الكواكبي يترك المنصب ويعمل عرضحالجي

                    خلدون جاويد

  يقول الاستاذ محمد عمارة في استعراض له عن حياة المفكر عبد الرحمن الكواكبي بان حب الأخير لحرية الحركة هي السبب في بعض الظروف لتركه المنصب الوظيفي او الاستقالة منه . ويشير في دراسة له : " فنراه يرفض المراقبة والتضييق المفروضين عليه في سنة 1886م ، فيستقيل من (مأمورية الاجراء ) و ( محكمة التجارة ) ليتفرغ لمهنة قلما امتهنها قبله أحد من المناضلين في تاريخ الشعوب ، فيحرر ظلامات الناس وشكواهم ضد الموظفين والولاة العثمانيين ، ويصبح " عرضحالجيا " للحرية يؤمه الجميع !! ، ويصل الكواكبي عن هذا الطريق الى معرفة اسرار حياة الناس وما تحفل به من شقاء ومهانة وقصص دونها كل خيال ، كما يصل عن هذا الطريق كذلك الى قلوب هؤلاء الناس البسطاء الذين حرر لهم آلاف العرائض والظلامات . حتى وصل الحال بالسلطات العثمانية المركزية الى أن توفد الى حلب " صاحب بك " رئيس دائرة المحاكمات في شورى الدولة للتحقيق في الظلامات التي حررها الكواكبي للناس ضد الموظفين والولاة العثمانيين ".
ان عوامل مساعدة قد أدت الى القدرة على ترك الوظيفة من أجل خدمة الناس . لكن الهدف كان في حياة هذا المفكر الشهير أن لاشئ يعادل روعة الاحساس بالمعذبين على الارض والدفاع عنهم بهذه الصيغة او تلك وحسب ظرفها ومكانها التاريخيين .
هناك من يضيق ذرعا بالعمل الوظيفي لأسباب اخرى وخاصة اؤلئك المتميزون بالشفافية ورهافة الحس وهم عديدون ومنهم على سبيل المثال الشاعر ابو القاسم الشابي الذي كتب عن ذلك
في النشرة الرابعة من مذكراته الصادرة عن الدار التونسية للنشر 1983 .
  أشار الشابي في يوم الاحد جانفي 1930 ص 65 " أنا شاعر والشاعر عبد نفسه وعبد ماتوحي اليه الحياة ، لا مايوحي اليه البشر " . " وفي المناصب الشرعية بالأخص قيود ، وطقوس وسنن متعارفة ، اصطلح عليها الناس ، والفوها ، فأصبحت مقدسة عندهم لايمكن ان تمس بسوء . وأنا أعلم أن نفسي تأباها وتنكرها ولاتخضع اليها "
" أنا شاعر . والشاعر يجب أن يكون حرا كالطائر في الغاب ، والزهرة في الحقل ، والموجة في البحار ، وفي المناصب " الشرعية الأخص " خنق لروح النفس ، وقضاء على أغاني القلب ، واجهاز على راحة الضمير " .
كيف يمكن لشاعر يحب أن يحس الحياة احساسا كاملا ، وأن يتحدث الى الناس بأصوات قلبه الكثيرة ، أن يسكن الى حياة " الوظيف " تلك الحياة الخاملة الآسنة التي تشبه غدران الفلاة ، والتي تقضي على صاحبها أن يحيا لا كما يحب هو أن يعيش " .
ان الميل الى الحرية مدعاة لترك اطار البيروقراطية واسار الالتزام الوظيفي . والحرية هنا مفهوم راق ِ غير عبثي ، يستهدف الميل لاختيار عمل ما ،  انتاج ما ، هيام بالشعر بتأمل الحياة والكتابة عنها واغنائها بالحكمة وفائدة البشرية بجمالية النظر اليها بقيم المحبة والعدالة والاخوة بين الشعوب .
عندما عرض الشاه في سمرقند على الشاعر عمر الخيام وظيفة ( وزير الخبر ) وزير الداخلية ، رفضها حالا . والقصة ان الدولة كانت في حاجة الى معرفة مايدور حولها من آراء وهمس ومخططات ومؤآمرات ولذا جرى مفاتحة الشاه للخيام وبطريقة راقية هي التمني عليه بأن يوافق على استلام المنصب وان لايقول  ( لا ) فورا ، بل يذهب ويفكر بالأمر حتى الغد وعند الرفض ثانية لن يرى الاّ الاحترام والمحبة . وشرط التعبير عن ضمانة الاحترام والمحبة تلك ، هو ان يقدم الشاه اربع هدايا للشاعر .
في اليوم الثاني جرى الرفض ثانية وطولب عمر الخيام بأن يفوه بطلباته فكان الاختيار التاريخي الذي لاينسى : اسطرلاب ( مرصد فلكي ) ليرى من خلاله عمر ابراج النجوم وفراديسها ليتمتع بها ويكتب عنها باعتباره عالما فلكيا . وحديقة ورد من حوله . وكأس نبيذ . والى جانبه حسناء ! . انتهت الطلبات ! وجرى تقديمها الى عمر بكل امتنان .
والسؤآل هو كم من امرئ ٍ يمتلك روحية عمر الخيام في النظر الى مفهوم الجمال والحرية بهذه الطريقة ؟ .. ان اللهاث وراء المناصب ظاهرة ملموسة في كل بلد . مع اقرارنا بدور بعض الافذاذ في التاريخ  بالدفاع عن ابناء بلدهم في ظروف الحرب والسلم وقبولهم منصب ما.. وفي تلك الحال لايكون منصبا بل مسؤولية وفدءا .
  ولعل الكثير منا يكبر الزهد وينآى عن ترهات المنزلة الوظيفية والمال والجاه والثراء الخ  لكن كم منا قادر على الاتيان بروعة الزهد في القول والسلوك؟ قال الشاعر محمد مهدي الجواهري بحق أبي العلاء الذي لايمتلك الأ حصيرا وكتبا لكنه أقام الدنيا وأقعدها بحكمه واشراقاته ، بينما غادر سواه الحياة بلا لون ولاطعم ولارائحة ولم تبق سوى ملابسه الانيقة التي بيعت بأبخس الأثمان وامواله وبيوته التي ليست له بل ظلت لسواه :

