ُرغمَ منفايَ عراقي موطني ... " عنده روحي وعندي بدني " ..خلدون جاويد
ايس هوالاسم العريق لقرية في أعالي الفرات – هيت – والكاتب الأديب القاص ابراهيم أحمد يضع لها تيهانا بل سفارا في مساف الذاكرة العراقية النكهة ، وعلى حد تعبير فؤآد التكرلي : " يغمس القاص قلمه بمحبرة الفؤآد وينتشل من الاندثار تلك الوجوه الطفولية العزيزة والأمكنة البائسة الحبيسة ".تتضافر في نصوص كتاب " التيه في ايس " عناصر عدة منها البساطة والشاعرية والمفردة الوامضة بعيدا عن الديباج اللفظي والتقنيات او المصوغات المصطنعة . النص لغويا يعتمد الانثيال الحسي والروي الهامس . هناك ملاحن للبراءة الطفولية في استذكار ذاتها يجنح المرء بخياله معها الى صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس وحيث يكون الاسلوب في فصول الذكرى الاولى روحيا وطفوليا في آن . الماضي هنا يعتلج بالحضور . الماضي هنا ليس موتا او طللا مندرسا بل هو قيمة وجودية متجسمة في وجدان ابراهيم أحمد وكل العراقيين الذين تتلامع ملاعب في الأذهان . انها ليست بعيدة كما أملت جغرافيا الكون عذابات الاغتراب على رقابنا بل هي ( تلك الذكريات ) الأقرب حتى من عظام الصدر ، هي الحب شعرا والحنين قصصا والانشداد أدبا وفكرا .. أحد هؤلاء المسكونين بالوجد القديم هو الأديب الاستاذ ابراهيم أحمد ، ففي ( صورنا ) تتلامح وجوه الأطفال في عوالم القرية ( ايس ) التي يطحنها الظلام والحرمان وعلى الرغم من كونها مزارا للسواح الذين يقدمون لمشاهدة المياه الكبريتية الدافئة وغيرها . الاّ انها لاتعرف الفرح حتى ان اطفالها من الذين يوعدون من قبل الأميركان او الانجليز بالحصول على صورهم التذكارية الملتقطة بكاميرا الأجانب يخيبون في أغلب المرات . ولعل أهم مايرسمه القاص بهذا الصدد هو شخصية زيدان الطبّال ، راديو القرية المتجول ، والمنادي في الأفراح والاتراح . يقول الكاتب : " ان كل بياناته السابقة عن موتى بحوادث مروعة ، وحفر قبور ، وفيضانات ، واقتتال عشائر وقبائل في الأرياف والبوادي ، ودعوات يائسة للمصالحة ، وتحذيرات من وصول خناجرهم والهروات الى خاصرة البلدة ، أما الأفراح والمسرات فسماء ايس شحيحة بها شحتها بمطر الصيف ، والشتاء مرات ، وحتى اذا جادت بها تأتي مختلطة عكرة فما هو قدر الفرح بزواج يتهدده انتقام اقارب او عشاق ؟ وما هو فرح الصبي بالختان اذ ترقص العائلة حوله وقد قطعوا طيره الغريب وأحالوا وسط أحشائه الى بقعة من اللهب الأحمر يدور حولها مطحونا بين الألم والخجل والصمت " .