شهادة بمناسبة محاكمة صدام حسين واعوانه بقضية الانفال .. سلام ابراهيم

 

 

عندما أدخلني الدكتاتور في الجحيم

 

 
 

 

 

 

 

ننصت أنا والطاغية

هو في دهشة وامتعاض

          وأنا في نشوة وطرب

هو في قفص

                                       وأنا في فضاء

 

منذ بدء محاكمة الدكتاتور ـ صدام حسين ـ في قضية ( الأنفال ) دأبت على متابعة التفاصيل كلها. أستيقظ مبكرا، رائق المزاج. أعد الفطور وأنا أترنم بأغنية يوسف عمر:

آه يا الأسمر اللون حياتي الأسمراني

              حبيبي وعيونه سود والله الكحله رباني

 

يذهب من في البيت إلى العمل والمدرسة، فأبقى وحدي مع الصمت والعصافير الضاجة على أشجار الحديقة. هذا الطقس اليومي ثابت، مكرر منذ وصولي إلى الدانمارك عام 1992 بعد رحلة شاقة في معسكرات اللجوء الإيرانية والتركية والضياع في دمشق وموسكو. إذ لم أكتشف مدى العطب الذي أصاب رئتيَّ إلا لما وصلت إلى هنا، رغم تكرار ملازمتي الفراش وأنا على وشك الاختناق كل شتاء في السنين التي أعقبت قصف يوم 5 ـ 6 ـ 1987 بموقع زيوة خلف العمادية.. أو في معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، أو في دمشق حيث أسقط كل شتاء متأرجحا أحلم بالهواء، أو في فترة تصعلكي في موسكو وضياعي في السكر وسقوط حلم ـ مدينة ماركس ـ حيث نقلتني سيارة الإسعاف مرتين إلى مستشفيات موسكو لكن بعد كل الفحوص والأشعات يقول لي الطبيب:

ـ ليس لديك شيء، مجرد نزلة برد!.

فأهب من السرير ناسيا وهني لأغرق في ذروة تلك الأيام لكن لما راجعت طبيبي الخاص ( تتمتع كل عائلة تعيش في الدانمارك بضمان صحي يكفل الفحص والعلاج المجاني ـ وضع كنا نحلم به ـ نحن المؤمنين بالمدن الفاضلة لأبناء العراق ). شَخَصَ نحوي. أنصت لصخب تنفسي. سحب شيئا من درج منضدته. قربه من يدي. كان أنبوبا أسطوانيا قصيرا مخروما من الوسط، وعلى الخرم  مثلث دقيق. أرجعه حتى النقطة القريبة من الفم. طلب مني النفخ نفخة واحدة قدر ما أستطيع. عببتُ نفسا عميقا ونفخت بكل ما لدي من قوة. امسك طبيبي الفارع القامة المقياس من طرفه، وحدق نحوي بذهول قبل أن يُرجِع المثلث الصغير إلى الحافة  ويطلب مني معاودة النفخ. فعلت ذلك. تناول المقياس من بين يدي وحملق به طويلا، ثم رفع رأسه وقال بالدنمركية كلاما ترجمه المترجم فوراً:

ـ الطبيب يقول.. ماذا هل أنت ميت؟!.

أرسلني فورا إلى مستشفى " Rosklide " المدينة التي أسكن فيها وما زلت. وهنالك أُجريَّ ليّ فحصٌ شاملٌ. لا أريد الخوض في تفاصيل قد لا تعني للقارئ شيئا. لكن ما يهمني ويهمه هو اللقاء الأخير مع بروفيسور دنمركي طاعن في السن مختص بأمراض الرئة، رتب لي لقاءً بصحبة مترجم فلسطيني سمين ينوء بحمل جسده، وشخصيا طلبت من صديق نضال قديم كان معي في تجربة الجبل لفترة قصيرة ـ قحطان المالكي ـ حضور ذلك اللقاء فحضر وكان شاهداً. أخبرني المترجم أنني مصاب بعجز بوظائف الرئة بنسبة 60% بسبب القصف بالغازات السامة في كردستان. صمت المترجم والطبيب وكأنهما ينتظران ما أقوله. سألت:

ـ ما العلاج؟!.

ترجم المترجم قولي، رمقني البروفيسور بعينين حانيتين وقال:

ـ لا يوجد علاج بل أدوية تساعد على التنفس!

صمت برهة بدت لي طويلة وأضاف:

ـ التدخين صفر!.

شرط وقتها كان من أصعب الشروط عليّ. إذ كنت من عبيد التدخين!. وأردف قائلا:

ـ أنت غير صالح لسوق العمل!.

صمتُ منتظرا وهو يضيف:

ـ من حسن حظك أنك وصلت  الدانمارك فالقوانين هنا تكفل لك العيش، بالإضافة إلى أن البيئة نظيفة لدينا، لو كنت في بلد من بلدانكم لكان عمرك قصير.

كنت أستمع مذهولا لما كان ينطق به المترجم الفلسطيني، غير عارف بما سيؤدي إليه هذا الكلام واللقاء.

سألته:

ـ وما الحل؟!.

قال:

ـ سأطلب لك التقاعد!.

وفعلا منذ منتصف عام1993 أصبحت كذلك، ليس لدي من عمل سوى التأمل والكتابة، ممارسة الرياضة وتناول الأدوية اليومية التي تساعدني على البقاء حيا بين أنفاس الأحبة. كتبت ما كتبت من قصص وروايات ودراسات نقدية ومقالات.. أصدرت منها كتباً ثلاثة.

 

                       *                           *                           *

 

مع بدء محاكمة صدام في قضية الأنفال تركت القراءة والكتابة، أستيقظ منذ بكرة الصباح. أضع قوري الشاي على الشمعة ليخدر بهدوء منتظرا اللحظة البهيجة لما يظهر صدام وعلي كمياوي، وبقية الزمرة التي كانت تجلس على قمةِ هرمٍ كان من المستحيل عليّ تخيل علوه وأنا أنوء في قعره مضغوطا بذلك الكم الهائل من البشر القساة في الجيش لما كنت جنديا في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية، أو لما حللت نزيلاً في أقبيتهم لمرات عديدة، معصوب العينين، مكبل بالحديد، مضروب، مهان، أحلم بشم هواء الدنيا والسير في شارع.

مهرجان خاص جدا بالنسبة ليَّ. أبتهجُ وحيدا مسترخيا على أريكة وثيرة في صالة أنيقة، إلى يميني نافذة عريضة تطل على حديقة البيت بأشجارها وعشبها وعصافيرها، وإلى يساري نافذة أصغر تطل على حقل يمتد حتى الأفق في بلد تستطيع فيه، النوم في الشارع دون أن يسألك أحدٌ.. بلد أمضيت فيه حتى لحظة الكتابة أكثر من أربعة عشر عاما دون أن يسألني شرطي عن هويتي. أجلس مستمعا.. مستمتعا بوجه الدكتاتور الملتحي المنصت لسرد الضحايا الأكراد ممن كانوا معي في تلك الأمكنة.. غارقا في مسرة خالصة تأخذني إلى نشوة ما بعدها نشوة.. تفوقُ ذروة المضاجعة. فهذه ذروةٌ مركبةٌ، فكلما ظهر وجه صدام في لقطة مقربة منصتا لسرد الضحايا.. أرى نفسي في قمة الهرم وهو في أسفله، أما لما يظهر وجه فلاح كردي وهو يسرد ببساطة ووضوح عن حدث القصف والقتل والتشرد فانه يذهب بيّ إلى أسعد لحظات حياتي لما هربت من جبهة الحرب في 8 /1982 متخلصا من هاجس الموت الحائم في لحظتي على مدار الساعة، في الصحو والنوم، في البيت والمقهى، في الخندق ومدى الجبهة المفتوح شرق البصرة. هاجس مكين لا يأتي فقط من القصف والقذائف فقط بل من وجه ضابط الاستخبارات وحضيرة أمن الوحدة العسكرية التي يا ما ضيعت جنود شبان بوشاية.. نزعت خاطر الموت غيلة أو رغما عني في حومة حرب غير مقتنع بها، أو في عتمة زنزانة، حال وصولي إلى أول قرية يسيطر عليها البيشمركة، حللتُ ضيفا في بيت أحد هؤلاء الفلاحين الواقفين برباطة جأش أمام الطاغية. صرت واحدا منهم، لا بل أكثر لما كانوا يعرفون أنني عربي من الجنوب.

في بيت هذا الفلاح الكردي الواقف بشموخ متحدثا بلغته القومية شاركته الخبز والملح والماء، وكان يقدم كل ما لديه، ولما نشبع تقتاد الزوجة والأطفال على ما يتبقى.

ننصت أنا والطاغية

هو في دهشة وامتعاض

وأنا في نشوة وطرب

هو في قفص

وأنا في فضاء

وهذا الإنسان البسيط يقول بعفوية ما هو أبلغ من قول المحامي والقاضي والحضور. لم يتلكأ أو يبحث عن تسلسلٍ ما، يروي وكأنه يشاهد ما يرويه تلك اللحظة لا قبل قرابة عشرين عاما.. وكيف له النسيان؟!.. وهو يفقد البيت، القرية، الأب، الابن، الزوجة، الأطفال، ويضيع في المنافي أو يعطب جسده فيتغير مسار حياته كلها كما حدث معي..

ـ كيف له النسيان؟!.

يروي رابط الجأش.. لم ينفعل.. ولم يبدو حاقدا.. يشهر بتلك الأهوال والفقدان بروية وكأنه نبي الله أيوب "ع" فمن يفقد عائلته كلها ولا يجد حتى رفاتهم في مقبرة جماعية لديه من حبيب العراقيين ونبيهم "أيوب" شيئاً.

 

                       *                           *                           *

 

بغتةً، ظهرت رفيقتي القديمة ـ كاترين ميخائيل ـ ( دكتورة سعاد ) في مواجهة الطاغية لتدلي بشهادتها، فأخذتني إلى تلك التجربة وهي تذكرني باسمي الحركي وقتها ـ أبو الطبيب ـ كيف أصبت بشدة وأنا أهب مع رفيقين لإطفاء الحريق الذي شب في المقبرة الممتدة على تلٍ أعلى الوادي.. أخذتني إلى ذلك الغروب الرائق من يوم 5 ـ 6 ـ 1987. كان كل شيء هادئ في ذلك الوادي العميق الواقع على مجرى نهر ـ الزاب الأعلى ـ، فالوقت جاوز وقت قصف الطائرات الذي عاد روتينيا، إذ لا يكاد يمر أسبوع دون قصف، وكان لدينا كل ما يحمينا منه، مدافع مقاومة الطائرات تربض على القمم المحيطة بالوادي، ملاجئ، كهوف، يضاف لصعوبة تضاريس المكان، فالحوض عميق وضيق يحاذي الحدود التركية. الغروب كان رائقا، وكنا نلعب كرة القدم في الساحة الصغيرة التي رتبناها على فسحة حقل زراعي أمام غرف وقاعات القاعدة المحاذية لحواف سفوح وسط الحوض. كنت ألعب عندما نادتني حبيبتي ورفيقتي ـ ناهدة جابر جاسم ـ التي كان أسمها ـ بهار ـ كي أذهب إلى الحمام. قالت أنها سخنت قدر الماء وجهزت كل شيء وذكرتني بقرب وجبة العشاء. تركت الساحة مقتربا منها، حامدا في سري خالق الكون على وجود هذه المرأة الحانية الساخنة جواري في وسط موحش، صعب، يعج بالمخاطر. صرت جوارها وغرت في عينيها الواسعتين الضاحكتين قبل أن تستدير أمامي وتخطو نحو الحمام. كنت أتأمل قامتها الرامحة النشطة شاعرا بغبطة سرية تجعلني أسير خلفها شبه سكران.

لحظتها كنت سعيدا، سعادةً خارقةً خاصةً تشبهُ سعادتي هذه اللحظةِ وأنا أجلسُ وحيدا أستمتع بوجه الطاغية الملتحي ذليلا في القفص.

دفعت الباب الخشبي فاحتوتنا عتمة الحمام وبخاره. حضنتها وقطفت من شفتيها قبلة، تمنعت بغنج ودفعتني قائلة:

ـ مجنون والله مجنون!.

تعريت فيما كانت تفتح الباب قائلة:

ـ سأجلب لك ملابس نظيفة!.

لما أطبقت الباب سقطت في عتمة مباغتة، راح تخف قليلا بالضوء الخافت المتسرب من نافذة مستديرة صغيرة مسدودة بالنايلون لا تضيء سوى مسافة كف عن حافتها. كنا نعرف هذه الغرفة جيدا دون الحاجة للضوء، إذ نستخدمها منذ أكثر من سنتين ونعرف بأصابعنا مكان القدر، والطاسة، والتختة الخشبية الصغيرة، والصابون. عددت ست خطوات من الباب وهبطت متلمسا التختة الخشبية وقعدتُ عليها. غرفتُ الماءَ من القدرِ ودلقتهُ على جسدي الناضح.. وقتها كنت في أعماقي سعيدا أشد السعادة، لا أفكر في الغد.. بل أعيش اللحظة.. أدلق الماء وأتخيل صحن العشاء وخلوة المساء مع حبيبتي في غرفتنا المنزوية أسفل سفح خلف طبابة الموقع. أفرك جلدي بالصابون راحلا عن ضجيج الرفاق في الساحة مستمتعا بالحرية وجوار حبيبة تحنو عليَّ دون خوف من هاجس خطف من شارع أو بيت أو مقهى وضياع إلى الأبد في أقبية وزنازين كما حدث مع أعز أحبابي.. كنت غارقا في تلك المتعة الخالصة عندما أقتحم ضجيج طائرات تنقض قريبة وكأنها تمس سطح الحمام الواطئ، ضجيج مثل جدار أخترق جسدي، جعلني أقفز مذعورا من التخت الخشبي حتى ضرب رأسي السقف، لأندفع غريزيا ما أن لمست قدمي الأرض فاتحا الباب وراكضا بجسدي العاري المصوبون بالرغوة صوب أقرب ملجأ شقي لأقفز إلى جوفه. هبطت على لحم حار ينبض. لم يخفِ الشق سوى نصفي الأسفل. جلست فوق تلك الأجساد مفزوعا مجبرا على التحديق نحو الوادي المواجه للملجأ والفاصل بين غرف الضيافة وقاعات القاطع، أتتبع بعيني خيط رفع  من الدخان يتصاعد من القاع عالياً حتى جاوز قمة الجبل لينتشر هالة سوداء بلون الفحم راحت تهبط رويدا.. رويدا. حدث ذلك بلحظة خاطفة هي لحظة رؤيتي وأنا الغور بجسدي العاري في كتلة اللحم النابضة تحتي. كنت أحملق بخيوط أخرى من الدخان الرشيق بدأت تنتشر خلفي وإلى يميني وإلى شمالي، وضجيج الطائرات صاخبا دانيا وكأن جسد الطائرة سيلتصق بجسد الوادي حيث نختبئ، لكن لما يخف ونبقى أحياء نعرف أن الصاروخ سقط في مكان بعيد.. لاحقا عرفنا أن الطائرات نشرت قذائفها بشكل دائري غطي صحن الوادي بالكامل. أكرر: ـ ما أرويه حدث للحظات خاطفات!. فما أن غاب ضجيج الطائرات حتى هرع الجميع من الملاجئ والغرف والكهوف لرؤية ما حدث. عدت فورا إلى الحمام. غسلت جسدي من الصابون. نشفته، وارتديت ملابسي. خرجت شبه مجنون.. أبحث عن حبيبتي ـ بهار ـ أكذب على القارئ إذا قلت أنني كنت أفكر بشيء آخر يتعلق بالرفاق أو الفكر أو أي شيْ سواها. كنت أتأرجح من حافة العقل باحثا بعيني الملهوفتين عنها وسط الهرج والمرج الذي أعقب القصف بلحظات، فبين مغادرتها الحمام وانقضاض آلهة الحديد الشريرة من سماء الله ليس غير دقيقة.. مثل مخبول أقف في الفسحة أمام مطبخ وقاعة فصيل الإدارة أدور عيني في الأركان، في الوادي، في الساحة خلفي، في القاعة، المطبخ، فوهات الملاجئ، ولما لم يقع ناظري عليها تشنج جسدي وأختض كمصابٍ بالصرع، وفيما كنت موشكا على السقوط سمعتها تنادي:

ـ أبو الطيب!.

