رسالة ارسطاطاليس الى حضرة الرئيس

                

                 خلدون جاويد

 

 كتب ارسطاطاليس ( هكذا ورد اسمه في الكتب القديمة) رسالة في السياسة الى الاسكندر يستعرض فيها ثمارا للحكمة ووصفا للثراء الفكري والتصور الألمعي وحصيلة ً لخبرة الفيلسوف ... فيها من المسارات المستقبلية في ذهن القارئ العراقي دون سواه ( من العرب !) ما يدعو الى امكانيات التحقق ، ولذا وبموجب الامكانية اياها يجري التصور واعمال الفكر .

  والنظرية – لدى العراقيين الآن - هي تصور

ومنظومة افكار ... ولو كانت علمية تلك الافكاراو طوباوية فان ذلك جزء مما يرينا اياه المستقبل القريب والبعيد .أي لدينا حزمة من آمال وأحلام .والسؤآل الآن هو: لماذا يحق للعراقي ان يتصور مستقبله وفق رسالة ارسطاطاليس ؟ الجواب لأن هناك ارضية لذلك ... سابقا كان الفرد يفكر بمكان الجميع ... الآن هناك ارادة جماعية تجتمع وتخطط. ( هناك عثرات وكوارث ؟ ... هذا صحيح ) ولكن الأمر قد اختط مسارا جماعيا وليس فرديا ولاحزبيا مفردا واحدا أحد . وبما أن مستهل الحديث قد كان عن الرئيس أي مسيّر الدفة فاننا سنفترض ان الرسالة القديمة بخط يد ارسطاطاليس قد كتبت حديثا ، أي سنعمل معا على تفعيلها والتي جاء في جانب منها وهي كما قلنا موجهة الى الاسكندر : " واعلم ان الامور تكتسب بها الذكر وبعد الصوت ثلثة ( أي ثلاثة ) : احدها حسن السيرة . والثاني البلاء في الحروب والوقائع . والثالث عمران المدائن . لاتمتنع ان تتكلم بما يقنع العامة فان الناس ينقادون للكلام أكثر من انقيادهم للبطش فلا تحسبن ان ذلك يضع من قدرك بل يزيدك رفعة ونبلا وان تنطق بالحجة اذ انت قادر على القسر . واعلم ان التودد من الضعيف يُعد ملقاً واعلم ان التودد من القوي يعد تواضعا وكبر وهمة فلا تمتنع من التودد الى العامة لتخلص لك مودتهم وتنال الكرامة منهم . واعلم ان الايام تأتي على كل شئ فتخلق الافعال وتمحو الآثار وتميت الذكر الاّ مارسخ في قلوب الناس من محبة تتوارثها الاعقاب فاجتهد بالظفر بالذكر الجميل الذي لايموت . واعلم ان المدائن التي دخلها الخلل والانتشار آتي ذلك اليها من رسوم الرؤساء والمدبرين . وذلك انهم آثروا جر المنافع الى انفسهم على تفقد امور العامة وتقويم سنن المدن وصرفوا همومهم في تعجيل الذات الزمنية وأهملوا التدبير الباقي أثره وذكره على وجه الأرض والدهر . وقد رجوت أن تكون عواقب امورك الى سعادة ٍ وان تجتمع لك الخصال المحمودة عند اليونانيين لأنك حقيق بها . واجتهد أن تظفر بالذكر الذي لايموت بأن تودع قلوب الناس محبة تبقي بها ذكر مناقبك وتشرّف بها مساعيك على الأبد والسجود لذكرك والنجوع لفضلك . والسلام اليك وعليك " .

تلك هي تقويسة صغيرة من رسالة ارسطاطاليس ص 49 في كتاب السياسة لابن سينا والذي عني بنشره والتعليق على حواشيه حضرة الأب لويس معلوف اليسوعي .

  ولو دخلنا الى روح الرسالة لرأينا ان الرئيس في بائد الأزمان هو ليس الرئيس الحالي للعراق الجديد فذلك يتمتع بخصوصية وفردية ومأتى أُحادي الجانب ، بينما يأتي الرئيس الحالي جراء اختيار وتداول جماعي وهذا يحدث لأول مرة في تاريخنا القديم والحديث .لكننا سننظر الى أمر الفرد وفق موقعه الجماعي ! وما يهمنا من امر الرسالة كثيرا هي النقاط الثلاث المشار اليها :