وفي هذه الاجواء الكابية تستحيل مناسبة مشاهدة فيلم – هنا الحديث عن قصة سينما تحت ضوء القمر – تعرضه السينما المتجولة على حائط مدفون وراء حجارته أحد الأولياء الصالحين . تستحيل الى صراع عالمي ضد أميركا دفاعا عن الدين والأصالة ، فرغم تغيير واجهة العرض فان ( الهم والغم ) قدسي الطابع ! والفرح والترفيه دخيل وعميل ... وحتى هنا يغدو مفهوم الاطلاع على مالدى الآخرين توجها خطيرا لايقاس عليه الاّ بالتحفظ أو الرفض ، فأن تكون وطنيا هو أن تحجم عما هو خارجي انطلاقا من أن الخارجي هو الأمريكي ، هو المؤآمرة المبيتة ، هو الجريمة الكامنة في المستقبل ، قد تبدو السينما هنا – والآن – ساحرة بعروضها اللونية ، الاّ انها مطب خطير ! . ان الحضور الآن مجاني لكن اجرة التذكرة في المستقبل هي الوطن وسيادته . هكذا تستقبل ايس الغاطسة الى اذنيها بالظلام أنوار ليلة سينمائية واحدة فقط ، لسان حالها يقول : ظلامي ولا أضواؤكم المريبة ، وبلغة البعض من معاصرينا : " جهلي النائي ولا عولمتكم " .ويظل القاص على مدى 46 صفحة ينقل أجواء الحدث الساهر المرفوع الى مصاف الصراع او لحظات الحراجة – الدراماتيكية يكتنفها عنصر التشويق الذي يشد الأنفاس من حيث ملاحقة الحدث من جهة والبناء اللفظي وردود الأفعال ، من جهة اخرى – مابين كاميرا عرض متجولة تهم بالبدء وبين الناس الرافضين لوجودها المجرد . يروي الاديب القاص : - " فيما يحتدم غضب الناس هاتفين " يسقط مشروع ايزنهاور " " يسقط دالاس ورونتري " و " النقطة الرابعة " ، صليبية سابعة " " ايس لن تنسى القدس " . ثم : " تسقط شركة فورد وشوفرليت " . " تسقط شركة أرامكو " بل هتفوا : " تسقط لصقة جونسون وعلكة ام السهم : حتى يطلقون عليها فريد الأطرش يغني " ياريتني طير واطير حواليك " وما ان ينتهي الأطرش حتى تنبري صباح منشدة ، علعصفورية ، وصلني بأيدو ، تحمي صوتها العذب الممشوق نجاح سلام مغردة ببحتها الدافئة " الشاب الأسمر جنني " و " حول ياغنام بات الليلة هين " ثم ماان يخف الضجيج واللغط قليلا حتى يسارع الرجلان السينمائيان لتكريسه كانتصار أولي في المعركة فيقصفونهم بنغمات اوتار حنجرة محمد عبد الوهاب المحكمة التصويب : " ما أقصر العمر حتى نضيعه بالنضال " ثم يعطرون الجو بورود وقرنفل اغنية احضيري " عمي يبياع الورد " ولأكثر من ساعتين دارت أغرب معركة في الساحة الجديدة لبلدتنا او ساحة الولي الصالح كما يصر الناس على تسميتها حتى اليوم ، رغم انهم فتحوا بها في السنوات الأخيرة العديد من البارات وملهى ليليا ومقرا سريا للمخابرات ودارا فخما رئيسا للحزب الحاكم .كان المتصوفة يتقدمون الصفوف ملوحين بقبضاتهم الهزيلة الواهنة والتي يشدونها بالوعيد لأول مرة ، والسينما الأمريكية المتجولة تتصدى لهم ولجمهورهم بالمدفعية الموسيقية والصليات القاتلة والموجعة من الحناجر الذهبية الانثوية والذكورية والمتسلحة بأعلى مايمتلكه التخت الشرقي من خيرات ونغمات مصقولة في صالونات القاهرة وحلب وبغداد ، ولكن ينبغي القول ان أحدا لم يصعّد الموقف فوق ماهو عليه ، حتى لو ضمنوا توقفه عند حدود قطرة دم واحدة فقط " .