التفتُ نحوها، كانت تركض مقبلة من تحت شجرة الجوز الشاهقة على حافة الساحة. هرعت إليها مستعيدا حيويتي. ارتمينا بأحضان بعضٍ ورحنا نتلمس جسدينا بأصابعنا قطعة.. قطعة بلهفة وجنون ولما تأكدنا من سلامتنا.. ابتعدنا منفصلين منتبهين لما حدث. أول ما وقع بصري عليه وأنا أنفصل عن جسد حبيبتي مشهدا لم ولن أنساه أبدا فهاهو متجسد بتفاصيله المرئية والصوتية أمامي وكأن لم يمر قرابة عشرين عاما عليه.. لهاث الشهيد أبو رزكار ( عجيل ريبز ) ـ الذي تحدثت عنه الشاهدة ـ كاترين ميخائيل ـ طويلا  في جلسة محاكمة الدكتاتور، ولهاث رفيق أخر من أشوري العراق الشجعان ـ أبو ليلى ـ وهما يحملان راكضين الرفيق ـ أبو فؤاد ( جوقي سعدون ) ـ المحترق إذ أن القذيفة التي رأيت عمودها الدخاني سقطت على مبعدة أمتار من جلسته على صخرة في مسيل الوادي. تسمرت مذهولا في مكاني أتتبع لهاث الراكضين وقدم ـ أبو فؤاد ـ اليسرى المتدلية وكأنها مفصولة عن الساق، ووجهة الذي أسّوَدَ تماما وذراعية الملتفين حول عنقي أبي ليلى ورزكار. مروا خطفا من أمامي ليستدروا صوب بناية الطبابة القريبة من حافة السفح. حملقتُ بذهول في وجه ـ أبي فؤاد ـ، في قسماته التي بدت ضائعة، فأيقنتُ بموته. عضضت شفتي لوعة. عيناه بدتا فارغتين وكأنه لا يرى شيئا، كانتا تحملقان في البعيد، في عالم غير عالمنا، أخذتني إلى قصة هذا الإنسان المحمول مدلى القدم شبه أعمى، مستعيدا لحظات التحاقي الأولى إلى الجبل بصحبة حبية عمري ـ بهار ـ. فهو من أوصلنا من قاعدة للأنصار في ـ كلي مراني ـ بسلسة كارا إلى قاعدة في ـ كلي حصبة ـ بسلسلة متين. كان مرحا عنيف العاطفة، شجاعا خفف قلقي لما دخلنا قرية تقع على الشارع العام تحت هضبة فيها مواقع للجيش.. هدأ روعي وهمس:

ـ رفيق لا تخف! أنا معك!.

كان صوته يجلب لنفسي السكينة أنا القادم من هول الجنوب العراقي وشدة السلطة وكلابها. سوف لن أراه منذ ذلك اليوم إلى أن جاءنا بعد سنة ونصف بالكاد يستطيع الوقوف، منهكا، يسعل بين لحظة وأخرى، عسيرا عليه النفس، لم يجب لما سألته:

ـ ماذا بك؟!.

عرفت بعد رحيله في طريقه إلى إيران للعلاج أن رفيقا كان عميلا للسلطة قدم له طعاما مسموما لما حلَّ ببيته.

الأمر الذي تفتقده محاكمة الطاغية هو أن سلطة صدام كانت تبث السموم لقرى ومواقع الأنصار والمقاومين عن طريق عملائها طوال الوقت، بتسريب مواد غذائية مسمومة، مثل حليب النيدو، وصفائح السمن النباتي وغيرها، أو تبعث بعملاء أو رفاق يقعوا في قبضتهم كي يسمموا حبوب الماء، المواد الغذائية المخزونة، وقد قضى الكثير من الثوار بهذه الطريقة.

كان الشهيد عائدا من رحلة علاج قضاها في مستشفيات إيران للقاء عائلته بعد أكثر من سنة. وعائلته تسكن  في قرية جوار قاعدة  ـ كلي مراني ـ أقيمت حديثا  لعوائل الرفاق اليزيدين الأنصار التي هجرتها السلطة من قراها في دشت الموصل، لكن ذاك اللقاء صار مستحيلا فقد غادرنا الشهيد إلى ملكوت الرب في ساعة متأخرة من تلك الليلة.. هذا ما أخُبرت به لاحقا.. لكنني لا أستطيع نسيان مشهد سوف يتجلى أمامي كلما وقع بصري على لوحة لمريم وهي تحضن المسيح في لحظة وجدٍ في الكنائس أو الألبومات، أمام غرفة الطبابة جلس ـ أبو رزكار ـ متربعا على الأرض واضعا رأس ـ أبو فؤاد ـ في حضنه ومنحنيا عليه يهمس بشيء ما كأم تحنو على وليدها.. وقسمات ـ أبو فؤاد ـ بدأت تسود شيئا فشيئا وكأنها حرقت بفرن.

ـ في الأنفال بعد سنة من حادث القصف أي في الشهر الثامن من عام 1988 ستعتقل عائلة أبو فؤاد  كلها وتضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد ـ.

كل شيء كان مرتبكا. الجميع يركض في شتى الاتجاهات،سمعت هرجا ومرجا يأتي من عمق الوادي الجانبي حيث المكتب السياسي. كان أحدهم ينادي من هناك طالبا المساعدة. هببتُ نحو المنادي فوجدتُ ـ عباس رش ـ النحيل يتلوى على الأرض ماسكاً بساقه الأيمن الدامي. مزقنا السروال على عجل بحربه فظهر بطة القدم ممزقة بشظية. حملناه على عجل نحو الطبابة. وضعناه على مسافة قريبة من ـ أبو فؤاد ـ كانت  زوجتي ـ بهار ـ ورفيقة من حزب تودة الإيراني أسمها ـ كانياوا ـ يقومن بقص شعر ـ أبو فؤاد ـ المحترق. بينما هرع رفيق له معرفة بسيطة بالتطبيب ـ أبو كاوة ـ والطبيبة ـ أم هندرين ـ بدت شديدة الارتباك فهي من ناحية لم تواجه مثل هذه الإصابة من قبل، ومن ناحية أخرى ليس لديها اللوازم الطبية. كنا نمسك بساق ـ عباس ـ الممزقة بينما شرع ـ أبو كاوة ـ بخياطتها بعد أن أخذ الإذن من ـ أم هندرين ـ كنت أتابع الإبرة المعقوفة النهاية وهي تُغرز في الساق السمراء بدون تخدير، فأشخص نحو وجه ـ عباس ـ الذي يتصلب محاولا إخفاء ألمه بشجاعة رادا على نظراتي المتعاطفة وعيناي توشكان على البكاء وهو يردد:

ـ ولا يهمك يا رفيق.. ولا يهمك!.

لما أكمل خياطة الجرح الممتد من تحت الركبة إلى ما فوق الكاحل، لف الساق بلفافة طويلة ظلت تنز دما رغم متانتها. كنت في داخلي غير مقتنع بالطريقة التي عالجا بها جرح ـ عباس ـ فقبل التحاقي كنت في جبهة معارك ـ مجنون ـ شمال شرق البصرة ورأيت عشرات الحالات المشابهة لجنود أصيبوا بشظايا. كان الطبيب المسعف ينظف الجرح ويعقمه ويملأه شاشاً نظيفا معقما كي يوقف النزف قبل أن يخيط الجرح لكن لم يكن بوسعي التدخل. فأسفت في داخلي لـ ـ عباس رش ـ الشجاع الذي لم يبدِ أبدا أي علامة ألم أو شكوى وكأنه قُدَّ من حجرٍ لا من لحمٍ ودمٍ.

أحدهم رفيق كان ضيفا من قاطع أربيل لا أتذكر أسمه، يبدو انه عاش أولى تجارب قصف طائرات الدكتاتور بالأسلحة الكيمائية لموقع وادي ـ بليسان ـ الذي جاء ذكره من قبل الفلاحين الأكراد في الجلستين الأولى والثانية من محاكمة الدكتاتور، كان يصرخ:

ـ رفاق هذا قصف كيماوي، قصف كيماوي!.

لم ينصت إليه إلا القلة، فيصيح:

ـ ألا تشمون رائحة التفاح المتعفن والثوم!.

رأيته مثل مجنون يركض خلف الرفاق الراكضين يمنة ويسرة مرددا نفس الجملتين دون جدوى. أنا من الذين لم يأخذوا كلامه مأخذا جديا، بينما زوجتي ـ بهارـ قالت لي:

ـ أبو الطيب اكو ريحة مو طبيعية!.

سخرت من كلامها، فقامت بنقع منديلها بالماء  ووضعته حول فمها وأنفها. وضعتُ قدم ـ عباس ـ على البطانية المنقوعة بدمه مفكرا في مساعدة جريح محتمل آخر.. في تلك اللحظة بالضبط سمعت جلبة أقدم تهبط على الممر النازل من ربوة فصيل الإسناد التفت فطالعني وجه شديد الوسامة، ناعم التقاطيع، أبيض يميل إلى الاحمرار قليلا، متوسط القامة، نشيط الحركة وحوله أربع أو خمس يحملون حقائب سوداء ويسعون في دائرة هو مركزها. ألقى التحية دون أن يحدق صوبنا. كان يشخص نحو ـ عباس ـ وسأله بعربية ناصعة عما أصابه، فأخبره مؤشراً نحو ساقه التي لم ينقطع نزفها رغم لفة الشاش المتين. تبادل مع ـ أم هندرين ـ كلاما مختصرا بالكردية قدرت أنه سألها عما فعلته.

ـ هل ثمة بشر هم أصلا ملائكة هبطوا من السماء ليخففوا من وجع الدنيا قليلا؟!.                

هذه التجربة جعلتني على يقين من الإجابة بنعم على

 هذا السؤال!. هاأنذا بعد قرابة عشرين عاما أرى المشهد ذاك وكأنه البارحة.. اللحظة التي هبط بها ذلك الطبيب الكردي الشاب الذي عرفت أسمه لاحقا ـ نوزاد ـ أستعيد صرامة الوجه، براءة الملامح، حركة الجسد الواثقة.

ـ الطبيب ـ نوزاد ـ كان من الاتحاد الوطني الكردستاني ـ أوك ـ هو ملاك سرعان ما عاد إلى مملكته بعد سنتين من الأحداث!.

كان في زيارة لقواعدهم في منطقة ـ بهدينان ـ لما حدث القصف ذلك اليوم. التفت نحو ـ عباس ـ وقال شيئا لمساعديه، فتحلقوا حوله. أزالوا لفة الشاش، وغرزوا أبراً حول الجرح وأعلى الساق. رأيت بعدها عباس يسترخي طوال وقت تنظيف الجرح وترتيبه دون الحاجة للتجلد وكتم الألم، كما كان يجري للجنود في جبهة الحرب.

قلت معي نفسي:

ـ عباس الخالق لم ينسك.. هبط ملاكك الحارس!.

وفعلا ـ عباس رش ـ  لم يزل حيا. كان معي بعد أكثر من سنة لما وصلت حملة الأنفال إلى مناطق ـ بهدينان ـ وزحف الجيش العراقي على مواقع الثوار والقرى المحررة. كان معي في ـ أوردكاه خوي زرعان ـ في  شمال أورمية الواقعة في أقصى الشمال الإيراني. ولا أدري الآن أين رستْ بهِ عواصف البحث عن ملجأ آمن، لكن هو يتذكر وأنا أن ملاكا هبط من سماء الله أسمه ـ نوزاد ـ جعله يواصل أيام عمره ويمده بالحياة قليلا.

أقول ملاكاً.. وأقول عن كل من يمكث في الدنيا أقصر مدة.

أقول ملاكا، و د.  نوزاد  سيمر بالصدفة أيضا بمقر الثوار في ـ كلي حصبة ـ ويعالج أبن مدينتي ومحلتي ـ جابر ـ (أبو نصار ) الذين أصيب في معركة قرب  قصبة ـ بامرني ـ برصاصة متشظية حار في وضعه طبيب الموقع ـ أبو تضامن ـ الذي كان مختصا بأمراض النسائية وليس له خبرة بجروح الحرب، فكاد ـ جابر ـ أن يموت والقنقرينا تصعد بساقه ولم يفعل طبيب الموقع إلا لف الساق المصابة باللفافات، فأسعفه ـ نوزاد ـ بأجراء عملية بترٍ ساقه لمرتين الأولى من تحت الركبة على أمل بقاء مفصل الركبة، لكن القنقرينا صعدت فمرَّ بعد أسبوع ليقطع الساق من أعلى الركبة وينقذ حياة ـ جابر ( أبو نصار ) ـ الذي كانت زوجته ـ أم نصار ـ  حامل وقتها، ورزقت بطفلتهما ـ لهيب ـ قبل الهجوم الأخير لقوات النظام بأيام وكانت معنا في ذلك الطريق الطويل الذي أفضى بنا إلى تركيا والمنفى.

ـ جابر ـ  وـ عباس ـ أحياء الآن أما الملاك الكردي ـ نوزاد ـ فقد قتل في حادث سير بعد ذلك بسنة.. عاد الملاك إلى جناحيه سابحاً في يم ما قبل الخلق جوار العرش إلى الأبد.

أعود إلى تلك اللحظات القصار والمساء بدأ يرش عتمته قليلا.. قليلا. كنا لم نزل   في اللجة مضطربين بين اليقين وعدمه كون القصف كمياويا أم عاديا. كنت وقتها أتمتع بقوة جسدٍ رياضيٍ متينٍ يضاف لرغبة متأصلة في مساعدة الآخرين لحظات المحنة، لذا تطوعتُ لإطفاء الحرائق التي شبت في المقبرة الكائنة على ربوة فوق فصيل الضيافة مع رفيقين الأول ـ أيار ـ والآخر كان ضيفا من قاطع أربيل قصير القامة ـ الدكتور زكي ـ. صعدنا مخلفين تحتنا الموقع الذي بدا من أعلى تل المقبرة مغطىً بالدخان ورشيش المساء الخافت. بدأنا بإطفاء الحرائق التي لم تكن حرائق بالمعنى المألوف. إذ كان ينبعث من مكان اللهب الشبه خافت دخان كثيف يثقل أنفاسنا. كنا شديدي الاندفاع نتنادى في حمل التراب بواسطة معاول يدوية لإلقائه على ألسنة النار المدخنة. بقينا أكثر من ساعة. أتذكر إلى الآن كيف نادى علي ـ الدكتور ـ كي أشاهد صاروخا أستقر في حفرة قبر ولم ينفجر. مددت كفي عميقا في الهوة وتلمسته بفضول لم أفهم سببه حتى هذه اللحظة وأعجب من فضولي الغريب إذ كان من الممكن أن ينفجر ويبدد جسدي وما حولي. كان ساخنا صلبا قاسيا.

