

 

***

 

عندي تجارة مال كلها مكمرك

اربعطعش عكروكه ورك

عندي بساتين اربعة تحمل البك

عندي زرع خرنوب بالبرية

 

***

 

وقد عمل معه خلال مشواره الطويل في الملاهي  لفيف واسع من الفنانين من الذين رافقوه رحلته الفنيه منذ بدايات القرن الماضي  وحتى نهاية الخمسينات ، اجيال من الممثلين نذكر اشهرهم  ، حسقيل ابو البالطوات ، وعباس حلاوي منادي اعلانات دور السينما في بغداد ، والممثل الهزلي المعروف صفاء محمد علي  وجمعة الشلبي ، ومن الممثلات الأوائل استعان بكثير من ( الارتيست ) فنانات  الملاهي من المصريات والشاميات والعراقيات ، بدءا من  الراقصة رحلو العراطه واختها زكية ،  وحتى آخرهن عفيفة اسكندر.

 

 

 

 

( - كشكش بيك - ، من عروض  نجيب الريحاني وبديعه مصابني في العراق )

 

 ولم يكتب بأنصاف كثيرا عن هذا الفنان حتى فترة فصيرة ، لربما يعود سبب هذا الأهمال  صعوبة الكتابة عن هذا الفنان لقلة  المصادر الدقيقة و ندرة المعلومات الشخصية عنه التي  تعرض اكثره للنسان ، وما تبقى منه هو ماهومشوه من الاخبار التي كانت تشاع عنه ، عدا محاولة الناقد علي مزاحم عباس الرائدة و المتميزة في توثيق سيرته  ونشاطه (10) ، والتفاتة من يوسف العاني نشرت في جريدة الجمهورية في حينها ، وعاد  في تناوله لهذا الفنان مرة أخرى قريبا  اشبه بالأعتذار عن الحيف الذي لحق بالفنان من قبل الفنانيين انفسهم  وقسوتهم عليه خلال حياته وبعد موته المأساوي ،  وفاروق اوهان  تناوله ضمن فصل من كتابه في معالجته الشاملة لفن الاخباري في العالم العربي (  8 ) و سبق ان أستلهم عادل كاظم شخصية ( جعفر لقلق زاده ) في مسرحية ( نديمكم  هذا المساء) من زاوية أ ستعراض حياته من خلاله احداث عصره .

 

 الا انه بعد عام 2003 ، اعاد الكثير من النقاد والمهتمون بشأن المسرح العراقي تسليط الاضواءعلى هذا الفنان المهمل  ومن زوايا مختلفة ، كأنهم يعيدون اكتشافه ويردون له الاعتبار ، مع الاشارة انه يغلب على معظم هذه الكتابات  الأنصاف المتأخر   (7)، وقسم منها  أبداء الندم على تعاليهم  واستخفافهم  بنمط فنه اثناء حياته ، واهمال الجميع  ذكر  دوره باعتبارها كانت نقطة مضيئة في سماء المسرح العراقي .

 

 وكان بعض الدارسين في الماضي ، عندما يتعذر عليهم  تماما تجاهل دوره في بناء صرح  المسرح العراقي ، يوردون اسمه على استحياء في البحوث الجامعية الاولى  عن المسرح العراقي  التي ظهرت  في السبعينات من القرن الماضي ، ويقسون في حكمهم السلبي على مستوى فنه ، مما ينم عن عدم  الفهم الصحيح لظروف هذا الفنان  ، ساقطين في خطأ التطابق مع وجهة  النظر الاجتماعية التي كانت سائدة حول الفنان في زمن الفنان  ، وتجاهل نوع علاقة المجتمع الملتبسة آنذاك بالفنان والمسرح  ، من بين هؤلاء  الدكتور عمر الطالب الذي قيم  مسرح جعفر لقلق زاده ،  ببضعة سطور مستخفة  غير منصفة  ،  اذ لم يفرد الباحث لهذا الفنان الهام في ( رسالة الماجستيرالتي قدمها في القاهرة )  سوى سطرين فقط  (5) .

 

 ان هذا الفنان  الكبير الذي ترك بصماته العميقة بهذا الشكل او ذاك (في حياته وبعد مماته ) على مجمل فن الكوميديا في العراق  ، كان فنانا بسيطا ، غير متعلم ومحدود الثقافة ، ولو لم  يكن كذلك ، لاستطاع ان يطور فن عروض تمثيليات الكاباريه الى وضع آخر كما فعل في مصر مجايله نجيب الريحاني في مصر الذي انطلق مثله الى عالم المسرح  من النمر الاتجالية على منصات الكباريه والملاهي  التي عمل عليها في بداياته الفنية المشابهة  .، الا ان الريحاني يختلف عن جعفر لقلق زاده ،  بالثقافة والتعلم والاطلاع على المسرح الاوربي ، العوامل الحاسمة في تطورنمره الارتجالية الفودفولية البسيطة ، الى المسرح الكوميدي العظيم الذي تركه من بعده .