 أولا – حسن السيرة : ستشتمل هذه الخاصّة وفق مواصفات الرئيس لا على خطواته الذاتية فحسب بل على اساس حسن سيرة التسييرالعام في السياسة وترشيد الاقتصاد ( البناء الفوقي : الفكر والدين والفن ) و( البناء التحتي : الاقتصاد ) وكلاهما متصلان بارادة قلب الحكم ( البرلمان ) ان اشاعة الديموقراطية في الروح اياها يعني بالضرورة تحديد سلوك الرئيس الذي هو موشور الحياة البرلمانية والخصال الارسطاليسية التي يتحلى بها الرئيس هي تعبير ضمني بهذا الشكل او ذاك عن مجتمع الخير والرفاهية والسلام والتضامن الاجتماعي ... لكن القاعدة التي تشاد عليها هذه المسألة هي تشديد النضال الفكري من اجل الحرية السياسية وبث الفكر الديموقراطي والحوار البناء من اجل السلام في التعاملات الحزبية بين قوى العراق الفكرية ووضع اسس لاحترام حق الافراد والاحزاب بالحياة والتعبير . لاتوجد يافطة هي السائدة ولاتوجد قامة سامقة تمنعنا من ان نرى مادونها من قامات . لايوجد ارغام ديكتاتوري حزبوي واحد يستكلب فيه الجزء على الكل بتبرير الارجحية السلطوية او القومية الكبيرة او الارث الوطني او السمعة العائلية او استشراء دين على دين في عراق متعدد الاعراق والاديان . لابد من اسس راسخة يحميها الدستور تحول دون زعامات همجية وشخصيات شبه مخبولة او عصابات خارجة على دولة القانون تعمل على ارهاب وارعاب المجتمع من اجل ارادات فئوية. ان هذه المرحلة من الأهمية ما تكون بمصاف النقطة التالية التي اثارها ارسطاطاليس أي :-

 ثانيا : البلاء في الحروب والوقائع . ان التأسيس لمجتمع الديموقراطية تعبير عن جهود جبارة لجبهة ثقافية وصراعات سلمية دؤوبة تقتضي السنوات ... وتستطيع ان تنتصر في حرب السلاح لكن حرب السلام لايمكن نيل انتصاراتها بساعات وايام وحتى سنوات ... ان على الجبهة الثقافية العمل ليل نهار من اجل التنوير والرد على عقود من التجهيل ... وهذا يقتضي ترسيخ تباشير المجتمع الديموقراطي في جبهاته الاعلامية المتعددة في الكلمة المكتوبة والمسموعة والمرئية . اضافة الى عقد الندوات الثقافية وتحويل الحياة الى هايد بارك . اضافة الى تدريس المواد ذات الصلة والتي تخدم هذا الشأن وتجده متجسدا في الحياة العامة وتتلمس نجاحاته واخفاقاته وضرورة مناقشة نواقصه اولا بأول مثلما هي عليه الحياة السياسية في الدول المتقدمة .

 حول النقطة الثانية أيضا : البلاء في الحرب والوقائع : البأس والقوة ضروريان لحماية الحق والدفاع عن الشعب فلابد من درء الحرب الخارجية غير المعلنة عسكريا بل المتغلغلة الى البلد والتي تحصد ارواح الناس . يجب عدم التهاون والبلاء هنا يأتي مصداقا لما في رسالة الفيلسوف وحسب مايمليه الواقع ، وان واقعنا - في حقيقة الأمر- هو فيلسوفنا المعاصر الأكثر دراية . لابد اذن من الانتهاء من مرحلة الحرب والغدر وسفك الدماء وتصفية جذورها ودعاتها . وهذا ممكن وقريبا مايتحقق لكن كيف يتحقق حسن السيرة على مستوى الرؤساء والافراد والجماعات وكل التقديرات تشير الى ضرورة مرورعدد من السنين حتى تعود ذات الروح العراقية وطيبتها الى العراقيين .

ثالثا : عمران المدائن ... هذه الاضافة الثالثة لها من الاهمية المرحلية مايوفر السعادة والرقي للشعب العراقي في ان يغدو بلدهم مثل أي بلد اوروبي .. وان شعبنا المحروم ليعجب كثيرا عندما يزور بعض ابنائه بلدانا متطورة تقنيا وعمرانيا وفكريا ويتسائل ماالضير بأن يكون بلدنا بلدا اوروبيا او شبيها بذاك ؟ كل ثروات البلد كانت نهب الحاكمين لماذا لايغدو بلدي جميلا وتعود مثلما كانت عليه دار السلام ! ... ان الامكانات المتاحة محلية او عالمية قريبة من التحقيق لكن من يضمن نزاهة مدير ومسؤول وتاجر ما على عدم اختلاس اموال الشعب ؟ ... الخ ... سيما وان الكثير من العراقيين قد تعرضوا الى ضغوط هائلة مست مواصفاتهم الخلقية والسلوكية وثلمت من اصالتها وطيبتها ولعقود عديدة ولايزال  ميكانيزم الجريمة يعمل في الخفاء وهذا هو الأخطر .

 ان البناء الاخلاقي هو الاصعب لأن الذات كالصخر لابد من صقله كل يوم بينما نستطيع من الحجر ان نبني العمارات الجاهزة بأيام . ان من يعمل من اجل الذات العراقية عليه ان يسهر ويبذل الغالي والنفيس من اجلها وان يفتديها ويعتز بها ويرقيّها . ان ذلك هو جوهر العمل الابداعي للأديب والشاعر والفنان والفيلسوف وكل مربي واستاذ . والجبهة الثقافية هي احدى شفرتي السلاح المضطرين على حمله في جبهة الرد على الاعتداء اليومي الذي يعمل جاهدا على اجهاض اول تجربة للديموقراطية في المنطقة . اذن فلابد من ان نعمل ونعمل ونعمل ولا تقل " متى يبلغ البنيان يوما تمامه... اذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ " بل ان الأمل بالاستمرار والتضحيات ... وكما قال الشاعر : "واذا سقطتُ فخذ مكاني " .