وعلى القارئ هنا أن يلاحق نهاية المطاف كيما يخلص الى استيعاب مكانة الوعي في ( ايس ) كقرية وكمعالم ربما أمات التقادم الزمني بعضا من معالمها الأ ان ابراهيم أحمد خلدها كيما تكون ملمحا للوعي العراقي في طابعه الخاص او العام ولأنها صليبه المحفور على القلب والذاكرة . بل لأن فعل الذكرى في المغتربات العراقية يأخذ بعدا وجوديا وطقوسيا ، انه يرقى في قلوب وذاكرة العراقيين الى مصاف القداسة والملحمة الجماعية وان دراسة متأنية للابداع العراقي في الشتات يعكس هو الآخر كما هو شأن العذابات الانسانية الاخرى فضيحة كونية ، انه عشق مدى العمر وحتى الموت وظمأ الملحمة الحسينية على فرات مطوّق . انه الفقدان والحضور .ان قارئ قصة ( انخطاف ) لو تحلى بذاكرتين – وقد تصفّد الدمع من مقلتيه ليدرك أي مغزى قد عنى به القاص عندما ختم قصته بجملة من التشظي الكليم " أية غزالة ينبغي أن تكون لك في هذه الدنيا " ان البلاغة هنا فاقت حدود التدمير والكسر حد تهشيم شخصية الطفل الذي اغتيلت طفولته واغتصبت أحلى وأزكى مشاعر الحب عنده بأن سرقت غزالته من بين يديه كيما تذبح هناك .. لقد فاقت – البلاغة – السعار والحمى التي تعرض لها الطفل بل عنت بأن الأمل ، عندما نهض الطفل من فراش المرض ، يكمن في المستقبل ... وهنا تعتمل الذاكرة الثانية بأن ترى الى الذات العراقية متجسدة بالطفل اياه ام بالقاص ذاته او بأي عراقي كان ، بأن لاغزالة لنا في ماضينا وحاضرنا . لقد جرى اغتيال العمر في العراق والزمن المستقطع في الهباء وقد ظلّت كينونتنا وغزالتنا انخطافا شنيعا مابعده انخطاف .هكذا تتواشج قصص التيه في ايس بالمرارة والشوق الى القادم في قصة مراسلة ، وأما البلابل النشوانة فهي مشد انفاس القارئ تنتزع الحنين من صدورنا وكذلك الأمر بالنسبة للفتى ( محمد ) الذي حاول الاتيان بمادة الحسن وحيث استل بكل قوة مدامعا من عيوننا لتمتزج بمياه الفرات الحزين . وعدا التفاوت بمستوى القصص ، فان التيه في ايس تعبير عن زخم وانثيال متفجر قد ترافق مع وفاة الأُم فأطلق جرح الكتابة الذي تساكب مع الدمع كالمطر الغزير .ان العراقيين يدركون دون سواهم ماذا عني الشاعر القديم عندما قال " والطير يرقص مذبوحا من الألم ِ" هكذا هي الضمائر العراقية الحية تسبى بفجائع الذكرى . ومن بعد عقدين من السنوات أو أكثر تتزاحف الأشجان ولا فكاك من وجعها كما يقول كاتبنا العراقي الاّ بالكتابة ولايمكن لهذه الأطياف الزائرة ان تذهب سدى . بل هي حياة الأديب الذي لايستبدلها بحياة اخرى . يقول بابلو نيرودا : " رفعوا الشاعر للفردوس فقال آه ياوطني ثم مات " .ان فردوس اوروبا هو الآخر ، يمنحه الأمان ولا يمثله بل لا يمنعه من الانشداد للأهل الذين تناهبهم الموت والوطن الموغل بأساه . وحتى ترسم ريشة المنافي ابتسامة للوطن في صباح قريب ، نتعزى بقول المتنبي " وبين الرضا والسخط والقرب والنوى ..... مجال ٌ لدمع المقلة المترقرق ِ ". وان كان لابد من دمعة ساخنة في عناق التراب فلا بد أيضا من حضور يعوض التغييب القسري ومن أجل فعل للعراق وبذار للعراق وازدهار العراق . وشكرا لقصص أنطقنني شعرا :رغم منفاي عراقي موطني" عنده روحي وعندي بدني ".وحسبي ان اكمل القصيدة بابداع لاتنقصه عودة الى وطن مهدم ، وطن بحاجة للجميع. |