ـ هل كنت مجنونا؟!.

هذا ما بِتُ لا أشك به أبدا!.

قبيل الانحدار صوب القاعدة. كنت أفكر بتلقائية حياة الثوار اليومية ولم أدرك أن ذلك المساء سيشكل مفصلا حاسما في حياتي كلها وحياة الثوار أيضا. لذا حملت على كتفي ساق شجرة بلوط قطعها القصف، فغدا 6 ـ 6 ـ 1987 دوري في طبخ وجبات الفصيل. كانت ثقيلة. وضعتها جوار غرفتنا المنزوية عند السفح، وبحثت عن حبيبتي ـ بهار ـ فوجدتها تساعد الطبيبة في معالج رفاق جرحوا جروحا خفيفة. عدنا إلى غرفتنا الضيقة والظلمة هبطت بكثافة على صحن الوادي وأشياء الثوار الرثة.

كنت متعبا فاستلقيت على فراشنا الذي يشغل اكثر من نصف مساحة الغرفة. تركتني قائلة:

ـ سأذهب لمساعدة الجرحى!.

بقيت وحيدا. إلى تلك اللحظة لم أشعر سوى بضيق في التنفس وما يشبه الاحتقان في وجهي، وهذا يحدث لي غالبا قبيل النوم لكثرة التدخين والإنهاك من متطلبات يوم الثوار في الجبل. تناولت كتاب وحاولت القراءة. بعد عدت سطور شعرت بحرقة شديدة في عيني، فرحت أفركهما فيزداد سعير الحرق، قلت مع نفسي:

ـ لأنام قليلا!.

وضعت الكتاب على المنضدة الخشبية الصغيرة الواطئة بارتفاع متر، وأغمضت عيني. سكنت الحرقة قليلا، لكنها بعد دقائق هجمت عليَّ بشدة. فعدتُ لا أستطيع مباعدة أجفاني إلا بصعوبة. أنهضت جسدي وتربعت على الفراش. تناولت مرآة صغيرة، وفتحتُ عيني بعناء وجدتهما  كقطعتين ساخنتين من الدم. تفحصت وجهي. كان محتقنا، منتفخا. أغمضتهما مرخيا رأسي إلى الجدار المغطى بالنايلون. شعرت بهما تتصلبان لحظة بعد لحظة لتتحولا إلى قطعتي حجر. غَمْدتُ رأسي بالوسادة وبقيت هكذا مدة، لكن الألم بدأ يزداد وينتشر في أرجاء جسدي قطعة.. قطعة. لم يعد بمقدوري الاستمرار مستلقياً على بطني. ارتكزت على كوعيَّ وجلست طاويا ركبتي تحت ثقل جسدي.. تَلَويّتُ. نهضت واقفا. حاولت أن أخطو نحو باب الغرفة، لكن شدة الألم عطلت قدميَّ. هويت ثانية إلى الفراش. لا أدري كم بقيت هكذا.. أصارع بصمت الحريق الذي شب في كل قطعة من جسدي.. بدأت بالأنين الخافت.. أقوم أخطو خطوتين.. أقعد.. أستلقي. أقوم من جديد.. أحاول فتح عيني فتهب على أبواب جهنم. كنت أقول مع نفسي:

ـ متى تعودين يا بهار؟!.. متى؟!.

صارت حبيبتي مثل حلم في بحر الألم الذي ضعتُ فيه. تصورت وقتها أن مجيئها وحده سيسكن آلامي. وبينما كنت أدور في تلك اللجة دفعت الباب، وصرخت:

ـ أش بيك حبيبي؟!.

وراحت تتلمس جسدي فكنت أصرخ من ملمس أصابعها، راحت تتوسل وتناديني باسمي الحقيقي:

ـ أفتح عينك حبيبي سلام!.. أرجوك أفتح عينك!.

كنت أردد من بين أنيني:

ـ ما أقدر.. ما أقدر نار بعيوني!.

ـ حاول حبيبي.. حاول.. أرجوك.. أرجوك!.

كانت توشك على البكاء. وكنت أتلوى من أجلها ومن جسدي. حملت نفسي بكل ما تبقى بيّ وباعدت أجفاني كمن يرفع صخرة هائلة الحجم. على ضوء الفانوس الشحيح، في اللحظة الخاطفة تلك رأيت مدى الرعب الذي طعن قسماتها الجميلة. قالت:

ـ اهدأ دقيقة وراجعه!.

سمعتها تفتح الباب. وتغلقه خلفها.. فسقطتُ في بحر ألمي الذي أستعرَ من جديد ما أن اختفت، .. لا أدري كم من الوقت طوّلَ غيابها؟!.. لا أدري فالزمن صار غير هذا الزمن.. الثانية فيه تساوي دهرا، بقيت وحدي أجود بنفسي وسط النار ولا من منقذ أو أمل.. بقيت مثل ضال تُرك في جهنم إلى أن فُتِحَ الباب. كانت بصحبة الدكتورة ـ أم هندرين ـ التي أزاحت قميص سروالي وتفحصتني بصمت لتقول:

ـ خذيه إلى فصيل الإسناد!.

وخرجتْ.

قالت حبيبتي:

ـ أصبر.. سأجمع وثائقنا ونصعد!.

ألبستني الحذاء، وقادتني من يدي. كنت مغمض العينين. عند العتبة قالت:

ـ أعبر!.

رفعت قدمي، ووطأتُ خلف العتبة، فهجمت رائحة الحرائق والدخان الخانق. أزداد ضيق تنفسي، فجعلت أشهق بعمق باحثا عن الهواء دون جدوى. سرنا على ممر ضيق أعرفه جيدا يصعد بمحاذاة صف من الأشجار يفضي إلى ربوة حيث غرفة السجن، وقاعة فصيل الإسناد، وغرفة الرفيق ـ أبو علي وزوجته ـ. المسافة لا تتعدى الخمسين مترا. كنت أتضور فيها بألمي واختناقي. أنقل خطوي بجهد متوجعا ويداها الحانيتان تمسكان بيدي وتسحباني بأناة وببطء شديد. وقتها كنت أحس أنني سائرٌ نحو المجهول.. فلا مشفى ولا طبيب وليل دامس طويل وأنا أتلظى في بحر جهنم. أحسستُ بالأرض تستوي تحت قدمي، معنى ذلك أننا بلغنا الفسحة الواسعة التي هي عبارة عن حقل محاط بالأشجار من ثلاث جهات تحول إلى ساحة للعب كرة الطائرة. لم أسمع سوى وقع أقدامنا وحفيف أرديتنا ولهاث حبيبتي. قطعنا عدة أقدام، ثم أوقفتني قائلة:

ـ أجلس هنا!.

باعدت أجفاني رغم الحرقة. فطالعني المشهد. حول لهب نار مضطرمة تحلق الثوار في دائرة كبيرة. أول وجه وقع بصري المضطرب عليه كان وجه ـ توما توماس ـ بقسماته الشائخة الحمراء، وشعره الأشيب الطويل المنسدل حتى منتصف الكتف ( من الشخصيات اليسارية العراقية المعروفة التي ساهمت في النضال المسلح ضد سلطة البعث منذ الستينات وحتى حملة الأنفال، مات في المنفى في السنين الأخيرة ). كان ساكنا يجلس لافا ساعديه حول ركبتيه ويحملق في الشعلة بصمت، وعلى جانبيه أصطف جلوساً الثوار وكأنهم في طقس بدائي. كنت أغمض عيني وأفتحها بين ثانية وأخرى والحرقة تزداد شدة. تركت يديّ وقالت:

ـ سيموت يا الله.. سيموت!.

رغم ألمي سألتها:

ـ من.. من؟!.

فقالت:

ـ أبو ماهر!.

وأبو ماهر هو ـ ثابت حبيب العاني ـ ( من شخصيات اليسار المعروفة وكان صاحب أمتياز صحيفة طريق الشعب العلنية خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي مات في المنفى في السنين الأخيرة ) فتذكرت أنه كان يقيم في غرفة جوار قاعة الضيافة. أي في مكان يبعد عن تلك القذيفة التي أعمت ـ أبو فؤاد ـ عشرين متراً. وهو شيخ كبير أختلف مع قيادة حزبه ورفض مغادرة كردستان إلى الخارج. فعزل عن العمل وبقى في مقرنا. وكان مريضا في القلب. فتحت عيني، وحدقت نحوها وهي تخطو مقتربة من ـ أبو ماهر ـ الذي كان مستلقيا على بعد ثلاثة أمتار. وعلى ضوء النيران لمحتُ ملامحه المحتقنة وهو يحاول التنفس دون جدوى فبدأ بالشخير وكأني يعالج سكراته دافعا بذراعيه إلى الجانبين ورفسا برجليه المتصلبتين. آخر ما أتذكره من ذلك المشهد هو أن ـ ناهدة ـ هرعت مع رفيق آخر لتجلس جوار رأسه وترفع جذعه الأعلى وتسنده واضعةً رأسه المتشنج إلى كتفها فبدأ بالتقيؤ والسعال بينما هرع رفيق آخر لمناداة الطبيبة. شعرت بالموت دانيا منه ومني ومن هذا الجمع من الثوار الحالمين الذي عاشرتهم سنين طوال. خنقتني العبرة وذرفت الدموع ناسيا جحيم جسدي. كنت أبكي بصمت والسعال بات يأتي من أطراف ووسط الدائرة يصحبه أصوات هواع.. وكأنهم يحاولون التقيؤ دون جدوى.. نار ووجوه ساكنة في ألمها تحدق بصمت وأخرى تسعل وأخرى تتقيأ واللحظات أمتدت وكأنها الأبدية. صرختُ مع نفسي:

ـ كيف الخلاص من كل هذا؟!.

عندها بدأ الجحيم من جديد يستعر في كل قطعة من جسدي حد لا أتذكر من مشهد دائرة النار شيئا. إذ وجدت نفسي أحبو متمرغا مثل طفل على حصير غرفة مكتظة بالرفاق الصارخين الناحبين فانتحبتُ أنا أيضا بصوت مسموع ورحت أصرخ مستنجدا مثل الجميع:

ـ أخ سأموت!.

ـ أني أحترق!.

ـ يا يمة!... يا بويه!.

ـ  بويه تعالي بويه!

ـ ولكم أريد شويه هوه!

ـ عيوني يمه عميت

الهذيان مصحوب بصراخ ألم، وسعال وقيئ. كنت أفتح عيني بين الحين والحين فيقع ناظري على أجساد مطروحة جالسة نصف واقفة مضببة تحت ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. لم أستطيع التعرف على أقرب رفيق يتلوى جواري.. وكأنني دخلت دائرة في الألم والعذاب جديدة، إذ أن الشعور بدنو الآجل صار شديد الوضوح، كنت أجود بنفسي متمنيا لو أن أحدهم يجهز عليّ ويخلصني من ذلك الجحيم، شعور راودني من قبل لما كنت معتقلا في الشهر السادس من عام 1980 في الآمن العامة ببغداد، إذ خطفوني وصديقين أحدهم كان متخفيا عن أنظار السلطة يدعى " ميثم جواد " من أهالي كربلاء، خريج إدارة واقتصاد جامعة المستنصرية أعدم لاحقاً. لما يأخذونني إلى حفلة المساء، ويبدأ التعذيب يتصاعد من الفلقة إلى رجة السلك الكهربائي، كنت أتحمل ذلك وأصرخ، لكن لما كانوا يغطون برأسي في حوض الماء ويطيلون المدة رويدا.. رويدا أشعر بأن بروحي تكاد تخرج من حلقي في جحيم الماء الذي يشبه جحيم الحرق في تلك الغرفة المكتظة بالصارخين وكأنهم ينتظرون أمام بوابة جهنم. كنت معصوب العينين في غرفة شاحبة الضوء ممسوكا بأيادٍ غليظة قاسية أصرخ طالبا الموت في متاهة أقبية الأمن العامة. رحت أصرخ طالبا الموت أيضا فيضيع صوتي في ضجيج صراخ وهذيان الرفاق. في تلك اللحظة أحسستها تمسك بذراعي بقوة كي أكف عن التلوي والصراخ والبكاء، هامسة بصوتها العذب باسمي الحقيقي:

ـ سلام حبيبي.. كن قويا.. أرجوك!.

ـ سلام لا تضعف حبيبي!.

وقعت في حيرة.. فهاهي حبيبتي تدعوني لأكن قدر الألم وهو لا يطاق. أتذكر تلك اللحظة وكأنها جرت بالأمس. كيف عضضت على أسناني بكل ما بيّ؟!. فتصلبت قسماتي حابسا صراخي وكاتما جحيم النار في نفسي، منصتا لصوتها العذب المتوسل كي لا أقول شيئا وأتحمل وأصبر. لما تجاوزت المحنة فكرت طويلا بموقفها الشجاع وصلابة روحها المقدامة فقد خلصتني من الكثير من التعليقات الساخرة التي أعقبت ذلك، وعلمتني شيئا جوهريا عن الوجود البشري.. فالموت لابد منه، لكن ثمة فرق كبير من أن يموت الإنسان وهو يصرخ بضعف وأخر يموت بشجاعو وصمت. حمدت الدنيا التي منحتني نعمة جوارها، فهي ساعدتني كثيرا لما كنت مختفيا في المدن، إذ كانت تلتقي بيّ سرا وتشد من أزري، ولما كاد أن يلقى القبض علينا في شباط 1985 رتبت عملية التحاقنا بالثوار في الجبل بكل هدوء وتركت كل شيء خلفها حتى أبننا الوحيد وقتها ـ كفاح ـ.                

لم أعد أتذكر كيف مرّتْ تلك الليلة؟!.

كانت تتركني بين الحين والحين.. تغيب وتعود فيما كنت احبس صراخي وألمي منصتا لهذيان وصراخ الكتل البشرية المحشودة المتلاصقة في الغرفة، تتلمس جسدي المشتعل كاشفة عن ظهري وصدري وساقيَّ، وتقول كلاما تصبرني فيه وتشّد من عزمي. كان الألم يبلغ بيّ حده الأقصى بحيث أعود لا أحس بشيء فأسقط في شبه إغماءه لأصحو على صوتها وأصابعها الحانية تجوب لامسة جروحي. في الأيام التالية أخبرتني أين كانت تذهب فروت لي كيف كانت تنزل إلى الطبابة لتساعد الطبيبة ـ أم هندرين ـ وهي تحاول أن تفعل شيئا لأبي فؤاد، قالت:

ـ كان محترقا أعمى يتقيأ كل لحظة. فيما وضعت الطبيبة صحن كبير وعميق في حضنه كي لا ينثر القيء على ملابسه. اختفت أهدابه. فرغت عيناه. تشنجت قسماته. كان يحاول أن ينهض بجسده دون جدوى فيرفع يديه المسودتين إلى أعلى وكأنه يحاول الإمساك بشيء. خنقتني الرائحة المنبعثة من كتلته، فبللت منديلي ووضعته على أنفي وفمي. مسحنا جروحه بالشاش المعقم، لم ينطق بحرف واحد، لم تصدر عنه سوى أنة واحدة طويلة قبيل لفظ أنفاسه ليستقر رأسه بلا حراك على كتفي!. عندها صرخنا أنا والطبيبة ورحنا في عويل طويل فهرع نحونا الرفاق القريبين ليحملونه ويضعوه على فراش منزوٍ في طرف الغرفة!.

