خطوتان على القمة
                                  خلدون جاويد

كان قد انتشر في بقاع لاينآى لها خيال ... وعانى بكاء الرجال في العزلة ... ولم تمكث معه حتى الابتسامة التي بكت هي الاخرى على شفاهه ... انه لم يستطع ذات يوم ان يعرّف نفسه ... أهو قرصان مهزوم ام قبطان حكيم ؟ ام شيخ بحار سبعة . رفع قلنسوته عن رأسه والقى بها في اليم وراح يستلقي على وسادته في ظلام غرفته الفسيح .... راح يعتلج بجحيم كلمات بل بسعير من الحس المكبوت والقاتل والمدمر ....عشرات الأعوام وهو يسافر من بلد الى آخر . كل ذلك من أجل صباح غد . فلقد لملم بأصابع يده كل شئ . وغدا صباحا سوف يبدأ .
  كانت امرأته تنثر شعرها المشمس في ظلام الغرفة على وسادة بيضاء . كانت تتنشق كلماته وتمتلئ بأريجه .. ويترجرج جسدها بزهور عاطرة من حكاياه الجميلة عن نواقيس الزمن السابع . وكانت الوسادتان في تلاحم وعناق من العشق المكابر ..اذ يمكن لعشقهما ان يبدأ من أعمق حفرة في ظلام بحر الى أبعد نجمة شقراء في اسوداد السماء . شدّ على يدها طويلا . وبقبلة دافئة ، سمّر شفاهه الساحلية والمتوحشة على زنبقتي فمها ... على شفتين من الكرز الحار ، وقد التف ساقه المرمري الضخم على حرير اديمها البض  ، وحيث اوقد عودا من الثقاب في جحيم تلك الليلة وحيث بدأ لتوه يداعب بأصابعه سفوح النيافة الجميلة ، حتى توقفت يده بهدوء مما أثار استغراب زوجته التي راحت عيناها تتأمل في ظلام الغرفة وهي تصغي الى انفاسه التي اخذت تنتظم في شهيق وزفير بارد وفي غفوة تتعمق رويدا رويدا....
  قالت في نفسها : اذن انتظر الصباح ....
همس في نومه ، وكأنه استمع الى خوالجها : ماذا عن الصباح ياحبيبتي ... سوف افتك بخيوط الفجر مادا عليها جناحي ممطرا بياقوت الجراح على الافق .... غدا سأشد احزمتي باتجاه القمة ... فان هناك سري واكسيري ...
وكان الصباح وفوجئ بكونه وحيدا في فراشه .. اين المرأة الوردة ؟ .. لقد غادرت ...آه ... الى أين ... دفع بجسمه خارج الفراش .. وأول ماتناولت يده ستارة الشباك الصغير حيث العراء المطلي بجليد قارة لاحدود لها .. كل شئ أبيض وفق ما رآه... والمرأة  آه منها ... انها هناك .. تتحدث بأعلى صوتها ... هل يطمئن الى انها موجودة ؟ نعم ! ... اذن عليه بالعودة الى حانة النوم الجميلة وحيث يضع امام منضدة نومه قناني لا انتهاء لها. عاد واسترخى ثانية بل راح شخيره يتصاعد حتى فتحة باب بيته المتنقل والذي ما انفك ينام فيه . أما الركب ، فقد ظل بالانتظار المشوب بالشك طيلة الصباح ... وظل السر محجوبا . وأخذت الهمسات تنتشر الواحدة تلو الاخرى .. ولا خيط ضوء للحقيقة مابين صحيح وكاذب . المهم انه مايزال منشغلا ... بم ؟  باكسير للحياة المقبلة.... برسم خارطة للعمل الجماعي ... بلملمة اوراق سرية ... بشؤون ذات أهمية فائقة للتصور . لا أحد يدري ... المهم انهم في عراء الانتظار ... ان شيئا ماخلف هذا الباب ذا اهمية كبيرة . اهمية اللقاء بين طبيب وحالة مرضية عسيرة ... المهم ان عليهم الانتظار ليس الاّ . أخذت الشمس تهم بالانسحاب رويدا رويدا تحت غيوم دكناء . وكان الرجال في تأهبهم الرجولي ، وكل شئ جامح فيهم ، رؤوس الخيول ، السروج ، الأصابع ، النساء ، الأطفال ، الرضع ،الماشية ، كل شئ يقف تحت المطر . تحت الغيوم السامة  . وهناك ، وبالمقابل ، رجل ما .... رجل يخطط للمصير ... رجل لايشك في حنكته حتى الموت . انه الآن في صومعته . انه يصنع شيئا ما من اجلهم . انهم على ثقة وهذا ما يبقيهم .. مايجعلهم يموتون انتظارا . قالت المرأة بنوع من التبرم – هل انتم على مايرام ؟ .
