لا تقولوا إ ن إبني مقتول !

 

كانت اياما سوداء كحلكة الليالي في المنافي خارج الوطن . كنا نسمع اصوات الرصاص في هد ئة اليالي بين رشق مستمر او فرادى تجلبه الريح الباردة مختلطة مع نشيج المطر في شباط 1963.

 و بين حين واخر تهرول مندفعة الى داخل المعتقل  زمرة يلبس بعضها الملابس الكاكية اللون والبعض الاخر الملابس العادية وكل منهم يربط خرقة مكتوب عليها حرفان بلون اسود  ح ق دافعة  امامها نخبة جديدة من البشر من مختلف الاعمار والجنس والهيئة  و كأنها تسوق قطيعا من الطرائد الى المذ بح مطلقة أصواتهاالنكرة ولاتترك مفردة في قواميس الكلمات البذ يئة من كل الاقطار العربية إلا و تقذ فها على الثلة القابعة في غرفة رطبة نتنة بابها من الحديد المشبك

 و يترائى للمرئ ان كتلة من البخار الثقيل ينفلت منه للهروب بعيدا الى الفضاء الحر لتترك ورائها خلف هذا الباب الحديدي افرادا يفوق عددهم بثلاث مرات على استيعاب غرفة المعتقل لشاغليها.

 كان بينهم المرضى و ممن يحملون اثارا حية من التعذيب بد رجات وانواع مختلفة والجريح الذي يحتضن جرحه طلقا ناريا بالاضافة الى اوجاع التعذ يب و منهم من لم يستطع مقاومة اطلا ق الانين او الصراخ بين الفينة والاخرى لذلك تفتقت افكارنا عن حل لم نكن نملك غيره.

فلأ جل أن  يصيب كل واحد منا نصيب من ساعات النوم و يصبح اكثر استعدادا لجولة التعذيب والتحقيق المتكررفي اي وقت يقرره  مزاج المحقق و المعذِ ب؛ اضطجع بعضنا متمد دا والبعض الاخر جلس متقرفصا والاخرون وقفوا اوجلسوا على كومة الاحذية والنعلا ن قرب اطار الباب الحد يدي و هكذا نتبادل الامكنة بعد فترة من الوقت.

 كل منا كان غارقا في همومه و يفكر على طريقته لأ جتياز اول امتحان مع عدو شرس مسلح لم يبال الى الضغط على الزناد متى كان ولو باقل  إثارة. لقد كانت الزمرة  الكاكية الملابس او العادية اللباس تحمل روح  ذ ئب بشري متعطش الى افتراس القريب والغريب .

 في ذلك الوقت تصفحنا قاموسنا الفلسفي الخاص بنا فلم يتطلب ذلك منا  بحثا طويلا ولم نختلف او نماطل في تسمية تلك العصابة ذات الفكر المظلم؛ بالفاشية والنازية و انصار هولاكو و سماها اخرون بقومين متعصبين او بعثين عفالقة   الخ. فتعد د ت الاسماء والمسمى واحد.

 ومن هنا اروي تجربتي الشخصية فيما اختبرته من تعذ يب وان كانت متواضعة  و اقترح ان تكون مد خلا لمن تتاح له الفرصة لرواية تجربته مهما كانت صغيرة في نظره  فهذه التجارب يجب تحويلها الى مسامير في نعش العصابة الفاشية  لكي لا تُتاح الفرصة لان ُيفتح مرة أُخرى على ارض الرافد ين .

 عند ما وقعتُ فريسة لهم كان التعذيب تصاعد يا مع مرور الوقت؛ في البداية تصرفوا كالمبتد ئين والأفجاج ولكن سرعان ما اكتسبوا الخبرة إُثر كل مقاومة منا للحفاظ على معلومات التي كانت في الواقع معروفة لد يهم من خلال الرصد والمراقبة عندما كانوا ينفذ ون عمليات الاغتيال المنظمة على مسمع و مشهد من حكومة فردية كان رئيسها قد اغتر بسعة  شعبيته و كذلك  بالاستفادة من سذاجة و سلامة النية لدى البعض منا.

كان المُعذِ بون من مدرسة فكرية واحدة في جميع المعتقلا ت ما عدا الأدنس شهرة من بينها. فقد  بدأوا معي بالصفع ثم اللكم والركل على الوجه والرأس و سخنوا الجو بالضرب باسلاك الكهرباء النحاسية الغليظة على الاقدام بعد ان اجبروني على خلع احذ يتي  و تصاعد الضرب الى الايدي والضلوع والاكتاف و كأنهم يتبعون خطوات موصوفة في تمرين رياضي.

 

يبد وا  ان أحد المُعذ بين توخى الغرابة في التعذيب فهو كان يحملني  انا الشاب في ذلك الوقت،  الرشيق والرقيق العظم

 ليقذ فني الى الجدار الاصم لغرفة التحقيق لأجل أن يصد م كتفي وفي كل مرة من جهة و حسب ظني أنه استمرئ

هذه الوسيلة كتمرين يمارسه للحفاظ على لياقته البدنية.