استيقظت على صوتها يناديني:

ـ ها حبيبي سلام أش لونك؟!.

وجدتُ الصمتَ مقيما ومن بعيد يأتي صوت زقزقة عصافير. فتحتُ عينيَّ رغم النار التي شبت فيهما وأجلت الطرف. على ضوء الفجر رأيت الأجساد التي كانت تتضور طوال الليل صارخة هاذية تغفو أيضا أو تسقط في غيبوبة الألم كما حدث معي.. ذكرتني بأشلاء الجنود في جبهة الحرب العراقية الإيرانية التي تخلفها معركة ليلٍ ضاريةٍ. أغمضت عينيَّ منصتا لزقزقة العصافير. حاولت أن أسحب نفسا عميقا. لم أستطع فالهواء يشعل بلعومي فأسعل سعالاً جافاً طويلاً. همستْ بصوت منكسر النبرة لم يستطع إخفاء ألمها:

ـ حبيبي سنصعد إلى موقع ـ الدوشكا ـ.  

تخيلتُ الموقع القريب من القمة، والمجاور لنبع الماء والذي يبعد ساعة في صعود وعرٍ بالنسبة للسليم فكيف بحالي؟!.  حاولت مساعدتي في النهوض. تمكنتُ متمسكا بذراعيها، لكنني لم أستطع السير سوى خطوات قليلة إذ شعرت بحريق يشب في خصيتي وبين ساقي وتحت إبطيَّ مع كل حركة. همست:

ـ تحملَّ حياتي.. فالبغل بانتظارنا في الساحة!.

رميت خطوي مستندا على كتفها الرحيم. كان النهار صحوا والشمس متلألئة مما زاد من حرقة عيني كلما حاولت فتحهما. أتذكر الآن مدى العناء الذي تجشمتهُ وهي تحاول بمساعدة رفيق إصعادي فوق البغل. جلستُ على السرج. أشتعل ما بين فخذي، فولجتُ في صلب الجحيم. لم يكن أمامي سوى الصمت وكتم الألم في حضرتها، وفكرت بعد التجربة عميقا في سر صمودي إزاء ذاك العذاب، فلم أجد سوى حضرتها محرضي الوحيد كي أبدو قويا.

طوبى لك يا ملكيتي وسر حياتي!.

طوبى لـ ـ ناهدة جابر جاسم ـ جارتي وحبيبتي التي أحبتني بجنون فاق محبة الأب والأم!.

طوبى للمحبة حينما تكون محرضة لتماسك الإنسان في أشد المحن!.

لك صلاة.. كتلك التي صليتها فوق سطح دار أهلي في أول لقاء، وما زلت أركع لك بعد أكثر من ثلاثين عاما هنا في المنفى كل مساء!.

أي رحلة كانت تلك الساعة من موقع الإسناد إلى موقع الدوشكا!.

ماذا أكتب أو أقول؟!.

هل أقول أنها رحلة سيزيف وهو يحمل صخرته إلى القمة لتتدحرج حال بلوغها فينزل ليحملها ثانية ويصعد؟!.

تمنيت نفسي سيزيف القادر على الحمل والصعود والنزول إلى ما لا نهاية!.

حسدت مأساته؟!.

 

الرحلة تلك كانت مفصلاً في وجودي، فقد كنت أترجح على حافة العالم السفلي والظلام حيث الصمت. قلت معي نفسي والبغل أثناء صعوده العسير يجعلني أحس وكأنني موشك على السقوط مع كل خطوة يخطوها لاهثا من عناء الارتفاع وثقل جسدي:

ـ لو كتب لي الحياة وراء هذه المحنة فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي!.

الرحلة من قاع الوادي وحتى نقطة النبع القريبة من القمة بدت وكأنها دهرا!.

كان أحدهم يسندني في جلوسي على السرج من اليمين وناهدة من اليسار وثالث يقود البغل. كانت تسأل بين الحين والحين عن حالي، فأطمئنها مضطرا كوني بخير. وبغتةً سمعتها تصيح:

ـ رفاق لقد عميت!.

عندها شب ألمي وعراك شب بين من كان يسندني إلى اليمين وكان عربيا والذي يسندني على اليسار وكان كرديا من السرية الخامسة.. فأصر الرفيق الكردي على البقاء لمساعدتها رغم غضب العربي الذي كان يريد إبعاده.. هذا المشهد وصفته بتفصيل في روايتي ـ برازخ وأخيلة ـ التي منعها رقيب أتحاد الكتاب العرب ـ فرع سوريا ـ، ـ الروائي الفلسطيني حسن حميد ـ عام 2002 .. وخدعني الناشر ـ خالد المعالي ـ  صاحب  ـ دار الجمل ـ بألمانيا إذ وعدني بأنه سوف ينشرها في عام 2004 لكنه لم يفعل.

لا أدري كيف بعد ذلك بلغتُ موقع الدوشكا، لكنني أتذكر بوضوح وجه الرفيق ـ أبو الياس ـ طبيب الأسنان الذي رفض في كردستان ممارسة مهنته كونها تشبه ما يقوم به رجل الأمن لما يعذب المعتقل لا سيما وأن المخدر لم يكن متوفرا فأصبح مقاتلا عاديا. كان يستقبل المصاب الواصل صارخا بحرقة وهو يشير إلى مجرى النبع الضيق الهابط نحو الوادي:

ـ رفيق أنبطح.. أفتح عينيك وغط رأسك في الماء!

فعلت ذلك مرات لا تعد. كان ذلك يخفف قليلا من ألم عيني المحترقتين. صف على طول مجرى النبع منبطحا يغط رأسه في الماء البارد الجاري وكأن ذاك الماء هو الخلاص!. مشهد لم أنسه أبدا. ما زال يتجسد في لحظات وجدي ووحدتي هنا في الدانمارك وتلك الذوات المسكينة الحالمة تتضور بألمها وتغط في ساقية ضحلة برأسها تتأمل العودة إلى وضعها البشري قبيل القصف. كان الصمت حكما فيما عدا صوت ـ أبو الياس ـ المتحمس في صراخه كي نقاوم ونفتح أعيننا في الماء الجاري.

ـ أفتح عينك.. غط رأسك.. غط رفيق غط وأفتح عينك!.

صراخ كان يجلب لنفوسنا شيئا من أملٍ بالتعافي بعد كل غطة بجاري الماء الملامس حدقات عيوننا المحترقة المفتوحة عنوةً، لكن هيهات. كان الوقت قبيل منتصف النهار. أتذكر أن الشمس كانت ساطعة بحيث لما كنت أرفع رأسي من مجرى الساقية وعيناي لم تزل مفتوحتين يجتاحهما الضوء الحارق الذي لا يتيح لي سوى النظر للحظة لذلك المشهد المؤثر، أكثر من ثلاثين مقاتلا ينبطحون على بطونهم.. الرؤوس غاطة في المجرى، يرفع أحدهم الرأس ويغطه على الفور لما يواجه الضوء مستنجدا بالماء.

لا ماء الله كان خلاصا

ولا شمسه.. ولا الهواء

كانت آلهة حديد ـ الدكتاتور ـ قد أدخلتنا في الجحيم!.

نتضور ولا من يخلصنا من أجسادنا لنستريح!.

كلما أخرجت رأسي من الماء أسمع صوتها وهي تستنجد:

ـ رفاق عميت.. عميت!.

وقبل أن أسأل نفسي أين تكون الآن؟.. يهجم عليّ الضوء، فأغط بوجهي في الماء هربا من جحيم عيني!.

لا أتذكر متى أنسحب الضوء من الدنيا، فما أن كففنا عن الماء حتى عمينا تماما. غبت عن الوعي لأستيقظ في المساء، فوجدتُ نفسي في قاعة من الحجر والطين محشودة بصفين متقابلين من الثوار المصابين الصارخين، المتوجعين، الهاذين على ضوء فانوس عليل معلق على الحائط جوار الباب. لما فتحت عيني ووعيت بكينونة جسدي شبَّ الألم من جديد، فندمت قائلا مع نفسي:

ـ لِمَ لمْ تأخذني يا إلهي؟!.

كنت وفيا لوصيتها، أكتم ألمي منصتا لهذيان الثوار وهم يهبطون في هوة اليأس والألم والعدم:

ـ يمه تعالي أبنك عمه!.

ـ يمه راح أموت وما أشوفك!.

ـ بويه وينك تعال بويه تعال!.

ـ يابوية عيوني!.

ـ يا ياب احترقت ولك ياب طفيني!.

ـ ولكم الهوه يا الله الهوه!.

أفتح عيني بعناء فيطل المشهد للحظات. الأجساد تتلوى على أفرشتها، تتقلب، تستقيم بنصفها العلوي، تلقى نفسها بيأس إلى الفراش هاذية. ليلة كانت اشد عليَّ من ليلة الأمس، كنت وحدي بدون حبيبتي ضائعا في الصراخ والنار المشتعلة في جسدي!.

قضيت ليلة يأتي النوم فيها بعد إعياء الألم، والصحو يلقي بك إلى ساحل الهذيان والتقلب وحرقة العينين وضوء الفانوس والصراخ المبهم

طوبى لصراخ كل من كان معي في تلك الغرف!.

طوبى لشدة تعلق الإنسان بنسمة الهواء والدنيا

طوبى لكل من أستنجد في لحظة اليأس والهذيان بعزيز بعيد

طوبى لضعف الإنسان

طوبى لكل من عاشر لحظتي في تلك الغرفتين.. غرفة أبو علي في الإسناد.. وغرفة في فصيل الدوشكا..

طوبى للألم.. للعذاب..

طوبى لنا نحن البشر!.

ليلة الدوشكا تلك تبدو لي وبدت لي ما أن ملكت نفسي وكأنها ليلة من حكايات الرعب وليالي سوداء من كتاب عراقي لم يدون بعد. تلك الليلة أخذتني إلى ما يشبه الرحلة نحو القيامة صورت كل ما جرى لي فيها في القسم الثالث من روايتي  ـ برازخ وأخيلة ـ والتي وصلتني رسالة قبل يومين من الشاعر والمترجم ـ سهيل نجم ـ  كونها ترقد لدى الرقيب العراقي في بغداد منذ ما يناهز العام. ذلك العالم الخرافي حاولت مسكه في ذلك النص. كنت فعلا في رحلة هي بين الموت والحياة في البرزخ الضيق فشاهدت نفسي في خلاصة معانيها وهي تواجه الخالق الجليل.

القسم الأخير في الرواية بدا غامضا بسبب عدم عرضي لمجرى الحدث الواقعي الذي أسرده الآن إذ أقتصر على ما جاش في رحلتي وأنا أغيب عن الوعي والـ ما حول وأرحل إلى الطفولة وخلاصة التجارب وكأنني موشك على الموت وولوج العالم الآخر الذي أعتقد به يقيناً. لا أستطيع الآن وبعد ذلك الكم من السنين تذكر كيف مضت تلك الليلة.. الذي في ذاكرتي ظلام وضوء باهت وصراخ وهذيان ينتاب لحظات يقظتي من عالم آخر رحلت فيه. عالم تحولت فيه حبيبي إلى مجرد خاطر عابر مرَّ في العمر وغاب، فهاجت في عالم غيبوبتي كل الهواجس المتعلقة بالفقد والغياب.. 

ـ وهل يستطع المرء وصف ليلة الجحيم مرتين؟!.

كنت أطفو في الألم إلى حدٍ ليس للزمن فيه معنى. كنت أتحامل بصمت كاتما وجعي، لم أنس أبداً وصيتها:

ـ حبيبي كن قوياً!.

هذه الجملة ستفتح لي آفاق أخرى في تجربة المنفى!.

بدت الليلة وكأنها ليلة من ليالي أبدية الجحيم. استيقظت في الصباح، فوجدت نفسي أرقد تحت كلة سوداء مخرمة وبجواري رفيق لم أتعرف عليه للوهلة الأولى. أخذت نفسا عميقا فجرحَّ الهواء أحشائي. فتحت عيني بعناء ـ بالمناسبة لابد من ذكر أن العمى في القصف الكمياوي يؤدي إلى صعوبة مواجهة الضوء فيفضل المصاب المكوث تحت جفنيه تخلصا من ألم الضوء ـ

الكلة السوداء المخرمة نصبت أمام قاعة. وجدت نفسي شبه عارٍ وإلى جواري يرقد على فراش رث الرفيق ـ أبو رزكار ـ شبه عارٍ أيضا. أسعدني جواره، فهو رفيق حميم يشبهني وكنا قبل عام قد أصدرنا مجموعة قصصية أنصارية مشتركة كانت له ولي قصة فيها. عدا ذلك كان أول من وشجَّ علاقة خاصة معي منذُ أول لقاء لما عرف اهتمامي بالأدب فدأب على جمع الصفحات الثقافية لجريدة الثورة والجمهورية وصحف النظام الأخرى، إذ كان يعمل في التنظيم المدني ويجلبها لي لما يزور المقر الذي كنت فيه. لكن ما أتعسني هو عدم سماعه لما أقوله. حاولت الحوار معه في الليالي التي قضينها معا تحت خيمة شفافة واحدة عاريين موشكين على الغياب.. كررت محاولتي.. دون أن أتمكن من جعله يقول شيء أي شيء، كنت أهتف مع نفسي:

ـ يا إلهي..لو يقول كلمة واحدة.. لو أسمع صوته!. كان يبدو مثل مخدر بعينين نصف مغلقتين يبرك في صمت عالم بعيد، وكأنه يشرع في الشهادة وقول المستحيل. صرخت به رغم جحيم الذي في جسدي:

ـ  أبو رزكارـ أني ـ أبو الطيب ـ قل لي كلمة واحدة!.

كان كلامي دون جدوى.. أحسسته يجود بنفسه موشكا على الصعود إلى عالم الرؤيا والخلاص.

حلمت بكلمة واحدة منه.. كلمة واحدة كانت تفضي بنفسي وقتها إلى مسافة حميمة جمعتنا في لهفة اللقاء المتباعد. حلمت رغم وضعي القريب إلى وضعه إذ كنت أيضا على وشك الصعود أيضا إلى العالم الآخر.

لم أستطع حصر الأيام التي قضيتها جواره تحت الكلة السوداء. كان يلزم الصمت عاريا، وجسده مليء بالفقاعات، كلما فتحت عيني أجده يسعى في شهيق عميق بحثا عن الهواء.

ـ أريد أخذه يَمْي!.

استيقظت من كوابيس الألم على صوتها وهي تتحاور مع أحدهم، عرفته على الفور لما سمعت جوابه كان يدعى " ملازم رائد":

ـ لا رفيقة.. حالته صعبة دعي الرفاق يعتنون به!.

كنت أنصت للحوار المتصاعد إلى أن انفجرت صارخة:

ـ لا راح أخذه هسه.. وما لي علاقة بأي قرار!.

قالتها بحزم.. وحدي من يعرف عنادها الجميل وتصميمها الذي لا يقف بوجهه شيء، لا عائلتها التي رفضت زواجها بيّ، ولا القيم وهي تلتقي بيّ كل يوم في بيتنا في ـ الحي العصري ـ أو بيوت الأصدقاء، ولا إصرارها على العمل في التنظيم السري رغم اعتراضي قبيل صعودنا إلى الجبل.

سمعته يردد:

ـ رفيقة ما يجوز.. رفيقة!.