- اننا في الانتظار العذب !
- سقطت عنها البدايات ... بدايات نثيث مسموم من المطر . انه الجمر البارد لمياه غاضبة . كان هناك بعض الرضع . وكذلك النساء اللواتي اخذن يلذن ببعضهن البعض . الاّ ان ذلك الملاذ التافه . هو ملاذ القشة بالقشة . فلقد تقدم جيش من الرياح باتجاه القافلة ... وما كان الرجال بخائفين على اطفالهم بل على بيت القائد المتنقل فلربما مسّت قطرة من طلل الجورية جبينه وهو يكتب ، او يبرق ، او يخطط ، وكان هناك من يفكر بمصباحه الصغير ، لربما توقف في الريح ... كيف يستطيع رجل ما في القافلة ان يشحنه بشئ ما من روحه او عينه او دمائه .
  سقطت امرأة . وراح رضيعها يتهاوى ساقطا عن يدها ، وقد لف حول جسده الصغير جراح جميع الامهات ، ونحيب كل السفوح ، وراح يتدحرج الى مالانهاية ، عبر خواء الكون وصحراء معانيه ... انه يتلاطم عبر الممرات ، والشعاب ، والوديان الظلماء ... انه .... وراحت امرأة تبكي .... بل راحت عدوى البكاء تنتشر في القافلة بين النساء فقط . وكانت وجوه الرجال عابسة غاضبة ... وغطت اصوات الرياح نواح الحزينات ، والقائد... القائد الفولاذي انه يخطط ! ولذا انبرى احد الشبان لمخاطبة الواقفين .. مارا على خيولهم واحدا واحدا مستفتيا اياهم ، واقفا أمام عيني كل واحد منهم ... محدقا فيهما ... وقد رقرقت عيناه من أثر الريح وانتهى الاستفتاء بصمت وعذاب ... وكانت الريح حائلا كبيرا ، وبالرغم من هذا فقد استطاع هذا الشاب الغرير ان يحصل على كلمة استفتاء شريفة ... عاد ووقف بجواده أمام الركب قائلا :
    اذن وحسب اغلبية الآراء فاني سأذهب وادحم بابه !! حل الوجوم على بعض الوجوه .... تشاورت وتهامزت بعض العيون فيما بينها ... وانتهت الى قرار سري لابد من تنفيذه الآن . نادى احد الشيوخ المرموقين في الركب على ذلك الفتى الغرير... تقدم الفتى مذعورا ... التقى الجوادان بهيبة ملكية ، وذهبا بعيدا عن الركب ومن على صهوتي الجوادين وقرب  مجرى ماء صغير، التقى جسداهما للحظة واحدة ثم انفصلا وسقط الفتى من على السرج وراح جسمه ينزف في الريح ... وعاد الشيخ الى مكانه ... وحل سكوت غريب ... اذ كانت كل وجوه النساء شاخصة باتجاه الجثة التي أخذها الهواء ... أخذت الرياح تزداد عتوا ... انها رياح باردة ، قاسية . ولذا راح احدهم يمسك بالآخر ... وانبرى الشيخ وبعض الرجال الى شد القافلة بالحبال . شد اجساد الرجال من وسطهم بعضا الى بعض . وكذلك النساء . وسرى هاجس من الارتياح الى انهم ممسكون بعضهم بالبعض الآخر . الاّ ان الرياح كانت أشد وأعتى من ذلك . وفي عتمة الليل صرخت النسوة . اذ سقط أكثر من طفل في الوحل ، وأخذن يتصايحن بأسماء آبائهم
- ياأحمد .. لقد طاح طفلك ... ويا شهاب لقد مات قرة عيني .