ثم حانت مرحلة حرق الشفاه والوجنة والرقبة بوتيرة ثابتة ومتكررة بإستعمال سيكارة مشهورة في ذ لك الوقت  بأبي البزون كانت علامتها الفارقة صورة قط اسود ظاهره ارحم من مستعمل سيكارته التي كانت ذات جمرة مستديمة الاتقاد.

 وبعد انتهاء التعذيب و التحقيق لم استطع ادخال قدمي في الحذاء او الكتابة بيدي .  و عند ارجاعي الى زملا ئي عََََرٌضَ احد زملائي وجهي الى مرآة  فتصورت أني أرى وجه شخص ما يجلس خلفي لأني لم أستطع التعرف على وجهي .

 

 مضت الايام ثقيلة و ازداد ت خبرة زمرة مجرمي التحقيق في اسا ليب التعذ يب و شراسته و بدأت تصل تباعا أسماعنا اخبار تزايد عد د الشهداء تحت التعذ يب و كنا نتداول أسمائهم و تنتقل اخبارهم بين المعتقلا ت من خلال زيارات عوائلنا حيث يتعرضون في كل مرة يأتون لزيارتنا الى طقوس الإذلال والإ عتد اء بالضرب و الكلمات الفاحشة . لكن اصرار وصمود هذه العوائل كان يمد نا بالقوة والأ مل و بواسطتها ا نتشرت الأ خبار الى العالم الخارجي عن معتقلين في ساحات مكشوفة أُغلقت الطرقات اليها و في المقاهي والملاعب والنوادي الرياضية وفي كل مكان عام محاط بالجد ران.

 لقد كانت اصعب اللحظات هي لحظات المواجهة مع الحقيقة عند ما تسألنا العوائل عن أخبار أ حبتها وهي تستجدي أي بصيص من الأمل في أنهم أحياء  و لكن آلية التعذ يب كانت تزداد وحشية وسوء ؛ فسمعنا عن أُسلوب تعليق الضحية في مدفع الد بابة وتدوير برجها بسرعة كبيرة او َقرص العضلات بكلا ليب خاصة وتكسير العظام و إستعمال الحرق البطيئ و ذلك بربط اجساد رفاقنا من الرأس الى أخمص القدم  على مصطبة و ثم وضع كرات قطنية مغموسة بسائل قابل للأ شتعال على كل بوصة من أجسامهم و إشعالها.

 و تماما مثلما أحرق المعذ بون أجسام الضحايا أحترقت كل متبنيات البعث كحزب سياسي  الد يماغوغية التي انطلت على البعض الذي لم يكن ينظرا ابعد من اخمص القدم  فمنذ البداية إتسمت افكار البعث  بالخداع والتي هي في الواقع لم تكن إلا

نسخة مشوهة و خائبة للايد يلوجية الاشتراكية القومية(النازية  ) بشكلها العربي  تستهدف خلق  احزاب بد يلة للأ حزاب العمالية الإ شتراكية .

و من تلك الايام التي كانت مليئة باللحظات الفريدة في الغرابة والعنف والوحشية والاحداث التي فاقت السريالية و اللامعقول  تبرق الآ ن في ذا كرتي خاطرة ما يزال جرحها في تلافيف الدماغ برغم الأهوال والفضاعات التي  شاهد ناها وسمعناها عندما كان سيف الجلاد مسلطا على الرقاب في كل جزئ من ذلك  الزمن الرد يئ.

 جرح ما يزال يسح  بالرغم من مرور ما يقارب النصف قرن إثر كلمات بسيطة على لسان إمرأة كسيرة القلب كانت تزورنا في معتقلنا في كل زيارة شهرية و يبد وا  أنها كانت ايضا تزور كل المعتقلا ت التي تمكنت الو صول اليها.

 و من دون ان تمل تمرعلى كل وجه في المعتقل لتستطلع و تتأكد إذا كان هو الوجه الذي تبحث عنه ؛ وجه ابنها الذ ي غاب عنها.

 أما نحن فكنا على علم بمقتله تحت التعذ يب منذ الساعات الاولى من اعتقاله في مجزرة شباط (رمضان)1963

لكنها كانت  من دون ان تهمل احدا تسأل الجميع عسى ان تجد من  يد لها الى ابنها او ينقل لها خبر عنه او منه.

 وبحشرجات المذ بوح من الالم تقول أُ تركوني أبحث عن ابني ولا تقولوا إنه مقتول فانا أعيش لهدف واحد هو أن  اجد ابني المفقود .

ومرت ايام الزيارات واحدة تلو الاخرى و افتقد نا وجه المرأة الحزينة و المتفائلة بلا حدود و لكنها لم تظهر علينا مرة أُخرى ابدا فوقعنا في شك من صحة معلوماتنا و تهامسنا بتوهم لعلها التقت ذ لك العزيز الغائب.

 أما نحن فلقد بعث فينا تفائلها و اصرارها اللانهائي سيلا من طاقة غير عادية للصمود و ألأمل الذي لايشوبه  الوهم بنهاية سلطة البعث ومعها نهاية تاريخ النازية على الطريقة العربية في العراق او وفي أ ي قطر آخر.

من يدري !!!! ؟؟.

 

                          

                                                                         سليم الحكيم / السويد

2003-06-08

salhakim@yahoo.com