باعدت أجفاني مغالباً ألمها فرأيتها تنحني وترفع حافة الستارة المنسدلة، وتهمس:

ـ ها حبيبي.. أش لونك؟!.

ساعدتني على النهوض. أغمضت عيني مستسلماً ليديها الحانيتين. قادتني لتصعد بيّ المسلك المجاور لساقية النبع الذي بدا ضجيجه يتعالى، فأدركت أننا نقترب منه. أنساني ملمس أصابعها الناعمة جحيمي.

ـ إلى أين تريد بيَّ؟!.

هذا ما لم أفكر فيه وقتها، فأن أكون قربها حتى ولو في الجحيم فذاك حلم الليالي التي افتقدتها. كنت أسير متضايقا من وهج الشمس المشرقة، فأزيد من ضغط أجفاني المطبقة علَّ ذلك يخفف من سعير النار فيهما، مخترقا أجساد تخيلتها منبطحة، جالسة، مكورة على جانبي المجرى وهي تسعل ذلك السعال المخنوق وتطلق صراخ الألم وتشكو بأصوات مبحوحة:

ـ ولكم اختنقت!.

ـ ولكم أحترق جسمي

ـ ولكم عيوني راح تطلع من وجهي!.

من المؤكد أن رفاقي المساكين ليس لديهم من يعني بهم كما هو حالي وحبيبتي تأخذ بيدي صوب مكان حيث ستكون جواري. في ذلك البؤس حسدت نفسي.  وصلنا إلى موقع فيه ضجة الماء شديدة، فقدرت أنه جوار فتحة النبع تماماً. طلبتْ مني الاستدارة نحو اليمين ورفع قدمي كي أصعد. فعلتُ ما طلبت مني. لما أصبحت فوق المكان المرتفع بمقدار نصف مترٍ عن الممر باعدت أجفاني فوجدتني داخل ـ كبرة ـ ( مكان مسقف بأغصان البلوط يرتكز على أربعة أو ثلاثة أعمدة من سيقان الأشجار المتينة يستخدم في الصيف قرب القمم لتفادي الحر ). المكان مفروش. طلبت مني الاستلقاء. فقعدتُُ بمساعدتها وانطرحت على ظهري.. حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف ما أصاب جسدي. لم يكن يؤلمني مكان محدد عدا اللهيب القائم في كل لحظة في عينيَّ، إذ كان الألم متساويا في كل قطعة فيه وكأنه صبَّ فيه.

ـ كيف مضى الوقت بعد ذلك؟!.

هذا ما لا أعرفه إلى هذه اللحظة؟!.

سقطتُ في نومٍ ليس مثل نوم البشر، لأرحل مرة أخرى في عالمٍ آخر رأيت فيه الأهوال.. عالم غريب فيه الظلام مرئي.. وكان دوي النبع المجاور لرقدتي مفتاح ذلك العالم..

سقطت في نومٍ جعلني لاحقا أعتقد بأن ثمة عالم ينتظرنا بعد هذا العالم الذي نعيش فيه. باتت قناعتي راسخة بذلك حال عودتي منه. كان خروجي منه جزء منه، فبينما كنت ألهث في ذاك الظلام المرئي سمعت إطلاق رصاص فوجدتني على الفراش. وصوت أم بدر زوجة طبيب أسنان الموقع الموشكة على الوضع وقتها تصرخ:

ـ مات.. مات!.

رحت اسأل:

ـ من.. من.. من؟!.

فأجابتني ناهدة بصوت مكسور:

ـ أبو رزكار أستشهد!.

صحوت تماما وكأن جسدي ليس به شيء. نهضت بنصف جسدي الأعلى صارخا:

ـ لا.. لا.. لا..

ونشجت بصوت مسموع بحرقة. أحاطتني بذراعيها وضمت رأسي إلى صدرها مرددة:

ـ حبيبي بك ما يكيفك.. أرجوك أهدأ!.

شبعت نحيبا على صدرها وأبو رزكار صاحبي ورفيقي سوف لا أراه إلى الأبد.. ظللتُ محتميا بصدرها الساخن النابض إلى أن خف نحيبي فسقطت من جديد في رحبة ذلك العالم الزاخر بكل رموز عمري. لم أكن نائما كما كانت تعتقد.. لم أكن أبدا.. كنت في محنة مختلفة أناضل في الصمت والرؤيا حتى بلغت مكانا كنت فيه عاريا وسط الجموع العارية المحشودة في ساحة واسعة يحرسها صقر الرب الهائل. الواقف في الصف لا يستطيع الالتفات أبدا ـ هذا العالم حاولت تصويره بالكلمات في قسم البرزخ من ـ برازخ وأخيلة ـ.

المرة الثانية التي فتحت فيها عيني خارجا من بهمة ذاك العالم الضاج بصمت وجدت وجهاً يطل عليَّ محدقا فيَّ بصمت. وجه أليف لكنني لم أستطيع تذكره في اللحظة الأولى حتى أنني ظننت أنه وجه من وجوه ذاك العالم الذي كنت فيه فسألته:

ـ من أنت؟!.

فارتسمت على ملامحه الخلاسية ظل بسمه وهمس:

ـ سلام... أنا إبراهيم ـ أبو خوله ـ!.

كان صوته خافتا يقترب من الهمس كمن يخشى أن يسمعه أحدٌ. سحبت جسدي قليلا رافعا رأسي وفاتحا عينيّ فهبطت ملامحه الودودة في نفسي، سألته:

ـ ما الذي أتى بك؟!.

كنت أعرف أنه في موقعٍ يبعد ثلاثة أيام مشيا على الأقدام.

ـ سمعت بما أصابك!.

 قالها ومسح بيده السمراء على رأسي. أغمضت عيني مبتهجاً رغم وضعي المتأرجح بين الصعود إلى السماء والبقاء، فإبراهيم حبيب حميم مضى على معرفتي به في ذلك الوقت أكثر عشر سنوات، كان صديق أخي الشهيد كفاح إبراهيم، معه في نفس المرحلة بالجامعة التكنولوجية ببغداد. تعرفت عليه في زيارة للجامعة. من أهالي البصرة، من بقايا ثوار الزنج كما علق الشهيد لحظة تقديمه لي..

إلى يمين الصورة   سلام إبراهيم في الوسط إبراهيم عبد الحسين ـ أبو خولة ـ وإلى اليسار الشهيد كفاح إبراهيم  1977

ومن يومها تعاشرنا حبيبين حميمين، لم يكن يتكلم إلا باختصار وعند الضرورة.. التقيت به عام 1979 في دمشق هاربا وأنا في طريق عودتي للعراق من بيروت فقضينا ليلتين في الفندق الذي نزلتُ فيه. وبعد خمس سنوات من ذلك اللقاء وجدته في الجبل يعمل بمفرزة طريق تعبر الثوار من وإلى الأراضي العراقية. ثم عقب الأنفال وضياع المنفى في ـ كييف ـ عاصمة أوكرونيا. لما نلتقي كأننا نلتقي أول مرة، نفس الود والمشاعر الساخنة، لم نزل كذلك هو الآن في ـ أستوكهولم ـ نلتقي بين الحين والحين وكأنه اللقاء الأول في نادي الجامعة التكنولوجية.

سقطت في غيبوة أخرى.. غيبوة مفردة أدق تعبيراً من مفردة النوم. كنت أسبح حتى ذلك الوقت في فضاء لا ألم جسدي فيه، إذ يقتصر الشعور بالجسد فقط في لحظات الصحو النادرة التي أجد فيها أما إبراهيم  أو ناهدة جواري.

كم يوم بقيت على هذا الحال؟!.. لا أدري غبت تماما عما يحيط بيَّ عدا وجهيَّ حبيبيَّ المطلين على رقدتي هما وهدير ماء النبع.

لم تكن تلك أياما بل دهورا امتدت وكأنها بلا نهاية إلى أن استيقظتُ يوما شاعراً بمواقع محددة في جسدي تحرقني حرقا، ما بين فخذي، خصيتي، عضوي الجنسي، إبطيَّ، بطني، كتفي الأيمن، مضاف إلى ضيق في التنفس وكأنني أوشك على الاختناق. صار بمقداري فتح عيني مدة أطول فالحرقة فيهما بدأت تخف قليلا.. قليلا بنسبة عكسية مع مواقع جسدي المحروقة التي عادت لسيطرة شعوري. أحسست أنني عبرت مرحلة الخطر وذاك العالم الجحيمي الذي رأيته في كوابيس غيبوبتي لم اعد أراه، لكن ما كان يخيفني هو اختناقي الليلي، إذ أفزَّ بعد دقائق من سقوطي في الغفوة وأنفاسي موشكة على الانقطاع. في صباح مشرق قلت لإبراهيم:

ـ أريد مرآة!.

فأنسلل على المسلك الهابط وعاد بعد دقائق وفي يده مرآة صغيرة. جعلت وجهي بمواجهة الشمس. فتحت فمي على سعته ورفعت المرآة بمستواه فرأيت منظرا شديد البشاعة. في عمق فمي تضخمت اللوزتان حتى كادتا تسدان مجرى فمي. قلت لإبراهيم:

ـ صيح لي الطبيبة فورا!.

فهرع وجاء بأم هندرين. أريتها فمي فقالت:

ـ ماذا أستطيع أن أفعل لك!. ليس لدينا أدوية لهذا النوع من الإصابات!.

قلت لها على الفور:

ـ أليس لديك بنسلين!.

قالت:

ـ نعم لكنه من النوع الزيتي المؤذي وقوته مليون!.

ـ أعطي جرعة فوراً!.

هل أنقذتني تلك الجرعات؟!. لا أدري لكن الورم في جوف فمي خف فأصبح بمقدوري عبّ الهواء بصعوبة أقل.

كل غروب يقودني إبراهيم من يدي، على المسلك المنحدر نحو غرفة الحمام، وفي ظلامه الحالك يجردني من ثوبي الطويل ويدلك جسدي بحذر شديد، أصابعه تمر على جلدي المتقرح بالفقاعات في لمس أكاد لا أحس به قبل أن يدلق عليّ طاسة ماء فاتر، ثم يجفف جسدي بمنشفة طويلة يضعها وينقلها قطعة بعد قطعة دون فرك، يلبسني ثوبي ويعود بيّ إلى الفراش ويظل جالسا جواري حتى سقوطي في النوم بعد أقراص مهدأة أتناولها على وجبات خمس في اليوم. قلت لإبراهيم لما تكرر غياب حبيبتي:

ـ وين صارت؟!.

ـ مشغولة بـ ـ أم بدر ـ فالطفل مات في بطنها ويحاولون إخراجه منذ البارحة وزوجها مثل المجنون يدور من غرفة إلى أخرى يبكي ويهذي!

شبت في جسدي دفعة جديدة من الحرائق وخصوصا بين فخذي وخصيتي وعضوي. رفعت ثوبي ووضعت المرآة ففزعت. كان عضوي متقيحاً. بقيت أياما مشلولا بالألم والرعب دون أن تفعل لي الطبيبة شيء، إلى أن جاء طبيب الفوج الأول ـ باسم ـ ( يعيش الآن في الدنمرك ) فدأب على قشط الجزء المتقيح فتشوغ روحي وتتلاشى، تعود ما أن يبعد المبضع عن قضيبي. كان إبراهيم وناهدة يمسكان بي من الجانبين أثناء عملية القشط التي كان يجريها كل صباح إلى أن جف الجرح ( الدكتور ـ باسم  ـ كان يترجم لي في مقابلة موفدة منظمة مساعدة اللاجئين العالمية التي قابلتنا في ـ موسكو ـ في خريف 1991 لما حُصر أكثر من ثلاثمائة عراقي في أعقاب حرب الكويت وهم في طريقهم إلى دول اللجوء. فسردت عليها هذا المسرد ولما وصلت إلى هذا الموقع أشرت نحو ـ باسم ـ  المبتسم الواقف بيني وبين المحققة التي كانت من الصدف دنمركية وقلت:

ـ وهذا الطبيب الذي قشط قضيبي!.

فترجم لها جملتي ضاحكاً ومؤكدا كلامي ).

هذه الناهدة.. وهذا الإبراهيم كانا ملاكيَّ الحارسين في تلك المحنة التي أرجحت وجودي على حافته. لما عبرت مرحلتي الحرجة، تشبثت بالدنيا تشبث الأعمى.

هل سأعيش ذات التجربة قبيل لفظ أنفاسي؟!.

هل سأرى عالما يكتظ بكل تلك الوجوه صامتا واضحا متحركا؟!.

بت على يقين بعد عيشي قرابة عشرين عاما على تلك التجربة بأن البرزخ المتخيل موجود وحقيقي ومخيف. وحده العفيف في هذه الدنيا سيمر به دون عناء. ولما لم أكن عفيفا في عمري إلا في طرفه الأخير فسأرى كل تلك الرؤى المرعبة مرة أخرى.

تشبثُ بالدنيا، وكان من أفظع هواجسي هو موتي وترك حبيبتي وسط تلك الظروف المضطربة. الهاجس نفسه كان يمتلكها أيضا، في لهفتها عليَّ، وهي تعني بيّ كطفلها الوحيد. كنا نشعر أن الحياة  دون علاقتنا ليس لها معنى.

تعافيت قليلا.. قليلا، وبعد أكثر من شهرين تمكنت من العودة إلى المشي والبدء في ممارسة متطلبات يوم الجبل، أي ما يشبه وضعي قبيل القصف ذاك. فقد كنت أسوء حالة إصابة نجت من موت أكيد. بقيت أثار الجروح والتقرح على جلدي شاخصة حتى الآن، لكنني عدت للحياة بشغف. صحيح أصبحت حركتي أقل حيويةً من قبل لكنني كنت سعيدا بالدنيا وحبيبتي جواري نعني ببعض.. لكن الشيء الذي أقلقني هو تدهور صحة حبيبتي يوما بعد يومٍ. بدأت تنحل بشدة وتسعل بجفاف وتقاوم كشأنها دون شكوى. قلت لها:

ـ يا حبيبتي وضعك يتدهور وجسمك ينحل ونفسك يضيق يجب أن تفاتحي الرفاق كي يبعثوا بك للعلاج أو للفحص على الأقل!.

انصاعت بعد إلحاح، فخرجنا بمفرزة في خريف عام 1987 من زيوة بهدينان إلى لولان. طريق طويل محفوف بالمخاطر. كنت أقود البغل المخصص لها فقد كانت متعبة  لا تقوى على السير. الطريق أعرفه فطالما سلكته في مهمات بريدية طوال سنتين. وهناك لما وصلنا إلى مقرات ـ لولان ـ الواقعة في المثلث الحدودي الإيراني العراقي التركي، وحط بنا الرحال، ظهر أن لديها متاعب في الرئتين والكليتين، سيكتشف لاحقا بعد الأنفال وفي معسكرات اللجوء في أقصى الشمال الإيراني بأنها مصابة بالسل الرئوي، بينما

سلام إبراهيم ـ أبو الطيب ـ، وناهدة جابر جاسم ـ بهار ـ في مجمع ـ زيوة ـ للاجئيين في إيران 1988

  سقطت أنا فورا مصابا بالتهاب الرئة الحاد الذي سوف يظل لصقي كل العمر، ففي الدنمرك صرت نزيلا أليفا في مستشفى مدينتي   Roskilde كل شتاء. وهذا ما كنته أيضا في الشتاءات التي أعقبت إصابتي سواء في كردستان أو محطات اللجوء في دمشق وموسكو.