ومرت ليلة الكوابيس ....
وأطلت شمس الصباح ... خافتة في يومها الثاني ... يومها المدلهم . قبور الى اليم ... ووجوه حزينة ... وفتات طعام تدور على الأفواه . بعضهم من يقضم الخبز بألم ... والبعض الآخر من يرفض ان يأكل والجميع في انتظار قاس ٍ . وصرخت امرأة : هل نطرق الباب ... تكلموا ، ايها الرجالُ الخواءُ ... أيها الحديد الذي صدأ ... ماذا بكم ... تكلموا قرروا .... لابد ان نخاطبه ونعرف متى وأين المصير ... هيا تقدموا اليه ... ارفعوا أصواتكم . ادحموا الباب ... .
قالت امرأة مكللة بالسواد :
- سنموت جميعا لامحالة ...  وبانتظار ماذا ؟ .... وتململ وجه شيخ يحاول الكلام ... شيخ أصفر كظيم السريرة ... يكاد أن يموت للجفاف الذي يداهم جسده ... انه آخر من يأكل في القافلة. انتبه القوم الى انه يطلب الكلام .... حل سكوت أليم .
- ايها الأبناء ... لابكاء على الذين استشهدوا ... ان ذلك قدرنا وطريقنا الذي اخترناه ... وان السير في الطريق المزدحمة بالجماجم هو سر اعتصا منا بحبل واحد ... لقد اتفقنا على القرار في السلم فلماذا نختلف عليه في المحنة . احذركم يا أبنائي ان لاتدوسوا على شيب المسيرة ولا كبرياء القافلة ... ولا تفتتوا زهرة الاصرار ... لمجرد موت رجل ... او ثلالة او أربعة أطفال ... ان للقائد حنكة ورأيا . وتلك حدود القائد اياكم ان تقربوها ولاتطرقوا الباب المقدس الذي يدخل او يخرج منه .. فلربما كان موتنا سلمنا للصعود ... ان دم القائد هو خارطة العمر والمصير ... اذا اصاب ... واذا أخطأ .
    هبت العاصفة من دون توطئة وراحت تتساقط النساء من ظهور الخيل ... وعاد المطر المسموم ثانية ليبلل الوجوه بالدم ، وكأنما صخور من السجيل تنهال عليهن بل على الجميع .. انها الرياح التي تقلع الاشجار الباسقة ... انها تمر بالسبي على شبان غريرين ونساء مستضعفات وبقايا رضع وشيوخ ... انها رياح تضرب الأكباد من قبل أن تنال من الجلود ... وما أن تمس المقلتين حتى تعميها . الصباح الهادئ يطل مرة اخرى ... الدم يملأ الافق ... ودماء شمس مقتولة على سحنة الافق ولاصوت يبشر بميلاد شئ ما . ولا صرير باب ولا انفاس جديدة بل انها القافلة التي لم يعد فيها سوى امرأة واحدة وحصان وشيخ ملتف بعباءته ممسك بعصا من حديد ... كلاهما جالس . عند باب تلك الخيمة ... وثمة كلب قد ابقت عليه العاصفة ... أما الآخرون فلا أحد يعرف عنهم بل انهم لايمرون في ذاكرة أحد ... بل ما من ذاكرة تتسع لخيال شبح منهم ... انهم ليسوا الاّ حلم عابر .. حلم بلا لون ... انه شئ باهت .... اذ لا شئ يتحرك غير ذيل كلب ... انجبته العاصفة ... وامرأة تستند رأسها بكفها الذابل وتعاني المخاض . وشيخ ينظر للبعيد .... وكلاهما ينتظر ... والباب ....الباب مازال مغلقا ... سديم لا أمل فيه ... وكل يحدث نفسه هامسا ... هل ... هل سيخرج القائد ؟ ومن يكون الأجدر بنا على مساعدته ... يحمحم الحصان مرة .... وينبح الكلب اخرى .... والمرأة تتأمل بقسوة والشيخ يضحك ساخرا ... ناظرا الى الافق البعيد تارة ... ومحركا يده يمنة ويسرة تارة اخرى ... وفي تلكم الأثناء ، جمد وجه المرأة .... ومس الرعد عظام الشيخ .... .... وتخشب لسانه عاجزا عن رد التحية .... بل توقفت حمحمات الحصان .... وقرفص الكلب ... انه  هو .... بحلته شبه العسكرية ... انه القائد .
