الجنون ..عدسة الزميل الفنان احسان الجيزاني
خاص للارشيف العراقي
الجنون مسلك للمعنى والعناء..عبد
اللطيف الحرز
يثير الفوتغرافي العراقي احسان الجيزاني في مجموعة
صوره عن الجنون بحث شائكة الفن و الجمال والمعنى الاستيتكي المحرك للمشغل الفني .
فالجمال الفني يكون جمالا وهو في حالة عرض نماذج تصف بـ القبح خارج الكادر الفني
مثل صور المجانين والمعذبين ورسم صراخات التوجع والدهشة والاضطهاد والتعذيب
والاعضاء الناقصة المبتورة ..الخ هذه وغيرها ممكن ان توصف بالجمال والروعة
باعتبارها فناً عاكساً للواقع او مرمزاً عنه او ناقد له وفالت منه .
في مجموعة بحوثه المعنونة بـ مسائل الجمال الحديثه , يقول فولكيت:
{ نحن انفسنا المشاهدين نضع الحياة والالهام في الاشكال التي يبدعها الفنان (..)
نحن انفسنا نضع حياتنا وروحنا في الصور المرسومة }
حيث الالوان وابعاد الاشخاص والاشياء حيادية بغض
النظر عن وعينا نحن وعن تلك المقصدية المستتر في تلوحيات الفنان وبذلك كانت اشياء
الصورة كتلة تمثل علامة ترمز لمعنى ما وتخلقه. وهذا هو الذي دعى غارتمان ان يقتنع
بان المؤلف الفني {هو فقط الوجه الامامي , الصورة المادية الشعورية , وأما الوجه
الخلفي والمضمون الروحي فهو غير واقعي }
وهذا المعنى لم يهبط من المُثل العليا الافلاطونية وانما هو انتاج تراكمات العناء
في روح الفنان ووعيه . وهذا العناء هو الذي يستخرج بوسائل الفن الروحي المضمر داخل
كل ماهو مادي وبالتالي كانت عيون الفنان تبصر الرمز وتخلقه حيث لاشيء لايدل على
علامة ما بعتبار الشيء اما ان يخلق عناء لنفسه او للاخارين او الامرين معاً كما هو
حال الجنون بالذات .
لكن مالذي يدعُ الفنان ان يتخذ من الجنون موضوعاً
ويدخله في كادره ويصنع منه مشهداً!؟
فاذا كان البعض يعتقد بان الفن يزدهر بتفاعل عضوي بين اضلاع ثلاث هي الفن والنقد
والذوق العام (=انظر مثلا ص 5 من كتاب بلاسم محمد : النقد والفن ) فان اتخاذ الجنون
كموضوع يصدم الذوق العام ويخلق للنقد التباساً في اتخاذ نقيض المعرفة علماً؟!
عليه فان الامر مرتبط بمزاولة اخرى للفن وبتحديد تعريف مغاير للسجالات النقد .
في كتابه جماليات المكان يحدد باشلار بان الموضوع الفني يتحدد من خلال وعينا به ومعايشتنا ايها , وعليه فان كل موضوع هو مرتبط بوضع الفنان الشخصي ومختلط بتجربته الفردية او الجماعية او منظورة التأملي العام ومن هذا السياق يمكن مقاربة المجنون كموضع هنا بان الجنون مفردة مختلطة بمفردتين متناقضتين : السلطة والابداع من جهة و : الحضارة واللامعنى من جهة ثانية . هذا التشطير يوضح لنا مواجهة السلطة الابداع بكونه خروج عن المعنى ومنافي للحضارة وبالتالي هو الذي مانصطلح عليه بكونه : جنوناً . وهكذا كانت السلطة تحمي نفسها تحت عنوان العقل بينما الفنان يبدع ويضطهد تحت لافتة الجنون , ولعل من هنا فرّعت الثقافة العربية مثلا العبقرية من عبقر وهو واد الجن والجنون .
وفي وطن الفوتوغرافي الجيزاني كان العراق في ظل
دكتاتورية سلطة العفالقة وحكومة صدام التكريتي , حيث كان يتم تحويل المعارض السياسي
والمختلف العقائدي والمكافح الثقافي الى مجنون بعد حفلات تعذيب مروعه , وكان
المجنون العادي يتم اختطافه ويرسل به الى مشانق الاعدام بدل شخصيات اخرى , وهكذا
كان الجنون صليباً يتم جلده مرتين .
والجنون بكونه عنصر يُعريّ حقيقتنا المشتركة بحب التسلط والاستئثار حيث يكون
المجتمع بذاته هو نوع من انواع السلطة والمعتقل الكبير , يكون عرض الجنون كموضع هو
محاولة رفع الخجل بالاعتراف بذنب جماعي من هنا كانت لقطات الجيزاني تظهر المجنون
بقرب اسلاك شائكة او وحيدا في الشوارع , فالمجنون هو: هناك , حيث اللامعنى
واللاحضارة , لكن هذا النفي لايستمر حيث يبقي السلطة ويعمقها باعتبار ان القمع هو
نوع من الحماية . ومن هنا كانت المدارس الفنية الايدولوجية تحارب مثل هذه المشاغل
الفنية لكونها تذّكر بوجود جوانب اخرى للانسان غير شعارات البطولة والمظهر الحسن
وبالتالي فهناك جانب لايصنع الثورات ويدمر الحركات الرجعية وما الى ذلك من لافتات
دموية وتنظيرات فاشية قامعة . وهذا مانجده واضحا مثلا في كتب النقد الماركسي مثل
كتاب ليكال يولاشيف ((قضايا البحث الفلسفية في الفن)) حيث نجد المؤلف يقول بدم
بارد:
{ وهذا وتبرز لدى بعض اتجاهات الفن (التصنع , الحداثة ) مسألة ابتعاد الفنانين عن تصوير الانسان الجميل والسامي وتضفي سمة الاطلاق على تعابير الالم واظهار القبيح ممايدل على انعدام المثل الجمالية التقدمية عندهم وهذا يؤدي الى نزع سمات البطولة والانسانية عن الفن\ص93 من كتاب البحوث الفلسفية}
وكأن على الفن ان ينضم الى جوقة الانشاد الحربي لتهييج الحماس العدواني ضد كل ماهو ضعيف . ومن هنا فدفع الجنون الى عتبة المشاهدة العامة هو مثل حمل لافتة في مظاهرة شعبية ضد السلطة , لكن ليس السلطة السياسية فقط وانما الاجتماعية والثقافية اولا , خصوصا اذا ماتذكرنا بان احسان الجيزاني مرتبط بالعراق ذلك الوطن المكون من هستريا التاريخ وجنون السلطة , وبهذا تكون لقطة للجنون تبرز نفسها بكونهاً : نقداً .... اقصد ذلك النقد الذي يهدف الى اعادة النظر في الوعي كفعل جماعي .
تم نشر الموضوع ايضا في صحيفة الوطن الكويتية للاطلاع يرجى الضغط هنا
الارشيف العراقي في الدنمارك
الزميل احسان الجيزاني
15/7/2008