في وضعي البائس ذاك في مقرات ـ لولان ـ. طلبت مقابلة لجنة طبية تتكون من رفيقين من الأطباء هما ـ أبو يسار ـ و ـ أبو كوران ـ شكوت حالي لهما في غرفة من الحجر والطين في موقع يسمى ـ بيربنان ـ   قلت لهم، أنا أحس غير الذي كنته قبل القصف وطلبت منهما مساعدتي.

أكتب هذه التجربة المرة وقبل يومين استمعتُ إلى شهادة رفيق كردي من الاتحاد الوطني الكردستاني لا أتذكر أسمه كان يقول في شهادته أن أطفاله باتوا يخافون من عينيه ولجأ بمساعدة حزبه بعد الإصابة مباشرة إلى هولندا وجلب كل التقارير المؤيدة لذلك.

كنت ومازلت أعتبر الطبيب ساحراً. فهو من يقرر علّه الجسد. لكنني في تلك الغرفة الضيقة وهما يضعان السماعة على صدري العاري وظهري، وينصتان إلى صوت تنفسي ليقولا بعد ذلك:

ـ رفيق ما كو شي.. أنت صاغ سليم!.

خرجت من الغرفة حائرا

ـ هل أنا حقا صاحٍ أم معطوب؟!. فإذا كنت صاحيا ما هذا الضيق في النفس والتهاب الرئة المتكرر والعناء الذي ألقيه عند القيام بواجبات حياة الثوار اليومية.

أثبتت الأيام أني معلول والطبيان حمَّلاني عناء أشد في التجربة إذ أن قرارهما جعلني أبقى بين الثوار حتى نهاية الأنفال وأنا أنوء بنفسي في تلك الظروف التي كانت أشد وأضنى

                   *                 *                 *

أستيقظ باكرا مدندنا:

(آه يا أسمر اللون حياتي الأسمراني)

 أستعجل الساعة منتظرا ظهور الطاغية في القفص. وأحبائي الأكراد بوجوههم المغضنة العميقة وتلقائية ما ينطقون به عما تجشموه من أهول وبلغتهم التي أحب وقعها، فطالما أشعرتني بالأمان وأنا أشاركهم خبزهم وفراشهم وغرفهم وجوامع قراهم والمصير.

هذا المشهد هو ذروة في تجربة حياتي.. هاأنذا أجلس مسترخيا وحيدا كل صباح منذ السابعة والنصف وحتى الثالثة، ومن أقعدني وهمش حياتي يطل الآن في قفص بلحية رثة وقسمات ذليلة وجواره وخلفه يجلس من كان أدوات طغيانه ينصتون لفلاح كردي مغضن البشرة كان يافعا لما كنت ورفاقي الثوار في بيته يقدم لنا الخبز والمأوى والماء. أرتب طقوس هذه الصباحات بقلبٍ راقصٍ.

الطاغية في القفص، لا يستطيع أن يتواقح كما فعل في محاكمة الدجيل، فمبرر كونه رئيس دولة تعرض إلى محاولة اغتيال انتفى.  ثمة بشر ضيعوا في المقابر الجماعية والقصف الكمياوي، والتهجير دون ذنب سوى أن مناطق عيشهم كانت غير مسيطر عليها من قبل أجهزته.

الأثر البعيد المخرب لحياة البشر لا يدركه الطاغية لأنه ببساطة أمي بالمشاعر أو دون مشاعر حتى. الشاهد الكردي الذي أسهب في تفاصيل شهادته، صاحب الاسمين والتقارير الطبية من هولندا رفع نظراته ليرى المحكمة والمشاهدين عينيه المعطوبتين قائلا:

ـ أطفالي يطلبون مني لبس النظارة لأنهم يخافون من شكل عيني!.

هذا الأثر النفسي العميق الضارب أكثر العلاقات حميمية في الوجود، لا يفهمه إلا من عانى مثل هذه التجربة. ما قاله الشاهد عانيته بشكلٍ أخر مع أبنائي هنا في الدنمرك. فأبني الصغير ـ صلاح ـ المولود هنا في الدنمرك عام 1993 ليس لديه القدرة على فهم ما مررنا به وهو يرى أمه تعمل وناجحة في عملها لكننا نعاني من مأزق اقتصادي مستمر بسبب النظام الاجتماعي هنا. فكلما تقدمت بعملها وزاد مرتبها قلَّ مرتبي باعتباري متقاعدا، هو لا يفهم سبب عجزي عن العمل، ولا يستطيع تصديق وفهم أن ممارستي الرياضة العنيفة يوميا هو للمحافظة على ما تبقى من صحتي ووقف تدهورها.. فقال لي في يومٍ ونحن نخوض في إشكالية وضعنا الاقتصادي المتعب ونحن نجلس حول مائدة الطعام:

ـ بابا ليش ما تشغل حتى تساعد العائلة؟!.

لما أجبته بأنني متقاعد بسبب وضعي الصحي، ردَّ بسخرية:

ـ وهل من يصعد يقود الدراجة الهوائية لساعة، ويسبح ساعة مريض!.

هذه محنة لا يفهمها الدكتاتور أبدا.. فأين له الفهم وهو فاقد الحس بالآخرين.. لذا بدا بليدا وهو ينصت لما قاله ذلك الشاهد عن أولاده الذين أصبحوا  يخافون كلما رفع النظارة عن عينيه.

بلعت سخرية أبني وقتها، هو الآن في المدرسة ووحدي أجلس ومن سبب لي كل هذه المحن التي لا تحصى لصغرها وتفاصيلها حتى كنت أتمنى أحيانا لو مّتُ في ذلك القصف وخلصت، يجلس في القفص يتابع قول الشهود.

ليس ما أصابني في القصف ذاك هو فقط سبب متعتي بمشاهدته كل صباح يجلس بذلة، يطرد، ويأتون به كلما قرر الحاكم.. بل هذا الكائن حول حياتي إلى كابوس.. فمنذ أيام حكمه الأولي في عام 1970 اعتقلت أول مرة وأنا لم أبلغ السادسة عشر من عمري وعذبت في أمن الديوانية بشدة، فلقة، ضرب مبرح في كل ما تصله أيدهم من جسدي، كوي بالكهرباء.. وذلك ما جعلني أعيش كابوسا مستمرا تظهر فيه نفس الوجوه التي اعتقلتني أول مرة.. سيتكرر ذلك أربع مرات آخرها عام 1980 لما خطفوني مع صديقين من بار على أبو نؤاس وأروني الويل في صفحة أخرى سأرويها في موضع أخر.

هذا الكائن الهمجي البدوي الجاهل العنيف القاسي، سيقتل أعز أحبائي أخي الأصغر كفاح إبراهيم، أبن عمتي نعيمة،

إلى يمين الصورة الشيهد كفاح عبد إبراهيم، إلى اليسار الشهيد صلاح مهدي الصياح، لم يعثر على رفاتهما في المقابر الجماعيةـ الصورة 1977 في الجامعة التكنولوجية ببغداد

 علي عبد الباقي، أبن عمتي سهام صلاح مهدي الصياح، أصدقائي حازم الصمياني، كريم ناصر، حميد هلال، جميل مكط، عدنان حسين، لعيبي مسلم،  أستاذي مدرس الفيزياء شاكر داخل والعشرات من الأقرب إلى القلب والروح سوف يقتلون سرا في الأقبية وساحات الإعدام ممن كانوا يقيموها على ملاعب كرة القدم في كل مدينة صورت ذلك في روايتي ـ رؤيا الغائب ـ التي صدرت عام 1996 عن دار المدى. وفصلها الأول ـ في ساحة الإعدام ـ أرشف كوثيقة في موقع الذاكرة العراقية الخاص بجرائم النظام، وسوف لا يعثر على أي جثة من جثثهم في المقابر الجماعية التي نبشت بعد سقوطه.

ليس هذا فحسب، سيسوقني جنديا لأرى الويل في جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية منذ 1982. سيغير مجرى حياتي التي ظننت أنها استقرت بعد زواجي عام 1981 من حبيبة عمري. لكنني سأجد نفسي هاربا ضائعا في مدينتي حتى التحاقي سرا بالثوار في الجبل.. لأخوض جحيم آخر، سأحن إلى مدينتي وحبيبتي وأبني فأعود سرا لأعيش جحيم جديد في تجربة أعسر مكتظة بالكوابيس التي صورتها في المفصل الأول (في الأرسي) من ـ برازخ وأخيلة ـ لما اضطررت للمكوث في غرفة علية ضيقة في بيت قديم وسط المدينة وقتها دبرت لي حبيبتي مسدسا كنت عازما على الانتحار ولا الوقوع بين أيديهم مرة أخرى. سأنجح بعد تجربة أخرى في جبهة الحرب في الالتحاق بالثوار مصطحبا حبيبتي وتاركا أبني ـ كفاح ـ الوحيد وقتها المصاب بالربو، لو جلبناه معنا لقضي في القصف بالغازات السامة حتماً. سأعيش هذا المخاض الجديد متفاهما قليلا مع نفسي فأنا كشخص غير ميال للعنف والقتل حتى الثوري.. سأعيش إلى اللحظة التي هبطت علينا آلهة الحديد بالغازات السامة كما صورته في هذا الموضع. سيعتل جسدي ما تبقى من العمر.. وبعد الأنفال سأعيش جحيم معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، والضياع في المنفى، في دمشق، موسكو لأعيش تجارب محتدمة هي جحيم من نوع آخر.

هذا الكائن القروي ابن العوجة قريةً وأماً ـ صدام حسين ـ  حول حياتي إلى جحيم في مقتبل عمري وفي شيخوختي، ليس أنا فحسب بل أبناء جيلي ممن لم يقض في التجربة وبقيَّ حيا. أدون هذا القول مكتشفا هذه اللحظة أنه جعلني أعيش الجحيم مرتين مرة في حياتي الواقعية والثانية في المنفى وأنا أجلس كل نهار وحيدا في بيت ريفي في طرف منسي غريبا عن عالمي، أدون ذلك الجحيم في كل مراحله، وأتَعَصَرْ مكتويا بالنار، وكأن ما أكتبه يحدث لي في لحظة الكتابة.

متعتي لا توصف ووجوه الفلاحين الأكراد تظهر تباعا أمامي على الشاشة تفضي بقصة عشت تفاصيلها الصغيرة التي لم ينجحوا في بيان مدى فداحتها قولا، فأثارها المدمرة تفوق ما قالوه وهم يقفون في مواجهة الطاغية. مع ذلك كنت أرقص طربا وأحتسي المزيد من كؤوس الشاي في فترة الاستراحة منتظرا ظهور الطاغية على كرسي مذلته.

 أصبح لوصوصة العصافير على أشجار الحديقة نغما مختلفا يأخذني إلى فسحة فرح غير مسبوق مع كل جلسة أرى فيها الطاغية ينصت دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه أمام تلك الشهادات العفوية من فلاحين أكراد لم يعرفوا أبدا لغة التفلسف.

حسدت نفسي قائلا:

ـ أنت محظوظ، مادمت تعرضت لكل ما تعرضت إليه وبقيت حيا إلى حين سقوطه والقبض عليه وظهوره في قفص الاتهام على شاشة التلفاز ذليلا يشكو أحيانا من سجانٍ ضربه أو شتمه أو عامله بقسوة.. أنت محظوظ فالكثير من ضحاياه ماتوا قبل أن يروا هذا اليوم!.

يشكو.. ابن الـ... يشكو وهو الذي ربى جيلا من القتلة.. مشهد لا أنساه لما وقعت بين أيديهم آخر مرة عام 1980 لما تعبوا من التعذيب ولم يكن لديهم دليلا عليَّ أخذوني في جلسة لتدوين أقوالي. ولما أجبت المدون عن سؤال محدد يتعلق بالاتجاه السياسي لصديقي ـ عبد الحسين داخل ـ وقلت: لا أعرف أعتقد أنه مستقل، وهو كذلك. قام المدون الذي كنت ألمح خياله من خلال قطعة القماش المغطية عيني على ضوء مصباح منضدة قوي أمامه، التف وصار فوقي وسحق رأسي بحذائه وهو يصرخ:

ـ أحتركـ فهد بقبرو!.

(وفهد هو مؤسس الحزب الشيوعي العراقي).

لا يدري الطاغية حينما يشكو من حارسٍ  ضربه مقدار البهجة التي يجلبها قوله لي ولأمثالي ولكل عراقي ذاق نار حكمه.. دعه لا يدري كي تمتد المتعة!.

ـ حسدت نفسي وتذكرت العديد من أصدقائي الحميمين.. ومن أعزهم صديقي الشاعر ـ عزيز السماوي ـ الذي مات قبل السقوط بعام في منفاه اللندني.. أمي التي كَلتْ من الدعاء عليه فقالت لي:

ـ بعد ما أدعي عليه راح أدعي له!. بلكي الله لا يلبي دعواتي!.

تقول ذلك بمرارة وهي تشاهد المزيد من الفظائع. ستفجع بعدي بابن بنتها أختي الكبيرة ـ وداد إبراهيم ـ مدرسة مادة الكيمياء في إعدادية الديوانية للبنات منذ مطلع السبعينيات، لما يأتون بجثة ابنها المشنوق

                    

   الشهيد محمد حازم مرتضى، سلمت جثته في صيف 1995

 

ـ محمد حازم مرتضى ـ مواليد 1973 إلى باب البيت عام 1995 بعد مشاركته في انتفاضة آذار 1991 وبقائه مختفيا في بغداد وكردستان إلى حين القبض عليه وإعدامه. ستموت بعد عام 1996

في جلستي الممتعة على أريكة صباح دنمركي مشرق تمنيتها حيةً لتستمتع معي في مشاهدة الطاغية التي ضيع أبنها ـ كفاح ـ وشردني وقتل ـ محمد ـ ابن بنتها ذليلا يطرد من القاعة لما يبدي عدم أدبه المفطور عليه.    

وأبي الذي كان يسخر وهو يسكر كل مساء من السلطة ورئيسها الذي ينعته بالزعطوط ـ تعبير عراقي يطلق على من هو غير ناضج ـ

الثلاثة لم أرهم منذ أن فارقتهم وكانوا يحلمون بمثل هذا اليوم الذي أستمتع به وحيدا.. أستحضرهم بقدرة من درّبَ خيالهُ على لمسِ أحبة ماتوا وكأن اللمس فيزيقياً. أسرُّ لهم بما يجرى.. بمتعتي وأنا أشاهد الطاغية في قفص. يجري كل ذلك في فترة استراحة الجلسة!.

هذا الطقس البهيج وازن مأساة تجربتي وجعلني أول مرة أخرج من ضيق عالم البؤس الذي أعيشه في المنفى.. فمع كل كلمة يشكو بها الطاغية من سوء المعاملة أهب من الأريكة لأرقص طربا. أرقص وأصرخ مبتهجا:

ـ يشكو.. الناقص يشكو!.. ابن العوجة يشكو.. يشكو!.

وأستعيد بلذة لحظة القبض عليه في حفرة بأرياف قصبة ـ الدور ـ حيث قبضوه بلحية كثة ووضع بائس سيظل رمزا لجبن كل حاكم جائر.. أستعيد بلذة حركة يديه وهو يمسح لحيتة الشيباء القذرة رامقا العدسة ومن قبضوه. كنت مع نفسي أحمد الرب أنه لم يقدم على قتل نفسه، فلو فعل ذلك لتحول إلى رمز.. حمدت الرب رغم أن مجريات الأحداث أثبتت أنه جبان لم يستطع إطلاق الرصاصة على رأسه كي يتخلص من كل الذل الذي هو فيه الآن.. جبان.. جبان تحكم بكل شيء وقادنا إلى حروب وخرب النفوس وخلف العراق كومة بؤس وأسلم البلاد ونفسه للأمريكان طالبا الأمان صارخاً لما اكتشفوا الحفرة التي كان يخبأ نفسه فيها كجرذٍ:

ـ أنا صدام حسين رئيس جمهورية العراق!.