- ماذا به .... قالت المرأة في سرها ... انه يتثائب .... ماله ... مالشعره غير المرتب ... كل شئ فيه متسم بالفوضى والاصفرار والتعب ....
انه لايزال يتثائب . ادرك الشيخ بضحكته الساخرة والمكبوتة بان الرجل مرهق . وانه خارج لتوه من ميتته الصغرى …. هل ياترى كان من أهل الكهف …. كل شئ يصرخ فيه بالجريمة …. جريمة نوم لامثيل له …. وقالت المرأة في سرها …. ربما انتهى من قراءة كل كتبه السرية …. انه يقرأ ( الجلجلوت ) اظنه سوف يأمرنا الآن ببداية الرحلة الى القمة … واحست بتأنيب اذ لاطاقة لها بتلبية اوامر قائد عظيم لم يستطع أعتى الرجال انتظار زمنه الخاص … آه …. هل سيأمرنا بالصعود؟ ….
حدثهم القائد منزعجا بعد أن نظر بأكثر من اتجاه .
- جيد ان عادت القافلة ولم تنتظر …. ضحك الشيخ في سره …. نعم لقد عادوا الى الأرض وسوف يثوبون الى رشدهم مرة ثانية … استغربت المرأة في سرها . قاء الكلب لونا أبيض . وأخذ يقيئ ويخرج صوتا ما يقاطع به القائد …. وخرجت الزوجة بثياب جميلة …وبديباج بهي … كل شئ فيها عطير وثياب النوم الزاهية تداعبها نسمة من هواء عذب …. لقد بدا وسطها كبيرا هذه المرة لا بل انها فعلا كذلك …. انهى حبلى …. بل تبدو مثل وزة حبلى ! أساور من ذهب على ذراعيها . قلادة ذهبية قديمة عليها شعار مرصع بالزمرد ...
تناول القائد وبانزعاج كيسا من العلف واتجه نحو الحصان :
- يبدو ان ليلة امس قد كانت  ليلة مطيرة …. المطر يزعجني كثيرا . وضع الكيس عند فم الحصان . وأخذ هذا الأخير يمضغ بارتياح وقد راح القائد يسرجه بصمت . وكانت المرأة تنظر باستغراب والشيخ يضحك بسخرية … والكلب يستأنس بالقيئ . وكانت الغيوم سوداء . والبرك التي ستكوّن المستنقعات تنتشر من حول الجميع ، والزوجة تسير الهوينا نحو الصهوة . صعد القائد وتناول يدها الناعمة … وضعها امامه وقامت هي بالصاق جسدها برغبة واضحة بجسده ، وحوّل هو وجه الحصان باتجاه مغاير . قائلا للحضور وبعد ان مسك بالزمام :
اذا جاءت القافلة أخبروها بأني فقدت الرغبة بالصعود الى القمة .