" أموالنا لذوي الميراث نجمعها ...ودورنا لخراب الدهر نبنيها ".

قال الجواهري بحق أبي العلاء :

على الحصير .. وكوز الماء يرفده
وذهنه ... ورفوف ٌ تحمل الكتبا
أقام بالضجة الدنيا وأقعدها
شيخ أطل عليها مشفقا حدبا
بكى لأوجاع ماضيها وحاضرها
وشام مستقبلا منها ومرتقبا
وللكآبة ألوان ، وأفجعها
أن تبصر الفيلسوف الحر مكتئبا
تناول الرث من طبع ومصطلح ٍ
بالنقد   لايتأبى  أية ً شجبا
وألهم الناس كي يرضوا مغبتهم
أن يوسعوا العقل ميدانا ومضطربا
وان يمدوا به في كل مطّرح ٍ
وان سقوا من جناه الويل والحربا
لثورة الفكر تاريخ يحدثنا
بأن الف مسيح دونها صُلبا

وهنا بيت القصيد الذي تناوله الجواهري بأبدع صورة : ان الجالس على الحصير ولايمتلك او لايريد ان يمتلك سوى الكوز لشرب الماء قد اوسع من شؤون العقل وجعله يتبحر في الحياة وشؤونها والمواقف الضرورية للدفاع عن الحق والمبادئ والعدالة . ان هذا الرجل هو الثراءالفكري للأوطان وليس طموحات البعض في شراء قصر ويخت وعربة ملكية او جكوار او اقتناء الزوجات او الجواري والحشم والخدم .
  الثراء هو كم تخلق في حيّزك الحياتي من العمر توهجات عقل وفكر وشاعرية واجتراح مآثر وحب للاممية جمعاء .
استطاع ابو العلاء الذي لايمتلك سوى الحصير والكوز ورفوف الكتب وعقله ان يقيم الدنيا ويقعدها . لكنه عندما مات ودفن في ذات الحفرة التي تمضي اليها المخلوقات كافة ظل حيّز ابي العلاء من الحفير وفي نظر الجواهري يمتاز بجمالية خاصة :