أعيش مهرجان صباحي يحفل بكل أنواع البهجة التي أفقدني إياها الطاغية الجالس في قفصه وهو ينصت لأعز أحبة عاشرتهم في عمري فلاحي الكرد الذين كانوا يقدمون لنا الخبز والفراش والمأوى وحنان عوضنا عن حنان العائلة وأحبتنا في مديننا الجنوبية البعيدة.

أقفز من أريكتي لما يكون قول صاحبي ذو الوجه المغضن مكثفا ومفحما، وأصرخ:

ـ يسلم فمك!.

متمنيا لو أحضنه كما حضنني في تلك الأيام المضنية في بيته الفقير وشاركني الخبز والغطاء والمصير.

ـ ننصت أنا والطاغية

هو في دهشة وامتعاض

وأنا في نشوة وطرب

هو في قفص

وأنا في فضاء ـ

 

خريف عام  2002 الأجواء مشحونة. الحرب التي أسقطت الطاغية وجعلت العراق بلدا محتلا، موشكة على القيام. وفيما كنتُ جالسا في نفس هذه الصالة وعلى نفس الأريكة الجلدية السوداء أستمع إلى مقطوعة أحبها لـ ـ موزارت ـ ، قُرِعَ جرس الباب. قفزت من الأريكة متسائلا:

ـ من يا ترى؟!.

ونظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار. كانت تشير إلى العاشرة صباحا. ليس أحدٌ من أفراد عائلتي، ومن غير المألوف هنا أن يزورك أحد دون موعد مسبق. تلكأت في طريقي إلى المدخل، فرنَّ الجرس من جديد. خطوتُ نحو الباب. حاذيتها. ارتكزت على أطراف قدميَّ، وأزحت الستارة الخفيفة المغطية قسم الباب الزجاجي العلوي من طرفها، فرأيت رجلا طويل القامة، مشدود الجسم، بملابس أنيقة، سترة بيضاء، وقميص وردي، وسروال أسود، يقف على مبعدة خمسة أمتار من عتبة الباب مصوباً عينيه الحادتين للنقطة التي أزحت فيها الستارة. رجعت خطوة إلى الوراء ما أن صدت عيناي بعينيه مرددا مع نفسي:

ـ لا بد أنه شرطيٌ!. لكن ما الذي يبغيه مني؟!.

ومددت يدي نحو مقبض الباب وفتحته. تبسّم تلك البسمة التي يخبئها الدنمركي تحت شفتيه ويشهرها لكل وجه بحيث بات الشخص لا يدري هل هي حقيقية من القلب أم أن البرتوكول الاجتماعي وطبيعة الحياة جعلتهم يضمرون هذه البسمة؟!.

ـ ففي بلدي لا نبتسم إلا لمن نحبُّ أو نودُّ!. ـ

لم أزل مرتبكا، لا أدري ماذا أقول. وقفتُ حائرا وفي قبضتي اليسرى مقبض الباب. خطا نحوي بحيوية وقال:

 ـ أسمي Erik Hansen

لم يعنِ لي أسمه شيئا، لاحظ ذلك من خلال ردود فعلي الحيادية وهو يقطع الخطوات الخمس التي تفصل بين وقفتي على حافة العتبة وجسده المندفع نحوي، ففتح وهو يتقدم ملفا كان بين يديه.ولما  أصبح جواري أشار إلى صورة فوتوغرافية مصورة أظهر فيها عار الظهر محروقا، فتذكرت على الفور أن رفيقاً مصوراً لم يصب بالقصف، صورنا في اليوم التالي ولدي واحدة من تلك الصورة سيجدها القارئ مع هذه الشهادة،

 

سلام إبراهيم في اليوم التالي للأصابة 6ـ6ـ 1987

 

 لكن من أين لهذا الدنمركي الذي قرع الباب بدون موعد هذه الصور؟!، ثم ما الموضوع؟!. كنت أسأل نفسي هذا السؤال راغبا في أن يدعني وشأني، فبعد تلك الحياة العاصفة بت أميل للعزلة والصمت والسلام رغم شعوري أنني شبه مدفون في الحياة، لكن ما كان يعزيني هي أشياء صغيرة.. قطي الأحمر، وعصافير الحديقة، وحفيف أشجارها، وأفق الحقول المفتوحة التي أطل عليها من النافذة جهة باب البيت، القراءة والكتابة وأبنائي الثلاثة وحبيبتي.

أشار إلى صورتي قائلا:

ـ أليس هذه صورتك يا ـ أبو التيب ـ ( الطيب )

قلت مع نفسي:

ـ يخاطبني باسمي الحركي أيام الجبل!.

بادرته فورا:

ـ نعم هذا أنا.. لكن من أنت؟!.

قلتها وسحبت جسدي خطوة. غمرني بابتسامة ودودة وكأنه تيقن من شيء ما كان يشك فيه وقال:

ـ jeg er STATSADVOKATEN!.

( أنا محامي الدولة ).

صمت لثانيتين وأردف:

ـ القضية تتعلق بتعرضك في كردستان لقصف بقنابل الغاز.. ونحن نريد أفادتك عن تلك الحادثة!.

عندها فهمت سلوكه الذي بدا غريبا على الأعراف الدنمركية، إذن هو باغتني كي يتأكد من أنني الشخص المعني في الأدلة التي بحوزته.. لذا لم يتصل أو يراسلني كما هو العرف بل ضبطني تماما وبشكل مباغت. لم يكن لدي مانعا من الإدلاء بإفادتي بل أسعدني ذلك، فهاأنذا أجد أخيرا من يهتم بما جري لي قبل أكثر من خمسة عشر عاما في وادٍ منسي من أودية كردستان.

أجبته:

ـ موافق!.

لف أوراقه في محفظته وقال:

ـ هل تريد أن نلتقي هنا في دائرة شرطة مدينتك Roskilde   أم تريد الحضور إلى مكتبي في كوبنهاجن؟!.

ولما كنت أكره كل ما يمت للشرطة بصلة، رغم اختلاف الأمر هنا حيث الشرطي حامي حقيقي لحق المواطن بالعيش دون تهديد، فقد قلت له:

ـ في مكتبك أفضل!.

أقترح على الفور موعداً وافقته، فشدَّ على يدي بقوة قائلا:

ـ إلى اللقاء!.

ـ إلى اللقاء!.

وأنسل مستديرا عندها انتبهت إلى عدم لياقتي، فأنا لم أقل له تفضل لنجلس في الصالة، ولم أدعُه لفنجان قهوة، بل عاملته بجفاء رغم أن الأمر الذي جاء به حيوي ومهم في فضح قتلة أبناء شعبي!. قلت مع نفسي:

ـ باغتني فجعلني أتخندق مدافعا عن وجودي غريزيا وهذا خلاصة سلوك من عاش في بقعة بلدي الدامية!.

ففي زمن الطاغية الجالس في القفص الواسع الآن المطل من شاشة التلفاز الملونة الكبيرة.. عاش العراقي متهما يخشى ظله ويحاذر من أقرب البشر إليه بعدما وقعّ بقلمه على مادة ـ 200 ـ القاضية بإعدامه لو أكتشف أنه يعمل مع حزب أو حركة تناهض السلطة. زمن الطاغية أنسانا اللياقة وجعلنا نسلك سلوك بشر الغابة. غاب المحامي خلف ثنية البيت المقابل المفتوح على حقول خضراء تمتد حتى الأفق المنخفض، بقيتُ واقفا أحملق بأفق ذاك النهار الخريفي المشمس، متأملا هذا الحدث المباغت الذي لم يستمر سوى دقائق معدودة، القرع الخاطف والحوار الخاطف أيضا والموعد السريع، فوجدتني لا أدري ما القضية حقا، من أثارها؟، ولم؟!. وكيف وصلت الصور وأسمي الحركي إلى محامي الدولة الدنمركي؟.. وهو بدوره لم يوضح أي شيء عدا أنه توَّثقَ من كوني صاحب الصور التي لديه وأسمي الذي كنته في ثمانينيات القرن الماضي بين الثوار في الجبل، رتب موعدا وغاب باحترافِ خبيرٍ دون أن يوضحَ أي شيء!.

دخلت الدار وقلت لنفسي وأنا أهبط مسترخيا على الأريكة السوداء:

ـ أصبر يا من لم تعّلمكَ المحن الصبرَ.. أصبر!.

لكن من أين يأتي الصبر لواحد مثلي.. شبه مجنون، فضولي حد كاد يقتله هذا الفضول في كل التجارب التي مرَّ بها منذ الطفولة وحتى الآن.. فمن يمد يده في حفرة قبرٍ ليلمس حديد صاروخ لم ينفجر تبين لاحقا أنه صاروخٌ محملٌ بغازاتٍ قاتلةٍ، كيفَ لهُ الصبرَ والهدوءَ؟!.

ـ هل الأمر يتعلق بنزار الخزرجي؟!.

سألت نفسي مرارا، ولما عادت حبيبتي من العمل أخبرتها ودخلنا في حوار وتحليل شغلنا لليلتين هما الفاصل عن الموعد، ولم نصل فيه لشيء. فلا محامي الدولة أشار إلى أي علامة تتعلق بالموضوع، ولا مسار الأحداث توحي بأن قضية ستثار ضد ـ نزار الخزرجي ـ رئيس أركان الجيش العراقي في حملة الأنفال والتهجير والقتل الجماعي والمقابر الجماعية التي اكتشفت لاحقا في كردستان وأنحاء العراق، إذ أنه لبس ثوب المعارضة وهرب بعد إصابته في الرميثة بين السماوة والديوانية لما كلفه صدام بقمع انتفاضة الجنوب العراقي في آذار*    1991. وخلصته علاقاته العشائرية من موت محقق ليلجأ بعدها إلى الأردن عبر كردستان ويصل الدنمرك، فيحاصر بقوانين دول تحاسب على من أرتكب جرائم إبادة بحق البشرية، فتحدد إقامته لكنه سيختفي من الدنمرك في ظروفٍ غامضة قبيل الهجوم الأمريكي على العراق مطلع 2003. 

كان الموعد في الحادية عشرة صباحا، والمكان مكتب محامي الدولة الدنمركية في كوبنهاجن

أخذت حافلة التاسعة والثلث من مكاني الريفي حتى محطة قطارات روسكلدة. أربعة كيلو مترات عشرة دقائق تقريبا في الحافلة غير المكتظة في ذلك الوقت إلا من بعض المتقاعدين الطاعنين بالسن. تضايقت من حركتهم البطيئة أناء الصعود والنزول من وإلى الحافلة ناسيا أنني مثلهم في حساب الحياة متقاعدا عاجزا أنتظر وقت إيابي من هذا العالم الذي تشبثت به تشبث أعمى في هذه البقعة الآمنة التي تشبه الجنة.

رغبتُ في قنينة بيرة. عادتي كلما ركبت قطاراً. احتسي على مهل وأتمتع بالفرجة.. وجوه الركاب الحقول خلف النافذة، المحطات، متعة هي الأهم في منفاي كلما خرجت من عزلة البيت. كبحت نفسي. نزلت من عربة القطار إلى رصيف المحطة المفترض أن تكون قريبة. تسلقت السلالم المؤدية إلى الشارع، لكنني لم أجد علامة تقودني إلى العنوان الذي كتبه المحامي على ورقة صفراء. تخبطت بين شوارع طويلة مشجرة ساحرة لكن لم أجد حرفا من العنوان الذي بين يدي في لوحات أسماء الشوارع الخضراء المعلقة عند تقاطعات الطرق وعلى جدران الأبنية المشكلة مدخلا لتلك الشوارع. الوقت. وجدت نفسي قرب جسر يعبر على قناة من قنوات العاصمة المائية المنتشرة في أرجائها. نظرت إلى ساعتي اليدوية وجدتها تشير إلى الحادية عشر إلا ربعا. لوحت بيدي لأول سيارة أجرة مارة. توقفت، طالعني وجه أليف تبين أنه عراقي، أعطيته العنوان فتبسم وقال:

ـ أصعد يا أخي!.

لم يسر إلا مسافة خمسين مترا في شارع يجاور مجرى قناة ثم استدار يمينا وسار مسافة عشرين مترا وأشار نحو باب قائلا:

ـ هذا هو العنوان!.

دفعت له على عجل. تركني أمام بناية بيضاء قديمة مكونة من طوابق أربعة. باب بيضاء عريضة جاوزتها. صرتُ في باحة عريضة أيضا. لم يكن هنالك مصعد، فالبناية أقدم عهدا من زمن المصاعد. تسلقت السلالم العريضة، أستقبلتني سيدة جميلة في فسحة بالطابق الأول وقادتني نحو سلمٍ قصير أفضى إلى فسحة جدرانها بيضاء وبابها أبيض، ومن نوافذها الزجاجية يتدفق ضوء صباح ساطع يكشف كل ما بالوجه من خلجات. دورت المقبض ودفعت الباب قليلا.. قليلا.. فظهرت منضدة مدورة يجلس حولها المحقق الدنمركي Erik، وجواره سيدة بدت عربية متوسطة العمر ستقدم نفسها كونها مترجمة. شملت الجدران البيضاء والنافذة الطويلة العالية والسقف العالي قبل أن أخطو نحوها. كانا قد قاما من كرسيهما حال ولوجي الباب، ومدا ذراعيهما لمصافحتي الواحد بعد الآخر لما وصلت حافة المنضدة. وجدت كرسيا مسحوبا فقعدتُ عليه. وبدأ المحقق بالسؤال عن أسمي، وموطني، وطفولتي، وشبابي والمدارس التي درست بها في العراق، ذكرتني أسئلته بالتحقيق الذي أجرته المحققة الدنمركية أيضا في موسكو والذي على أساسه وصلت الدنمرك كلاجئ سياسي:

ـ إذن يريد التوّثق من شخصيتي وصحة إفادتي القديمة؟!.

قلت مع نفسي ذلك وأجوبتي سريعة واضحة لأني لم ألفق قصة كما فعل الآلاف من اللاجئين. كان يسجل ما الحوار بمسجل صغير جدا  ويكتب أيضا بينما أكتست ملامحه التي رأيتها ودودة لما قرع باب بيتي، بصرامة وحياد تام فبدت بلا عواطف. نشر على المنضدة صوراً فوتوغرافيةً لي وللعديد من الرفاق الذي أصيبوا في القصف. وأشار بإصبعه نحو صوري وسألني:

ـ أهذا أنت؟

أجبت بالإيجاب، فسألني عن أسماء العديد من رفاقي فذكرت أسمائهم مشيرا أنها أسماء حركية وليست حقيقية. رد بأنه يعرف ذلك وأضاف:

ـ قبل أن نبدأ سنشاهد فلما؟!.