 

كان جعفر لقلق زاده في حياته المديدة ، بغض النظر عن مناقشة مستوى ونمط  تمثيلياته ، بمثابة المسجل للتاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق ، شاهدا ومعلقا ساخرا على   تفاصيل احداثها اليومية طوال كل العهود التي مرت على العراق الحديث ، ابتداءا من العهد العثماني و الاحتلال البريطاني ، و قيام الدولة العراقية الملكية ، ومن ثم النظام الجمهوري ، بعهديه الثوري ، و عهد سلسلة التراجع الدموي المؤلم والانقلاب عن اهداف الثورة بعد عام 1963  .

 

ففي السنوات العشرة الاخيرة من حياته ، بدأ الناس ينفضون  ويبتعدون عن نمط فنه الذي يغلب عليه السذاجة ،  لأنه لم يتطور ولم  يفكر بالزمن الذي تجاوزه وتجاوز فنه ، لقد تغيرفي ستينات القرن الماضي ذوق و نظرة الناس  الى فنه بعد ان امتلك المسرح العراقي بعد ثورة 1958 رسالة اخرى غير التسلية والنكتة  ، واحتل نشاط وعمل خريجي الدورات المتتالية لطلاب معهد الفنون الجميلة في المسرح اهمية كبيرة في صياغة ذوق جديد غير مسبوق  للجمهور ، وجراء هذا التحول في بوصلة  الجمهور ، بدأت مسارح الملاهي التي كان يعمل عليها تقلص من ايام عروض نمره لتراجع الاقبال عليها ، ثم استغنت عنها تماما بعد ان اصبحت غير مجزية ماديا ، ومنذ نهايات ستينات القرن الماضي ، عاش الفنان وحيدا معدما وقد تنكر وانفض عنه اقرب اصدقائه ومعارفه ، وعمل لسد الرمق اعمالا خدمية في الملاهي آخرها بوابا وحارسا في ملهى الخيام   ، الذي كانت تمتلكه المطربة لميعة توفيق ، التي  تكفلت برعايته ومصاريفه وايجار سكنه  ( غرفة صغيرة في خان  في الكاظمية ، و في خبر آخر غرفة صغيرة تقع في  محلة الحيدرخانة ) حتى وفاته  بعدما اشتدت عليه امراض الشيخوخة واقعده الشلل عن الحركه في رمضان من ايلول عام 1972 ، وقد توفي في مستشفى المجيدية في نفس العام ودفن في مقبرة جامع براثا ، (ومنهم من يذكر انه توفي في عام 1969 ودفن على نفقة البلدية في مقبرة الغزالي  ) ( التاريخ الاول      1972  وقبره في مقبرة براثا هوالاقرب الى الصحة ) .

 

 وكما لف الغموض تاريخ ولادته ونشأته الاولى ، كما في المرويات عن ابطال الخرافات والأساطير ، جرى بفعل الاهمال نسيان تاريخ وفاته وظروفها بدقة ،  ولايعرف احد حتى مكان قبره بشكل اكيد  ، ولحد الان لم  تبادر أي جهة ، ولم يتطوع احد ما ليقوم بالتحري والتحقيق العلمي المنصف بهدف تويثيق سيرة هذا الفنان الذي لن يتكرر.

 

وهكذا دفن هذا الفنان الكبير   ، ولم يخرج في تشييع جنازته او وداعه الاخير  أي فنان ، ولا حتى  أي احد من أصدقائه الذين كانوا بالمئات في أيام سطوع نجمه وثرائه ، ولم تذكر صحف اليوم الثالي وما بعدها  اي خبرعن وفاته (6)

 

 

 

 

 

 

( هوامش ومصادر الفصل)

_________________

 

1-       لمحات اجتماعيه من تاريخ العراق الحديث / الجزء الاول - الدكتور علي الوردي

2-        راجع (التجربه المسرحيه - معايشه وانعكاسات )- يوسف العاني - دار الفارابي -بيروت 1979.

3-       المصدر السابق - ص/45.

4-     لم يترك جعفر لقلق زاده آثارا مكتوبه ، لانه كان يعتمد على الارتجال ، ، ومابقي محفوظ لدى المركز الوثائقي للمسرح العراقي في بغداد قبل ان  يدمر وينهب ،  لايتعدى بضع صور فوتوغرافيه لبعض مسرحياته .

5-       أثر المسرح العربي على المسرح العراقي - الدكتور عمر الطالب - القسم الثاني - مجلة ( السينما والمسرح ) العراقيه  العدد/12 تشرين الاول 1974.

6-       لقلق زاده ، الرائد المنسى في المسرح العراقي - لطيف حسن - مجلة ( شناشيل ) العدد/1  كانون الثاني  كوبنهاكن 1993

7-       جعفر اغا لقلق زاده أشهر اخباري في بغداد قبل الحرب العالمية الاولى – معن حمدان علي – المؤتمر- موقع الكتروني

8-       آفاق تطويع التراث العربي للمسرح – الدكتور فاروق اوهان – وزارة الثقافة والاعلام في ابو ظبي – الطبعة الاولى 1999

9-        جعفر لقلق زاده اشهر اخباري قبل الحرب العالمية الاولى –

10-    فن الاخباري والمسرح العراقي – علي مزاحم عباس – جريدة القادسية- عدد يوم 19/12/1996 .