وسائل الحفرة المرموق جانبها
هل تبتغي مطمعا او ترتجي طلبا
يابرج مفخرة الاجداث لاتهني
ان لم تكوني لأبراج السما قطبا
فكل نجم ٍ تمنى في قرارته
لو انه بشعاع منك قد جُذبا

ان الحرية واعتمال العقل وتفرغ الأديب لذلك ومن اجل الناس جميعا هي رسالة سامية بحد ذاتها .. ولذا ادركت بعض الدول المتقدمة ضرورة تفريغ بعض علمائها وادبائها ومفكريها وشعرائها وفنانيها الى آخره مما يتصل بالابداع العلمي والادبي .
الضروري هنا هو مايقدمه الموهوب لوطنه وللانسانية ، ولو تمكن من ساعات عمله الابداعية ( من دون وظيفة ) لحقق نتائج لاتقدر بثمن .
ان المصنفات الابداعية  اثمن مما يعطيه هو للوظيفة ومما تعطيه هي له .
  ولابد هنا من اشارة الى ان شاعر المانيا الكبير غوته قد اشتكى للحكومة من شركة بناء قد شيدت عمارة او صرحا أما م نافذته حالت دون الرؤية والتأمل في  سماء مفتوحة ومنعته خاصة من وميض لمصباح بعيد في الافق يلهمه الكتابة ويثير الشجن لديه . سمع وزير الثقافة بشكوى غوته فأمر بتهديم الجدار او العمارة ! .
  حرية اختيار الكواكبي لعمل ما كجزء من نضال ما ، ورغبة الشابي بالتأمل وحب الحكمة والشعر . والمعري في خلق حالة من المضطرب العقلي الفلسفي . والحرية باعتبارها امتلاءا بالحياة مثلما هي عند عمر الخيام . والحرية في آلاف وملايين من الأمثلة هي ميل وارادة انسانية وضعتها وتضعها الدول المتقدمة في حيز الاهتمام من اجل تخليص الانسانية من المركزية والايديولوجيا الواحدة والوجوبية والآمرية والقسرية . ان تيسير فرص الحرية امام الابداع دلالة حضارية تملي على كل دولة تقدمية النهج ، أن تنتبه له وتوفر له حق اختيار مايريده المبدع ومايقوله وتذليل كل الصعاب الحياتية من اجل ان يتفرغ لمهام ذاتية وموضوعية سامية لو قيست بقيود بيروقراطيا الوظيفة وقيود العمل اليومي الذي يتلف على البحث والابداع زمنه وسرعة تطوره . والى أن نحظى بتطبيق قانون جديد للتفرغ في بلدنا الحبيب يكون لزاما علينا النضال من اجله وتطبيقه بابداع ومصداقية . وعسى ان لايكون هناك مفكر عرضحالجي بعد اليوم . ولاسياب ألم وفاقة . ولارصافي بائع للسجائر ولا جواهري مهاجر ، ولا كاظمي منفي ولا مصطفى جمال الدين مسفر ولا كوران عذابات وسجون ولا شاعر مثل ( رفيق صابر ) تحت حمم الكيمياء والحرائق ولا مئآت وآلاف الحالات الشبيهة لمفكرين ونقاد واساتذة وعلماء وفلاسفة عراقيين سجنوا وشردوا وقتلوا في القرن العشرين الدامي المهشم المذعور.
  وسيبقى الأمل بحق اختيار الأفراد كل الأفراد لحرياتهم ووفق اساليبهم ورؤآهم ، هو الهدف المنشود .