ودس يده في حقيبة سوداء. أخرج قرص CD وضعه في الجهاز الموضوع تحت شاشة تلفاز متوسطة الحجم وكبس على زرا بالكنترول، أول ما ظهر هو وجه أبو حسن  الملقب ـ حبيب قلبي ـ وهو يشير إلى بقايا الصاروخ الضخم الذي أنفجر جوار ـ أبو فؤاد ـ لما كنت أستحم في غرفة لا تبعد سوى ثلاثين مترا. تذكرت قصة هذا ـ الفلم ـ فبعد سنتين من حملة الأنفال، ورحلة طويلة في معسكرات اللجوء التركية والإيرانية تمكنا من الوصول إلى ـ دمشق ـ وفي غروب يوم صادفني رفيق من رفاق أربيل في شارع مساكن برزة هو الشاعر ـ نجم خطاوي ـ فأخذني على جهة وهمس لي:

ـ شفت البارحة فلم عن أصابتك!. هاي أشجان صاير بيك؟!.

وقتها تذكرت فيما يشبه الحلم أن الرفيق ـ أبو سامر ـ أخرجنا أنا وأبو رزكار من تحت الكلة في اليوم الثاني أو الثالث للقصف، في وقت لم تبدأ فيه بعد الآلام تتركز في أماكن محددة من جسدي، وقادنا إلى حافة مساحة مستوية. باعدت أجفاني لأرى ما الذي يجري، فرأيت أحدهم يحمل كاميرة فيديو، همس أبو سامر:

ـ أنهم من أعلام الحزب الديمقراطي الكردستاني، يريدون توثيق ما حدث!!.

نسيت الأمر برمته ما أن وقعت في الغيبوبة.

 قلت لنجم:

ـ أيكون نفس الفلم الذي صوره ـ حدك ـ بعد الضربة مباشرة؟!

أجاب:

ـ لا أدري حصلت عليه بعلاقة شخصية فأشترط عليَّ الرفيق أن لا أريه لأحد لضرورات أمنية!.

بعد حوار طويل أقتنع ـ نجم ـ على أن يأتي به الآن ونذهب سوية إلى محل تسجيل كي أنسخ نسخة لي وأكتم أمره. حصلت على نسختي لكنني حينما شاهدتها مرات عدة تأملت في أمر كتمانها، إذ وجدتها وثيقة تخص العديد من رفاقي المتواجدين في دمشق والراغبين في الحصول على لجوء في بلدان أكثر أماناً. وفعلا أشعت الشريط.. وهاهو نفسه يعرض عليَّ في غرفة بمبنى محامي الدولة في كوبنهاجن بعد أكثر من ثلاثة عشر عاما على حصولي علية. لما كان ـ أبو حسن ـ يشرح ماسكا الشظايا الكبيرة بملقط حديدي في وسط الوادي علقت قائلا:

ـ كنت في تلك الغرفة الصغيرة المجاورة التي هي حمام!.

فأوقف الشريط وأعاد اللقطة إلى حيث أشرت. سجل شيئا، وعاود التشغيل. دارت العدسة في لقطة بانورامية حول محورها فظهرت أشجار الوادي كالحة اللون سوادها يختلف عن الأشجار المحترقة. لون يميل إلى البني الداكن. ألقيت ملاحظتي تلك وكان ـ Erik ـ يسجل كل ما أنطق به. سينقل المشهد إلى موقع الدوشكا حيث أصعدونا في صبيحة اليوم التالي للقصف، ودارت العدسة دورة بانورامية مظهرة القمم المحيطة بصحن الوادي لتهبط إلى مجرى نهر ـ الزاب الأعلى ـ المنحدر والذي بدا كخيطٍ رفيع، أوقف اللقطة وسألني:

ـ هل هذا الموقع الذي كنتم فيه؟!.

ـ أجبته نعم

ـ ما أسمه؟

ـ زيوة ويقع خلف مدينة العمادية بالضبط!.

سيظهر بعد هذا المشهد المصابون تحت ظلال الأشجار، وخلف صخور كبيرة تحجب أشعة الشمس، يسعلون، مسودي الوجوه، يحدقون بشرود نحو العدسة المارة خطفا على وجوههم، السعال متواصل خافت مخنوق. بدت الأجساد المنتشرة كعصفٍ مأكول يبرك في صمتٍ لا يعكره سوى السعال وضجيج الساقية وتنادي من لم يصابوا الخارجين الداخلين من وإلى حافة العدسة حاملين بأيدهم شيئا ما لمساعدة المصابين المتضورين ألما. أشرت إلى ـ أبو سعد ـ الذي مرَّ بلمحة بصر في العدسة قائلا:

ـ هذا أبو سعد سينتحر في قصف بغازات الأعصاب بعد أكثر من سنة بنفس الموقع وسأدفنه بيدي!.

أوقف اللقطة وأعادتها ليثبتها على قامة ـ أبو سعد ـ بلحيته الكثة وقوامه الطويل، سألني:

ـ هذا؟!.

ـ نعم!.

ولذلك قصة أخرى، كنت فيه شاهدا، سأرويها في القسم الثاني من هذه الشهادة.

أكثر من مائة مصاب، من بينهم نساء وأطفال من أبناء رفاق في المقر أو أبناء عوائل كانت تمرَّ صدفة كلها تظهر في الشريط اللاهث والذي سيبطئ قليلا أثناء تصوير ـ كانياوا ـ الرفيقة اليسارية الكردية الإيرانية السمراء الجميلة وهي مسودة الوجه لم تستطع الإجابة عن سؤال وجهه لها ـ أبو سامر ـ بل لم تتمالك نفسها فبدأت تتعسر قسماتها متقلصة قبل أن تنشج بخفوت. كانت هي الأخرى امرأة شجاعة مقدامة، تناوبت على العناية بأبي فؤاد مع حبيبتي ـ ناهدة ـ وإلى جوارها يجلس زوجها ـ ملازم ـ علي ـ بنظارته الطبية ذي العدستين  الصغيرتين يمسّح بصمت ضفيرتها السوداء الطويلة. ضمت رأسها بين ذراعيها الملتفتين حول ساقيها المضمومين إلى صدرها عارضا عن العدسة والسؤال.

دخلت العدسة وجوه لكل منهما قصة أعرفها وتحتاج إلى سرد، وجوه قاومت الطاغية وتركت المدن، الزوجة، الأبناء حالمة في الخلاص من كابوسه وجوه.. ووجوه  مرَّ ـ حميد مجيد موسى ـ  سكرتير الحزب الشيوعي الآن ـ حميد بخش (أبو زكي) ، أبو عليوي بوجهه المنغولي المتجهم (وهو أخ للاعبين عراقيين مشهورين من البصرة لعبا في المنتخب العراقي لكرة القدم طوال فترة السبعينات وهما، هادي أحمد، وعلاء أحمد) وقد تحول لون بشرته من السمرة إلى السواد.

ـ هل أعد الأسماء؟!.

لا.. ليس موضعها في هذا المقام. أجلس وسط المحقق والمترجمة. نحدق نحن الثلاثة بشاشة التلفاز وهي تبحر في لحظة غيرت مجرى حياتي إذ أكسبتني العجز الدائم. وقعت عين العدسة على هيكل ـ أبو رزكار ـ النحيل. وقتها لما رأيت الفلم في دمشق أدركت لِمَ لم يجب على ندائي الملح المكرر وأنا أطلب منه إسماعي ولو كلمة واحدة في وجودنا تحت الكلة السوداء. كانت مسلوخ الجلد، وجهه.. ظهره.. بطنه.. ذراعيه.. الجذع الأعلى العاري تتزاحم فيه الفقاعات، أعدت مرات عديدة شريط هذا الفلم فوجدته يسرح بعينيه المفتوحتين عكس كل المصابين في عالم بدا غريبا عن عالمنا.. أيقنت وقتها أنه كان في البرزخ يمضي.. في ضيق ذاك الممر المحشود بالغرائب التي رأيتها بنفسي. كان يرى ما لم يره الأحياء إلا مرة حيث لا قص فيها ولا أخبار. قلت للمحقق:

ـ هذا أبو رزكار توفى بعد تصوير المقابلة بخمسة أيام!.

أوقف اللقطة. كتب شيئا، ثم كبس زر التشغيل، فسد مساحة الشاشة وجه " أبو الوسن " الذي تكلم قليلا وأشار إلى ما بين فخذيه، كان يرتدي سروالاً كرديا، علقت قائلا:

ـ هذا ـ أبو الوسن ـ سينتحر في قصف بغاز الأعصاب بعد أكثر من سنة وسأدفنه بيدي!.

أوقف اللقطة. فجمد المسكين. وجهه مسود، وذراعاه تشيران إلى ما بين فخذية وخلفه على كتف الساقية وتحت الأشجار الجامدة في اللقطة يظهر بعض من المصابين وهم يستلقون أو يجلسون ضامين رؤوسهم ما بين أذرعهم المرتكزة على ركبهم المضمومة المتلاصقة.

لما رفع المحقق رأسه عن الورقة التي كان يخط عليها، وحرك الشريط مرة أخرى ظهرت أنا. فسألني على الفور:

ـ أهذا أنت؟!.

ـ نعم!.

أوقف الشريط فأبحرت في ذلك الكائن المحطم الذي كنتهُ. وجه محروق تماما، عينان متورمتان أحاول فتحهما ناظرا إلى شخص ما إلى جانب العدسة. لم أكن أرتدي سرولا كرديا وقميص زي البيشمركه المألوف، بل رأيتني في دشداشة طويلة سوداء من تلك التي نلبسها في جنوب العراق. لما سألت لاحقا من أين أتوا بها، قالوا أنهم لما وجدوا أن كل قطعة من جسدي من أخمص قدمي وحتى رأسي مصابة بالفقاعات بحثوا عن هذا الرداء الذي كانوا قد جلبوه من المدن القريبة ليرتديه ممثل في عرض مسرحي عرض قبل الضربة بأسبوعين.

مشى الشريط، فبدأت أجيب على أسئلة وجهها كادر التصوير، وجدتني أبدو متماسكا وحمدت الخالق لوجود امرأتي القوية إلى جواري، شرحت باختصار كيف أصبت. أوقف المحقق اللقطة ليسألني:

ـ أي لغة كنت تتحدث؟!.

ـ العربية!.

فسألني:

ـ أيوجد عرب بين هؤلاء المصابين؟!.

أجبتُ:

ـ غالبية الذين ظهروا في الشريط هم من العرب، بالإضافة إلى أكراد ويزيدين وكلدان وأشوريين، صابئة، ومسيح، ومسلمين، سنة وشيعة!. تجد تركيبة العراق كلها في هؤلاء!.

مرّت العدسة على جسدي شبرا.. شبرا، كان مليئا بالفقاعات المتقرحة، رفعت الثوب كنت لا أرتدي لباسا داخليا، فظهرت أعضائي التناسلية محروقة متقرحة. أوقف الشريط لما قَرَبَتْ العدسةُ كتفي الأيمن فسد التقيح مساحة الشاشة، كانت الإصابة فيه أكثر شدة وفقاعاته أكبر وأوسع. طلب مني نزع قميصي ففعلت فرأى أثار تلك الفقاعات الواشمة جلد كتفي والتي وستبقى حتى لحظة إيابي من هذا العالم. فعل كذلك مع أعضائي التناسلية، إذ أن أثار قشط دكتور " باسل " لم تزل توشم قضيبي الذي لم يزل يلتهب وتتورم فتحة البول في الجو الحار. سجل أقوالي ومشاهداته، ثم أغلق الشاشة قائلا:

ـ والآن ستقص لي ما حدث ذلك اليوم والأيام التالية بالتفصيل!.

فسردت على مسمعه وللاقطات المسجلة كل ما سردته للقارئ. كان يكتب كل شيء، ولما أكملت القصة سألني سؤالا واحدا فقط:

ـ هل تعرف ـ نزار الخزرجي ـ رئيس أركان الجيش العراقي شخصيا؟!.

أجبت بالنفي، وعرفت أن الأمر يتعلق به، وبهروبه من مكان إقامته الجبرية في بيته بمدينة " نسفذ" واختفائه الغامض من الدنمرك قبيل الهجوم الأمريكي في آذار 2003 لاحتلال العراق. دفع الأوراق التي كان يسجل فيها أقوالي وطلب مني التوقيع قائلا:

ـ ستكون شاهدا لو قبضت شرطة المتروبول على شخص نزار الخزرجي حال دخوله أي دولة أوربية، أما هنا في الدنمرك أو في المحكمة الدولية لمجرمي الحرب في لاهاي.

قلت له:

ـ هل أستطيع الحصول على نسخة من محضر هذا التحقيق، فهو ينطبق على قادة الدولة العراقية، صدام حسين  وأعوانه فيما لو قبض عليهم!

أجاب:

ـ لا أستطيع

وناولني كارته الشخصي قائلا:

ـ لو أرادت أي جهة رسمية عراقية ملف هذه القضية فلتتصل بي وسوف أزودها بالتفاصيل كلها!

كتب على الوجه الأول للكارت:

 

STATSADOKATEN

 

STATSADOKATEN FOR

SAELIGE INTERNATIONAL STRAFFESAGER

 

( SPECIAL INTERNATIONAL CRIMES OFFICER )

 

على الوجه الثاني:

 

Erik Hansen              

Vicekriminalkommissaer

(Detective Chief Inpector)

sico@ankl.dk         

 Jens Kofods Gade 1      Telephone + 45 33 30 72 56  

 Dk _ 1268 Koenhavn K    Fax + 45 33 30 72 70

                  Denmark           

 

 

               

 

ننصت أنا والطاغية

هو في دهشة وامتعاض

وأنا في نشوة وطرب

هو في قفص

وأنا في فضاء

أستيقظ مع طلوع الشمس. أذهب في نزهة بين الحقول أعود منتشيا. أعد الشاي. أفتح التلفاز. أرنم:

آه يا أسمر اللون حبيبي الأسمراني

       حبيبي وعيونه سود هم الكحلة رباني

أدور بأرجاء الصالة في انتظار ظهور الدكتاتور على كرسي الذل بلحيته غير المشذبة وبقسماته البائسة التي تحمل بقايا مكر قديم وهو يستمع إلى ما فعله بأبناء وطني وبيّ.

وآه يا أسمر اللون

                         10 ـ 10 ـ ‏2006‏‏

                          الدنمارك

ــــــــــــــــــــ  

* وصلتني من الصديق الكاتب العراقي شاكر الناصري هذه الرسالة يصحح فيها معلومة عن مكان وزمان أصابة ـ نزار الخزرجي أثبتها في الهامش لغرض الثوثيق وهي مؤرخة في 26 أكتوبر 2006

 تحية طيبة عزيزي سلام

قرءت شهادتك

مرعبة وجميلة

سننشرها حتما
اتمنى ان تعيد تدفيفها مرة اخرى لوجود

بعض النقص في المفردات 

حروف متداخلة او ناقصة

بخصوص اصابة الخزرجي فهو اصيب في الناصرية وليس بين الرميثة والديوانية

اصابته كانت في يوم 2 شباط 1991 اول يوم من الانتفاضة في الناصرية وكنت احد من حاصروه في بناية الطرق والجسور في الناصرية

اصيب بعدة اطلاقات في بطنه وتم اخلائه من قبل بعض الاشخاص الى مستشفى صدام ومن ثم تم انقاذه بواسطة طائرة سمتية ونقله الى الكوت بعد دخول الحرس الجمهوري الى الناصرية.وعلى اثرها اصبح مصاب بخالة من الهستيريا .

اتمنى ان تعيد النظر بهذا الخصوص

لانه ستثير اشخاص لهم مشاركة في قضية الخزرجي وانا من ضمنهم

محبتي وتمنياتي

شاكر